فضيلة ميكيافيلي... والحداثة
فالحداثة، على الأقل في الغرب، هي مسيرة الارتحال بعيداً عن الفضيلة الدينية باتجاه المصلحة الشخصية العلمانية. ولعل الفضيلة الدينية أمر جيد للعائلة وعالم المبادئ الأخلاقية الخاصة بالفرد، لكن الدولة - الهيكل السياسي الحاسم في العصور الحديثة - تتطلّب شيئاً أقل عاطفة وأكثر عقلانية، لأنه ينبغي عليها أن تنظّم حياة ملايين الأشخاص، وأن تحمي حاجتهم إلى اكتساب الممتلكات المادية بشكل أناني.
وإذا سرق كل شخص من الآخرين، فإن الفوضى ستعم، لذا تحتكر الدولة الحق الحصري باستخدام القوة وتُنكره على المجرمين. ولا تعتمد الدولة على الله، بل تعتمد على الأنانية الفردية. وهكذا، توضح الدولة الطريق الذي يتعيّن سلوكه.
قدم توماس هوبز تصوّراً للدولة الحديثة في كتابه "اللوياثان * الحوت التنين" أو الدوله عام 1651. وهناك انطباع خاطئ حول هوبز مفاده أن هذا الرجل فيلسوف كئيب بسبب تشديده على الفوضوية. لكن هوبز كان في الحقيقة ليبرالياً متفائلاً رأى في الدولة حلّاً للفوضوية يسمح للناس بالحصول على الممتلكات وبناء المجتمعات. وأدرك هوبز أنّ الطريق إلى عالم أفضل يتطلب أولاً إرساء نظام عام. وبعد ذلك فقط، يستطيع الناس العمل على جعل مثل هذا النظام غير استبدادي.
لكن علامَ قامت فلسفة هوبز في حقيفة الأمر؟ لقد بنيت أولاً على إحدى أيقونات مطلع القرن السادس عشر، فلورنتين نيكولو مكيافيلي: مؤلف الكتاب المبدع "الأمير" قبل 500 عام، أي في عام 1513
ومن خلال أخذ السياسة بعيداً عن الجبرية الضيقة للكنيسة الكاثوليكية الرومانية في القرون الوسطى، خلق مكيافيلي السياسة العلمانية بامتياز والتي سمحت لهوبز بأن يصوغ فكرة الدولة. وقد يكون كتاب "الأمير" أقل تهكماً منه كدليل تعليمي للتغلّب على المصير المحتوم - جبرية الكنيسة الكاثوليكية الرومانية- في ذلك الوقت.
وهكذا، ربما كان مكيافيلي هو المبتكر الحقيقي لعصر النهضة وليس مايكل أنجيلو. كما أن الآباء المؤسسين للولايات المتحدة الأمريكية مدينون بالكثير لمكيافيلي وهوبز. فقد تخيل هؤلاء المؤسسون نظام حكم تكون فيه الدولة منفصلة عن الكنيسة وتوجد فيه حكومة تضع القواعد للأفراد لكي يتنافسوا بحرية، في كفاحهم من أجل إكتساب الثروة.
ولكنّ الحداثة الغربية تبدأ مع مكيافيلي أكثر منها مع هوبز. وفي الحقيقة، نحن محظوظون لأنه ما زال بيننا أحد القارئين العظماء لمكيافيلي: أستاذ جامعة هارفارد، هارفي مانسفيلد الإبن. الذي أدرك أن إخبار الحقائق المرّة أهم بكثير من إسماع الناس ما يرغبون لأجْل الحصول على الثناء. ومع أن كتاب مانسفيلد "فضيلة مكيافيلي" يعتمد على أفكار قارئ سابق لمكيافيلي،
قد لا يتّفق مانسفيلد نفسه مع مكيافيلي بالضرورة، إلا أنه يبين بجرأة لماذا ما زالت هذه الشخصية الفذّة لعصر النهضة بالغة الأهمية. فمن خلال وضع شروط السياسة الواقعية، يساعد مكيافيلي في إرساء أسس الجغرافيا السياسية.
ومن خلال قراءة مكيافيلي الإيطالي، يوضح مانسفيلد لنا أن الضرورة تحرّر الناس من العقائد الدينية. فقد يصلي الناس لله وقد يذهبون إلى الكنائس أو المساجد، لكنه يتعيّن عليهم أيضاً أن يتحصلوا على الممتلكات وتأمين القوت من أجل أحبائهم، الأمر الذي يُحتّم عليهم أن يتنافسوا في ما بينهم. كذلك الأمر، يتعين على الدول أن تتنافس في ما بينها. لكن هذا الواقع ليس مدعاةً للرثاء.
ففي التحليل الأخير، تبيّن أن المصلحة الشخصيّة قد تؤدّي إلى السلام، بينما قد تؤدي المبادئ الأخلاقية الصارمة إلى الحرب.
ومن شأن المصلحة الشخصية أن تُعلّم الإنسان المساومة مع الآخرين. كما أن الدولة المحكومة بالمصلحة الشخصيّة قد تميل إلى المساومة مع الدول الأخرى. في المقابل، يميل الشخص أو الدولة المحكوميْن فقط بالفضيلة الدينية أو الأخلاقية إلى تجريد من يتعارضان معهم من الأخلاق أو الإيمان – وهنا، تكمن إمكانية النزاع. بعبارة أخرى، إن الفضيلة أمرٌ جيد. لكن التزمّت خطر لأنه يثير النفاق في الدين. وفي النهاية، نجد في هذه الحكمة التبرير الفلسفي للإعتدال في السياسة المعاصرة وأصول الحكم.
أما أولئك الذين يجدون مثل هذا التفكير ظلامياً أو ساخراً، فإنهم قد يكونون واهمين بأن السياسة قد تلغي الحاجات الضرورية البدائية. وكما يوضح مانسفيلد، فإن مكيافيلي يشك في هذا. صحيح أنّ السياسيين قد يعلنون نيتهم في الكفاح من أجل الحقيقة والعدالة، لكن هواجسهم ورغباتهم غير المعلنة، حتى في الديمقراطية - بل وخصوصاً في الديمقراطية – تتمحور حول تلبية الإحتياجات الضرورية البدائية الأنانية لناخبيهم.
واجِهوا الحقيقة، إن الضرورة البدائية ترتبط ارتباطاً عضوياً بالإنسان. لذا، فإن الطريقة الوحيدة لتقليص النزاعات والمعاناة هي من خلال البصيرة الثاقبة: القدرة على استشراف الأخطار والضرورات المستقبلية. بالتالي، فإن وكالات الإستخبارات أكثر قدرة من المحسنين على منع حدوث أعمال وحشية.
وفي السياسة، يوضح مكيافيلي (من خلال مانسفيلد) أن الذي يفعل خيراً في أغلب الأحيان لا يمكن أن يكون جيداً. إذ يتعين على السياسي أن يتعلّم كيف يكون سيئاً أو حتى مخادعاً، على الأقل، وذلك من أجل الصالح العام. وهذا ليس بالضرورة مبدأ الغاية تبرّر الوسيلة، إذ يرى مكيافيلي أنه ينبغي ممارسة الحد الأدنى من القسوة لأجْل تحقيق الحد الأقصى من الخير.
ولا يؤمن مكيافيلي إلا بالنتائج. ويذهب مكيافيلي الى أن تعريف أي شيء في السياسة لا يكون من خلال جودته، وإنما يكون من خلال محصّلته النهائية، ذلك لأن الفضيلة السياسية منفصلة عن كمال الفرد. فقد يكون أحد الزعماء خلوقاً ونزيهاً وغير أناني؛ لكنْ إذا شنّ حرباً سقط فيها الآف الضحايا ثم تبيّن أنها كانت غير ضرورية، فإن هذا الزعيم سيفتقر إلى الفضيلة السياسية - بالرغم من إمكانية تعاطف الشعب معه على المستوى الشخصي.
في المقابل، إذا كان هناك زعيم متهكم وأناني وذو طموح مفرط ولكنه يحمي مواطنيه من المخاطر، فإنه يمكن القول إن هذا الزعيم يتمتع بفضيلة سياسية – مع أن شعبيته كشخص قد لا تكون كبيرة. لذا، فإنّ محبة الأشخاص الخلوقين ليس لها علاقة بالفضيلة السياسية. كما أن السياسة - وخصوصاً الجغرافيا السياسية - تتعلق بمعرفة العالم وليس بمعرفة السماء، طبقاً لمكيافيلي. وفي الحقيقة، يمكن القول إن مكيافيلي كان إنسانياً لأنه كان مهتماً بالبشر وليس بالفضيلة الدينية.
ولدى مكيافيلي بعض اوجه القصور.فهو على سبيل المثال، لم يستطع التنبؤ بالحكم الشمولي في القرن العشرين الذي ناقض الفضيلة الذاتية لكنيسة القرون الوسطى، التي كان مكيافيلي على خلاف معها، لكنْ على نطاق أكبر بكثير. فقد تخيّل صراعاً لا ينتهي بين المدن الدول في إيطاليا؛ وليس النزاعات الجبارة بين القوى النووية العظمى. ولأن المخاطر باتت اليوم أكبر بكثير بسبب أسلحة الدمار الشامل، هناك خطر المغالاة في تبني فلسفة مكيافيلي واستخدامها لتبرير كلّ أنواع الحيَل الخطيرة التي تحاول تبرير سفك دماء الأبرياء.
لكن هناك خطر أكبر من خلال إمكانية رفض مكيافيلي ببساطة بذريعة أن فلسفته ليست جديرة بعصرنا المستنير؛ ذلك لأن عصرنا مُعرَّف بالعولمة أقل منه بالمعركة على مناطق النفوذ، سواء بين الدول أو بين المجموعات المختلفة ضمن البلد الواحد - كما شهدنا مؤخراً من خلال الإضطرابات العرقية والطائفية في جميع أنحاء الشرق الأوسط الكبير. وأي زعيم أمريكي مضطر لمكافحة مثل هذه الفوضى ولاختيار النبرة الصحيحة لمخاطبة الصين الصاعدة عسكرياً وأمريكا اللاتينية الصاعدة إقتصادياً، قد يتصرّف على نحو أسوأ من النهج "المكيافيلي".ويعود الفضل
للأستاذ مانسفيلد، أننا أصبحنا الآن نفهم المعنى الحقيقي لهذا النهج.
* إعداد روبَرت كابلان، كبير المحللين الجيوسياسيين بمؤسسة ستراتفور
رسالة إلى ميكافيللى
أتسرعَ فى الحكم على أفكارك فأرفضها وأعتبرها نقيضاً للمثالية والإنسانية
لقد أثبتتْ تقلباتُ الحياة معي ومع غيري – يا سيد "ميكافيللى" - أن نظريتك، التى أفضتَ لى فى شرحها والحديث عن إيجابياتها، هى عينُ الصواب، وأنه لا سبيلَ إلى النجاح فى المدينة غير الفاضلة بدونها
أذكرُ أيضاً أنك قلتَ لى ناصحاً: " لا تُحسنْ الظنَّ بأحدٍ، ولا تقدمْ يدَ العون لأحد، ولا تخجلْ من استخدام كلِّ الحيل والوسائل، لتحصل على ما تريد بأقصر الطرق، الموهبة والإخلاص فى العمل – وحدهما- لا يكفلان النجاح"، كما أذكرُ وصيتك: "لا تكنْ مثاليًا، فالمثاليةُ لا تصنع إنساناً ناجحاً، ولكن تصنع السّذجَ
نعم، ربما تكون نظريتك يا سيد "ميكافيللى" أفسدتْ أجيالاً وراء أجيال، ولكنها اختصرتْ الطريق أمام الكثيرين، من ذوى الضمائر الخربة، والقلوب الميتة، الذين يملأون الدنيا من حولنا كذباً وتدليساً وتزييفاً، فهم فقط المدينون لك بكل ما حققوه وأنجزوه فى حياتهم، فقد اتخذوك إلهاً من دون الله، أو نبياً مُرسلاً، وتعاملوا مع كتابك "الأمير"، باعتباره كتاباً سماوياً.. أما فى الآخرة.. فعندَ اللهِ تجتمعُ الخصومُ.
اختراع القوّة كأساس للسياسة لدى ميكيافلي
أظهر ميكيافلي أنّ الحاكم الذي يتولى أمور السياسية لا ينبغي له أن يفكّر فيما عدا تدبير إمارته (دولته)، بل يلزمه أن لا يختار أيّ فنّ آخر عدا فن الحرب بخاصّة إصدار الأوامر والحث على الانضباط إلى بهذه الأخيرة؛ لأنّ هذا الفنّ هو الوحيد الذي يناسب شخصيته.
تعتبر معرفة هذا الفنّ – المَهَمّة (فنّ الحرب) نقطة انطلاق ضرورية لكسب الدولة والحفاظ عليها، لأنّه تجسيد القدرة على تأكيد حرية إيطاليا وباقي الولايات التي تكونها، خاصّة إمارة فلورنسا.
تستند هذه الرؤية لترابط القوة والسياسة لديه إلى قراءة واسعة بالتاريخ الإيطالي، خاصة للدور السلبي الذي كانت تلعبه الكنيسة في هذه العملية، الأمر الذي دفع الإيطاليين إلى دفع أجور للأجانب.
*
الأخلاق والسياسة توافق أم تعارض
ولا يتصورون أن تكون
السياســـة كذلك إذا خالفت أبسط القواعد
الأخلاقيـــة كالصدق والأمانة والأثرة
لأن المواطنين لا
يمكـــن أن يعهدوا بإرادتهـــم إلى ّ نواب إلا
إذا كان هؤلاء يمارســـون عهدتهم بأمانة،
ويسعون حقا للصالح العام، ويعبرون في
أقوالهم وأفعالهم عن إرادة المواطنين، دون
أن يســـتغلوا موقعهم لخدمـــة مصالحهم
الشـــخصية. ومن ّ ثم، فالأخلاق في رأيهم
ضرورية لممارســـة السلطة السياسية لكي
لا تنحرف عـــن غاياتها، فتغـــدو خاضعة
للأهـــواء، وتتحـــول إلـــى أداة لتحقيـــق
أهداف شخصية، لأن السياسة الجيدة هي
سياســـة عادلة،
سياســـة عادلة،
أفلاطون
في جمهوريتـــه لألفيناه يربط السياســـة
والأخـــلاق فـــي نقطتـــين يطرحهمـــا في
اســـتعارة الكهف، حيث السياسة الأفضل
تقوم علـــى الأخلاق، وعلـــى معرفة الخير
التي يتمتع بها الفيلســـوف الملك، َّ المخول
وحـــده للحكم. فهـــو أعدل النـــاس ُحكما،
لأنه وحده الذي يقدر أن يمارس الســـلطة
دون أن يخضعهـــا لأهوائـــه الشـــخصية،
ووحـــده الذي يرغب فيها ّ أقل من ســـواه،
وبذلك يكون أكثر الناس ّ تحليا بالفضيلة.
كما أن الفيلسوف الملك هو الأجدر باتباع
سياســـة عادلة، لكونه الوحيد الذي يعرف
الخير ويعـــرف المبادئ المنجرة عنه، وهي
سياســـة لا تقـــوم علـــى مجـــرد الآراء، بل
علـــى معرفة حـــق بتلك المبـــادئ. وذلك ما
ذهـــب إليه باســـكال في ”الأفـــكار“ حينما
لاحظ أن البشـــر، نتيجـــة جهلهم بالعدالة
الإلهية، لا يســـتطيعون أن يتبعوا ســـوى
سياســـة قائمة على الأعراف
في جمهوريتـــه لألفيناه يربط السياســـة
والأخـــلاق فـــي نقطتـــين يطرحهمـــا في
اســـتعارة الكهف، حيث السياسة الأفضل
تقوم علـــى الأخلاق، وعلـــى معرفة الخير
التي يتمتع بها الفيلســـوف الملك، َّ المخول
وحـــده للحكم. فهـــو أعدل النـــاس ُحكما،
لأنه وحده الذي يقدر أن يمارس الســـلطة
دون أن يخضعهـــا لأهوائـــه الشـــخصية،
ووحـــده الذي يرغب فيها ّ أقل من ســـواه،
وبذلك يكون أكثر الناس ّ تحليا بالفضيلة.
كما أن الفيلسوف الملك هو الأجدر باتباع
سياســـة عادلة، لكونه الوحيد الذي يعرف
الخير ويعـــرف المبادئ المنجرة عنه، وهي
سياســـة لا تقـــوم علـــى مجـــرد الآراء، بل
علـــى معرفة حـــق بتلك المبـــادئ. وذلك ما
ذهـــب إليه باســـكال في ”الأفـــكار“ حينما
لاحظ أن البشـــر، نتيجـــة جهلهم بالعدالة
الإلهية، لا يســـتطيعون أن يتبعوا ســـوى
سياســـة قائمة على الأعراف
فريق ثـــان يعتقد أن السياســـة تعني
مجمل المؤسســـات والأعمـــال التي تنظم
المجتمـــع، وتســـمح للدولـــة بتســـييره
وتوجيهـــه الوجهة المناســـبة، مـــا يعني
أن هـــدف السياســـة النجاعـــة، كأن تعمل
على ّ تجنـــب النزاعات أو ّ حلها، والســـير
بالمجتمـــع نحو غاية تحددها الدولة. ومن
ّ ثم، فالسياســـة الجيدة هي سياسة ّ فعالة
في المقـــام الأول، تنتج الآثـــار المرجوة أو
المنشـــودة، ولا ســـبيل عندئـــذ إلا بفصـــل
الأخلاق عن السياسة، لأن مهمة السياسة
فـــي رأي هـــذا الفريق هـــي التصرف في
شـــؤون الدولـــة، بينما الأخـــلاق هي من
مســـؤولية الأفـــراد، فليـــس بالعواطـــف
النبيلة تحقق الدولة ما ترجو، لاسيما في
غياب مبـــادئ أخلاقية كونية وموضوعية
يلتقي حولها الجميع. ولا مجال عندئذ إلا
ّ بتخير أحد أمرين: إما إقصاء الأخلاق من
الحقل السياسي، وإما استبعاد السياسة
عن الأخلاق لكي تضمن فعاليتها،
مجمل المؤسســـات والأعمـــال التي تنظم
المجتمـــع، وتســـمح للدولـــة بتســـييره
وتوجيهـــه الوجهة المناســـبة، مـــا يعني
أن هـــدف السياســـة النجاعـــة، كأن تعمل
على ّ تجنـــب النزاعات أو ّ حلها، والســـير
بالمجتمـــع نحو غاية تحددها الدولة. ومن
ّ ثم، فالسياســـة الجيدة هي سياسة ّ فعالة
في المقـــام الأول، تنتج الآثـــار المرجوة أو
المنشـــودة، ولا ســـبيل عندئـــذ إلا بفصـــل
الأخلاق عن السياسة، لأن مهمة السياسة
فـــي رأي هـــذا الفريق هـــي التصرف في
شـــؤون الدولـــة، بينما الأخـــلاق هي من
مســـؤولية الأفـــراد، فليـــس بالعواطـــف
النبيلة تحقق الدولة ما ترجو، لاسيما في
غياب مبـــادئ أخلاقية كونية وموضوعية
يلتقي حولها الجميع. ولا مجال عندئذ إلا
ّ بتخير أحد أمرين: إما إقصاء الأخلاق من
الحقل السياسي، وإما استبعاد السياسة
عن الأخلاق لكي تضمن فعاليتها،
استنادا
إلـــى مـــا ّ نظـــر لـــه ماكيافيلي فـــي كتابه”الأمير“، حين وقـــف بوضوح مع الجدوى
ضد الأخلاق، حجتـــه في ذلك أنه لما كانت
غاية ممارسة السلطة هي الاستقرار، فإنها
تبلـــغ تلك الغاية بالقوة لا بالعدل، والخير
في رأيه ألا يفي الحاكم بوعوده إذا لم تكن
الظروف ملائمة، أو أن ّ يضحي ببريء عند
الضرورة لإقرار الســـلم الاجتماعية. وهو
ما تبناه مـــن بعده الفيلســـوف الأميركي
روبـــرت نوزيـــك ) (2002-1938حين أكد أن
الدولـــة لا يحق لها أن تتدخل في ما يرجع
بالنظر إلى الأخلاق. ويذهب أبعد من ذلك
حين يعتبر أن تدخل السياسة في المسائل
الأخلاقية قد يكون خداعا يراد منه إضفاء
شـــرعية غير مستحقة على نظام سياسي،
كمراقبة الحريات وما يتداول في أوســـاط
المجتمـــع مـــن أفـــكار. وهو ما ذهـــب إليه
نيتشـــه أيضا في ”جينيالوجيا الأخلاق“.
أي أن الأخلاق غريبة عن السياســـة، التي
ينظـــر إليها فقـــط كعامل ضبـــط وتعديل
بيـــد أن السياســـة ليســـت ملـــكا للدولة
وحدهـــا، يقول فريـــق ثالث، بـــل للكيفية
التي يشـــارك بواسطتها المواطنون أيضا،
وأفضل السياســـات الممكنة ليست الأنجع
ولا الأعدل، بـــل تلك التي تكون قادرة على
تكويـــن مدينـــة حقيقية والحفـــاظ عليها.وبذلـــك تغـــدو الأخلاق ضروريـــة لوجود
المجموعة السياسية، فالسياسة في الواقع
لا تعني فقط مجمل الوسائل والمؤسسات
التـــي تحكم الدولـــة بواســـطتها، كما أن
الســـلطة لا تمثل السياســـة إذا قامت على
القوة وحدها، بل لا تكتســـب شرعيتها إلا
بقبول المواطنين بها
إلـــى مـــا ّ نظـــر لـــه ماكيافيلي فـــي كتابه”الأمير“، حين وقـــف بوضوح مع الجدوى
ضد الأخلاق، حجتـــه في ذلك أنه لما كانت
غاية ممارسة السلطة هي الاستقرار، فإنها
تبلـــغ تلك الغاية بالقوة لا بالعدل، والخير
في رأيه ألا يفي الحاكم بوعوده إذا لم تكن
الظروف ملائمة، أو أن ّ يضحي ببريء عند
الضرورة لإقرار الســـلم الاجتماعية. وهو
ما تبناه مـــن بعده الفيلســـوف الأميركي
روبـــرت نوزيـــك ) (2002-1938حين أكد أن
الدولـــة لا يحق لها أن تتدخل في ما يرجع
بالنظر إلى الأخلاق. ويذهب أبعد من ذلك
حين يعتبر أن تدخل السياسة في المسائل
الأخلاقية قد يكون خداعا يراد منه إضفاء
شـــرعية غير مستحقة على نظام سياسي،
كمراقبة الحريات وما يتداول في أوســـاط
المجتمـــع مـــن أفـــكار. وهو ما ذهـــب إليه
نيتشـــه أيضا في ”جينيالوجيا الأخلاق“.
أي أن الأخلاق غريبة عن السياســـة، التي
ينظـــر إليها فقـــط كعامل ضبـــط وتعديل
بيـــد أن السياســـة ليســـت ملـــكا للدولة
وحدهـــا، يقول فريـــق ثالث، بـــل للكيفية
التي يشـــارك بواسطتها المواطنون أيضا،
وأفضل السياســـات الممكنة ليست الأنجع
ولا الأعدل، بـــل تلك التي تكون قادرة على
تكويـــن مدينـــة حقيقية والحفـــاظ عليها.وبذلـــك تغـــدو الأخلاق ضروريـــة لوجود
المجموعة السياسية، فالسياسة في الواقع
لا تعني فقط مجمل الوسائل والمؤسسات
التـــي تحكم الدولـــة بواســـطتها، كما أن
الســـلطة لا تمثل السياســـة إذا قامت على
القوة وحدها، بل لا تكتســـب شرعيتها إلا
بقبول المواطنين بها
ومن هنا تكون أفضل السياســـات هي
تلك التي تسمح بخلق مجموعة، أي كيان
سياسي يســـتند إلى روابط المواطنين في
ما بينهم، والتزام كل واحد منهم بالحفاظ
عليهـــا. ولا يمكن لذلك الالتـــزام أن يتم إلا
متـــى قبل كل فـــرد بعدم تلبيـــة مصلحته
الخاصة بشكل آلي، والتخلي عنها لفائدة
المصلحة العامة. فلا سياســـة حقيقية من
دون التـــزام حميم لكل فرد نحو المجموعة
التي ينتمي إليها، واقتناع الأفراد جميعا
بانتمائهم إلى مجموعة. وهذا ما ّ عبر عنه
روســـو في العقد الاجتماعي، وما اقترحه
الأميركي جون رولز ) (2002-1921حين دعا
إلى توافـــق حول مفهوم للعـــدل ّ يمر عبر
نقاش ّ عام تضع إثـــره المجموعة الوطنية
المبادئ المشـــتركة للعدل بصرف النظر عن
القناعات الأخلاقية المختلفة لهذه الفئة أو
تلك.
وصفوة القـــول إن الأخلاق هي أفضل
السياســـات، فهي شـــرط أســـاس لوجود
مجموعة سياســـية حقيقيـــة، ينجم عنها
كل ما هو ّ خير، فشرعية ممارسة السلطة،
وعدالة السياســـات المتبعـــة، ونجاعتها،
يمكـــن أن تحظى عندئـــذ بانخراط كل فرد
في مشروع مشترك
تلك التي تسمح بخلق مجموعة، أي كيان
سياسي يســـتند إلى روابط المواطنين في
ما بينهم، والتزام كل واحد منهم بالحفاظ
عليهـــا. ولا يمكن لذلك الالتـــزام أن يتم إلا
متـــى قبل كل فـــرد بعدم تلبيـــة مصلحته
الخاصة بشكل آلي، والتخلي عنها لفائدة
المصلحة العامة. فلا سياســـة حقيقية من
دون التـــزام حميم لكل فرد نحو المجموعة
التي ينتمي إليها، واقتناع الأفراد جميعا
بانتمائهم إلى مجموعة. وهذا ما ّ عبر عنه
روســـو في العقد الاجتماعي، وما اقترحه
الأميركي جون رولز ) (2002-1921حين دعا
إلى توافـــق حول مفهوم للعـــدل ّ يمر عبر
نقاش ّ عام تضع إثـــره المجموعة الوطنية
المبادئ المشـــتركة للعدل بصرف النظر عن
القناعات الأخلاقية المختلفة لهذه الفئة أو
تلك.
وصفوة القـــول إن الأخلاق هي أفضل
السياســـات، فهي شـــرط أســـاس لوجود
مجموعة سياســـية حقيقيـــة، ينجم عنها
كل ما هو ّ خير، فشرعية ممارسة السلطة،
وعدالة السياســـات المتبعـــة، ونجاعتها،
يمكـــن أن تحظى عندئـــذ بانخراط كل فرد
في مشروع مشترك
*
نظرية اليد القذرة والقفّاز النظيف
البشر غير شاكرين، وهم متقلبون وكاذبون ومخادعون، وعادة ما يهربون من المخاطر، ويطمعون في المكاسب، ولذلك فمن الضروري للحاكم أن يتعلم ألّا يكون صالحا معهم هذه العبارة تلخِّص ما ورد في كتاب "الأمير" للمفكر والفيلسوف الإيطالي "نيكولو مكيافيلي" الذي أثار الجدل على مرّ العصور، وسيبقى
الأخلاق في السياسة معوقة للنجاح، وبأن المجتمعات ذات القيم والأخلاق معرضة للانهيار، وبصفة عامة، فإن الأخلاق مضرة بالسياسة!
هذا الفكر اللاأخلاقي انتشر بين شعوب أوروبا والعالم عبر السنين، فخلق وحوشا بشرية، كهتلر وموسوليني وبعض زعماء العرب والمسلمين، ممن اتخذوا هذا الفكر وسيلة لإخضاع شعوبهم وتدمير من حولهم، فكر قائم على إبعاد كل القيم الدينية والأخلاقية في إدارة الدول والتعامل السياسي، بل حتى في التعامل ما بين الأفراد، والخطر الأكبر هو وصول هذا الفكر المدمر والمنافي للقيم النبيلة والإنسانية إلى السياسة العربية.
في الوقت الذي ينادي دستور مصر بأن دين دولة الكويت الإسلام، والشريعة الإسلامية مصدر رئيسي في التشريع، بما يحمل (هذا الدين) من قيم أخلاقية نبيلة، وعندما تنسجم دولة مصر مع تاريخها ودينها وقيمها النبيلة بالانضمام إلى اتفاقيات الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، إلا أنه نجد بالمقابل ممارسات حكومية وبرلمانية تقوم بتبني هذا الفكر الخطير، سواء بوعي أو بلا وعي،
إن أساس تقدم الدول وتحضرها قيامها على أسس راسخة من مبادئ العدل والنزاهة والأمانة وحسن الاستثمار في العنصر البشري المسؤول، صاحب القيم الأخلاقية العالية، وعليه فإن أردنا تحقيق التقدم والتحضّر، فإنه، يقينا، لا ينسجم ذلك أو يتوافق مع الفكر والممارسة الميكافيلية التي يقوم بها البعض، والتي تجب محاربتها ومواجهتها والتخلص منها ما استطعنا إلى ذلك سبيلا، على مستوى الافراد والمؤسسات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق