الجمعة، 26 مارس 2021

الاستبداد والاسترهاب

 لا يزال الاستبداد السياسي يُهيمن على شعوبٍ كثيرة، بطريقة أو أخرى، يكون مباشراً أحياناً وغير مباشر أحياناً أخرى، يتغذى من الشعوب نفسها، بل ويزداد عمره بها، فكلما كانت الشعوب تخنع لمستبدّها، كلما كان الاستبداد أكثر قوة وأشد تأثيرا عليها. في المقابل، وعلى الطرف الآخر، وجد شيء آخر يكون مقوماً وسانداً لهذا الاستبداد، وهو "الاسترهاب"، الذي يُستعمل لاقتياد الشعوب والتحكّم فيها، سواء كان هذا الاسترهاب تخويفياً أو حتى حقيقياً، فالتخويفي هو الذي يكون مطلقاً من غير فعل، بل بالإيهام والتوهم، وهذا الفعل أولى خطوات ترسيخ الاستبداد على الشعوب، كما يذهب إلى ذلك عبد الرحمن الكواكبي في كتابه "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد"، فيقول: "الخوف هو السبب المباشر والركيزة التي يعتمدها الاستبداد في أي مجتمع من المجتمعات البشرية التي ترتكس تبعا لذلك في مستنقع التخلف الحضاري والانحطاط". أما "الاسترهاب الحقيقي" فهو لا يختلف كثيرا عن التخويفي، غير أنه مبنيٌّ على الفعل، ولكن هذا الفعل أو العمل التخويفي في أقل درجاته، بمعنى فعل تخويفي رمزي، من شأنه إحداث التخويف، وليس القصد منه الفعل حقيقة، وإن وجد الفعل فإنه لا يكون تاماً وإلا ما كان تخويفياً، ليؤسّس بذلك ثمرة الاستبداد، ويهيئ الشعوب لتقبلها، باعتبار أن انتشار الرعب والخوف بين الشعوب يجعلها أكثرا استسلاما للمستبد، وسيرا في ركب الاستبداد، بل وحتى الدفاع عنه، والأمثلة كثيرة في الواقع المعاش اليوم، فالثورات العربية مرّت ولا تزال تمر بهذه النوعية من الاستبداد، الناجحة منها والفاشلة، أو تلك التي تقاومه كلما دعت الحاجة لذلك.

ثمة مُقَوِّم آخر للاستبداد وداعم من دعائمه، وهو الجهل، كما يذهب إلى ذلك الكواكبي أيضاً. وعند النظر في هذا الداعم نجده جزءا من "الاسترهاب"، حيث إن الإسترهاب في حقيقته يكون مبنيا على غير علم، ولا حتى وجود فعلي، بل أصل الاسترهاب هو محاولة إيجاد الإرهاب وطلب وقوعه بأسباب مصطنعة حسّية وفكرية، يكون المسترهب جاهلاً بها، وبآليات صنعها وإيجادها، في حين أن المستبد وهو "المُسْتَرهب" يُجيدها ويُتقنها، معتمدا على جهل الغير بها، لتكون أداة له في الاستبداد واقتياد الشعوب، لتكون المحصلة كما يقول الكواكبي: ترك الإرادة للغير، وضياع الحزم، وفساد الرأي. وبالتالي، فإن مقومات نجاح الاستبداد قائمة ومهيأة لتكوين نظام استبدادي في أعلى درجاته، وإن لم يكن موجوداً.

 الثورات العربية، حيث نرى أن الشعوب انقسمت فيها، في الغالب، إلى قسمين: قسم استدعى المعرفة والحقوق والواجبات على الدولة، وطالب بتفعيلها وإيجادها واقعاً في حياته، معبّراً عن ذلك بنضوجه الفكري والمعرفي، في حين أن القسم الثاني هو الذي استدعى الاستبداد مرة أخرى، وعمل على إعادة وجوده، باعتبار أن تلك الشعوب لا تقتاد إلا استبداداً، وذلك لتغلغل فكر "الاسترهاب" في تفكيرهم، ومن ثم تصرّفاتهم وأفعالهم، وحتى مطالبتهم في حقوقهم، وهذا ما ساعد الثورات المضادّة مرة أخرى على العودة بالشعوب إلى حكم الاستبداد، بطريقة العصا والجزرة، والتي لُبها الاسترهاب التخويفي.

إيجاد الاستبداد وتكريسه على الشعوب والدول كما يدخل فيه الاسترهاب والترهيب والتجهيل والتضليل، يدخل فيه كذلك المُنح والتعالم والفوقية، كلٌّ يستعمل بحسب الحال، غير أن المآل واحد، وهو المحافظة على الاستبداد وحكم المستبد، ولكن ذلك عادة ما يكون في فترة معينة، ما إن تتغير مقدّماتها التي تكون سببا في إيجاد هذه الحالة، إلّا وتتغير نتائجها بمقاومة الاستبداد والاسترهاب.

 هناك تمازج بين الاستبداد والاسترهاب، بحيث لو أزيلت مسبّبات الاسترهاب لكان لزاماً أن تقاوم الشعوب الاستبداد، بطريقة أو أخرى، أو على أقل تقدير لن تقبل به حاكما لها، بل ستقاوم، وتقاوم، إلى أن تُحقق إسقاطه.

*

 طارق البشري

 إدمان لغة العنف الباطشة، سواء كان هذا العنف رمزيا أم ماديا. ومن علامات عدم توفيقه كذلك ألا يهتم بفقدان القاضي الكبير والفقيه الجليل الحكيم، طارق البشري؛ فيما ينصرف إلى الاهتمام بسفاسف الأمور وخفّة الحوادث وتوافه الأشياء؛ بل مر هذا الحدث الجلل من دون أن يرد أدنى اهتمام من هذا النظام الفاشي على المستوى الرسمي؛ ليُسكن نفسه، بغبائه الشديد وطغيانه العتيد، ضمن أغبى النظم فاشية وغشما وغباء.

 الكواكبي "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد"

نظام لا يهتم بفقدان القاضي طارق البشري؛ وينصرف إلى الاهتمام بسفاسف الأمور

المستبد القائم على الدولة المتشخصنة المستبدة "لا تربطه عائلة قبلية ولا نقابة أو جماعة دينية ولا حزب سياسي أو طبقة اجتماعية، وهو يسيطر بذاته على مفاتيح السلطة، وهو يتغلب على ضغط عمال الدولة عليه بأن يشخصن الفئة المحيطة به من العاملين معه بإبقائهم في وظائفهم أطول مدة ممكنة، بحيث تحل العلاقات الشخصية محل علاقات العمل الموضوعية، والمهم أنه لا يقوم من خارج إطار أجهزة الحكم ما يكون ذا تأثير عليه، ولا تقوم آلية ما للتبادل والتأثير معه إذا بقيت خارج إطار السلطة والوظائف الرسمية. والدولة هنا منغلقة من دون أية تفاعلات لعلاقة بينها وبين أية قبيلة أو طبقة أو دين أو طائفة؛ ومن ثم يحق أن يوصف هذا النظام بأنه ليس له مثيل في نظم التاريخ الحديث، إلا ما ندر".

ومن مواصفات النظام المتشخصن أنه "منغلق، لا ينفتح على خارج ذاته، ولا تقوم آلية ما لإجراء أي تعديل فيه أو تجديد، وأي تعديل أو تنويع فيه إنما يرد بطريقة "الاستنساخ السياسي"، ونحن نعلم أن الاستنساخ البشري إما يكون بتخليق خلايا من جسم حي لتكوين جسم حي آخر يخلف المستنسخ السابق ولا يحمل فقط خصائصه وإنما هو أيضا يحمل عمره ومدى القدم الذي كان عليه الأصل حالة الاستنساخ، أي إن هذا المُنشأ الجديد لا يكون صبيا ولا شابا، وإنما يولد في عمر من أخذت منه الخلية. ومن ثم فلا تقوم في النظام المتشخصن أية قدرة ولا إمكانية على التجديد الذاتي، إنما يشكل فقط حالة من حالات الاستبقاء، بأي ثمن وبأي مقابل. وإن واحدا من أسباب الشخصنة هو طول مكوث الشخص في قمة العمل العام بذات سلطاته وصلاحياته وبغير تحدٍ يلقاه".


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق