نظام عالمي عنصري للغاية، ولكن ما الذي نعنيه بـ"العنصرية"؟ إن العنصرية هي مجموعة من الممارسات والقواعد التي تدعم نوعا معينا من التسلسل الهرمي أو نظام امتياز وعدم مساواة، وهو ما يتضح في طبيعة الاقتصاد العالمي، والاستخدام الدولي للقوة، والمعايير "الإنسانية" المزعومة،
يتشكّل النظام الدولي على أساس اجتماعي، وهذا يعني أن الطريقة التي نتصور بها العالم الاجتماعي لها آثار كبيرة على الواقع
هناك دورا واضحا للجنوب العالمي كون أن فرصه واختياراته مقيدة بنظام دولي عنصري.
سيظل الجنوب العالمي غير قادر على تجاوز ماضيه الرهيب الذي تعرض فيه للإخضاع، وسيظل الماضي العنصري للاقتصاد العالمي يُلقي بظلاله على المستقبل. ومن المهم معرفة أن التفاوت المستمر بين الأغنياء والفقراء ليس من قبيل المصادفة؛ فالشمال العالمي يحرص بشدة على بقاء ما يتمتع به من مزايا، ورغم أسطورة المساواة في سيادة القانون الدولي، فإن سيادة دول الجنوب محدودة باعتمادها الاقتصادي المستمر؛ حيث تعد الدول الغنية "مواطنين" في المجتمع الدولي في حين أن الدول الفقيرة هم مجرد "رعايا".
على سبيل المثال، تمكّن الشمال العالمي من التلاعب بالنظام لصالحه من بوابة "الصفقة الكبرى" في عام 1994[1]، وقبلت دول الجنوب اتفاقية تدابير الاستثمار المرتبطة بالتجارة (TRIMs) في عام 1994، ما أدّى إلى بلورة مركزها في التقسيم الدولي للعمل، وخنق حركتها الصاعدة الناشئة. قد تعلو أصوات تقول إنه على الرغم من أن هيكل الاقتصاد العالمي غير عادل، فإنه ليس عنصريا؛ لأن هذا يتطلب تبرير عدم المساواة من الناحية العِرقية، لكن التاريخ يفضح الأسس الاستعمارية العرقية التي يقوم عليها التقسيم الدولي المعاصر.
الخطابات العنصرية التي ينشرها الاستعمار تدعم افتراض أن الجنوب العالمي مصمم بطريقة طبيعية ليكون مجرد مصدر سلبي للمواد الخام، وتخلل هذا الخطاب صندوق النقد الدولي (IMF)، مبينا في توصياته أن على غانا التركيز على إنتاج الذهب والكاكاو كما كان الحال في الحقبة الاستعمارية. وقد يعترض البعض على التركيز على الأسباب الخارجية للتخلف، بحجة أن الفقر هو في المقام الأول نتاج الخيارات الداخلية السيئة مثل تراكم الديون الهائلة على موزمبيق، أو الفساد في نيجيريا. إلا أن الاستعمار هو السبب الحقيقي لهذه المشكلات "الداخلية" المفترضة، حيث إن الفساد والإدارة السيئة نتجا جزئيا من السياسات الاستعمارية التي قوّضت أنظمة المعتقدات التقليدية وأشكال التنظيم الاجتماعي الضرورية للحكم الرشيد.
وأدّى مذهب "فرّق تسُد" الاستعماري إلى نشوب حروب أهلية استمرت في الحيلولة دون حدوث التنمية
الرجل الأبيض يحمل عبء العالم
تعكس المؤسسات المالية الدولية النسيج المألوف للمجتمع الدولي، وبالتالي تجسّد العنصرية، وهو ما يتضح في برامج "التكيّف الهيكلي" التي روّجها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي خلال الثمانينيات من القرن الماضي، والتي تطالب متلقّي القروض بتحرير اقتصاداتهم وخصخصتها وفقا للضوابط الصارمة في الميزانية. وكانت نتائج تلك البرامج كارثية، حيث فشلت في تعزيز النمو الاقتصادي، وأُجبرت الدول النامية على تنفيذ سياسات اقتصادية تتماشى مع بنود ضمانات المؤسسات المالية.
ظهر هذا المنطق الليبرالي الجديد منذ ذلك الحين من خلال القاعدة الجديدة "الحكم الرشيد"، التي تفترض أن التخلف هو نتاج البيئات السياسية والاقتصادية المحلية، وبالتالي يسعى إلى تثقيف هذه الدول لخلق الشروط السابقة اللازمة لتحقيق التنمية. هناك حجة مقنعة مفادها أن سياسة صندوق النقد الدولي ليست عنصرية، ولكنها مدفوعة بإيمان مضلل بالعقيدة الاقتصادية، حيث أُنشئت مؤسستي بريتون وودز (أي صندوق النقد الدولي والبنك العالمي) لتسهيل الانتعاش الأوروبي بعد الحرب، مما أدّى إلى المساواة بين المستعمِرين والمستعمَرين.
تحتوي اللغة الاقتصادية "المحايدة" للمؤسسات المالية الدولية على أفكار عنصرية غير معترف بها.
تعزز قاعدة "الحكم الرشيد" سردا أبويا يذكّرنا بعبء "الرجل الأبيض" من الحقبة الاستعمارية، حيث ينظر للجنوب العالمي باعتباره الطفل الذي يحتاج إلى اليد الأبوية الحازمة للغرب لتعليمه. وتبني العنصرية جدلية "نحن والآخرون"
العنصرية الدولية تعني أن هناك تجربة تابعة يتم تجاهلها بشكل محزن تجعل من هذا العوز طبيعيا وليس نتاجا للخيارات الدولية، مما يُضفي الشرعية على التكاليف البشرية للإصلاحات النيوليبرالية المصممة أساسا لتعزيز المصالح الاقتصادية للقوى المهيمنة في النظام العالمي.
ترتبط العنصرية بلا شك بإنتاج المعرفة، وهي التي تقرر ما هو شرعي وما هو غير شرعي، في التقسيم الثنائي الذي يهيمن على مناقشة الأسلحة النووية. يرى بعض الباحثين أن الدول غير الغربية وغير المسؤولة التي تمتلك أسلحة نووية تُمثّل تهديدا موضوعيا للنظام الدولي، كما يزعمون أن هذا ليس خوفا عنصريا غير منطقي، بل هو اعتراف بالحقائق. ومع ذلك، فإن هذه "الحقائق" مبنية اجتماعيا، بناء على تصوير "مستشرق" خاطئ لـ "نحن" العقلانيين والمسؤولين، و"الآخر" غير العقلاني وغير المسؤول.
يتجلى هذا الاستشراق في الطريقة التي يتم بها التمييز ضد كوريا الشمالية باستمرار في وسائل الإعلام الغربية،
يعني أن يُعتَبر سلاح نووي كوري شمالي واحد تهديدا وجوديا للمجتمع الدولي، في حين أن مئات الأسلحة النووية الأميركية تمر مرور الكرام.
يقال إن "النظرية توضع دائما لشخص ما، ولغرض ما"، والعنصرية بالفعل هي التي تُشكّل الواقع فيما يتفق مع هوى الغرب. حيث يعرّف الغرب مصالحه باعتبارها مرادفا لمصالح المجتمع الدولي
فعل أميركا المبالغ فيه على مزاعم أن العراق طوّر أسلحة دمار شامل. ونجد أن السكان الغربيين تقبلوا هذا التبرير لاستخدام القوة عن طيب خاطر، مما يشير إلى أنه خلافا لمزاعم أطروحة السلام الديمقراطي (أن الدول الديمقراطية لا تنشأ بينها حروب)، فإن الديمقراطية ليست دائما الحاجز الذي يمنع العداءات غير العقلانية، لأن المنطق غير العقلاني والعنصري يفسد تصورات الناس عن مصالحهم الحقيقية،
إن التباين الاقتصادي بين الشمال والجنوب يتم تطبيعه عبر الخطابات العنصرية، مما يحول دون الاعتراف بالأسس التاريخية غير العادلة للغاية للنظام الحالي، وبينما تنظر قوى العالم إليه من خلال عدسة عنصرية، فإن سياساتهم ستستمر في تشكيل العالم وفقا لهذه الصورة العنصرية وهو ما نراه في الحرب على الإرهاب، وهكذا يمكننا القول بشكل قاطع بحقيقة الطابع العنصري للنظام الدولي المعاصر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق