Dec 16, 2019
كيف يمكننا الاستفادة من اللهجات العامية؟
واقع الحياة اللغوية في عالمنا العربي. فإذا كان دعاة العامية أسرفوا وتطرفوا، إلا أن الدعوة بها عدة عناصر ينبغي الاهتمام بها، فالعامية تعبّر عن تطور لغوي للعربية الفصيحة، وهذا التطور لا يمكن أن نتغافله، فنحن لا نحيي فصحى قديمة بالية، بل نأخذ من الفصحى ما يتناسب فهمه مع العامية الحالية، وما يتردد على الألسنة منها، ولذا، فإن العامية السائدة على الألسنة في الدول العربية، إنما هي معيار الكتاب في التعبير، فلن يعبر كاتب بلفظ فصيح مأخوذ من معاجم قديمة، تحت دعوى إحياء الفصحى، بل يتخذ مما هو سهل فهمه، متداول في ما هو مدروس منتشر في الإعلام والصحافة، لبنات في بناء جمله وعباراته.
أيضا، فإن دراسة العامية إنما تعبّر عن رصيد من التراث الشعبي، جرى إهماله قرونًا عديدة، تحت دعاوى النظرة المقدسة للعربية لغة القرآن، ونسي أصحاب تلك الدعاوى أن التراث الشعبي ما كان ينشأ إلا بلغة العامة، فالفلكلور هو العلم الذي يدرس التراث الروحي (اللامادي) للشعب، خاصة التراث الشفاهي، من أجل تفسير حياة الشعوب وثقافتها عبر التاريخ»، فمجال الفلكلور هو إعادة بناء صورة التاريخ الروحي للإنسان. كما يتضح في أصوات الشعب غير المصقولة.
والمقصود بأصوات الشعب غير المصقولة هو اللهجات العامية، التي لا تخضع لمعايير الفصحى، لأن التراث الشعبي لا يصنعه فرد بعينه، بقدر ما يشارك الكثيرون في صياغته وتأليفه، فالأدب الشعبي في تعريفه الأولي هو، أدب الجماعة المنطوق في لغتها اليومية على ألسنة جمهورها، فالفلكلور فن شفاهي، مجهول المؤلف، متوارث جيلا عن جيل. وهو أيضا: أدب اللهجة العامية سواء كان شفاهيا أو مكتوبا أو مطبوعا، وسواء كان مجهول المؤلف أو معروفه متوارثا أو غير متوارث. وهذا تعريف أكثر رحابة، يحتضن الإبداعات العامية بكافة توجهاتها ومؤلفيها وأجيالها.
وفي جميع الأحوال، فإن الأدب الشعبي معبر عن الرؤى الفكرية للطبقات الشعبية المهمشة والفقيرة، عبر حقب التاريخ، فليس الأمر مجرد الوقوف على ألفاظ العوام ودراسة علاقتها بالفصحى، بل يمضي إلى دراسة نفسية الشعب، وهو يفيد كثيرًا في إيضاح جوانب من الحياة اللغوية والفكرية والاجتماعية، التي تم تجاهلها عن عمد أو بغير عمد، من لدن دارسي الأدب العربي قديمًا، ومن لدن الكثير من المعاصرين في بدايات النهضة العلمية الحديثة.
لذا فإن التعريف المتبنى من منظمة اليونسكو في أحدث مؤتمراتها، يؤكد على أن الفلكلور أو الثقافة التقليدية الشعبية هو جملة أعمال إبداع نابعة من مجتمع ثقافي، وقائمة على التقاليد تعبر عنه جماعة أو أفراد معترف بأنهم يصورون تطلعات المجتمع، بوصفه تعبيرًا عن الذاتية الثقافية والاجتماعية لذلك المجتمع، وتتناقل معاييره وقيمه شفهيًا أو عن طريق المحاكاة أو بغير ذلك من الطرق، وتضم أشكاله، في ما تضم، اللغة والأدب والموسيقى والرقص والألعاب والأساطير والطقوس والعادات والحرف والعمارة، وغير ذلك من الفنون. وبناء على ما تقدم، فإن العامية والفصحى ينبغي أن لا تتصارعا بقدر ما يجب أن تتحاورا على صعيد الدراسة اللغوية والفلكلورية والأدبية والنقدية، بعيدًا عن الرفض والقبول الذي يقف بهما عند الحافة، بدون رغبة التزحزح إلى المنتصف.
وعليه، فإن مفهوم العربية الفصيحة لا يقصد به المقياس القديم الجاهلي، أي لغة الفصحى المنطوقة في المجتمع الجاهلي، فهذه من القضايا اللغوية التاريخية، ولها قداسة راسخة وتقاليد عريقة، وهي أساس ومقدمات لفصحانا الحديثة. وإنما تُعرّف الفصحى الحديثة أو العربية المعاصرة بأنها: «لغة فصحى، مكتوبة، تستخدم في التعليم وفي العلم وفي الأدب وفي الصحافة، وهي اللغة الرسمية المشتركة في العالم العربي اليوم». وتفصيل هذا التعريف يتمثل في كون العربية الفصيحة: ملتزمة بقواعد الفصحى المعروفة في كتب النحو، وإن أصابها شيء من التغيير يقع غالبًا في النواحي الصرفية والدلالية. وأيضا هي لغة مكتوبة في الأعم والأغلب وأشكالها المنطوقة في الغالب مصدرها مكتوب، وهي لغة التعليم في معاهده المتعددة، ولغة العلم بفروعه المختلفة، ولغة الأدب بفنونه ولغة الدولة بمؤسساتها المحلية والدولية، وهي اللغة التي يترجم منها وإليها، وهي لغة الصحف وبعض المواد الإذاعية والمرئية كنشرات الأخبار والتعليق عليها. وكذلك هي اللغة المشتركة التي يعدها العرب لغتهم العروبية/ القومية ومظهر شخصيتهم ورمز استقلالهم، ومن ثم فلها المكانة التي ترتفع بها فوق أي شكل لغوي آخر في المجتمع العربي.
كما تمتاز بأنها تتعاطى إيجابيا مع اللغات الأجنبية، من حيث إنها تقترض بعض الألفاظ فتعرّبها، ومتأثرة بالعامية لأن بينهما رصيدًا مشتركًا من الألفاظ تعترف صياغاتها بكثير من الألفاظ الشائعة، بما يجعلها شكلا لغويا يختاره المتعلم العربي تعلمًا، ويتفاوت مستعملوه في إتقانه تفاوتًا ظاهرًا، ومن ثم فلا أحد يكتسبها في بيته أو يستعملها في الحياة العامة.
فمن أهم سمات العربية المعاصرة أنها لغة ديمقراطية: لا تخاطب الصغير بخطاب الكبير ولا الكبير بخطاب الصغير، حيث تتعدد فيها مستويات الخطاب والضمائر والدلالات اللفظية، وهو ما تسبب في سعة انتشارها، ودخول عشرات الشعوب فيها عن طواعية، بسبب عامل الدين وكذلك رحابتها في قبولها مئات المفردات من اللغات المعاصرة والقديمة.
فمن أهم سمات العربية المعاصرة أنها لغة ديمقراطية: لا تخاطب الصغير بخطاب الكبير ولا الكبير بخطاب الصغير، حيث تتعدد فيها مستويات الخطاب والضمائر والدلالات اللفظية، وهو ما تسبب في سعة انتشارها، ودخول عشرات الشعوب فيها عن طواعية، بسبب عامل الدين وكذلك رحابتها في قبولها مئات المفردات من اللغات المعاصرة والقديمة.
لقد تم هذا التطور اللغوي للفصحى الحديثة من خلال العمل في ثلاثة ميادين:
أولها: تزويد اللغة، ويقصد به تزويد اللغة العربية بالكثير من الألفاظ الأجنبية عن طريق تعريبها، وإدخالها ضمن قواعد العربية، خاصة ألفاظ العلوم والفنون، فمن العبث الانفراد بوضع ألفاظ جديدة، إلا أن الخشية من أن تصبح العربية مجرد قوالب وصيغ للألفاظ الأجنبية الهاجمة، على حين أن في الألفاظ العربية ما يؤدي كثيرًا من معاني هذه الألفاظ الأجنبية عينها. فالتعريب كمعنى اصطلاحي يتمثل في إيجاد مقابلات عربية للألفاظ الأجنبية، لتعميم اللغة العربية واستخدامها في كل ميادين المعرفة البشرية، وبهذا يكون المفهوم قد اكتسى صبغة إنسانية شاملة، تعنى بالفرد العربي وبمصيره الكوني. فكل اللغات تتداخل في ما بينها إلى حد معين، إلا أن المتكلم ليس أمامه إلا الحديث بلغة واحدة في الوقت نفسه، وعند التعريب يفرض جهاز الاستقبال قواعده الراسخة على لغة الإرسال، التي يمكن أن يبقى جهازها التقعيدي بدون مفعول على اللغة العربية. ولا تقتصر الدعوة على ذلك، بل تتوسع في قبول الكلمات العامية، من خلال المجامع اللغوية مع مراعاة سهولة الألفاظ وموسيقية الحروف وخفة الصيغة على السمع. وقد اتخذ مجمع اللغة العربية في القاهرة قرارًا بشأن التعامل مع الكلمات العامية، حيث قرر أن تتم دراسة الكلمات الشائعة على ألسنة الناس، على أن يراعى أن تكون الكلمة مستساغة، ولم يعرف عنها مرادف سابق غير صالح للاستعمال، بل وافق المجلس على قبول السماع من المحدثين بشرط أن تدرس كل كلمة على حدة.
ثانيها: تبسيط اللغة: باقتصار الألفاظ الكتابية على المألوف المأنوس، بدون غوص على المهجور المجفو من الكلام، إلا ما تقتضيه ضرورة التعبير، عن معنى دقيق أو حقيقة جديدة لا يعبر عنها بلفظ متعارف. فلا مانع لأي مستخدم للفصحى أن يصوغ جملا عربية، تشابه جمل العرب في موقع مفرداتها، وأبنية كلماتها ودلالة ألفاظها، وإن لم تكن تلك الجمل بعينها مما قاله العرب. فالعربية الفصحى تحمل في طبيعة تكوينها منهجا عظيما في القياس والنحت والتعريب والبناء.
ثالثها: تيسير النحو، بحذف ما لا يلائم التطور العصري للغة، فسيظل النحو أساس لغة الكتابة، حتى تتقارب لغة الكتابة مع الكلام.
وبالنظر إلى الميادين الثلاثة، فإن لغة الأدب ستستفيد الكثير من توسيع وتعميق العمل بما يتم إنجازه في هذا المضمار. فالكثير من كتّاب الأدب المسرحي والقصصي، يلجأون للعامية طمعًا في إضفاء المزيد من الواقعية على العمل، إلا أن ذلك يختلف من العمل القصصي عنه في العمل المسرحي، وهذا يتم على درجات وحسب نوعية الجمهور المستقبل للعمل الأدبي.
أولها: تزويد اللغة، ويقصد به تزويد اللغة العربية بالكثير من الألفاظ الأجنبية عن طريق تعريبها، وإدخالها ضمن قواعد العربية، خاصة ألفاظ العلوم والفنون، فمن العبث الانفراد بوضع ألفاظ جديدة، إلا أن الخشية من أن تصبح العربية مجرد قوالب وصيغ للألفاظ الأجنبية الهاجمة، على حين أن في الألفاظ العربية ما يؤدي كثيرًا من معاني هذه الألفاظ الأجنبية عينها. فالتعريب كمعنى اصطلاحي يتمثل في إيجاد مقابلات عربية للألفاظ الأجنبية، لتعميم اللغة العربية واستخدامها في كل ميادين المعرفة البشرية، وبهذا يكون المفهوم قد اكتسى صبغة إنسانية شاملة، تعنى بالفرد العربي وبمصيره الكوني. فكل اللغات تتداخل في ما بينها إلى حد معين، إلا أن المتكلم ليس أمامه إلا الحديث بلغة واحدة في الوقت نفسه، وعند التعريب يفرض جهاز الاستقبال قواعده الراسخة على لغة الإرسال، التي يمكن أن يبقى جهازها التقعيدي بدون مفعول على اللغة العربية. ولا تقتصر الدعوة على ذلك، بل تتوسع في قبول الكلمات العامية، من خلال المجامع اللغوية مع مراعاة سهولة الألفاظ وموسيقية الحروف وخفة الصيغة على السمع. وقد اتخذ مجمع اللغة العربية في القاهرة قرارًا بشأن التعامل مع الكلمات العامية، حيث قرر أن تتم دراسة الكلمات الشائعة على ألسنة الناس، على أن يراعى أن تكون الكلمة مستساغة، ولم يعرف عنها مرادف سابق غير صالح للاستعمال، بل وافق المجلس على قبول السماع من المحدثين بشرط أن تدرس كل كلمة على حدة.
ثانيها: تبسيط اللغة: باقتصار الألفاظ الكتابية على المألوف المأنوس، بدون غوص على المهجور المجفو من الكلام، إلا ما تقتضيه ضرورة التعبير، عن معنى دقيق أو حقيقة جديدة لا يعبر عنها بلفظ متعارف. فلا مانع لأي مستخدم للفصحى أن يصوغ جملا عربية، تشابه جمل العرب في موقع مفرداتها، وأبنية كلماتها ودلالة ألفاظها، وإن لم تكن تلك الجمل بعينها مما قاله العرب. فالعربية الفصحى تحمل في طبيعة تكوينها منهجا عظيما في القياس والنحت والتعريب والبناء.
ثالثها: تيسير النحو، بحذف ما لا يلائم التطور العصري للغة، فسيظل النحو أساس لغة الكتابة، حتى تتقارب لغة الكتابة مع الكلام.
وبالنظر إلى الميادين الثلاثة، فإن لغة الأدب ستستفيد الكثير من توسيع وتعميق العمل بما يتم إنجازه في هذا المضمار. فالكثير من كتّاب الأدب المسرحي والقصصي، يلجأون للعامية طمعًا في إضفاء المزيد من الواقعية على العمل، إلا أن ذلك يختلف من العمل القصصي عنه في العمل المسرحي، وهذا يتم على درجات وحسب نوعية الجمهور المستقبل للعمل الأدبي.
+++++++++++++++
العاميةوالأقنعة الاستعمارية: الشعارات والواقع
كان الاتهام بالجمود هو الاصطلاح الذي يتخذه دائمًا دعاة العامية، سواء في الحياة الأدبية أو في الحياة العامة، مفترضا أن الفصحى جامدة ثابتة معقدة، ويضفي المرونة والعصرنة والواقعية والحياتية على العامية، وهو أمر شديد التطرف، لأنه يضع الفصحى والعامية في كفتي ميزان، بإطلاق عام، بدون توخي الموضوعية في الطرح، فالعاميات لا تتنافس مع الفصحى، لأنها وليدة منها، والفصحى ليست منعزلة عن الواقع، بل هي جزء منه، ولا يحيا القص والمسرح، إلا حسب استيعاب الناس لها بلغة قريبة من فهمهم واستعمالهم، وإلا أقفلت الصحف، وجفت المطابع، وانزوى الكتّاب والأدباء.
وكانت حجتهم أن الإنكليز قاموا باستبدال اللغة الإنكليزية باللغة اللاتينية، أي استبدلوا اللغة الأجنبية بلغة محلية وطنية، وليس الحال كذلك مع اللغة العربية؛ فالفرق بين لغة الكتابة والتكلم ليس بالشيء الكثير، وقد لا يكون أكثر من الفرق بين لغة كتاب الإنكليز، ولغة من لا يعرفون القراءة.
وتكمن المشكلة في السؤال: أي عامية نريد؟ فالناطقون باللهجات العامية يختلفون في داخل البلد الواحد، ولنأخذ مثالاً على ذلك: لهجات مصر متنوعة بين أبناء الصعيد وأبناء الدلتا، وتختلف لهجة الصعيد في ثناياها، فلهجة أبناء أسيوط تختلف عن أبناء محافظة المنيا، ومحافظة أسوان تختلف عن محافظة قنا، إلخ، في حين تتمايز لهجات الدلتا، فلهجة أهل الإسكندرية تختلف في النطق والإمالة عن لهجة أبناء بورسعيد، أضف إلى ذلك اختلاف لهجات قبائل البدو، التي تضرب خيامها في سيناء وفي الصحراء الشرقية، فيلاحظ أنه ليس كل سكان مصر ينطقون صوت الجيم في ما يسمونه الجيم القاهرية، إلا أن هناك من يعطش الجيم، في الصعيد، كما أن الملاحظ أن الكثير من أقاليم مصر لا تنطق الأصوات الأسنانية.
وتكمن المشكلة في السؤال: أي عامية نريد؟ فالناطقون باللهجات العامية يختلفون في داخل البلد الواحد، ولنأخذ مثالاً على ذلك: لهجات مصر متنوعة بين أبناء الصعيد وأبناء الدلتا، وتختلف لهجة الصعيد في ثناياها، فلهجة أبناء أسيوط تختلف عن أبناء محافظة المنيا، ومحافظة أسوان تختلف عن محافظة قنا، إلخ، في حين تتمايز لهجات الدلتا، فلهجة أهل الإسكندرية تختلف في النطق والإمالة عن لهجة أبناء بورسعيد، أضف إلى ذلك اختلاف لهجات قبائل البدو، التي تضرب خيامها في سيناء وفي الصحراء الشرقية، فيلاحظ أنه ليس كل سكان مصر ينطقون صوت الجيم في ما يسمونه الجيم القاهرية، إلا أن هناك من يعطش الجيم، في الصعيد، كما أن الملاحظ أن الكثير من أقاليم مصر لا تنطق الأصوات الأسنانية.
ولو أخذنا مثالاً من لهجات أهل الخليج، ففي دولة الكويت نجد أن لهجة الحضر تختلف في نطقها ومفرداتها عن لهجة القبائل ذات الأصول البدوية، فالحضر ينطقون الجيم ياءً، بينما البدو ينطقونها نطقًا فصيحًا سليمًا، والمشترك بين لهجة أهل الكويت نطقهم للأحرف الأسنانية، ونطقهم الضاد ظاء، وإبدال القاف جيمًا قاهرية، وتفخيم الحركات المرققة، وظاهرة الكشكشة في خطاب المؤنث. وعلى الرغم من القرب المكاني، فإن أهل البحرين يفخمون الفتحة في أكثر المواضع، بينما يرققها أهل الكويت.
والقاسم المشترك بين سائر اللهجات العربية هو وجود آلاف المفردات التي تختلف في نطقها واشتقاقها ومصادرها من اللغات الأجنبية وفي معانيها من قطر إلى آخر، إلا أن السمة الغالبة على كل قطر (دولة) هي سيادة لهجة إقليم بعينه على باقي اللهجات، كسيادة اللهجة القاهرية بين أهل مصر، بحكم مركزية العاصمة، ونطق المذيعين في الأجهزة الإعلامية بها، ما جعلها مفهومة لدى الجميع، ويتحدث بها الكثيرون.
والقاسم المشترك بين سائر اللهجات العربية هو وجود آلاف المفردات التي تختلف في نطقها واشتقاقها ومصادرها من اللغات الأجنبية وفي معانيها من قطر إلى آخر، إلا أن السمة الغالبة على كل قطر (دولة) هي سيادة لهجة إقليم بعينه على باقي اللهجات، كسيادة اللهجة القاهرية بين أهل مصر، بحكم مركزية العاصمة، ونطق المذيعين في الأجهزة الإعلامية بها، ما جعلها مفهومة لدى الجميع، ويتحدث بها الكثيرون.
كما أن كل لهجة تتمايز عن غيرها بالعوامل المساهمة في تكوينها، فاللهجة الكويتية مثلاً – تأثرت على مرّ العصور بلغات مختلفة، كالفارسية والتركية والهندية، وبعض الكلمات الإيطالية والفرنسية والسواحلية والأردية، وبقايا كلمات سريانية وآرامية، بحكم موقعها الجغرافي، وكونها ملتقى للتجارة أو امتهان أهلها التجارة الوسيطة، منذ مئات السنين، وتعرضها للاحتلال البريطاني، ثم وفود العمالة الأجنبية، التي أحدثت تغييرات اجتماعية ولغوية حديثًا. فالعامية ليست مجرد تساهل في النطق للكلمات الفصيحة، بقدر ما هي مزيج من التداخلات اللغوية للعديد من اللغات القديمة والحديثة، التي تتمايز بتمايز الموقع الجغرافي والظروف السياسية والاجتماعية للسكان.
والعامية ـ كمصطلح ـ فضفاضة في مدلولها المعبر عن لهجات الطبقات الاجتماعية والفئات في المجتمع الواحد، فلغة المحادثة في البلد الواحد تتشعب إلى لهجات مختلفة تبعًا لاختلاف طبقات الناس وفئاتهم؛ فتكون – مثلاُ – لهجة للطبقة الأرستقراطية وأخرى للجنود وثالثة للبحارة ورابعة للرياضيين وهكذا، ويطلق المحدثون على هذا النوع من اللهجات اسم اللهجات الاجتماعية، تمييزًا لها عن اللهجات المحلية، وهي لا تتميز عن اللهجات المحلية، بل هي فرع لها، ولكنه يختص بمفرداته وتعبيراته اللغوية التي تختلف عن باقي اللهجات المحلية، وقد «تذهب بعض اللهجات الاجتماعية بعيدًا في هذا الطريق، فيشتد انحرافها عن الأصل الذي تشعبت منه، وتتسع مسافة الخلف بينها وبين أخواتها.
وهناك دعوة يتبناها البعض من دعاة العامية باتخاذ كل قطر لهجة عامية مشتركة، توحد بين سائر اللهجات، فأي لهجة سيتم تبنيها لتكون هي العامية السائدة؟ فوفقًا للمنظور الديمقراطي والاعتراف بالآخر، من حق أي عامية أن تستقل بنفسها كلغة للحديث والكتابة، بدون استعلاء عامية أخرى عليها في داخل القطر، ولابد أن يتم إفساح المجال لها في وسائل الإعلام، هذه الدعوة إنما تدل على نزعة متناقضة، فكيف ندعو لوحدة لغوية داخل القطر، والمناداة باتحاد فئات وأقاليم القطر الواحد على لهجة واحدة، في الوقت الذي سيكون اتخاذ هذه العامية وسيلة لتفكك العالم العربي، وزيادة الانفصالية بين أقطاره؟ لأن الدعوة إلى اللهجة العامية تتخذ من القطر الواحد، بحدوده المصنوعة جغرافيًا مجالاً مؤطرًا لها، وإلا فما معنى الأمة المصرية التي نادى بها «ويلكوكس» في أوائل القرن العشرين؟ هل تشمل السودان أيضًا معها، الذي كان منضويًا تحت لواء الحكم المصري آنذاك؟ فتلك الدعوة تعظم القطرية والانعزالية المكانية، لشعوب عربية وإسلامية، عاشت التمازج وحركة الانتقال بين شعوبها وأقاليمها تحت لواء حكم دولة إسلامية واحدة، منذ الدولة الأموية والعباسية ثم العثمانية. هذا أمر ينطوي على تهديد خطير للرابطة العربية، فالجامعة العربية قائمة على الرابطة اللغوية التي جعلتها تتلو كتابًا مقدسًا واحدًا، بل إن الجامعة الإسلامية تقوم في أواصرها على العربية، باعتبار أن القرآن هو الكتاب الجامع، والنخب المثقفة في الدول الإسلامية غير العربية، التي تعلمت العلوم الشرعية، إنما اتخذت العربية لغة لها، وتسعى إلى تعليمها ونشرها في بلادها عبر مدارس وكليات العلوم الشرعية، كما هو حادث في إيران وباكستان والهند، وغيرها، وهذا يعني مزيدًا من الترابط مع العمق الإسلامي متمثلاً في البلاد العربية.
ويلاحظ أن البعض من متشددي العامية يرون زيادة إقصاء الفصحى إلى التخصصات الشرعية والدينية كاللغة اللاتينية، إلا أنهم في غالبهم إما أجانب أو ممن تتلمذوا في الكليات الغربية، وهم في الوقت نفسه يعظّمون أهمية تعليم اللغات الأجنبية (الأوروبية طبعًا) في المدارس، وهذا تناقض آخر، إلا أنه يتسق مع دعوتهم بكتابة العاميات بالأحرف اللاتينية.
فإذا كان هناك إجماع بأن إرساليات التبشير عجزت عن أن تزحزح العقيدة الإسلامية من نفوس معتقديها، إلا أنها تستطيع أن تقضي على لبناتها (يقصد العقيدة الإسلامية) من خلال هدم الفكرة الدينية الإسلامية، ببث الأفكار التي تتسرب مع اللغات الأوروبية، وتمهيد السبيل لتقدم إسلامي مادي، وهو الذي عبّر عنه أرنولد توينبي (فيلسوف التاريخ الغربي الشهير بأنه طريقة العيش الغربية، واعتناق مبادئ الحضارة الغربية.
ويقرر المستشرق الألماني كامغماير، أن تركيا لم تعد بلدًا إسلاميًا، فالدين لا يدرس في مدارسها، وليس مسموحًا بتدريس اللغتين العربية والفارسية في المدارس، فقراءة القرآن وكتب الشريعة الإسلامية قد أصبحت الآن مستحيلة بعد استبدال الحروف العربية بالحروف اللاتينية. فمثل هذه الأقوال، وهذا الواقع اللغوي والديني الذي نشأ في بلد كتركيا، جعل الكثير من علماء النخبة وأهل اللغة في بلادنا، ينظرون بريبة لدعوات العامية، فالأمر أسفر عن بعد تغريبي تبشيري في ثنايا الدعوة، وهذا واضح بحكم تكوين دعاتها، فبعضهم (خاصة في لبنان) كانوا من أساتذة وخريجي المدارس التبشيرية الأجنبية، مثل الأب رافائيل نخلة، والخوري فاروق عطية.
ويلاحظ أن البعض من متشددي العامية يرون زيادة إقصاء الفصحى إلى التخصصات الشرعية والدينية كاللغة اللاتينية، إلا أنهم في غالبهم إما أجانب أو ممن تتلمذوا في الكليات الغربية، وهم في الوقت نفسه يعظّمون أهمية تعليم اللغات الأجنبية (الأوروبية طبعًا) في المدارس، وهذا تناقض آخر، إلا أنه يتسق مع دعوتهم بكتابة العاميات بالأحرف اللاتينية.
فإذا كان هناك إجماع بأن إرساليات التبشير عجزت عن أن تزحزح العقيدة الإسلامية من نفوس معتقديها، إلا أنها تستطيع أن تقضي على لبناتها (يقصد العقيدة الإسلامية) من خلال هدم الفكرة الدينية الإسلامية، ببث الأفكار التي تتسرب مع اللغات الأوروبية، وتمهيد السبيل لتقدم إسلامي مادي، وهو الذي عبّر عنه أرنولد توينبي (فيلسوف التاريخ الغربي الشهير بأنه طريقة العيش الغربية، واعتناق مبادئ الحضارة الغربية.
ويقرر المستشرق الألماني كامغماير، أن تركيا لم تعد بلدًا إسلاميًا، فالدين لا يدرس في مدارسها، وليس مسموحًا بتدريس اللغتين العربية والفارسية في المدارس، فقراءة القرآن وكتب الشريعة الإسلامية قد أصبحت الآن مستحيلة بعد استبدال الحروف العربية بالحروف اللاتينية. فمثل هذه الأقوال، وهذا الواقع اللغوي والديني الذي نشأ في بلد كتركيا، جعل الكثير من علماء النخبة وأهل اللغة في بلادنا، ينظرون بريبة لدعوات العامية، فالأمر أسفر عن بعد تغريبي تبشيري في ثنايا الدعوة، وهذا واضح بحكم تكوين دعاتها، فبعضهم (خاصة في لبنان) كانوا من أساتذة وخريجي المدارس التبشيرية الأجنبية، مثل الأب رافائيل نخلة، والخوري فاروق عطية.
*Nov 24, 2021
الجدل مستمر بين العامية والعربية الفصحى في عالم الفن والأدب،
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق