Jan 25, 2021
التوجه الفاشي والسعي لإخضاع المجتمع والهيمنة عليه عبر مؤسسات الدولة لضمان استيعاب خلافاته للنموذج الأول كنتيجة طبيعية لهيمنة العقلية العسكرية التي لا تعرف قيمة التنوع وأنه شيء طبيعي إن لم يكن إيجابياً.
الأزمة الاقتصادية والإرهاب، أو الآنية مثل وباء كورونا أو سد النهضة، يكتشف أزمة عميقة ليست فقط في كفاءة صنع القرار لديها بل في عقليتها، وعلاقتها مع المجتمع،
سؤال كيف يمكن إنشاء مجتمع مستقر وفعال في ظل وجود تباينات واختلافات في الرؤى والأيديولوجيات والمصالح داخل هذا المجتمع؟
توجهين في هذه المسألة: التوجه الفاشي، وهو السعي لإخضاع المجتمع والهيمنة عليه عبر مؤسسات الدولة لضمان استيعاب خلافاته، وحشده خلف القيادة لتحقيق الأهداف المشتركة، وهو التوجه الذي عبر عنه موسوليني بشعار"كل شيء داخل الدولة".
والتوجه الثاني وهو الأقرب لليبرالية الذي يؤمن بتحجيم دور الدولة، وتقوية المجتمع وتنظيماته من نقابات وأحزاب، وجمعيات أهلية، وشركات ووسائل إعلام، لاستيعاب مختلف التوجهات والتعبير عن مختلف المصالح ثم انخراط هذه التنظيمات بعضها مع البعض ومع الدولة في تفاوض مستمر عبر المؤسسات الديمقراطية حول نقاط خلافاتها للوصول إلى حلول وسط.
جمهورية الضباط ما بعد الاستقلال كان خيارها واضحاً للنموذج الأول كنتيجة طبيعية لهيمنة العقلية العسكرية التي لا تعرف قيمة التنوع وأنه شيء طبيعي إن لم يكن إيجابياً، ولا تعرف فضيلة السياسة والتفاوض وتعتبرها قلة حزم وتضييعاً للوقت والطاقة، ولذلك عمدت إلى تفكيك مؤسسات المجتمع وإعادة الهيمنة عليها، فالأحزاب جرى حلها ثم أعيدت لاحقاً لا لكي تكون معبِّراً عن تنوع الأيديولوجيات داخل المجتمع ولكن كإحدى أدوات الهيمنة على الطبقة السياسية الهشة وتوظيفها.
والنقابات أصبحت أداة الدولة للهيمنة على الطبقات العاملة بدلاً من أن تكون صوت هذه الطبقات المعبر عنها، ووسائل تشكيل الوعي من إعلام وتعليم ومؤسسات دينية جرت الهيمنة عليها لتعبر عن الفكر والصوت الواحد، وأصبح ظهور أي حزب أو تنظيم مجتمعي أو حتى مفكر أو داعية أو رجل أعمال أو أكاديمي أو إعلامي بمثابة تهديد محتمل يجب أن تتدخل الأجهزة الأمنية إما ليجري استيعابه ويقبل بالخضوع والدوران في فلك الدولة ومؤسساتها، وإما ليجري تحييده وإضعافه بالابتزاز والتضييق.
الغريب أن المفاجأة، ولكنها مفاجأة متوقعة، التي تواجه الدولة المصرية بشكل متكرر هو أنه لماذا لا ينجح المجتمع ويصبح منتجاً بعد حالة الاستقرار التي خلقتها له؟ لماذا هذا التدهور المستمر في فاعليته وكفاءة مؤسساته الإنتاجية والتعليمية والدينية والإعلامية؟ لماذا فقد المجتمع القدرة على إنشاء المبادرات الناجحة وتوليد نخب وقيادات مؤثرة؟
ولا تدرك الدولة بأن قيام أي دولة بخنق المجتمع لا يسمى استقراراً، وأن الإجابة كما ذكر جون ستيوارت هي أن السلطة التي تقزم مواطنيها ستدرك لاحقاً أنها لا يمكنها أن تنجز شيئاً عظيماً بهذا المواطن، على العكس تماماً فإن حالة الضعف المجتمعي هذه لا تقنع الدولة أن عليها أن تترك للمجتمع المجال لكي يتعافى ويسترد فاعليته بل تقنعها أكثر بالهيمنة عليه باعتبار أن مؤسساتها أكثر نظاماً وفاعلية مع ما تدركه من عيوبها، سيراً على المثل القائل الأعور ملك في بلد العميان!
كيف تخلق الدولة ومؤسساتها شرعيتها داخل المجتمع؟ أو بشكل بسيط لماذا وكيف يشعر المواطن أن عليه أن يطيع السلطة ومؤسساتها؟ لماذا يشعر أن عليه أن يلتزم قوانينها ويدفع الضرائب لها وأن يلجأ إلى قضاتها لحل خلافاته وأن يصدق المعلومات الواردة في بياناتها الرسمية وأن يثق في الفتاوى التي تصدرها مؤسساتها الدينية؟ السؤال معقد وهام، وتتداخل في إجابته عدة أفرع من العلوم كعلم الاجتماع والفلسفة والعلوم السياسية، وهذه المشكلة دليل آخر على ضيق أفق الدولة في تعاملها مع المجتمع المصري.
ومن دون الدخول في تفاصيل هذه المسألة، فإن الدولة قد تبني شرعيتها وتفرض الطاعة على مواطنيها إما بإكراه الأمر الواقع وإما بغرس قناعات قيمية أو بدافع المصلحة، وإما بمزيج من هذه الأدوات معاً، بمعنى أن المواطن سيطيع الدولة إما خوفاً من العقوبة وإما نتيجة تنشئته على قيم الانضباط والتزام القانون وإما حين يشعر بالثقة أن التزام قرارات الدولة وقوانينها سيحقق مصلحته.
تحت ذريعة قلب رجل واحد، ارتكبت الدولة المصرية جرائم عدة، مثل القضاء على حيادية المؤسسات واحترافيتها، وتفصيل الدساتير والقوانين، وتسييس القضاء والمؤسسات الدينية، ولم تدرك أن القوانين والمؤسسات لا تنتزع احترامها من المواطنين إلا بنزاهتها واستقلالها، وإذا شعر المواطن بعدم الثقة فيها أو أنها تسعى لمصالح خاصة لا مصلحته هو فلن يكون كافياً أن تفرض احترامها ببطش الشرطة وتغليظ العقوبات أو بالتغني بهيبة الدولة والقضاء الشامخ، وسيصبح شعار "السلطة في خدمة الشعب" أو "الضرائب مصلحتك أولاً" مادة للتندر والسخرية، وسيبحث المواطن عن إجابة فتاواه على المواقع السلفية وليس على صفحة دار الإفتاء المصرية، وسيسارع إلى وكالات الأنباء الأجنبية ليتأكد مما أورده الإعلام الرسمي، وسيعمد إلى أخذ حقه بذراعه أو بالرشى بدلاً من اللجوء إلى منظومة قضائية لا يثق بعدالتها.
فيما يخص آلية اتخاذ القرار، فإن سبباً أساسياً في ضيق الأفق الذي أصاب عقل الدولة المصرية بل وربما نخبها السياسية كذلك هوشيوع ثقافة احتقار المنهج الأكاديمي والتخصص بشكل عام، والعلوم الاجتماعية بشكل خاص، واعتبار أن هذه المنهجية ترف ورفاهية لا نملكها وسط الأزمات الراهنة، والاستعاضة عن ذلك بالحلول الإجرائية التنفيذية، التي تكون غالباً جزئية وتسكينية،مع الحزم الإداري العسكري،وحشد المواطنين بشعارات وطنية عبر وسائل عاطفية مبتذلة.
الأمر يتضح فيما يظهرمن الأمننة أو العسكرة المستمرة للملفات السياسية والاقتصادية، كأن يصادر دور وزارة الخارجية مثلاً في القضايا الخارجية أو يوضع تحت إشراف الأجهزة المخابراتية، أو هيمنة المقاربة الأمنية لقضايا مركبة ومتعددة الأبعاد مثل عدم الاستقرار الأمني في سيناء، أو ترويج أهمية الأنشطة الاقتصادية للقوات المسلحة ودورها المحوري"كقاطرة للتنمية".
قد يرى البعض أن حالة الاستقرار التي تحققها بعض النظم السلطوية هو دليل فاعليتها، لكن الديناميكيات التي تتسبب فيها تحت سطح هذا الاستقرار الكاذب، من وهن القوى المجتمعية، ووجود نخبة مبتسرة مقزمة في مختلف المجالات السياسية والدينية والاقتصادية والفكرية، وتآكل شرعية مؤسسات الدولة التي يعبر عنها المواطنون بأشكال عديدة غير مباشرة، علاوة على الفشل المتكرر في حل القضايا المزمنة نتيجة هيمنة العقلية الأحادية لمشكلات بطبيعتها متعددة الأبعاد، كل هذه الديناميكيات السلبية تعمل في صمت داخل جسد المجتمع السياسي، ولا تتكشف غالباً إلا حين تصبح حالته حرجة.
*
باقية وتتمدد لازم التحرّر من "جمهورية الضباط"، وبناء "جمهورية الشعب"
الثورة لم تتجاوز خمسين كلمة، من بين ستمائة كلمة إجمالي الخطاب
25 يناير/كانون الثاني 2011؟ هل كانت ثورة أم انقلابا أم انتفاضة أم نصف ثورة ونصف انقلاب.. إلخ. فبالنسبة للمصريين، أو على الأقل كثير منهم، فإن ما حدث كان ثورة شعبية غير مسبوقة، خرج فيها الجميع للمطالبة بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. في حين تبدو بالنسبة لبعضهم الآخر، خصوصا بين المثقفين والباحثين، فقد كانت انقلاباً استباقياً نفّذه الجيش ضد احتمالات وصول جمال مبارك، نجل الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك، إلى السلطة. ويعتقد هؤلاء أن تنحّي مبارك عن السلطة في 11 فبراير لم يكن للمتظاهرين أو الثوار، وإنما للمجلس العسكري. كذلك يستندون، في رؤيتهم تلك، إلى الوثائق والمذكّرات والتسريبات التي ظهرت على مدار العقد الماضي، خصوصا مذكرات الرئيس الأميركي الأسبق، باراك أوباما، المعنونة "أرض موعودة"، أو مذكّرات وزيرة خارجيته هيلاري كلينتون ورسائلها الإلكترونية، والتي تشير، بوضوح، إلى إطاحة الجيش مبارك حماية له ولمصالحه. في حين يبدي بعض ثالث تململاً من الجدل بشأن توصيف ما حدث، ويطالب بضرورة النظر إلى الأمام، والعمل على تغيير الأوضاع الحالية السيئة في مصر.
جنرالات مصر يملكون الأرض وما فيها، ومن عليها، من مال وماء وخبز وزرع، وهم المتحكّمون في رقاب الناس وأقواتهم، وأنهم المسيطرون على منافذ الحياة وشرايينها في مصر. فلا زرع، ولا بناء، ولا طرق، ولا مواصلات، ولا مؤسسات، ولا غذاء، ولا إعلام، ولا فن، ولا تعليم، ولا صحة، ولا انتخابات، ولا أحزاب، ولا برلمان، ولا سياسة إجمالاً، إلا بإذن العسكر.
باختصار، ما حدث منذ ثورة يناير هو اتساع نفوذ وهيمنة "جمهورية الضباط" (بتعبير يزيد صايغ)، بدرجةٍ ربما لم تحدث منذ انقلاب يوليو 1952، وذلك على مرأى ومسمع من الجميع، داخلياً وخارجياً. لذا، فإذا كان من درس واحد فقط يمكن تعلّمه من العشرية الأولى لثورة يناير، فهو أنه لا علاج لمصر من عللها وأمراضها إلا بالتحرّر من "جمهورية الضباط"، وبناء "جمهورية الشعب"، ووقتها يمكن أن نسمّي ما حدث بالفعل بأنه "ثورة"، وبدون ذلك فإن "جمهورية الضباط" ستظل باقية.. وتتمدّد.
* Jan 31, 2021
موقف المؤسسة العسكرية المصرية من انتفاضة 2011
المجلس الأعلى للقوات المسلحة كان بمثابة عصبة عسكرية مناهضة للثورة بشكل جوهري في عام 2011 وما بعده".
الربيع العربي -في موجتيه- تطلع الشعوب العربية -خاصة الفئات الشابة منها- للحرية والعدالة الاجتماعية والحكم الرشيد، واحتجاج على الفساد وسوء توزيع الدخل.
1- "إن جمهورية مصر الثانية لن تولد؛ إلا عندما تزول جمهورية الضباط من الوجود" -كما يرى يزيد صايغ في كتابه "فوق الدولة"– ؛ لكن تفكيكها سيستغرق وقتا.
2- إن المستبدين يقدمون دائما منع الانقلابات على جميع الاعتبارات الأخرى، بما في ذلك الأداء العسكري في ساحة المعركة؛ لكن الربيع العربي -بموجتيه- يروي قصة ما يحدث للحكام المستبدين، الذين يعدون جيوشهم لإحباط الانقلابات؛ لكنهم يواجهون بشكل غير متوقع انتفاضات شعبية ضخمة بدلا من ذلك.
3- لا يمكن الانتقال من الاستبداد إلى الديمقراطية إذا ظلت القوات المسلحة متماسكة وموالية للقوى الموجودة. بعبارة أخرى، يمكن أن تؤدي الانتفاضات الشعبية إلى الانهيارات الاستبدادية، فقط عندما تكف الجيوش عن الدفاع عن الوضع الراهن، ويمكن للطغيان أن يستمر لسنوات وعقود من الزمن عندما يستمر جهاز قسري ملتزم بالوضع الراهن.
في كل موجة ديمقراطية جديدة تتحدى السلطوية؛ كان السؤال المركزي هو نفسه: هل سيستجيب الجيش لدعوة القمع، أم سيكون جزءا من "تحالف منشق"؟، فقد أصبح من الواضح بشكل متزايد أن الانشقاق العسكري يغير علاقة القوة لصالح انتفاضات مدنية واسعة النطاق ضد الحكام المستبدين، وأن الاحتجاجات يمكن أن تصل بسرعة، والأهم من ذلك الحفاظ عليها لا يكون إلا بقوة تماسك الكتلة الحرجة للتغيير فقط.
4- أتفق مع نادية أبو المجد في كتابها "عسكرة الأمة" أن المؤسسة العسكرية الموجودة في مصر اليوم ليست هي نفسها، التي أنشأت أول نظام عسكري للبلاد قبل 60 عاما؛ فقد حدث شرخ جوهري في هذه المؤسسة في ثمانينيات القرن الماضي، حيث ولد الجيش الجديد، الذي يحكم البلاد اليوم؛ إلا أن التطورات، التي جرت بعد انقلاب 3 يوليو/تموز، أحدثت نقلة نوعية تستحق المتابعة.
٥-تشير بيانات كلا من البارومتر والمؤشر العربيين أنه ما تزال الثقة، التي يمنحها الرأي العام للجيش المصري مرتفعة، في مقابل تراجع ملحوظ للثقة في مؤسسات الدولة التشريعية والتنفيذية والقضائية، بالإضافة إلى تراجع الثقة في الأحزاب السياسية والحركات الإسلامية، وهذا توجه مفهوم في ظل شعور متنامٍ لدى المواطن بعدم الأمان، الذي واكبه حملة علاقات عامة تدعم هذا التوجه؛ إلا أن فجوة الثقة بين المدني والعسكري تؤشر إلى خلل خطير في العلاقات المدنية العسكرية، وقد يؤدي إلى ثورة توقعات لدور المؤسسة لا تستطيع أن تتحمل عبأه بمفردها في ظل إضعاف منظم لمؤسسات الدولة المدنية، واندماج في مشكلات المواطنين؛ فمثلا هل يمكن فصل زيادة معاناة المصريين من الفساد -كما تؤكده استطلاعات الرأي- عن أن يطال المؤسسة في ظل تصاعد دور العسكريين في القطاعات المدنية؟.
العسكر يضعون أنفسهم مكان وعي جزء من الطبقة الوسطى الجديدة المعولمة في مصر في ظل انفتاح على شبكات المصالح الخليجية والدولية
شبكات المحسوبية والفساد المرتبطة بالنافذين من الطبقة الحاكمة؛
خطاب المؤسسة العسكرية يعتمد منطق المحاصصة، التي لا تجعل من مصر وطنا؛ بل شركة مساهمة أو مستوطنات محتلة (على حد تعبير طارق البشري في حواراته التي صدرت عن دار البشير هذا العام)، وقد كان تعبير محمود نصر، عضو المجلس العسكري في يناير/كانون الثاني ومساعد وزير الدفاع للشؤون المالية وقتها، عن "عرق" المؤسسة عن مشاريعها الاقتصادية دالا في هذا الصدد؛ فالمؤسسة باتت تستخدم نفوذها السياسي المتصاعد لجني المزيد من المكاسب والمزايا الاقتصادية، وأصبحت تسعى إلى إضفاء الشرعية على إدارة السيسي وتوطيد الوضع السياسي الراهن من خلال الاستثمار بكثافة في خطط الانتعاش الاقتصادي الوطنية، مهما كانت هذه الخطط مصاغة بشكل سيئ.
"السلطوية التفويضية"
من يتتبع الاحتجاجات الاجتماعية، التي اندلعت بعد يناير/كانون الثاني في داخل الشركات العسكرية ومؤسسات الدولة، التي يديرها عسكريون -التي قامت أبو المجد بتوثيقها في كتابها المتقدم- يتأكد بما لا يدع مجالا للشك أن المؤسسة ووعي قطاع معتبر من أفرادها، قد تحولا إلى طائفة مغلقة تشبه المماليك في علاقتهما بجموع الشعب المصري.
مبارك لم يطور أي صلة تربط الجيش بحكمه من خلال التزامات أيديولوجية مشتركة؛ فإن السيسي يحاول أن يخلق هذه الأرضية من خلال عدد من المقولات الفكرية المستندة أساسا لما جرى في يناير/كانون الثاني، وما تلاه حتى يوليو/تموز 2013، بالإضافة إلى عدد من الممارسات العملية، التي جوهرها مزيد من الاندماج في السوق المعولم باتباع سياسات نيوليبرالية.
أما تداعيات ما جرى في يناير/كانون الثاني؛ فقد كان حديثا في الحفاظ على الدولة المصرية والأمن القومي والمؤامرات الداخلية والدولية والتمويل الأجنبي واستهداف مصر، وخطاب عن الاستقرار في ظل تداعيه في دول الإقليم من حولنا ومصير سوريا وليبيا واليمن، أضيف إلى كل ذلك -بعد يوليو/تموز- محاربة الإرهاب، التي تمت توسعتها لتشمل مجمل الحركات السياسية الإسلامية. [انظر مقالنا فخاخ الاستقرار الذي يناقش أيديولوجيا غريزة الخوف لدى نظام ٧/٣]
في حرب مصر على الإرهاب، أصبح للجيش، الذي سبق وأمّن البلاد في العقود القليلة الماضية، مبررات جديدة لتحويل حياة المواطنين المصريين بأكملها إلى "ساحة معركة". باسم محاربة الإرهاب الداخلي، وراكم الجيش المزيد من الأرباح والقوة القمعية، وفي الوقت نفسه، يكرس الخطاب القومي حول إنقاذ الوطن من التهديدات الداخلية والخارجية على حد سواء. في الواقع، استخدم النظام العسكري منذ ذلك الحين شكلا جديدا من أشكال العسكرة، وذلك باستخدام خطاب مكافحة الإرهاب.
أضيف لمهام الجيش مع التعديلات الدستورية 2018 مهمة الحفاظ على النظام الديمقراطي، والمقصود به تدخله على غرار 2013 ضد رئيس مدني منتخب لا يرضى عنه. وتحت ذريعة تهديد النظام الديمقراطي، وفي تناقض واضح مع عسكرة المجال العام في مصر بأكمله الآن.
يقيم صايغ في كتابه (أولياء الجمهورية) "امتيازات الهيمنة"، التي يتمتع بها الجيش حاليا فيقول "إن المشروعات العملاقة والمخططات التجارية الجديدة أدت إلى تعجيل الريعية التنافسية، وذلك بسبب سحب رأس المال الشحيح بعيدا عن أجزاء أخرى من الاقتصاد، بدلا من زيادة الموارد المالية العامة في مصر. يمكن استنتاج ذلك من العمليات الظاهرة في إعادة الاصطفافات بين جهات اقتصادية عسكرية فاعلة محددة وبين الشركات الخاصة أو جماعات مصالح أخرى (ممثلة في أجهزة الأمن الداخلي ووسائل الإعلام والبرلمان). كما أن المتنافسين العسكريين، الذين تم تمكينهم حديثا، أبعدوا المنافسين السابقين، وأزاحوا الشركاء من رجال الأعمال المفضلين سابقا أو حلوا محل متقاعدين آخرين من القوات المسلحة في قطاعات معينة. أما الجهات الفاعلة بالمستويات الأدنى، التي تنفذ النهج الشامل، الذي يتبعه السيسي والمؤسسة العسكرية، فقد تكيفت مع ذلك بطريقة دينامية بطبيعة الحال؛ لتغتنم الفرص للتربح والافتراس. ومن وجهة نظر السيسي، قد تخدم منافستهم أيضا وظيفة منع الانقلاب ضده، وهو يستكمل ذلك بتغيير مستمر في قيادات القوات المسلحة".
يسعى المستبدون إما إلى جعل الجيوش موالية للأنظمة التي تخدمها، أو غير قادرة على تحديها، أو كليهما. لقد بنى نظام الحكم في مصر منذ 1952 تقاليد راسخة لمنع الانقلابات، باعتبار أن الجيش هو التهديد الرئيسي لمن يتبوأ منصب الرئاسة؛ فبينما لم يفقد أي رئيس حتى مبارك سلطته أبدا أمام احتجاجات شعبية أو منافس، واجه الرؤساء جميعا تحدي المعارضة العسكرية والانقلابات، صحيح أن سياسات منع الانقلاب اختلفت في شكلها من رئيس لآخر؛ لكن ظلت هناك استمرارية تاريخية للملامح الأساسية مع إضافة عناصر جديدة، حسب ظروف كل رئيس.
قامت العناصر الجوهرية لمنع الانقلاب على إفساد القيادات العليا للمؤسسة من خلال إدماجهم في شبكات المصالح والامتيازات وإغداق الأموال عليهم أثناء الخدمة، أو بعد تركها من خلال المناصب في المؤسسات التجارية أو العامة. وتكامل مع سياسات الإفساد أيضا تغيير القيادات بشكل مستمر. الملمح الثاني لمنع الانقلابات هو تكتيكات فرق تسد بين مكونات المؤسسة والقيادات بها، والتوازن مع مؤسسات أخرى مثل وزارة الداخلية في عهدي السادات ومبارك، أو الاتحاد الاشتراكي في فترة عبدالناصر.
اقتصاد الجيش من تأثير امتيازات الهيمنة، التي تجري بلا قواعد "إن غياب القواعد الصارمة يعني أن تضارب المصالح يجري حله غالبا من خلال التنازع المباشر. وكان هذا الأمر واضحا بشكل خاص في ردود شبكات المتقاعدين العسكريين وجماعات الضغط المدنية المتنفذة والمتمركزة في الجهاز البيروقراطي للدولة، التي قاومت حين توغلت الهيئات العسكرية بقوة في أسواق الاستيراد والتموين، مهددة بإزاحة الفئات الأولى. في الوقت ذاته، فقد كانت المؤسسة العسكرية هي المنتفع الرئيس من حل شبكات المحسوبيات، التي ارتبطت بمبارك لغاية عام 2011. حيث أدت عملية إعادة التشكيل العامة لشبكات الامتياز داخل الإدارات البيروقراطية المدنية إلى تمكين المؤسسة العسكرية من تنحية منافسين أقوياء، إن لم يكن تغييبهم بالكامل، مثل جهاز المخابرات العامة".
عسكرة الدولة
وعي قطاع مهم من قوى يناير/كانون الثاني (حبذا لو عمل فريق على توثيق خبرات يناير/كانون الثاني الاحتجاجية) كان متنبها لاحتلال عدد متصاعد من العسكر لأجهزة الدولة المختلفة بما يثير حفيظة قطاع عريض من المدنيين، الذين كان يجب أن يحتلوا هذه المناصب، وقد أطلقوا مبادرات مختلفة لرصد هذا الوجود العسكري تمهيدا للتعامل معه، ويرتبط بذلك قضية يشيعها العسكريون، وهي الادعاء بكفايتهم عن المدنيين، وبما لا تسنده الوقائع الممتدة تاريخيا؛ فبرغم زيادة هذا الحضور من 1952 حتى الآن إلا أن الأداء المتعثر لأجهزة الدولة المصرية يتناسب طردا مع زيادة وجود العسكريين في أجهزتها؛ بل إن ما شهدناه من زيادة الفساد في عقد مبارك الأخير صاحبه زيادة ملحوظة بحضور العسكريين في أجهزة الدولة المختلفة.
أبرزت انتفاضة 2011 مأزق المجلس العسكري، فقد كان بحاجة إلى إقناع الرتب الدنيا والمتوسطة، الذين ينتمون بأغلبية ساحقة إلى الطبقات الوسطى والدنيا -وبالتالي يعانون من التداعيات الاقتصادية للتحول النيوليبرالي بعد عام 1990- باستخدام القمع المميت ضد مواطنيهم، الذين يحشدون أنفسهم ضد السياسات نفسها، التي كانوا يتألمون منها أيضا، خاصة أن هذه الاحتجاجات كانت من كل الطبقات -غير عنيفة- ولم يتصدرها فصيل سياسي أو أيديولوجي يمكن شيطنته.
الاحتكاك بين الأجيال (أي العمودي) مهم بشكل خاص للمتابعة -كما يرى بو نصيف- لعدة أسباب: أولا، تنخفض السلطة الأخلاقية لكبار الضباط على مرؤوسيهم عندما يأمر الأخير بذبح المدنيين. قد يكون الضباط والجنود الميدانيون مستعدين للموت حتى آخر رجل، عندما تغزو القوات المسلحة الأجنبية بلادهم؛ أما إطلاق النار على النساء والأطفال هو أمر مختلف، ومع ذلك، فإن كبار الضباط، الذين يصدرون أوامر القمع لا يمكنهم دائما تحمل الطاعة غير المشروطة من مرؤوسيهم.
ثانيا، يتم عزل الضباط من ذوي الرتب المتوسطة والصغار أكثر من كبار الضباط في دوائر السلطة، ويميلون إلى أن يكونوا أكثر حساسية تجاه المظالم الاجتماعية، وأكثر تنفيرا عن النخبة الحاكمة، أو الترحيب بالتطلعات الديمقراطية.
يكون لدى الضباط أحيانا حوافز مهنية لدعم التغيير؛ فإذا نجحت الانتفاضات المدنية، فمن المحتمل أن تعيد تشكيل الساحة السياسية بشكل جذري من خلال إحداث سقوط نخبة مدنية وبروز أخرى، وقد يكون لهذا الاضطراب السياسي تداعيات عميقة على القوات المسلحة، وخاصة الضباط. وبالتالي، قد تساهم الاعتبارات المهنية المتمحورة حول الذات في تشكيل مواقف الضباط في العداء وعدم الثقة بينهم.
كقاعدة عامة، يتأكد المستبدون من شراء ولاء قيادة القوات المسلحة؛ فالمراتب العليا لسلك الضباط -عادة- موالون؛ لأنهم جزء من النخبة الحاكمة، وعند سقوط الأخير، قد ينزل كبار الضباط معهم. هذه ليست أخبارا سيئة دائما لزملائهم ومرؤوسيهم. في الواقع، غالبا ما يكون العكس هو الصحيح؛ فزوال ائتلاف من القادة العسكريين يترك فراغا في القمة لا يمكن ملؤه؛ إلا من أعضاء آخرين في سلك الضباط.
عندما يفقد المستبدون ولاء الضباط من ذوي الرتب المتوسطة وصغار الضباط في القوات المسلحة، لا يعود بإمكانهم الاعتماد على الجيش للدفاع عنهم ضد الانتفاضات الشعبية، حتى لو ظل جنرالاتهم ملتزمين بالوضع الراهن، وإذا كان الضباط الذين يشغلون مناصب في الوسط والأسفل من التسلسل الهرمي العسكري يعارضون إطلاق النار على المدنيين، فلا يمكن للنخبة العسكرية أن تأمرهم بذلك، خشية أن يهددوا تماسك القوات المسلحة وسيطرتها عليها. المعنى ضمنيا ذو شقين: أولا، الجنرالات الموالون مفيدون فقط للقوى الموجودة إذا حافظوا على سلطتهم على مرؤوسيهم. ثانيا، حتمية تجنب تمرد الضباط من ذوي الرتب المتوسطة وصغار الضباط. ويصير السؤال المركزي لكبار الضباط، الذين يفكرون في قمع الاحتجاجات الشعبية هو التالي: "ماذا سيفعل مرؤوسي إذا أمرتهم بفتح النار على المدنيين؟".
يتبع الضباط ذوو الرتب المتوسطة والصغار أوامر النخبة الموالية إذا كانوا هم أنفسهم يدعمون الوضع الراهن؛ ومن المرجح أن يدعم الجنرالات المستبدين المحاصرين إذا علموا أن مرؤوسيهم سوف يتبعون أوامر القمع.
السؤال الذي لم أجد له إجابة حتى الآن ويستحق المتابعة
هل استطاع نظام 3 يوليو/تموز من خلال عسكرة الاقتصاد المصري والدولة بأكملها مع انفتاح على الشبكات المعولمة أن يدمج الرتب الأدنى والمتوسطة في سلم العسكرية المصرية في شبكات المحسوبية بما يضمن حفاظها على الوضع الراهن، أم ما تزال الفجوة كبيرة بين القيادات وبين هذه الرتب في تحصيل المنافع والاستفادة من شبكات الامتياز، التي باتت متحررة من القواعد القانونية والإجرائية كما قدمت؟.
*Jun 7, 2021
شعبٍ يليق بمقام الضباط
مسجد المشير، كي يرضى عنه الله والوطن، ولا يكون من أهل الشر، شعبٌ لا يعرف الجان ولا العفاريت ولا خنق القطط السوداء ولا يعذّب الكلاب
شعبٌ يستمتع فقط بمشاهدة مباريات كرة القدم في المنازل في كامل الأدب،
شعبٌ يسمع كلام المذيعين مساء، خصوصاً اجتهادات أحمد موسى وإبراهيم عيسى
شعب يتبرّع لنظامه في أسبوع واحد بمبلغ 68 مليار جنيه "منعرفش جابها من تحت أيّ بلاطة" مع العلم أنّنا فقراء جدّاً جدّاً جدّاً، لكنّ ذلك كلّه يهون أمام رفع الروح المعنوية للشعب. فقط لا نريد منه أيّ شيء بعد ذلك سوى أن يصبّح على حبيبته مصر بمكالمة بجنيه، أو يترك لها "الفكّة".
شعبٌ ملأنا له الشوارع والمدارس والجامعات بنوعية "تعليم عالى الجودة" تحسدُنا عليه السويد وسويسرا
ويشهد على ذلك عدلي منصور والممثلة شمس البارودي
شعبٌ يليق بأحمس وطريق الكباش والمتحف الكبير وأكبر مسجد وأكبر كنيسة وأطول علم،
شعبٌ لا يسأل أبداً عن ديون مصر الداخلية أو الخارجية، فالداخلية من خير بنوكنا، وبنوكنا شهرتها عالمية، أما الخارجية فسنداتنا تكفي خير قارّتين، ويكفي الذهب المركون بآلاف الأطنان في باطن منجم السكري، ويكفي الغاز الذي تتعطش إليه أوروبا، لقرنين، كما يقول الخبراء. أما دكتور فاروق الباز، وهو عالم الفضاء، فقد رأى من كبسولاته الفضائية أنّها تكفي أوروبا خمسة قرون، والبحر المتوسط كلّه لنا والأحمر لنا وتيران وصنافير حتى خيرها لنا. أما عن الرمل والحلفاء والزلط، والقواقع الفارغة وأشجار الشوك، فالشعوب الكريمة لا تذكرها أبداً، خصوصاً ما بين الأخوة الذين وقفوا معنا في مواجهة قنابل ودبابات ومدافع أهل الشر... وإن كان الشعب هذا الكريم يريد أن "نطلّع له أهل الشر من السجون؟" فأهلاً وسهلاً، لكن تحمّلوا النتائج.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق