Mar 4, 2021 Dec 11, 2021
قومية العربية دلالات لغوية وسياسية قد لا تدل على العروبة
ينفي المؤرخ العراقي «د. عبدالعزيز الدوري 1919- 2010» في كتابه « التكوين التاريخي للأمة العربية» الذي يعد واحدًا من أهم المراجع في القرن العشرين، مصطلح «العرب» كدلالات بشرية بل يؤكد أنه وصف للحال من حيث التشابه بسمات متقاربة الأصل كاللغة أو الموقع .
مفهوم «القومية العربية» هو مفهوم أوروبي مستورد
في المقابل ربط مفكرون قوميون من ذوي النزعة الإسلامية كعبدالرحمن الكواكبي ومحمد عزة دروزة، بين العروبة والإسلام مؤكدين أن الإسلام كان وسيلة للعرب إلى الحضارة والتمدن
أما بعض المفكرين القوميين اليساريين وفي صفهم يقف «البعثيون» فقد فصلوا بين العروبة والإسلام تحت شعار « أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة» وفي الطرف المقابل بفرق أصحاب الاتجاه الإسلامي السلفي وفي صفهم جماعة الإخوان المسلمين الإسلام عن العروبة، بل يعتبرون العروبة انسلاخًا عن الإسلام وتمردًا عليه، واخترعوا شعارًا – انتخابيًا - لخصوه بعنوان ( الإسلام هو الحل).
وسط غبار معمعة الصراع الذي دام أكثر من قرن بين «العروبيين» و»الاسلامويين» والذي لم يحسم لحد الآن، وبعد عدد من الأحداث الزلزالية المدمرة، كنكسة عام 1967م، وتوقيع اتفاقية «كامب ديفيد» بين مصر وإسرائيل، والاحتلال الصدامي للكويت في عام 1990م، تشكل اتجاهان آخران، اتجاه قُطْري تبناه ليبراليون يعيشون حالة من التقمص الوجداني، مبهورين بالغرب، ويرفعون شعارات قُطْرية، يدعون إلى إبراز الهوية الوطنية فقط دون غيرها والمحافظة عليها من الذوبان. واتجاه آخر ذو نزعة اقليمية، كأولئك الذي يرفعون شعارات «الهوية الفرعونية « في مصر، وجيرانهم في شما أفريقيا الذين يرفعون «الهوية الأمازيغية. وفي صفهم الأكراد في شمال العراق، وشمال شرقي سوريا، وهم الذين بإصرار داخلي وبدعم خارجي يطالبون بالاعتراف» بالهوية الكردية» وسيادتها السياسية والاقتصادية والثقافية في المناطق التي يقطنونها. وهناك جماعات أخرى في لبنان وفي سوريا يطالبون بإحياء «القومية الفينيقية
وفي غياب أي دور فاعل للمنظمات السياسية الإسلامية والعربية، كمنظمة التعاون الإسلامي، ورابطة العالم الإسلامي، وجامعة الدول العربية انسلخت مساحة جغرافية كبيرة من جسد الوطن العربي هي « جمهورية جنوب السودان» التي تضم عددًا من القبائل الأفريقية مثل الدينكا، والنوير، والشيرلوك، والشلك، والآشولي، والجور. تلك الجمهورية التي اتخذت من اللغة الإنجليزية لغة رئيسة لها، إلى جانب عدد من اللغات المحلية، كلغة باري، ولغة الندوقو ولغة الباي ولغة القولو، ولغة السيري، ولغة البلندا. وتعتبر هذه الجمهورية من الدول القليلة جدًا في العالم التي لا تملك قومية وهوية مشتركة بين شعبها، وبرغم كل هذا أصبحت دولة ذات سيادة وحدود ومعترف بها دوليًا. وبعد اندلاع أحداث ما يسمى «بالربيع العربي» كادت دول عربية أخرى، أن تتشظى وتتحول إلى كانتونات طائفية وعرقية.
أمام كل هذه التحديات السياسية والاقتصادية، والتجاذبات الإقليمية والدولية، والاختلالات الهيكلية والبنائية في جسد الإقليم العربي، وفي الوقت الذي يشهد فيه العالم في غربه وشرقه قيام تحالفات سياسية واقتصادية بين دول مختلفة اللغات ومتعددة القوميات، كـ «الاتحاد الأوروبي» المكون من (27) مملكة وجمهورية أوروبية. و»مجموعة البريكس» التي تضم كلًا من البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا، و»منظمة شانغهاي للتعاون « التي تضم ست دول هي الصين، وروسيا، ووكازاخستان، وقيرغيستان، وطاجيكستان، وأوزبكستان. يقف العام العربي في مفترق طرق، بل أصبح كلأً مباحًا في كثيرٍ من أصقاعه، ومحطًا لأطماع إقليمية وخارجية، حيث تداعت عليه الأمم كما تتداعى الأكلة الى قصعتها – كما أخبر بذلك نبينا محمد (ص) - ناهيك عن التشرذم الطائفي الذي وصل إلى حد الاحتراب الداخلي. حقًا إن الأمن العربي أمام اختبار قاسٍ وصعب.
حينما تعلو أصوات في أكثر من قطر عربي تطالب بمشروع إصلاحي على غرار المشروع السعودي الشجاع، وتتمنى قيادة كقيادة الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز، الذي تبنى رؤية حضارية وإنسانية متكاملة، أثبتت نجاحًا منقطع النظير، هل يجتمع الإسلامويون، والعروبيون، والقُطريون، وأصحاب الأديان والثقافات واللغات الأخرى داخل محيط العالم العربي على رؤية جامعة، تحتضن كل الأطياف، وتحفظ لكل اتجاه هويته، وتجمعهم على كلمة سواء، خلف قيادة توفرت فيها كل شروط القيادة الحكيمة، و اجتمعت بها كل المشاعر الإنسانية؟ ولا يخالجني شك أن كل هذه الشروط وجميع تلك الخصال متوفرة بالقائد الشاب الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز؟.
*
الرابطة العربية والجوار الإسلامي
رفيق عبد السلام تونسي اخواني
علاقة العرب بأنفسهم ومخزون هويتهم الجمعي
الرابطة العثمانية المشتركة في مواجهة الضغوط السياسية والعسكرية للقوى الأوروبية الصاعدة، وتبلور ما عرفت وقتها بالجهادية الإسلامية. دافعوا بحماسةٍ منقطعة النظير عن التآخي العربي التركي، وحماية ما سموها بيضة الإسلام المهدّدة،
العرب والترك وشعوب البلقان وغيرهم كانوا جزءا من حالة ثقافية وسياسية عالمية، تتسم بصعود القوميات ومفاهيم تقرير المصير على أنقاض الإمبراطوريات القديمة المنهارة.
الجدل الذي كان وما زال قائما بين المؤرخين والمفكرين السياسيين بشأن فكرة القومية وأصلها وفصلها، وما إذا كانت مجرّد صناعة مستحدثة من الدولة، أو هي بناء متخيل بالأساس، أو بناء تراكمي على معطى الإثنيات التي تمد عروقها في التاريخ، أو هي قومية دستورية على طريقة الفيلسوف الألماني، هابرماس، الثابت في ذلك كله أنها أكثر الحقائق السياسية صلابة ومقاومة في عصرنا الراهن، بما يفوق قوة الأيديولوجيات والعقائد والأديان.
مسار العرب الحديث كان الأكثر وجعا ودرامية من غيرهم، حيث انتهى بهم المطاف إلى كياناتٍ مبعثرة، تتقاذفها لعبة الأمم والصراعات البينية والانقسامات الطائفية والعرقية، ولم يحققوا شيئا يذكر من طموحاتهم القومية. الشام موطن العروبة ومهد حلم الوحدة العربية يسير اليوم نحو مزيد من التمزّق، العراق موحّد ظاهريا، ولكن الانقسامات الطائفية والعرقية والتدخلات الخارجية تنخره، السودان انقسم بين شمال وجنوب، وهو معرّض لما هو أكثر، ليبيا نفسها مهددة بالتقسيم.
الايراني، بما في ذلك الإسلامي، هو قومي بشكل أو بآخر، على الرغم من بروز المعطى المذهبي الشيعي
حدهم العرب انتهوا إلى حالة من التبعثر السياسي الهائل، على الرغم من وجود رباط لغوي وثقافي ومخيال مشترك. واليوم، مع تتالي مسار الانحدار والتفكك، يبدو أن غاية المنى أن يحافظ العرب على كياناتهم القُطرية الهشّة من أصلها، وألا يمعنوا أكثر في مزيد التشرذم والانحدار إلى ما دون الدولة "الوطنية".
خلافا لذلك، تمكّن الإيرانيون من انتزاع نواة قومية متماسكة نسبيا، تضمّ قومياتٍ مختلفة مع غلبة العنصر الفارسي. خرج الأتراك منهزمين من الحرب العالمية الأولى، وخسروا أراضي كثيرة، لكنهم استنقذوا نواة صلبة في قلب الأناضول. أسس الباكستانيون قومية إسلامية متمايزة عن أقرانهم الهنود في شبه القارّة الهندية. أما العرب فقد انتهى بهم حلم المملكة العربية الكبرى التي كان من المنتظر أن تضم في البداية الحجاز وبلاد الشام والعراق، وتتوسع نحو ضم بقية العرب، انتهى بهم المطاف إلى مملكة صغيرة في صحراء الأردن، بعدما عبث الإنكليز بالشريف حسين وأبنائه وبدّدوا طموحاتهم... نخلص من ذلك كله إلى خلاصاتٍ لا بد من البناء عليها، إذا أراد العرب إنقاذ وضعهم، واستعادة قدر من تعافيهم السياسي وتوازنهم التاريخي المفقودين.
لا سبيل لنهوض الإسلام من دون نهوض عربي فاعل، لأن العرب هم مادة الإسلام ومعدنه
*Jun 20, 2021
لعرب يملكون كل شيء إلا العقل. ولا شىء
ماديا لا ينقص العرب شيء لكي يكونوا أمة متقدمة، مهيمنة يخطب الآخرون ودها ورضاها. ولكن كل شيء في حياتهم، الظاهر منها والباطن يوحي بالتخلف. وأي نوع من التخلف؟ ذلك التخلف الذي ما من أمل في نهايته والقضاء عليه. ليس كابوسا لنستيقظ فينقضي. ليس أزمة مؤقتة تمر فتُنسى. قدر صار جزءا من الفلكلور المحلي.
لكن هل يُعقل أن هناك أمة ثرية يكره أفرادها بعضهم البعض الآخر مثلما يفعل العرب؟ الكراهية تنسف كل شيء. لا أقصد هنا المحبة وحدها بل كل ما يحث الإنسان على فعل الخير ومنه العمل. إما أن نكره وإما أن نعمل. عبر العقود الأربعة الأخيرة انتقل الشباب العربي من مجال حب العمل إلى فضاء الكسل والاسترخاء المريض. لقد فجعت حين اكتشفت أن المقاهي في مدن عربية عديدة تكتظ منتصف النهار أي في ذروة ساعات العمل.
الأمية الثقافية هي واحدة من أهم علامات التخلف.
مثقفون لبنانيون “كبار وحداثويون كما يتم استعراضهم” ينظرون بعيون منبهرة إلى حسن نصرالله وهو يبصق في وجه الحضارة الحديثة بأتفه وأسخف نظرياته عن المقاومة فيما هم يعرفون أنه مجرد خادم لأكثر أنظمة العالم السياسية تخلفا وانحطاطا. ما معنى ذلك؟ العناد؟ لقد أفلس لبنان وهو البلد المؤهل للعيش في حرير السياحة العربية. السياحة في لبنان بالنسبة إلى العربي ليست كالسياحة في أي بلد أوروبي. هذا ما عرفه اللبنانيون عبر عقود من الزمن يوم كان لبنان واحة للحرية. ولكن حزب الله وضعه على جمر لم يكن قدره وهو ما يرغب فيه أعداء لبنان. أتخسر إسرائيل شيئا لو أن لبنان غدا من غير كهرباء ولا خبز ولا ماء ولا دواء؟
يكمن السر في الفساد. هل نحن الأمة الأكثر فسادا في العالم؟
*
هل اختفى العرب أم تحوَّلوا أشباحاً
Aug 24, 2021
Oct 30, 2021
استيقظت قبل عقد على الحلم العربي الكبير، مقاومة الاستبداد والفساد وبناء مجتمع الحرية، بناء المشروع الديمقراطي العربي
أغلب البلدان العربية لم تتمكَّن من الوقوف على ما آلت إليه أوضاعها بعد انفجارات 2011، وساهم وباء كورونا منذ سنتين في تعميق درجات الفراغ والغياب الحاصليْن في الفضاء السياسي العربي. ونتصوَّر أنه، أمام معطياتٍ مُماثلةٍ تحصل في التاريخ، يَسْهُل الاندحار والسقوط كما يَسْهُل الانقراض..
لم يتمكّن العرب من التصالح بعد مع ذواتهم ومع العالم من حولهم، ومنذ ما يزيد عن قرنين وهم يتحدّثون باللغة نفسها ويُرَكِّبون الأسئلة التي لم تعد مطروحة
نحن نعيش في زمنٍ اختلطت فيه قواعد الحرب والإبادة الجماعية والسلام. زمن عادت فيه لغة الطوائف والأعراق إلى الظهور، وتحوّلت كثير من مجتمعات المشرق والمغرب العربيين إلى مجتمعاتٍ منقسمة. اختفى الوطن واختفت الأوطان الصغرى، كما اختفى مشروع الوطن الواحد والكبير، واختفى أيضاً مشروع تحرير فلسطين. انتصبت أشجار النسب وأساطير الأصول، لِتحوِّل كثيراً من بلدان المشرق العربي، ليبيا وسورية واليمن .. إلى فسيفساء تنتظر مِقَصّ المُتَربِّصين بالجغرافيا العربية من القِوَى الإقليمية والدولية. وفي مثل هذه الأحوال، يصعب النظر والبحث في السُّبُل والمخارج التي يستعيد فيها العرب قدرتهم على الفهم والمواجهة والفعل.
حَوَّلَت مظاهر التبعية أغلب الدول العربية إلى مجرّد دويلاتٍ، مُنَفِّذَةٍ لبرامج وخُطَط يسطِّرها الآخرون، وهذا الأمر بالذات يقدّم الدليل على الاختفاء الذي يُرَاد منه مَحَو مشروع النهوض العربي من الخرائط، وتطلُّعات النهوض الممكنة التي تَغَنَّت بها، وبحماسٍ كبير، أجيال من العرب، فكيف تَمَّ وَقْف المشروع العربي في الوحدة والتنمية والتقدّم؟ كيف تقوم اليوم، دولة الكيان الصهيوني بتعزيز حضورها وترسيخ آليات اختراقها، بِمَدّ جسورٍ من الصِّلات مع أغلب البلدان العربية؟
لا نَتَرَدَّد في وصف الحال العربي اليوم، بأنه يقدّم صورة واضحة عن صور الاختراق الصهيوني الجديد، حيث عُقِدَت معاهدات تعاونٍ مع دول عربيةٍ كثييرة، معاهدات قُدِّمت فيها مبرِّرات ومعطيات تكشف مظاهر كثيرة دالة على اختفاء العروبة والعرب. وفي فلسطين المحتلة، تزداد الأوضاع سوءاً، وتزداد مِحْنَة الفلسطينيين بانقسامهم من جهة، وبسياسات الحكم الذاتي وإجراءات أوهامه من جهة أخرى، إضافة إلى جبروت الاحتلال الصهيوني وعنصريته.
ففي سورية وليبيا واليمن، وبعد مِحَن التهجير واختراق الفلول الإرهابية ومليشيات القِوَى الدولية لهذه المجتمعات، وفي غياب الحدود الدنيا للتضامن العربي، نزداد مرةً أخرى تَأكُّداً من اختفاء العرب.. وعندما نُتابع ما يجري اليوم في تونس، وما يجري بين المغرب والجزائر، تزداد الصورة وضوحاً، تَكبُر صورة الاختفاء فتملأ الأعين وتَشُدُّ الأنفاس، تغيب أدوات الحوار وتحضر، في المقابل، لغة السلاح والحرب، لغةٌ تحضر فيها إسرائيل للانتصار لطرفٍ على حساب آخر، فمن يمكن أن يتحدّث اليوم عن العروبة وعن العرب؟
لم يتمكّن العرب من التصالح بعد مع ذواتهم ومع العالم من حولهم، ومنذ ما يزيد عن قرنين وهم يتحدّثون باللغة نفسها ويُرَكِّبون الأسئلة التي لم تعد مطروحة، لم يتخلصوا من أعباء الموروث وقيوده، على الرغم من كل صور المثاقفة التي حصلت في مجتمعاتهم تحت ضغط الحتميات التاريخية التي تساهم في تغذية المجتمعات والثقافات وتقويتهما وتطويرهما في التاريخ. ونتصوَّر أنه لا يمكن تجاوُز استقطابات سياسية كثيرة حاصلة اليوم، في تونس وفي لبنان والسودان والمغرب، على الرغم من الاختلافات العديدة بين المجتمعات والأنظمة السياسية التي ذكرنا، إلا أنها تظلّ مشدودةً إلى نظام مشترك في القيم، وخطأ التيارات السياسية الحداثية والمُحَافِظة يتمثل في نسيانهما معاً، حاجتنا الماسّة إلى ثورة ثقافية تمكِّننا من التخلص من قيود الماضي، والشروع في بناء مشروع في التقدم يرتبط بأسئلتنا الجديدة ومرجعياتنا المرتبطة بمختلف التحوُّلات الجارية في مجتمعاتنا وفي العالم، وبمختلف مساعينا الهادفة إلى الانخراط في امتلاك ثقافة عالمٍ نحن اليوم جزء منه.
Nov 25, 2021
*
الأرقام التي تصف حالة التخلف والتراجع والبؤس التي يعيشها في جوانب الحياة كافة، اقتصادية كانت أو سياسية أو اجتماعية، وفي طبيعة أخباره المستدعية للكآبة والحزن التي تملأ منصّات الإعلام المرئي والمسموع والمقروء. وحدها منصّات الإعلام الرسمي هي ما يرسم صورة "إيجابية" مغايرة للواقع البائس، إذ تمتلئ بالأكاذيب والإنجازات والبطولات الوهمية، وهي تدور حول شخصية الزعيم وظلاله وأتباعه من نخبٍ مطبّلة مسخّرة لخدمته. أما الصورة الحقيقية فهي موجودة في الشارع الذي يعكس الصورة الحقيقية للواقع البائس.
تعيش البلاد العربية اليوم حالة استبدادٍ شامل، وتخلّف اقتصادي، وشبه انهيار في بعض الأصقاع، وجوع وشظف عيش، ومديونيةٍ هائلة، وبطالة متفشّية، وبؤس اجتماعي، وحتى في البلاد التي تتمتع ببعض الثروة، فإنّ خيراتها منهوبةٌ ومصروفةٌ على نزوات الحاكم ومغامراته، ومشروعاته المجنونة، فهو مسكونٌ بهاجس تحقيق إنجازاتٍ فرديةٍ ربما ليست لها علاقة بمعالجة مشكلات شعبه الحقيقية، والأدلة أمام كل ذي بصر وبصيرة.
منذ انهارت دولة الخلافة العثمانية قبل نحو مائة عام، وكان العالم العربي جزءاً منها، قطّعت اتفاقات سايكس وبيكو أوصاله، وحوّلت الضواحي والمشيخات والنواحي إلى دول لكل منها جيش وعلم ونشيد وطني، وعلى الفور نشأت إثر الهزيمة المنكرة للأمة حركات التغيير والتحرير التي قاومت المستعمر، ومن ورثه من وكلاء استمرّوا في حكم البلاد باسمه ومباركته، فخرجت البلاد من مرحلة الاستعمار الأجنبي إلى مرحلة "الاستعمار الوطني". وبسبب هذا الواقع البائس، تفجّرت في البلاد حركاتٌ وتحرّكاتٌ هدفها استعادة الأوطان المسلوبة ممن سرقها، وانتهجت، في سبيل تحقيق هدفها، عدة طرق، كلها لم تنجح، في النهاية، بغض النظر عن أسباب الفشل. وبعجالةٍ يمكن لنا أن نحصر الطرق التي سلكها المصلحون وطلاب الحرية (والمغامرون والثوار أيضاً) على النحو التالي:
أولاً: الانقلابات العسكرية، أو طريق القوة في التغيير، وقد بدا في مستهل هذا الطريق أنّ الشعب في طريقه إلى نيل حريته، إلّا أنّ ما حصل أنّ كلّ أو جلّ قيادات الانقلابات التي وقعت في بلاد العرب (بعضهم سمّاها ثورة!) تحولوا إلى أن يكونوا "جمل محل جمل برك" بالتعبير الدارج، فقد جلس الدكتاتور الجديد على كرسي الدكتاتور القديم، و"هندس" علاقاته جيداً مع القوى الإقليمية والدولية المتحكّمة بمصائر الشعوب، وضمن سكوتها أو "تطنيشها" عما يرتكبه بحق شعبه، مقابل الحفاظ على مصالحها في بلاده (يسمّونها الالتزام بالاتفاقات الدولية!). وفي المحصلة، لم تجرّ الانقلابات إلا الويلات على البلاد والعباد، فكانت لعنةً على كل مشاريع التغيير والإصلاح، مع بعض إنجازات هنا أو هناك مما لم تؤثر كثيراً على الواقع البائس.
تعيش البلاد العربية اليوم حالة استبدادٍ شامل، وتخلّف اقتصادي
أما طلاب التغيير بالثورة والقوة، وحشد التأييد الشعبي، فنالهم هم أيضاً ما نال من انتهج طريق التغيير السلمي، فقد سُرقت الثورات، وشُيطنت، ودعمت الثورات المضادّة المتضرّرين داخلياً وخارجياً بتخريب منجز الثوار، كي يقولوا للجميع إنّ طريقكم لا يجلب غير المآسي والكوارث، فكان طريقاً عبثياً لم يفضٍ إلّا لمزيد من البؤس والخذلان والفشل.
أما دعاة التغيير السلس عبر دمقرطة البلاد، من بعض أهل العلمنة وزبائن منظمات المجتمع المدني الممولة بشكل شبه كامل من الخارج، ومعهم تيارات اليسار أو فلوله، فقد انخرطوا في مشروع الحاكم على نحوٍ أو آخر، وأصبحوا جزءاً من المشكلة، بدلاً من أن يكونوا هم الحل، فقد استمالهم الحكم، واشترى كثيرين منهم، أو زجّ من عصى في السجن، وكمّم أفواه الباقين، فكان خيارهم هو الآخر بلا فائدة.
بالجملة، لا الثورة، ولا العمل السلمي، ولا التغيير بالقوة، ولا التغيير عبر النظام السياسي القائم، أدّى إلى النتيجة المرجوّة في بلاد العرب، فما هو الطريق الموصل إلى النجاة في ظل هذا الواقع؟ هذا سؤال مطروح على الجميع، وربما يكون الجواب في الجمع بين كلّ تلك الأساليب، وفق خلطة سحرية، وبمقادير غاية في الدقة، متى ما تم فكّ شيفرتها ربما وقع التغيير.
لم تستفد الثورات المتأخرة في السودان ولبنان والجزائر مما لحق الثورات العربية الأولى في تونس ومصر، والثورات التي تلتها في كلّ من اليمن وسورية وليبيا، إذ ما زالت الأوضاع في البلدان المذكورة على حالها، كما تضاعفت المخاطر والتحدّيات وتراكمت أمام الشعوب خيباتٌ مضاعفة، من أنظمتها الفاسدة ومن النخب المعارضة للاستبداد والفساد، والعاجزة، في الآن نفسه، عن بناء وحدتها ووحدة شعاراتها ومواقفها، ثم بناء المسالك القادرة على تركيب الخطوات المناسبة لأوضاعٍ أصبح من الصعب معرفة كيفيات تجاوزها، وذلك بسبب الأيدي والأصابع التي ملأت الأوطان بمليشياتٍ تابعةٍ للقوى الإقليمية والدولية، وقد استوت جميعها بجانب الأنظمة المعتلّة والخائفة، فضاق الحال بالحال، وأصبح الْمَخْرج القريب والمناسب صعب المنال... وكلّ ما ذكر يدفعنا إلى مواصلة التفكير مجدّداً في النهوض العربي، وفي الثورة العربية الشاملة.
*
الهوية والمشروعات
حسن نافعة
معظم الدول العربية القائمة مجرّد كيانات قُطرية هزيلة ذات حدود مصطنعة رسمتها المصالح الاستعمارية وحدها، ومن ثم ينبغي إزالتها وإقامة كيانات كبرى تحل محلها، تارة تحت مسمّى "القومية" وأخرى تحت مسمّى "الخلافة". معنى ذلك أن الدولة الوطنية في العالم العربي حشرت، منذ بداية نشاتها بين تيارين معاديين، يريد كلاهما تجاوزها. الأول: يطالب بإقامة دولة عربية موحّدة تمتد من المحيط إلى الخليج ويرفرف عليها علم العروبة. والآخر: يطالب بإعادة بناء اميراطوية إسلامية يرفرف عليها علم الخلافة، على نمط الدولة الأموية أو العباسية.
ولأن الأجيال التي رفعت لواء هذه الشعارات الطموحة فشلت في تحقيق أيٍّ منها، فقد بات عليها أن تسلم الراية منكسةً إلى أجيال لاحقة فرض عليها القدر أن تعيش في كياناتٍ حوّلتها الحروب الأهلية والصراعات البينية إلى ركام وأنقاض، أو في كيانات حولها الاستبداد والفساد إلى أشباه دول. وهذا هو المأزق الذي يواجهه الشباب العربي في المرحلة الراهنة.
في داخل كل دولة عربية تقريباً صراعات بين كل المكوّنات العرقية والطائفية والدينية: فالعرب في حالة صراع مع غير العرب ومع بعضهم بعضا
لا يشكل "العالم العربي"، وفق المنظور العلمي وليس الأيديولوجي، كياناً سياسياً أو عرقياً أو دينياً أو طائفياً أو اجتماعياً واحدا أو متجانساً. فهو مقسّم سياسياً إلى 22 دولة مستقلّة، لكل منها نظام سياسي خاص بها، وبعضها يخلو حتى من مجرّد وجود أحزاب أو حركات يسمح لها بممارسة النشاط السياسي.
صحيحٌ أنها دول يجمعها إطار مؤسسي واحد هو جامعة الدول العربية، لكنه كان وما يزال إطارا هشّا ومجرّد مظلة لكيانات صغيرة منفصلة، ولم يشكل أبدا نظاماً إقليميا فاعلاً يتمتع بإرادة حقيقية مستقلة عن إرادة الدول الأعضاء أو بسلطاتٍ وصلاحياتٍ "فوق قُطرية".
والعالم العربي هو أيضا متنوع الأعراق، فإلى العرب، غالبية سكانه، ينتمي ملايين من هؤلاء السكان إلى قومياتٍ وأعراقٍ أخرى، كردية وتركمانية وشركسية وأرمنية وأمازيغية وأفريقية وغيرها. وهو عالمٌ متعدّد الأديان أيضا، فإلى المسلمين، وهم الأغلبية الساحقة، يشكّل المسيحيون نسباً لا يستهان بها من سكان بعض الأقطار التي تضمّ أقليات دينية أخرى متنوعة. أما عن الطوائف والملل والنحل في العالم العربي فحدّث ولا حرج، فالمسلمون سُنَّة وشيعة ودروز وعلويون وغيرهم، والمسيحيون أرثوذوكس وكاثوليك وبروتستانت وأقباط وموارنة .. إلخ. وإذا نظرنا إلى العالم العربي من منظور تنموي، نجد أن سكانه يتوزّعون بين بادية وحضر، ومزارعين ورعاة، وما يزال مستوى التصنيع والتقدّم العلمي والتكنولوجي فيه محدوداً للغاية. وعلى الرغم من سيادة النظام القبلي في بعض دوله، إلا أن القبائل العربية عادة ما تكون متداخلة وعابرة للحدود السياسية والدينية والطائفية في أحيان كثيرة، ففي داخل القبيلة الواحدة، يمكن أن يوجد السنّي والشيعي، بل المسلم والمسيحي.
صراعاتٌ تتخفّى حالياً وراء عباءات عرقية أو دينية أو طائفية أو قبلية، على رغم أنها في حقيقة أمرها صراعات سياسية في المقام الأول، ففي داخل كل دولة عربية تقريباً صراعات بين كل المكوّنات العرقية والطائفية والدينية: فالعرب في حالة صراع مع غير العرب ومع بعضهم بعضا، والمسلمون في حالة صراع مع غير المسلمين ومع بعضهم بعضا. وهناك صراعات فيما بين الدول العربية، وبين الدول العربية وجاراتها غير العربية. ولأنها صراعاتٌ تفاقمت في الآونة الأخيرة، وبدأت تأخذ شكل حروبٍ أهليةٍ وإقليميةٍ ودوليةٍ مدمرة وباهظة الكلفة إنسانياً ومادياً، يعتقد بعضهم أن المنطقة العربية لن تعرف الاستقرار والهدوء، إلا إذا أعيد رسم خرائطها وحدودها على أسس جديدة تختلف كلياً عن التي تم اعتمادها في اتفاقية سايكس – بيكو عام 1917، حين كانت دول الاستعمار الأوروبي تقتسم في ما بينها تركة إمبراطورية عثمانية آيلة للسقوط.
ومع التسليم بأن الحدود التي رسمتها تلك الاتفاقية لم تأخذ في اعتبارها سوى مصالح الدول الاستعمارية، على الرغم من حرصها، في الوقت نفسه، على إرضاء بعض الأسر أو القبائل العربية المتعاونة مع بريطانيا إبّان الحرب، إلا أن السؤال الذي يطرح نفسه تلقائيا هنا ينبغي أن يدور حول الأسس التي يتعيّن الاستناد إليها لتصبح الحدود الجديدة قابلة لتحقيق الأمن والاستقرار وقادرة على استعادة الهدوء للمنطقة.
عجزت النخب الحاكمة في معظم الدول العربية عن تأسيس نظم سياسية تتّسع لمشاركة كل التيارات الفكرية والسياسية، وتكفل حقوق المواطنة للجميع، بخاصة حقوق الأقليات
نعترف بأن فشل الدولة الوطنية في العالم العربي لا يعود فقط إلى تنوعه الديني أو الطائفي أو العرقي، ولا إلى المحاولات الرامية الى تجاوز الدولة العربية واختطافها من جانب التيارين القومي والإسلامي، كلّ لأسباب ودوافع أيديولوجية مختلفة، وإنما يعود، أولاً وقبل كل شيء، إلى عجز النخب الحاكمة في معظم الدول العربية عن تأسيس نظم سياسية تتّسع لمشاركة كل التيارات الفكرية والسياسية، وتكفل حقوق المواطنة للجميع، بخاصة حقوق الأقليات.
لذا يمكن القول إن الأقليات العرقية والدينية والطائفية ربما لعبت الدور الأخطر في تقويض أسس الدولة الوطنية في العالم العربي، خصوصاً في الحالات التي حاولت فيها تلك الأقليات تغطية انتماءاتها الطائفية بعباءاتٍ أيديولوجيةٍ قوميةٍ أو إسلاميةٍ أوسع. وربما لا أكون مبالغاً إن قلت إن معظم البؤر الساخنة حالياً في العالم العربي تعكس "انتفاضة أقليات" بأكثر مما تعكس ثورات شعوب.
لكن هل ستؤدّي إعادة رسم الحدود في الوطن العربي على أسس طائفية أو عرقية إلى إعادة الاستقرار والأمن للمنطقة ككل، أو حتى للطوائف المنتفضة الآن، والتي يتعيّن الاعتراف بأن بعضها عانى كثيراً من قبل؟ أشكّ كثيراً، وأعتقد أن العكس ربما هو الأصح.
قيام دول جديدة في العالم العربي، بغالبيات شيعية أو علوية أو درزية أو مسيحية أو كردية، لن يحلّ أي مشكلة، وإنما سيؤدّي فقط إلى استبدال غالبية متحكّمة بأخرى، ربما تصبح أكثر تسلّطا واستبدادا، ومن ثم فقد لا تتورّع بدورها عن اضطهاد الأقليات التي تتحكّم فيها. أما إقامة دويلة لكل طائفة أو دويلات طائفية نقية وخالية من الأقليات، فلن يكون لها سوى معنى واحد، دخول المنطقة في عمليات تطهير عرقي متبادل، وبالتالي اتساع نطاق الحروب الأهلية واشتداد أوارها وامتدادها مكانياً إلى مناطق جديدة، وزمنياً إلى ما لا نهاية. وإذا استمرّت أوضاع العالم العربي على ما هي عليه، فستنزلق المنطقة حتماً، بوعي أو من دون وعي، إلى مصير أشدّ ظلاما.
حين تقوم في العالم العربي دول وطنية ديمقراطية حقيقية، يصبح طريق التكامل والوحدة أمامها ممهّدا وقادرا على اختيار النهج الأكثر تعبيرا عن إرادة الشعوب
الوضع الإقليمي المحيط بالعالم العربي يبدو بدوره ضاغطا بشدّة في اتجاه مزيد من تفتيته وتشرذمه، فحول العالم العربي ثلاثٌ من دول الجوار، تملك كل منها مشروعا توسّعيا بطبيعته. فهناك إسرائيل، بمشروعها الصهيوني الهادف إلى إقامة دولة يهودية خالصة على أرض فلسطين التاريخية وقادرة على الهيمنة بشكل مطلق على منطقة نفوذٍ تمتد من النيل إلى الفرات. ولأنها دولةٌ تقوم على أسس دينية أو حتى عرقية، إذا افترضنا جدلا أن يهود العالم يشكّلون قومية قائمة بذاتها، فلن تشعر بالأمن الكامل إلا حين تنجح فعليا في تفتيت المنطقة المحيطة بها إلى كياناتٍ طائفية أو عرقية تشبهها.
وهناك إيران بمشروعها إلهادف إلى توحيد الشيعة في المنطقة تحت راية نظام ولاية الفقيه الذي استحدثته ثورتها الإسلامية منذ وصولها إلى السلطة عام 1979، وهو مشروعٌ لن يكتمل بدوره إلا بتفتيت العالم العربي وتفجيره من داخله، بإشعال الصراع بين الشيعة والسنة.
وهناك تركيا بمشروعها الهادف إلى استعادة أمجاد الامبراطوية العثمانية، خصوصا بعد تمكن حزب العدالة والتنمية، ذي التوجه الإسلامي، من السيطرة على مقاليد السلطة في تركيا منذ عام 2002. صحيحٌ أن المشروع العثماني يبدو حاليا في حالة تراجع وانحسار، لكن المشروعين الآخرين في حالة تمدّد وازدهار، ويتصارعان للفوز بتركة العالم العربي، رجل المنطقة المريض.
كان في وسع العالم العربي مواجهة كل هذه المشروعات، ووضع حدٍّ لطموحاتها التوسّعية، لو كان لديه مشروعه الخاص، وهو مشروعٌ لا يمكن إلا أن يكون توحيديا أو تكامليا، على نمط مشروع التكامل والوحدة في التجربة الأوروبية على الأقل، بحكم روابط ثقافية وتاريخية عميقة تربط بين أجزائه. غير أن إخفاقة في تهيئة سبل الوحدة والتكامل ومقوماتهما أدّى ليس فقط إلى انهيار حلم الوحدة العربية والإسلامية معا، وإنما إلى انهيار حلم إقامة دولة وطنية عصرية قوية على أي جزءٍ منه. الأخطر من ذلك أن تخلّي الأنظمة الحاكمة في العالم العربية عن القضية الفلسطينية الجامعة، وتسرع بعضها بالارتماء في أحضان إسرائيل، بدعوى مواجهة الخطر الإيراني المشترك، لا يحل أي مشكلة، وإنما يقرّب العالم العربي أكثر من لحظة الانهيار.
لن تقوم للعالم العربي قائمة إلا حين تتخلّى نخبه الحاكمة نهائيا عن فكرة التحالف مع إسرائيل، وتستعيد زمام الدفاع عن القضية الفلسطينية، وحين تدرك أن طريق النهوض من الهوة السحيقة التي وقع فيها يبدأ بإعادة الاعتبار للدولة الوطنية القوية وإعادة بنائها على أسس مدنية وديمقراطية تسمح لكل الأطياف والتيارات بالتعايش والمشاركة الفاعلة، فحين تقوم في العالم العربي دول وطنية ديمقراطية حقيقية، يصبح طريق التكامل والوحدة أمامها ممهّدا وقادرا على اختيار النهج الأكثر تعبيرا عن إرادة الشعوب.
*Feb 27, 2022
تعاظم شأن الدولة "القُطرية"، وتضخّم وعيها بالمصالح والهواجس الأمنية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق