Sep 2, 2020
يُمثّل سؤال التمويل أول الأسئلة التي تُطرَح على الساسة الأميركيين حين يقترحون سياسات جديدة، فإذا كانت لديهم سياسة جديدة، كيف ينوون تمويلها؟ إلا أنه وفقا لستيفاني كيلتون، أستاذة السياسة العامة والاقتصاد في جامعة ستوني بروك، بإمكان حكومة الولايات المتحدة تمويل مشاريع جديدة في أي وقت، بالنظر لامتلاكها القدرة على طباعة العُملة دون الحاجة إلى الاقتراض أو فرض الضرائب.
لكن ألن يؤدي ذلك إلى التضخم؟ ليس بالضرورة، على حدّ قولها. شغلت كيلتون سابقا منصب المستشارة الاقتصادية الرئيسية للجنة الموازنة في مجلس الشيوخ عام 2015، وهي أحد أشهر رموز مدرسة فكرية جديدة مثيرة للجدل تُدعى "النظرية النقدية الحديثة"، والتي تُناقض بعض الفرضيات الأساسية التي تقوم عليها العقيدة الاقتصادية المُهيمنة. ترتكز النظرية النقدية الحديثة على حقيقة مفادها أن حكومة الولايات المتحدة تصدر عُملتها الخاصة، ومن ثم فهي لا تخضع للقيود المالية نفسها التي تواجه أرباب المنازل أو الشركات. قد تبدو هذه ملاحظة تافهة، إلا أن كيلتون وأقرانها يرون أن إقرار هذه الحقيقة له تأثيرات جذرية على السياسة الاقتصادية.
لا تزال النظرية النقدية الحديثة تُشكّل نوعا من الأيديولوجيا المتمردة، إلا أنها تمكّنت في السنوات الأخيرة من شق طريقها إلى قلب الخطاب السياسي السائد، إذ عملت كيلتون مستشارة في حملة بيرني ساندرز الرئاسية عام 2016، كما أشارت نائبة الكونغرس المرموقة ألكساندريا أوكازيو كورتيز إلى النظرية النقدية الحديثة في خطابها في وقت مبكر من هذا العام. في مقابلة مع موقع "The Globe Post" هذا الأسبوع، أسهبت كيلتون في تفصيل النظرية النقدية الحديثة والكيفية التي يمكن أن تحوّل بها هذه النظرية وجه السياسة العامة في السنوات القادمة.
عمّ تتحدث النظرية النقدية الحديثة بالأساس؟ وما أهم المفاهيم المركزية فيها؟
أرى أن أساس النظرية النقدية الحديثة يكمن في إدراك أن شكل النظام النقدي الذي تخضع له البلاد مهم في تقرير السياسة الاقتصادية، بمعنى أن دولا مثل الولايات المتحدة التي تعوم عُملتها ولا تقترض بالعُملة الأجنبية لا يمكن أن تنفد منها النقود، كما لا يمكن أبدا أن تتخلف عن سداد ديونها. وهو ما يعني بالتبعية أنها ليست بحاجة إلى فرض ضرائب أو الاقتراض للحصول على النقد اللازم للإنفاق. لذا لا يتعلق الأمر بقدرتك على تمويل برنامج ما، فبوسعك ذلك دائما، لكن مدار الأمر كله حول مدى قدرتك على تمويل البرنامج السياسي الذي ترغب فيه دون إحداث تضخم. قد تواجه احتمالية الوقوع في فخ التضخم إذا كنت تحاول تنفيذ مشروع ضخم وطموح، في الوقت الذي لا يملك الاقتصاد الأيدي العاملة والآلات أو المصانع والأسمنت والحديد اللازم لامتصاص ذلك الإنفاق. من هذا المنطلق، ترى النظرية النقدية الحديثة أن مواردنا المادية هي المقيدة وليست مواردنا المالية.
تخضع الشركات لقيود مالية، إذ يجب عليها تحقيق الأرباح لضمان استمراريتها، مما يعني أن عليها أن تجني المال من المبيعات، وعليها أن تجني ما يكفي من المال لتغطية نفقات الإنتاج، وإلا سينتهي بها الحال للخسارة، وحينها لن تستمر في السوق لمدة طويلة. قد تخسر الشركات المال أو تعلن إفلاسها، أما الحكومة فلا تشبه الشركات الخاصة ولا المنازل. الحكومة الفيدرالية هي مصدر عُملتنا، وهي كما وصفها بنك سانت لويس للاحتياطي الفيدرالي "المُصنع الوحيد للدولارات". وهو ما يعني بدوره أن الحكومة تُمثّل جهة مُحتكرة، والمحتكرون لا ينفد لديهم ما يحتكرونه، أي الدولار في حالة الحكومة الأميركية.
إذا سلكت الحكومة الأميركية مسلك الشركات وحاولت جمع دولارات أكثر مما تنفق، فلن يترك هذا لبقيّتنا سوى قليل من الدولارات التي يُمكننا ادخارها وإنفاقها في السوق. وهذا أمر سخيف إذا كنت تريد اقتصادا قويا وتجارة قوية. تقدم النظرية النقدية الحديثة طرقا جديدة للتفكير في المال، وطرقا جديدة للتفكير في دور الضرائب والعجز والدين في اقتصادنا.
هناك الكثير من المخاوف بشأن الدين القومي في النقاشات السياسية العامة، فرقم 21 تريليون دولار يبدو مفزعا، وعادة ما يصور الناس المشكلة باعتبارها سرقة من الأجيال المقبلة وما شابه ذلك. ما أكثر المفاهيم الخاطئة الشائعة حول الدين القومي من وجهة نظرك؟
هناك الكثير من المفاهيم الخاطئة الشائعة
فالدين القومي لا ينطوي على الأعباء نفسها التي ينطوي عليها الدين الشخصي الذي قد يتحمله أيٌّ منا. فبينما يُشكّل كلٌّ من قرض سيارتي ورهن منزلي وبطاقتي الائتمانية عبئا شهريا، عليّ أن أنفق جزءا من دخلي لسداده تدريجيا، وهو ما يقلل من المال الذي أملكه وأرغب في إنفاقه في نواحٍ أخرى، فإن الحكومة الفيدرالية لا تخضع ومن ثم دينها للقيود نفسها.
بإمكان الحكومة الفيدرالية دائما سداد ديونها وإنفاق المزيد على أشياء أخرى في الوقت نفسه. تذكر أن خزائنها النقدية لا تنفد. الشيء الوحيد الذي يقيد إصدار العُملة بالنسبة للمحتكر هو التضخم وليس الدين. لذا إن ارتفع الدين العام لأن حكومتنا قررت تحديث وإصلاح البنية التحتية المتداعية، سيعني هذا أن الأجيال المستقبلية سترث بنية تحتية أفضل، وسترث كذلك سندات أكثر لادخارها في شكل أصول آمنة.
هناك أيضا فكرة شائعة مفادها أن الصين تمتلك نسبة كبيرة من دين الولايات المتحدة ويوما ما ستطالب به وسيكون لها اليد العليا على الولايات المتحدة. هل هناك أي قدر من الصواب في هذه المخاوف أم أنها مجرد هراء من وجهة نظرك؟
لا، ليس هناك أساس صحيح للمخاوف التي تخشى من أن تُغلق الصين في مرحلة ما صنبور الدولارات، وحينها لن يكون هناك مزيد من الدولارات لتمويل الولايات المتحدة. أظن أن هذا ما نسمعه من الناس طوال الوقت، أليس كذلك؟ أننا نقترض من الصين، وإذا قررت الصين يوما ما أنه ما من داعٍ للتخلي عن دولاراتها وإقراض الولايات المتحدة، حينها سنكون في ورطة، فمن أي مصدر آخر سنحصل على الدولارات التي سنمول بها برامجنا الاقتصادية؟
يمتلك الناس فكرة معكوسة تماما عن هذا الوضع. فالسبب وراء حصول الصين على الدولارات الأميركية في المقام الأول هو أن الصين تُنتج وتُصدّر لنا بضائع أكثر مما نُنتج ونُصدّر لها. بعبارة أخرى، تحظى الصين بفائض تجاري، وتعاني الولايات المتحدة من عجز تجاري مع الصين. لذا ينتهي الحال بأن تمتلك الصين دولارات أميركية ولديهم خيار بأن يحولوا إيداعاتهم الدولارية هذه والتي هي بالأساس حسابات ادخارية لدى البنك الفيدرالي إلى سندات. فكّر في الأمر باعتباره حساب إدخار. إذن هذا ما يحدث عندما تشتري الصين سندات حكومية، طالما ظلت الصين راغبة في إرسال البضائع والخدمات إلى الولايات المتحدة. الأمر تماما كقول إن الصين ستستمر في مراكمة سندات الخزانة الأميركية، لكن هذا لن يُشكّل خطرا على الولايات المتحدة. علينا أن نسعى لموازنة الاقتصاد، لا عجز الموازنة.
لميزانية المتوازنة ليست أمرا جيدا في الحقيقة؟ فعدم وجود عجز في الموازنة على الإطلاق لن يكون شيئا جيدا من وجهة نظرك؟
تحديد الوقت الذي تتزن فيه الميزانية مقدما هي فكرة سيئة للغاية. بعبارة أخرى، لن ترغب أبدا في قول إن الحجم المثالي لعجز الموازنة أو فائض الميزانية أو الميزانية المتزنة سيتحقق بعد ثلاث أو خمس سنوات أو حتى سنة من الآن. لا أحد يعرف إجابة هذا السؤال. من السيئ أن تعتقد أنه يجب عليك استهداف ناتج معين في الميزانية، بل يجب السعي لموازنة الاقتصاد وليس الميزانية.
وفي الوقت الحالي لدينا اختلالات كثيرة في اقتصادنا، إذ نعاني من عجز في البنية التحتية، والرعاية الصحية، علاوة على التفاوت الواضح في مستويات الدخل والثروة، وغير ذلك من المشكلات والتحديات. لذا، أنا غير معنية بناتج الميزانية، بل بالنتائج الإنسانية والاقتصادية، والميزانية هي أداة يمكن للحكومة من خلالها مواجهة طيف متنوع من مشكلات الاقتصاد. لكن ناتج الميزانية في حد ذاته لا يجب أن يكون هدفا للسياسة الاقتصادية.
في أي مرحلة يصير العجز في الميزانية ضخما وإشكاليا؟ وماذا يعني أن يتمكّن الاقتصاد من امتصاص عجز الميزانية دون التسبب في تضخم؟
امتصاص مزيد من الإنفاق دون التسبب في التضخم.
اليابان لتوضيح هذه النقطة. أفهم أن معدل الدين إلى الناتج العام لديهم يبلغ 240% أو نحو ذلك ولا يبدو أن التضخم يُمثّل مشكلة كبيرة بالنسبة لهم. إذن ما الذي يسمح للاقتصاد الياباني بامتصاص هذا المعدل؟
يُجمع الاقتصاديون على أن الإنفاق على البنية التحتية والبحث والتطوير والتعليم هي أكثر المجالات أهمية من ناحية كونها المحركات الأساسية للنمو الاقتصادي والإنتاجية على المدى البعيد. ونعلم أيضا أن الإنفاق على الرعاية الصحية يُحسّن الإمكانات الاقتصادية على المدى البعيد. هذه هي بعض أهم مجالات الاستثمار.
هل تعتقدين أن هذه الاستثمارات هي طريق أفضل للنمو الاقتصادي مقارنة بتقليل الضرائب وتخفيف القيود على الصناعة وكل المقاربات التقليدية التي تتناول جانب الإمداد؟
معكوس
توظف الشركات المزيد من الموظفين وتزداد استثماراتها عندما يتدفق إليها الزبائن، مما يعني أن الطلب هو المحرك الأساسي. نحن نتحدث عن مقاربة مختلفة تماما، بعيدا عن جانب الإمداد نحو تحفيز الطلب. الطلب هو المحرك الأساسي، ويمكن لأي رجل أو امرأة في قطاع الأعمال إخبارك بذلك. أنت بحاجة إلى طبقة وسطى قوية تمتلك المال الذي يمكنها إنفاقه في المتاجر والمحلات والمطاعم لتحفيز قطاع الأعمال، إذ إن تزايد هذا الطلب هو ما يخلق الحافز للشركات لتستثمر وتوظّف.
نعرف أن وجود الكثير من النقد سيؤدي حتما إلى التضخم، لكن كما أشرتِ، إذا لم يكن هناك قدر كافٍ من المال، خصوصا في أيدي الطبقة الوسطى والعاملة، فسيكون لهذا الأمر أيضا عواقب سلبية للغاية، أليس كذلك؟
بلى، قد يسفر ذلك عن عواقب سلبية بالغة الضخامة، مثل البطالة، وهي إحدى العواقب شديدة التدمير اجتماعيا واقتصاديا ونفسيا من الناحية الصحية. لا شك في ذلك. بخصوص مسألة الندرة، بإمكاننا أن نوظف ملايين الناس ونواجه العواقب السلبية للبطالة.
سؤال: عندما يقترح السياسيون التقدميون سياسات معينة، سواء كانت صفقة جديدة خضراء، أو الاستثمار في التعليم العام أو الرعاية الصحية للجميع، فإن أول سؤال يُطرح عادة هو "هل بإمكاننا تحمل تكلفة ذلك؟" أو "كيف سندفع مقابله؟"، يبدو هذا رد الفعل المنطقي بالنسبة للكثيرين. لكن من وجهة نظرك، هل تعتقدين أن هذه هي الأسئلة الصحيحة التي يجب علينا طرحها أثناء تناول مثل هذه المقترحات واسعة النطاق؟
كيلتون: في الحقيقة، أعتقد أنه من الخطأ البدء بهذا السؤال. والطريقة الوحيدة التي يكون بها السؤال منطقيا هي عبر طرحه من منظور الاعتبارات الواقعية. لقد اتفقنا على أن المال ليس هدفا أو موضوعا بالنسبة لمصنع العُملة، ما يهم هو المقدار الذي نود إنفاقه على شيء مثل الصفقة الخضراء الجديدة، وإذا كان الاقتصاد لديه القدرة على امتصاص هذا الإنفاق.
إذا كنا نتحدّث عن برنامج هائل لتحويل اقتصادنا باتجاه مصادر الطاقة المستدامة والتراجع عن الاعتماد على الوقود الأحفوري فإننا نتحدث عن كل قطاعات الاقتصاد الأميركي، مثل الطاقة والإسكان والزراعة والنقل وغير ذلك. لذا فإن السؤال الذي يجب علينا طرحه هنا هو كيف نخطط لمثل هذا الانتقال؟ كيف ندير التضخم والمخاطر الأخرى الناجمة عن طرح استثمارات كبيرة في طيف مختلف من القطاعات في اقتصادنا؟
كيف نحوّل اقتصادنا من اقتصاد متمحور حول الإنتاج للمستهلكين إلى اقتصاد يتمحور حول الإنتاج لدعم المجهود الحربي؟ وأعتقد أنه نموذج جيد لنوع الأسئلة التي يجب علينا طرحها فيما يخص مشاريع مثل الصفقة الخضراء الجديدة. علينا أن نفكر من منظور ما قبل التوزيع، بدلا من اللجوء لسياسات روبن هود المصممة لإعادة توزيع الثروة ونقلها من الأغنياء إلى الفقراء.
عادة ما تصور النظرية النقدية الحديثة في وسائل الإعلام الكبرى باعتبارها جديدة وثورية ومثيرة للجدل. ما الجديد إذن في النظرية النقدية الحديثة مقارنة بالمدارس الفكرية الأقدم مثل الكينزية؟
كيلتون: هذا هو رد الفعل الذي نحصل عليه في المعتاد بالفعل، فعندما تسمع اقتصاديي النظرية النقدية الحديثة يشرحون أن الحكومة يجب أن لا تعد الميزانية من منظور ربّ المنزل، أو حين نشير إلى أن سؤال "كيف سنتحمل تكلفته" هو سؤال خاطئ بالنسبة لحكومة مثل الولايات المتحدة، يبدو الأمر جديدا ومختلفا عن المقاربات التقليدية، لأن هذه النظرية مختلفة تماما عما يسمعه الناس من المقاربات الكينزية التقليدية.
الناحية الضريبية، لنتعامل تحديدا مع التركيز الهائل للثروة والدخل، وهو ما يتعلق في جوهره بحماية نظامنا الديمقراطي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق