الأحد، 27 فبراير 2022

الصراع الرمزي والحرب النفسية .كرونا مثال ********

Jun 17, 2021

في أزمة انتشار وباء كورونا
May 1, 2020

الصراع الرمزي أو الحرب الرمزية التي تتجاوز في أهدافها وأبعادها الاستراتيجية ما يصفه البعض بـ"الحرب الكلامية" أو "حرب الاتهامات" بين أطراف هذا الصراع الذي يجري في ساحات وفضاءات ومجالات متعددة وبأدوات مختلفة.

مايكل والر (J. Michael Waller)، بـ"حرب الأفكار

، برز الصراع بين سردية أميركية صنَّعتها وروَّجتها المؤسسات السيادية (إدارة البيت الأبيض، وزارة الخارجية، وزارة الدفاع...)، فضلًا عن وسائل الإعلام المختلفة؛ إذ اعتبرت كورونا فيروسًا صينيًّا بعدما وَسَمَتْه بـ"الفيروس الصيني" أو "فيروس ووهان"، في مقابل سردية أخرى أنشأتها السلطة الصينية، وهي تدحض الرواية الأميركية عن أصل "الفيروس الصيني"، وتُحمِّل الجيش الأميركي مسؤولية نقله وانتشاره في الصين لما تصدت وزارة الخارجية للقصف المعلوماتي في بداية الصراع. كما برزت رواية أخرى روَّجها بعض نواب مجلس الدوما الروسي، وانخرطت فيها أيضًا وسائل الإعلام الرسمية، لاسيما القناة الحكومية الأولى، فضلًا عن حملة إعلامية عبر منصات رقمية (تويتر، فيسبوك، إنستغرام..) تُقِرُّ بمسؤولية أميركا في إنتاج فيروس كورونا في مختبراتها البيولوجية العسكرية ونشره في أرجاء العالم. وخاضت إيران أيضًا غمار هذه الحرب (حرب الأفكار)، بمشاركة مؤسسات سياسية وسيادية (مؤسسة المرشد الأعلى، الحرس الثوري، المجلس الأعلى للأمن القومي، وزارة الخارجية...) ومنصات إعلامية مختلفة، باعتماد "العمليات المعلوماتية" النفسية التي تمثِّل بعدًا أساسيًّا في حرب الأفكار للتأثير في الرأي العام المحلي والدولي من خلال الترويج لنظرية إنتاج فيروس كورونا في المختبرات البيولوجية الأميركية.

في سياق الصراع بين هذه السرديات التي أُنْتِج بعضها عبر العمليات المعلوماتية (وغيرها من العمليات التي سنبيِّنها لاحقًا)، لعبت الحوامل الإعلامية التقليدية والجديدة دورًا بارزًا في حرب الأفكار، بل لا يمكن تصور هذه العمليات دون وسائل الإعلام (المرئية والسمعية والمكتوبة والرقمية) الحاملة لمحتوى هذا الصراع، وهو ما يجعلها تقوم بوظيفة القوة الصلبة في مسرح العمليات -قياسًا إلى قوتها التأثيرية- لكن لـ"تدمير" البنية النفسية للخصم (القتال النفسي) عبر قهره فكريًّا وسياسيًّا و"تدمير" سرديته، ثم تطويقه وخلق حالة سياسية لمحاصرته.

منطلقات الحرب النفسية بين أطراف الصراع لإنشاء سرديتها حول أصل فيروس كورونا ومَنْشَئِه وصناعته في المختبرات البيولوجية، والجهة التي تتحمَّل مسؤولية انتشاره في العالم، ثم الحوامل والوسائل التي استُخْدِمت كقنوات في معركة الأفكار لحقن أو تلقيح الروايات والسرديات بالرؤية السياسية والأيديولوجية من قبل أطراف الصراع. كما تبحث الورقة أهداف هذا الصراع وخلفياته وتستعين بالمدخل النظري لحرب الأفكار كما أسَّس أُطُرَها الباحث مايكل والر في كتابه عن "خوض حرب الأفكار مثل الحرب الحقيقية"، وتستند أيضًا إلى بعض الأفكار التي أوردتها الأكاديمية، حميدة سميسم، في كتابها "الحرب النفسية".

صراع السرديات في الأزمنة الوبائية


يحفل التاريخ البشري بالوقائع السياسية والأحداث التاريخية الكبرى والصغرى، وحتى وقائع الأمراض الوبائية المعدية، التي شكَّلت مادة لصناعة السرديات والروايات لخدمة الأهداف الاستراتيجية للكيانات السياسية وفقًا لـرؤيتها ومصالحها التي تُكرِّس هيمنتها الرمزية وشرعية وجودها وسلطتها إزاء سرديات أخرى، وهي جزء لا يتجزأ من الصراعات السياسية والأيديولوجية التي تَسْتَعِر سياسيًّا سواء في المرحلة التاريخية التي تم فيها الحدث أو في أعقابها

وهذا ما يلاحظه المؤرخون والباحثون في تاريخ الأمراض الوبائية والمتابعون لصراع السرديات حولها، فعندما انتشر الطاعون أو "الموت الأسود" في جميع أنحاء أوروبا، منتصف القرن الرابع عشر، وأدى إلى وفاة أكثر من نصف السكان، استهدف بعض الأوروبيين مجموعات، مثل: اليهود والرهبان والأجانب والمتسوِّلين، وحمَّلوا هذه الفئات مسؤولية الأزمة التي أثارها الوباء. وسادت رواية تتهم اليهود بتَخْلِيق المرض والوقوف وراء انتشاره عبر تسميم الآبار بشكل مُتَعَمَّد. وربط البعض ذلك جزئيًّا بالنظافة التي كانت تميز المجتمعات اليهودية والعزلة في الأحياء اليهودية ما يعني أن اليهود أقل تأثيرًا
 كما ربط آخرون انتشار الوباء بـ"مخطط شيطاني لليهود للسيطرة على العالم"، وقد أدى ذلك الشَّحْن السياسي والديني إلى تَفَجُّر الوضع ونشوء حالة من الاضطهاد والتهجير(4)؛ حيث "هاجم الغوغاء الأوروبيون المجتمعات اليهودية في جميع أنحاء أوروبا، وبحلول عام 1351 تمَّ تدمير 60 مجتمعًا كبيرًا و50 مجتمعًا يهوديًّا صغيرًا، وحدثت أكثر من 350 مجزرة منفصلة"(5).

وبعد عقد من انتشار وباء "الإنفلونزا الإسبانية"، الذي ظهر في نهاية الحرب العالمية الأولى، عام 1918، وأودى بحياة ما يتراوح بين 40 و50 مليون شخص، حيث كانت الخنادق مرتعًا للبكتيريا والفيروسات المسببة للأمراض بين الجنود(6)، برزت روايات مختلفة، حيث اعتقد بعض الحلفاء (كانت قوات الحلفاء تضم المملكة المتحدة، وفرنسا، وروسيا) أن الإنفلونزا سلاح بيولوجي طوَّره الجيش الألماني(7) في مختبراته العسكرية ضد دول الوفاق الثلاثي. ورأى بعض هذه الروايات أن الألمان اكتشفوا عام 1916 مُتَغَيِّرًا للإنفلونزا كان يستهدف بشكل مثالي الجنود والرجال الأكثر صحة بعد تدمير الجهاز المناعي بسبب نشاطه المفرط(8).

وعندما بدأ انتشار مرض الإيدز، أو متلازمة نقص المناعة المكتسبة (VIH)، في أوائل الثمانينات من القرن العشرين، وخلق حالة من الرعب في معظم أنحاء العالم، برزت أيضًا سرديات كثيرة تعزو أصل فيروس الإيدز ومسؤولية تصنيعه إلى الولايات المتحدة الأميركية في مختبراتها البيولوجية نهاية السبعينات في إطار برنامج سُمِّي "فيزيبيليتي" تم الانتهاء منه عام 1975، وهو نفس التاريخ الذي بدأ الحديث فيه عن فيروس السيدا. في ذلك الوقت، قامت أميركا بدمج الفيروس في ملايين اللقاحات التي استخدمت لعلاج داء الجدري، وقد حُقِن -بحسب هذه الرواية- أكثر من مئة مليون إفريقي بهذه اللقاحات الفاسدة سنة 1977. وفي عملية سُمِّيَت بـ"تروجان هورس"، سنة 1978، حُقِن قرابة ألفي مِثْلِي الجنس من العرق الأبيض بلقاح ضد مرض التهاب الكبد (ب) يحتوي هو الآخر على فيروس السيدا. وكان الهدف من هذا البرنامج -بحسب هذه الرواية- هو رغبة الولايات المتحدة في التحكُّم والهيمنة على العالم(9).

وقد روَّج لهذه السردية انطلاقًا من العام 1983، جهاز المخابرات السوفيتي السابق "كي جي بي"، الذي يُعرف بلجنة أمن الدولة السوفيتية، معتبرًا أن الولايات المتحدة الأميركية طوَّرت الإيدز كسلاح بيولوجي وجرَّبته على سجناء وأبناء أقليات ومِثْلِيين جنسيًّا وألقت بالمسؤولية في ذلك على إفريقيا كأصل للمرض(10). كما اتهم الرئيس الأسبق لجنوب إفريقيا، ثابو مبيكي، الحكومة الأميركية بتصنيع الفيروس في مختبراتها العسكرية، بل إن عالم البيئة الكيني، وانغاري ماثاي، الحائز على جائزة نوبل للسلام، استخدم منصة الجائزة لدعم تلك السردية، ويشير كثيرون بأصابع الاتهام إلى الرئيس الأميركي، ريتشارد نيكسون، الذي قام بدمج قسم الأسلحة البيولوجية للجيش مع المؤسسة القومية للسرطان عام 1971(11).

تكرَّر إنتاج أبعاد هذه الرواية عندما تفشى أيضًا مرض الإيبولا في دول غرب إفريقيا وكانت الولايات المتحدة المتهم الرئيسي في تخليق "فيروس الإيبولا" بالقرب من نهر "إيبولا" فيما يُعرف الآن بجمهورية الكونغو الديمقراطية، وهو كائن معدَّل وراثيًّا انتشر في المناطق المستهدفة من القارة الإفريقية، حيث تم إنشاء مواقع في جميع أنحاء القارة لاختبار الأمراض الناشئة وخاصة الإيبولا. ويهدف هذا السلاح البيولوجي وفقًا لهذه الرواية إلى تدمير النظام الصحي للدول الإفريقية وتوفير فرص لإنتاج لقاح لصالح شركات الأدوية الأميركية(12).

إذن، تكشف ظروف انتشار الأوبئة والأمراض المعدية خلال المراحل التاريخية السابقة أحد أبعاد الصراع (صراع السرديات) بين بعض القوى الكبرى، والذي يستهدف تشكيل الرؤى والتصورات حول مسؤولية الجهة التي تقف وراء تخليق الفيروسات الفتاكة في مختبراتها البيولوجية العسكرية، وانتشار الأوبئة التي تحصد أرواح الملايين من البشر. وكانت هذه الروايات تنتجها في معظم الأحيان دوائر المخابرات لصناعة صورة نمطية ذات أبعاد معرفية ونفسية وسلوكية عن الكيانات السياسية والمجموعات البشرية وحتى الأفراد؛ تُشَوِّه رمزيتها في وجدان الرأي العام المحلي والعالمي. وهنا، نتساءل كيف يبدو مسرح "العمليات المعلوماتية" أو الحرب النفسية بين القوى الكبرى في سياق أزمة انتشار وباء كورونا؟ وسنركز هنا أساسًا على السرديتين الأميركية والصينية.

وباء كورونا وحرب الأفكار

من خلال مشاهد الصراع الرمزي الذي أثاره مَنْشَأ وأصل فيروس كورونا وظروف انتشاره في أرجاء العالم، وأداء الفاعلين المنخرطين في هذا الصراع -سواء المؤسسات السيادية أو وسائل الإعلام- كانت الأطراف المعنية (خصوصًا الولايات المتحدة والصين) تتبنى استراتيجية اتصالية -في سياق الاتصال الاستراتيجي للدولة- تعتمد على ثلاثة مرتكزات أساسية تشكِّل ما يُسَمَّى بـ"حرب الأفكار"، كما حدَّدها مايكل والر، وتشمل مجال الدبلوماسية العامة، والشؤون العامة، والعمليات المعلوماتية(14).
ويُقْصَد بـ"الدبلوماسية العامة" التواصل أو التفاعل الحكومي مع شعوب الدول الأخرى للتأثير في تصورات الرأي العام الأجنبي واتجاهاته لدعم الأهداف الوطنية(15)، ويعمد هذا النوع من الدبلوماسية إلى التعامل مع الآثار المترتبة من المواقف العامة حول السياسة الخارجية وتنفيذها، كما يسعى إلى خلق رأي عام في الدول الأخرى حول أبعاد العلاقات الدولية وآثارها خارج نطاق عمل الدبلوماسية التقليدية، والتفاعل مع الجماعات غير الرسمية خارج إطار الدولة، والتفاعل مع تقارير السياسة الخارجية وتأثيرها، والاتصالات التجارية والاقتصادية خارج الأطر الرسمية(16). وإجمالًا، تهدف الدبلوماسية العامة إلى إقناع الناس في البلدان المستهدفة بتغيير سياسات حكومتهم الداخلية والخارجية من أجل خلق بيئة إبداعية لإنشاء جمهور يدافع عن أهداف السياسة الخارجية والمصالح الوطنية. والهدف من ذلك هو التأثير في الرأي العام فيما يتعلق بأهداف الحكومة المتصلة بالدبلوماسية العامة التقليدية من أجل إدراجها ضمن أهداف السياسة الوطنية والخارجية للدولة المعنية(17).
وتستخدم الورقة مصطلح "العمليات المعلوماتية" بمعنى الحرب النفسية (القتال النفسي) التي يتم فيها تعبئة جميع المؤسسات السياسية والدبلوماسية والعسكرية والإعلامية لصناعة سردية تستهدف التأثير في الأفكار والاتجاهات النفسية والعاطفية والسلوكية للأفراد والجماعات لإضعاف الجبهة الداخلية للخصم السياسي وإثارة الفوضى والاستياء في النسيج الاجتماعي مقابل خلق حالة شعورية لتعزيز الروح الوطنية للقائم بالحرب النفسية.
 الصراع الرمزي في حرب الأفكار التي خاضتها وتخوضها أميركا والصين (فضلًا عن إيران وروسيا) بشأن أصل فيروس كورونا ومنشئه وظروف انتشار الوباء،

السردية الصينية: الدفاع عن النفس والخروج للعالم

أمام القصف المعلوماتي والحرب النفسية التي تعرضت لها الصين عبر قنوات مختلفة (البيت الأبيض، وزارة الخارجية، وزارة الدفاع، وسائل الإعلام) لِوَسْمِها بعدم المسؤولية في التعامل مع الوباء وانتشاره في العالم، وتجريدها من الشرعية التي تجعلها نظامًا ملائمًا داخليًّا ويحظى بالقبول دوليًّا، جنَّدت الحكومة الصينية طاقاتها للرد على الرواية الأميركية والتشكيك في صدقيتها، وهو ما ظهر في تغريدات المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية، تشاو ليجيان، عندما لفت إلى احتمال أن يكون الجيش الأميركي هو الذي نقل فيروس كورونا إلى مدينة ووهان، متسائلًا: "متى ظهر المريض الأول في أميركا؟ كم عدد الأشخاص الذين أُصيبوا بالفيروس؟ ما أسماء المستشفيات؟ يمكن أن يكون الجيش الأميركي هو مَنْ جاء بالوباء إلى ووهان. كونوا شفافين! أعلنوا بياناتكم للعموم! الولايات المتحدة تدين لنا بتفسير". وتوالت سلسلة تغريدات ليجيان وآرائه التي أشار فيها إلى اختراع الفيروس وتطويره من قبل علماء أميركيين تمكنوا من الحصول على نوع جديد من فيروس كورونا، عام 2015، له تأثير خطير على الإنسان(31)، ثم ما لبث أن استقرت السردية الصينية وتشكَّلت أبعادها بإقرار المَنْشَأ الطبيعي للفيروس الذي تسبب في الوباء، وهو ما أكدته أيضًا منظمة الصحة العالمية بعد ذلك؛ إذ اعتبرت أن "مصدر الفيروس طبيعي وليس مصنوعًا أو مفتعلًا".
وقد شكَّلت تصريحات المسؤول الصيني بوزارة الخارجية نواة السردية الصينية التي أُرِيد لها مجابهة وصدَّ الحرب النفسية التي تنال من شرعية الدولة ومؤسساتها في إدارة الأزمة التي أثارها انتشار وباء كورونا في البلاد وباقي دول العالم باعتبار ما يراه خصومها تهاونًا في التعامل مع الجائحة وتسترًا على المعلومات والمعطيات المرتبطة بتفشي الفيروس. وقد حاولت الصين من خلال تعبئة طاقات وموارد جهازها الدبلوماسي عبر العالم أن تكثف عملياتها المعلوماتية في ثلاثة اتجاهات:
أولًا: بناء صورة ذهنية (معرفية ونفسية) للولايات المتحدة أمام الرأي العام العالمي باعتبارها مصدرًا للأخطار والكوارث التي تحدق بالعالم، وتهدد السلم والأمن العالميين بنشرها للأمراض والأوبئة عبر مختبراتها البيولوجية العسكرية المنتشرة في أرجاء العالم، ويظهر ذلك من خلال تطوير الفيروسات كما هو الشأن مع كوفيد-19.
ثانيًا: إبراز مسؤولية الصين في التعامل بشفافية مع المعطيات والبيانات الخاصة بطبيعة الفيروس وحالات الإصابة بالمرض وحجم انتشاره ومشاركة تلك المعلومات مع الجهات المعنية (منظمة الصحة العالمية وغيرها)، وذلك في محاولة لنفي الاتهامات التي وُجِّهت للصين بشأن تضليل العالم والتعتيم على ما يجري داخل البلاد بشأن الفيروس.
ثالثًا: الترويج للنموذج الصيني في احتواء الوباء وتطويق انتشاره بالمدن الصينية؛ الأمر الذي تعتبره بيجين نجاحًا باهرًا في التعامل مع فيروس كورونا، وصورة لنجاعة نظامها السياسي وصلابته وفاعليته في مواجهة الأزمات، كما اهتم هذا الاتجاه عبر ما يمكن تسميته باستراتيجية "الخروج للعالم" بإبراز صورة الصين التي تقدم المساعدات والاحتياجات الطبية للدول التي تفشى فيها المرض.
وتبدو العمليات المعلوماتية لجهاز الدبلوماسية الصينية في موقف رد الفعل الذي يحاول صد القصف الأميركي في سياق الحرب النفسية بينهما، وهو ما يبدو واضحًا أيضًا في بعض وسائل الإعلام المحلية التي سعت إلى الترويج للرواية الصينية في سياق المجالات الثلاث التي ذُكِرت آنفًا، مثل المقالات التي نشرتها وكالة أنباء الصين الجديدة (شينخوا) الرسمية، وصحيفة الشعب. فقد ذكرت إحدى مقالات الرأي التي نشرتها (شينخوا) أن الصين تبنَّت "الإجراءات الوقائية الأكثر شمولًا والأكثر صرامة ووقائية" لمكافحة الوباء. وبنبرة البهجة الوطنية، لوَّحت صحيفة الشعب اليومية بأن بإمكان الصين أن "تجمع بين الخيال والشجاعة اللازميْن للتعامل مع الفيروس، بينما تتعثر الولايات المتحدة في ذلك". كما استغل المسؤولون الصينيون الضغوط التي خلَّفها انتشار الوباء على الأوروبيين والأميركيين لتذكير الجمهور العالمي بشكل مطرد بتفوق الجهود الصينية وانتقاد "عدم المسؤولية وعدم الكفاءة" لـدى من تسمى "النخبة السياسية في واشنطن"، كما جاء في افتتاحية نشرتها وكالة أنباء شينخوا الرسمية(32).

روايات أخرى: التوظيف السياسي لأزمة كورونا  

 فقد وجدت إيران الفرصة مناسبة لإنشاء رواية خاصة بها حول حقيقة فيروس كورونا وإِنْ ظهرت متأخرة قياسًا إلى السردية الصينية؛ إذ بدأ تتشكَّل أبعاد الرواية الإيرانية بعد استفحال الوضع الصحي العام وانتشار الوباء بسرعة في معظم المدن والمحافظات؛ حيث أصبحت البلاد بؤرة للفيروس في المنطقة.  
وكانت معظم المؤسسات الرسمية (مؤسسة المرشد الأعلى، هيئة أركان القوات المسلحة الإيرانية، وزارة الخارجية)، فضلًا عن وسائل الإعلام، تردد الرواية التي تعتبر الفيروس مُنْتَجًا أميركيًّا في مختبراتها البيولوجية، وتربط تفشي الفيروس في البلاد باحتمال أن يكون هجومًا بيولوجيًّا على إيران، وهو ما يفسر دعوة المرشد الأعلى للثورة الإسلامية، آية الله خامنئي، للقوات المسلحة بضرورة تعزيز الحرب ضد المرض في البلاد.
وحاولت وزارة الخارجية أن تعطي للصراع الرمزي -بشأن مَنْشَأ الفيروس وأصله- بعدًا دوليًّا من خلال إظهار مسؤولية الولايات المتحدة في نشر فيروس كورونا بمدينة ووهان الصينية لتوجيه أنظار العالم نحو دور أميركا في خلق الأزمات والمشاكل التي تتسبب في الإضرار باستقرار الدول وتهديد السلم والأمن الدوليين. 
 كانت الرواية الإيرانية، في نظر البعض، استجابة لحاجة داخلية؛ إذ بعد أن أخفى النظام الإيراني حقيقة انتشار الفيروس في البداية وأصر على تنظيم الانتخابات التشريعية ولم يوقف التجمعات ويغلق المزارات ولم يعزل المدن حينها بدأ فقط يتحدث عن حرب بيولوجية أميركية وعن استهداف أميركي لإيران بهدف إبعاد المسؤولية عنه(35).
الرواية الروسية التي بلورتها بعض المؤسسات والجهات السياسية الروسية، وروَّجت لها أساسًا بعض وسائل الإعلام المحلية وشبكات التواصل الاجتماعي، وتركز على نقطة واحدة بشكل متكرر، وهي أن النخب السياسية الغربية، لاسيما الأميركية، تقف وراء انتشار هذا الوباء في أرجاء العالم. وهنا، يبرز موقف زعيم الحزب الليبرالي الديمقراطي، فلاديمير جيرينوفسكي، الذي حمَّل الولايات المتحدة مسؤولية تفشي الفيروس، متسائلًا -في لقاء مع طلاب وأساتذة معهد الحضارات العالمية بموسكو-: "هل هو بالفعل نوع جديد من مرض الإنفلونزا؟ كلا، فالحديث يدور عن أزمة مصطنعة تقف وراءها الولايات المتحدة التي تتصرف بدوافع اقتصادية؛ إذ يخشى الأميركيون من الفشل في مسابقة الصينيين أو اللحاق بهم على الأقل"(36). واعتبر أن فيروس كورونا ليس الحالة الأولى التي تثير أزمة عالمية؛ إذ سبقه انتشار أمراض أخرى مثل إنفلونزا الطيور.
وتحاول الرواية الروسية أن تأخذ طابعًا علميًّا بمشاركة بعض الخبراء والمختصين في الأسلحة البيولوجية في تشكيل أبعادها؛ ويظهر ذلك في آراء بعض من تحملوا مسؤوليات وشاركوا في لجان دولية، مثل الدكتور إيغور نيكولين، الخبير في البيولوجيا والعضو السابق في اللجنة الدولية الخاصة بالسلاح البيولوجي والكيمياوي، الذي اعتبر أن تفشي جائحة كورونا في الصين ليس صدفة، فهو رابع وباء ينتشر في البلاد، مشيرًا إلى وجود 25 مختبرًا بيولوجيًّا أميركيًّا حول حدود الصين في كازاخستان وقرغيزستان وأفغانستان وباكستان وجمهورية لاوس وفيتنام وتايوان وكوريا الجنوبية والفليبين... "في كل هذه البلدان هناك مختبرات أميركية بيولوجية، أي في كل البلدان المحيطة بالصين"(37). ويعتقد نيكولين أن الفيروس تم اختياره بعناية ليصل إلى البلدان التي تعتبر خصومًا للولايات المتحدة الأميركية، لاسيما الصين وإيران وبعض بلدان الاتحاد الأوروبي بما في ذلك إيطاليا.

خلاصة

أظهر الصراع الرمزي وحرب الأفكار التي أثارها انتشار وباء كورونا المستجد (كوفيد-19)، لاسيما بين الولايات المتحدة الأميركية والصين، طبيعة المواجهة وحقيقة الاشتباك بين الطرفين الذي يتجاوز ما سُمِّي بـ"الحرب الكلامية" أو "تبادل الاتهامات"؛ باعتبار أن الصراع يندرج في إطار الاتصال الاستراتيجي للدولة مُتَسَلِّحًا بالعمليات المعلوماتية أو الحرب النفسية التي يُراد لها عبر "القصف" الفكري/المعلوماتي استهداف الخصم السياسي و"مقاتلته نفسيًّا" بضخ الأفكار والمعلومات التي تنزع عنه الشرعية. وتعتمد حرب الأفكار/الحرب النفسية -كما لاحظنا- على إنشاء سردية تتوخى إحداث تغيير في الأفكار (التأثير المعرفي) والعواطف (التأثير النفسي) والسلوك العام (التأثير السلوكي) للأفراد والمجموعات والمنظمات والدول بطريقة تتناسب وأهداف مستخدمها.
القتال النفسي الذي تخوضه الولايات المتحدة الأميركية ضد الصين يستهدف -كما ذكرنا- التأثير في الفكر والعواطف والسلوك وتترتب عليه نتائج سياسية في مراحل أخرى خاصة بعدما يتشكل رأي عام دولي ومحلي؛ حيث يتم بناء صورة عن الصين بأبعاد وقيم مختلفة تجعل سلوكها السياسي محل النقد والرفض باعتبارها دولة غير مسؤولة نشرت مُتَعَمِّدَة وباء كورونا في أرجاء العالم بعدما أنتجته في مختبر بيولوجي بمدينة ووهان (الفيروس الصيني كما يسميه ترامب أو فيروس ووهان كما ينعته بومبيو)، وتستهتر بالشرعية الدولية لعدم تعاونها مع الجهات المعنية وتعتيمها على ما يجري في المدن الصينية بشأن الحالات المرضية وطبيعة الفيروس...إلخ؛ وهو ما ينزع عنها الشرعية كنظام سياسي غير ملائم داخليًّا ولا يحظى بالقبول دوليًّا، ويكون ذلك العلامة التي تجهد واشنطن في دَمْغ ووَسْم الصين بها لمحاصرة نفوذها المتزايد وتحجيم دورها في مناطق النفوذ التقليدية لأميركا.
بينما تسعى الصين من خلال استراتيجيتها الدفاعية لصد الحرب النفسية الأميركية إلى حماية نفسها من الضربات والقصف الذي نال أولًا من سمعتها، وتخشى ثانيًا من تأثيراته على الجمهور المحلي. لذلك، كانت الرواية الصينية معنية بنفي أطروحات السردية الأميركية بدءًا بمنشأ فيروس كورونا الذي تعتبره إنتاجًا أميركيًّا نقله الجنود الأميركيون إلى ووهان، وهو ما يعطي للصراع بُعده الاستراتيجي (وليس تبادلًا للاتهامات أو حربًا كلامية) كما تنفي هذه الرواية المزاعم بشأن تهاون الصين في مكافحة الوباء والتعتيم على الحالات المرضية وطبيعة الفيروس وعدم التعاون مع المجتمع الدولي. وفي مرحلة لاحقة اهتمت الحرب النفسية الدفاعية بما يمكن تسميته باستراتيجية "الخروج للعالم" من أجل المساعدة في مكافحة انتشار الوباء وتقديم المساعدات والاستشارات الطبية للدول التي استفحل فيها الفيروس؛ وذلك أولًا: لفك "الحصار" الفكري الذي حاولت السردية الأميركية أن تضربه حول الصين، وثانيًا: لتقديم صورة نموذجية عن الذات الصينية في مكافحة الوباء؛ حيث أثبتت الإجراءات والسياسيات فاعليتها في الحد من انتشاره، وهو ما يمثل قصة النجاح الصينية في التعامل مع الأزمات، وثالثًا: تقديم صورة عن كفاءة النظام السياسي والحزب الشيوعي الحاكم و"صلاحيته" لإدارة الدولة، ردًّا على محاولة نزع الشرعية التي هدفت إليها السردية الأميركية.  
*
الصحافة محرك الرأي العام
مشاكل وأزمات الإعلام والصحافة في المنطقة تتعلق بالتصدي للإرهاب ومكافحة التضليل والشائعات والتعامل مع شركات الإنترنت العالمية
 إيجاد حلول لهذه المشاكل ضرورة ملحة للحفاظ على الأمن القومي العربي “حتى لا نترك الرأي العام للعشوائية والارتجال الذي يحدث في بعض الأحيان”.
تعامل مع شركات الإنترنت الدولية مثل غوغل، فيسبوك، أمازون ونتفليكس بناءً على دراسة أفضل النماذج الدولية في التعامل مع هذه الشركات.
 أهمية محاربة التضليل والأخبار الزائفة وإعلاء مبدأ حق الرأي العام في التماس المعلومات الصحيحة ودعم جهود السلطات الرسمية والإعلام وكل المواطنين في هذا الإطار.
الارتقاء بالصورة الجماعية العربية لدى الرأي العام الدولي، فضلا عن اعتماد برنامج عمل لتنفيذ أهداف الخارطة الإعلامية للتنمية المستدامة 2030.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق