الخميس، 11 مارس 2021

الصراع السني - الشيعي، فعمره أكثر من 1300 سنة، ولا يمكن أن ينحسر بين عشية وضحاها.

Feb 26, 2021

التنوير العربي 

المفكر الفرنسي جيل كبيل  يرى أن الصراع السني ـ الشيعي فقد زخمه وتراجع إلى المواقع الخلفية

هاشم صالح

 وحده انتصار التنوير العربي يمكن أن يقلصه أو يمحوه، ونحن لا نزال بعيدين جداً عن ذلك. وبالتالي، فأمام الطائفية والمذهبية مستقبل طويل عريض للأسف الشديد. ولكن إذا كانت الأممية الأصولية السنية - الشيعية قد توحدت ضد الحداثة، فينبغي على الأممية التنويرية العربية - الإسلامية أن تتوحد لمواجهتها. وهذه الأممية الجديدة لها مستقبل عظيم في رأينا، وهي تضم التيارات التنويرية التي تخترق كل القوميات والمذاهب والطوائف، من عربية وكردية وتركية وإيرانية وإسلامية ومسيحية وسنية وشيعية... إلخ. وعندئذ، لن يعود السؤال: هل هذا الشخص سني أم شيعي؟ عربي أم كردي؟ مسلم أم مسيحي؟... إلخ، وإنما سيصبح هو التالي: هل هذا الشخص حداثي تنويري في فهمه للدين أم تقليدي ظلامي؟ هل يشد إلى الأمام أم يشد إلى الخلف؟ هل يستوعب الدين الإسلامي بشكل عقلاني واسع متسامح أم بشكل طائفي ضيق متعصب؟ وهل أنت من أتباع طه حسين ونجيب محفوظ أم من أتباع حسن البنا وسيد قطب؟ باختصار شديد: هل أنت من أتباع إسلام الأنوار أم إسلام الظلام؟ هذا هو السؤال المركزي الذي سوف يهيمن على المثقفين العرب طيلة العشرين أو الثلاثين سنة المقبلة.

 تياران كبيران متناقضان

المعركة مندلعة، إذن، بين تيارين كبيرين: الأول يريد أسلمة الحداثة، والثاني يريد تحديث الفكر الديني. الأول يريد إبقاءنا إلى الأبد سجناء ما يدعوه محمد أركون بالسياجات الدوغمائية المغلقة، والثاني يريد إخراجنا منها، ولكن بصعوبة شديدة وألم مرير. فنحن قد ولدنا فيها، وتعودنا عليها، ورضعناها مع حليب الطفولة، وتربينا عليها في البيوت والمدارس والجوامع والجامعات والفضائيات... إلخ، فكيف يمكن أن ننفصل عنها؟ نفضل أن تُزهق روحنا على أن يحصل ذلك! هنا تكمن المشكلة بالضبط. سوف أطرح التساؤل بطريقة أخرى: هل يمكن الخروج من الباراديغم اللاهوتي الأعظم للقرون الوسطى؟ وهو النموذج الديني الأعلى المعصوم المقدس الذي هيمن علينا على مدار ألف سنة متواصلة؛ أي منذ انتصار الحنابلة على المعتزلة، وتكفير الغزالي للفلسفة والفلاسفة. من هو المثقف العربي الذي يتجرأ على الخروج منه أو عليه؟ لم تلده أمه بعد! ما عدا أركون والمازري حداد وعبد الوهاب المؤدب والعفيف الأخضر وعبد النور بيدار وكمال داود وخالد المنتصر، وبعض الآخرين من أقطاب التنوير العربي، لا أرى أحداً. أحيل هنا إلى نظرية البارديغمات اللاهوتية التي بلورها هانز كونغ بشكل مقنع، وطبقها على المسيحية واليهودية، بل والإسلام؛ انظروا كتبه الضخمة عن الأديان التوحيدية الثلاثة. وضمن هذا التوجه الواسع المتسامح تم تأسيس بيت «العائلة الإبراهيمية» في أبوظبي، وتوقيع وثيقة الأخوة الإنسانية التي قالت للجميع ما فحواه: لا سلام في العالم من دون سلام بين الأديان! وهو ما نصت عليه وثيقة مكة المكرمة أيضاً. وهذا ما يغيظ جماعات الإخوان والإسلام السياسي إلى أقصى حد ممكن، وذلك لأن مفهومهم للإسلام قائم على الانغلاق والتكفير، لا على التسامح والتعايش مع الأديان الأخرى؛ إنهم لا يزالون غاطسين كلياً في اللاهوت الظلامي القديم للقرون الوسطى... المعركة مفتوحة!

في مكان آخر، يقول لنا جيل كيبل ما معناه: لا يعتقدن أحد أن الإسلام السياسي يعيش الآن أجمل لحظاته، فالواقع أنه فقد شعبيته إلى حد كبير من بغداد إلى تونس. قبل عشر سنوات فقط، كان مترعرعاً مسيطراً على ما يدعى «الربيع العربي». ولكن الثورات التي اندلعت مؤخراً في العراق ولبنان والجزائر والسودان لم تندلع باسمه أبداً قط، ولم تكن له فيها مشاركات تذكر، على عكس ما حصل سابقاً. وهذا شيء مفرح بالنسبة لقضية التنوير العربي، وهو دليل محسوس على أنه يمكن تجاوز جماعات الإخوان المسلمين، وبقية جماعات الإسلام السياسي، وهو كذلك يثبت صحة مقولة هيغل عن مكر العقل في التاريخ. فالعقل الكوني يستخدم الشر لتحقيق الخير، أو قل لا يمكن أن يتوصل إلى الخير إلا بعد المرور بمرحلة الشر. وهذا ما اكتشفه المتنبي قبل هيغل بزمن طويل: ولا بد دون الشهد من إبر النحل. ينبغي أن ندفع ثمن التقدم عداً ونقداً. ينبغي أن ندفع ثمن كل خطوة إلى الأمام دماً ودموعاً. وهذا أذكى أنواع «المكر»؛ بالمعنى الإيجابي النبيل للكلمة، لأنه يعكس الشر ضد ذاته. بمعنى آخر، لولا الفظاعات التي ارتكبتها حركات الإسلام السياسي في الجزائر إبان العشرية السوداء، لما فقد الأصوليون السيطرة على الشارع في «الحراك» الذي حصل مؤخراً؛ هذه أشياء ينبغي أن تقال. قبل ذلك، كانت الجماهير مخدوعة بالإسلام السياسي، بل كانت تعتقد أنه الحل والخلاص والترياق، فإذا بها بعد عشر سنوات فقط تكتشف الخيبة والمرارات. فالإسلام بصيغته التكفيرية الظلامية لا يمكن أن يكون حلاً، وإنما فقط بصيغته التنويرية. ولكن الانتقال النهائي من هذه إلى تلك قد يستغرق عشرات السنوات المقبلة، كما علمتنا تجربة أوروبا ذاتها. وبالتالي، فنحن لا نعتقد أن المسألة قد حسمت تماماً؛ هذه قضية كبيرة، هذه قضية القضايا ومعضلة المعضلات، ولكن حصل تقدم في السنوات الأخيرة، والشعوب العربية سائرة نحو الاستنارة لا محالة.

على أي حال، كان ينبغي أن تحصل كل هذه الأحداث والتضحيات الجسام لكي «تمتص» القوى التقدمية المستنيرة هيبة الإسلام السياسي، وتحجم مشروعيته، وتقلص شعبيته. كان ينبغي أن يصل إلى الحكم في مصر وتونس والسودان، ويفشل فشلاً ذريعاً لكي تزول هالة القداسة الضخمة عنه أو المحيطة به؛ ما كان يمكن تجاوزه قبل المرور به... تداويت منها بها! هنا يكمن مكر العقل في التاريخ.

 النموذج الصيني

أخيراً، ربما لن تقوم المرحلة المقبلة على شعار الديمقراطية، وإنما على شعار الاستبداد المستنير، على طريقة الصين: أي رأسمالية فعالة من جهة، واستبداد كونفشيوسي - شيوعي من جهة أخرى. ولكن هذه ستكون مرحلة مؤقتة لا نهائية؛ المرحلة النهائية هي الديمقراطية والشفافية. ويبدو أن بعض الدول العربية أصبحت مسحورة بالنموذج الصيني الذي أدى إلى الرفاهية الاقتصادية من دون ديمقراطية! فإذا كان هذا النموذج قد نجح في الصين، فلماذا لا ينجح في أماكن أخرى. المهم حالياً هو الحكم الرشيد العادل الذي تفرضه النخبة المستنيرة الرائدة من فوق. بعدئذ، تجيء الديمقراطية والمشاركة الشعبية على مراحل تدريجية، بصفتها تحصيل حاصل.

وعلى أي حال، فإن الديمقراطية صيرورة طويلة صعبة عويصة جداً لأنها تتطلب أولاً تنوير الشعوب العربية وإلا فسوف تصوت كلها لـ«الإخوان المسلمين» وجماعات الولي الفقيه. ومن يصوت ضدها (أي ضد جماعات الإسلام السياسي) يعدونه عدواً للدين! هل يمكن أن تصوت ضد الدين أو ضد رموزه ومشايخه؟ أعوذ بالله! معاذ الله! هذا هو السلاح الفعال الفتاك الذي تمتلكه جماعات الإسلام السياسي: إنه الهيبة الدينية اللاهوتية العظمى. ولذلك أقول إن الاستبداد اللاهوتي الكهنوتي أخطر أنواع الاستبداد؛ إنه الاستبداد الظلامي الأسود القاتل، وأنا أعرف عم أتحدث بالضبط. لقد عانيته في بيتي، ورأيته بأم عيني، وحدقت فيه وجهاً لوجه، وسوف أظل أقاومه كالتنين حتى أصرعه في نهاية المطاف أو يصرعني!

*

2021/3

«نهاية الإسلام السياسي» تقع في خطأين اثنين؛ أولهما، أن فكرة الدولة الإسلامية لدى قطاع عريض من الشبيبة المتحمسة من المسلمين اليوم لا تزال فاعلة وبوضوح في مجاميع الإنتاج الصحوي الأصولي، أو في الميادين عبر البرامج والمشاريع في الدول التي لم تحضر بها الجماعات، ولننظر إليها بشكل واضح وفاقع في الدول الأوروبية، حتى مع الإجراءات الفرنسية القوية والمهمة ضد بعض الأذرع الأصولية غير أنها لا تزال تعمل. وثاني الأخطاء، أن الإسلام السياسي ممثَّل بدول وبأحزاب موجودة في بعض الحكومات العربية مثل «حزب الله» في لبنان، و«النهضة» في تونس، وحزب إردوغان في تركيا، ولها زخمها في سوريا والعراق وليبيا، ولا تزال تقوم بأعمال عنف في مالي وفي الساحل الأفريقي، والمثال الأفظع أن الحركات الأصولية الإرهابية المارقة تقوم بأعمال عدوانية ضد السعودية كما يفعل الحوثي، فكيف يمكن لمقولة نهاية الإسلام السياسي أن تكتسب ولو قليلاً من التماسك في ظل كل هذا الحضور؟!

يرى كيبل أن «الصراع السني - الشيعي فقد زخمه وتراجع إلى المواقع الخلفية، قياساً إلى صراع من نوع آخر: ذلك الجاري بين أتباع الإسلام السياسي من جهة وخصوم الإسلام السياسي من جهة أخرى»، هاشم رد عليه بأن الإرث التاريخي للصراع لا يمكن محوه، وهذا صحيح، ولكن الأهم أن الصراع المذهبي السني والشيعي في حال تصاعد كبير وذلك لسببين؛ أولهما أن الأحزاب المتطرفة من الجهتين تغذّي الصراع عبر مفاهيم سياسية كما يفعل «حزب الله» في لبنان، و«الحشد الشعبي» في العراق، فبقاء هذا الصراع يغذَّى اليوم ليس بمفاهيم دينية وتاريخية فحسب على النحو الذي ساد في التاريخ، ولكنه اليوم مدفوع بمحورٍ كامل يدعى محور الممانعة، له حضوره الطائفي الكثيف في أنحاء العالم الإسلامي؛ في إندونيسيا والقارة الهندية وإلى الشرق الأوسط. الآخر أن من يغذّي الطائفية السنية والشيعية معاً هو النظام الإيراني الذي تنوي الولايات المتحدة التفاوض معه، وربما تخفيف العقوبات مما يساعده في توسيع الدعم المالي للعمل الطائفي عبر الجمعيات الخيرية، أو الأحزاب الأصولية، لذلك فإنني لا أنفي فقط تراجع المد الطائفي، بل أؤكد ازدياده وتصاعده النوعي.

 الإسلام السياسي حورب في السعودية ومصر والإمارات والبحرين، لكنه متغلغل في مجالس نيابية بالخليج، وله حضوره في مراكز دراسات ومحطات فضائية يشاهدها مئات الملايين، ولهم سطوتهم في مجلس النواب بتونس، وعدم حضورهم العملي الكثيف في بعض الدول على السطح بنفس المستوى الذي كانوا عليه قبل عقدٍ من الآن لا يعني نهايتهم.

 الظاهرة الأصولية ببعديها التاريخي والمعاصر لها قدرتها على البقاء بسبب وجود ظروف مهيأة منها عدم القضاء على المفاهيم والمنابع المفرِّخة للأصولية. وعن الطائفية، فإن أشرس المعارك الآن تقوم بين السنة والشيعة وتحت إشرافٍ من الأحزاب الأصولية.

ما يطرحه جيل كيبل منقوض بالواقع الذي نعيشه اليوم، لا تزال الحركة الأصولية تتمدد، هزيمتها في مصر والسعودية، وهما البلدان الأكثر تأثيراً على العالم الإسلامي، لا تعني نهاية الظاهرة من جذرها، بل علينا التريث وأخذ الحيطة، والاستمرار في تجفيف المنابع، فهذه الجماعات خبرناها وعرفناها عبر السنين، لديها القدرة على التلون، والانسحاب الجزئي، والعمل السري، باختصار علينا الحذر من التقليل انطلاقاً من تفاؤل غير مبرر.

*

2018

جيل كيبل {أكبر مثقف عربي}!

المفكر الفرنسي ومشكلة القرن الحادي والعشرين الخارجة من أعماق التاريخ

فكيف يمكن لمثقف أجنبي - فرنسي تحديداً - أن يكون أكبر مثقف عربي؟ 

ما المشكلة الأساسية للعصر العربي الراهن، بل وللعصر الإسلامي كله، أي العصر التركي والإيراني والباكستاني والأفغاني... إلخ؟ إنها المشكلة الأصولية، أو مشكلة الظلامية الدينية. ومن الذي كرس حياته كلها للتركيز عليها والبحث فيها والنبش والحفر أكثر من جيل كيبل؟ منذ أربعين سنة وهو يشتغل عليها. منذ أربعين سنة وهي شغله الشاغل. وحسناً فعل، لأنه ثبت بالدليل القاطع أنها مشكلة العصر كله، وليس فقط العصر العربي أو الإسلامي. وإذا كانت الشيوعية التوتاليتارية هي مشكلة القرن العشرين، فإن الأصولية التوتاليتارية الإخونجية هي مشكلة القرن الحادي والعشرين

منذ أن أصدر كتابه الكبير الأول «النبي والفرعون»، عام 1984، عن الحركات الأصولية المصرية، حتى كتابه الأخير الذي صدر قبل أسابيع قليلة في العاصمة الفرنسية، تحت عنوان «الخروج من الفوضى في الشرق الأوسط وحوض المتوسط»، مروراً بكتاب «الجهاد» عام 2000، وكتاب «فتنة: حرب في قلب الإسلام» عام 2004، ثم «رعب في قلب فرنسا: نشأة الجهاد الفرنسي» عام 2015... إلخ، ما انفك جيل كيبل يلف حول المسألة الأصولية ويدور. ما انفك يقلبها على جوانبها كافة لفهم سرها وسبر كنهها. لهذا السبب أقول إنه أكبر مثقف عربي.

 توهمهم أن الأصولية الدموية الجهادية هي عبارة عن حركة مؤقتة سطحية عابرة
وإنما تستحق التركيز الشديد. إنها حركة متفجرة من أعماق الأعماق التراثية. وهذا ما دعوته أنا شخصياً بالبراكين التراثية.

يقول عبد الوهاب المؤدب إنه صدم عندما قرأ كتاب كيبل الأول «النبي والفرعون». لقد شعر بانزعاج شديد لأنه ما كان يتوقع أن صورة الإسلام يمكن أن تكون سلبية إلى هذا الحد. نقول ذلك، خصوصاً أنه مولود في عائلة تونسية عريقة، بل وكان أبوه أحد مشايخ الزيتونة الشهيرة. وبالتالي، يصعب عليه أن يتحدث أحدهم عن الإسلام أو الحركات الإسلامية بهذا الشكل، ولكنه فيما بعد أصبح متفهماً تماماً لتحليلات جيل كيبل، بل وتحول هو ذاته إلى أكبر ناقد للأصولية الإسلاموية. بمعنى أنه تجاوز جيل كيبل في الحملة عليها ونقدها وتفكيكها. والدليل على ذلك أنه أصدر كتاباً مشهوراً بعنوان «مرض الإسلام». كل هذا دليل على أن جيل كيبل كان سابقاً لأوانه. ولهذا السبب، نال كل هذه الشهرة في الساحة الفرنسية والعربية والعالمية. لقد اكتشف المشكلة الأساسية للعصر، وجعلها مشكلته الشخصية على مدار أربعين سنة متواصلة.

كتابه عن الجهل المقدس والتدين بلا ثقافة يستحق الاحترام
 الخطأ نفسه الذي وقع فيه المثقفون العرب اليساريون، ألا وهو التهوين من مشكلة الأصولية، واعتبارها مجرد مشكلة اقتصادية اجتماعية عابرة، وما إن تسوى مشاكل المغتربين اقتصادياً حتى تنحل الأصولية من تلقاء ذاتها، وتتبخر وتذوب. جيل كيبل لا ينكر إطلاقاً أهمية العوامل الاقتصادية والاجتماعية في بروز ظاهرة الأصولية وتضخمها إلى مثل هذا الحد، ولكنه يعرف أن لهذه المشكلة خصوصيتها الذاتية التي لا ينبغي اختزالها كلياً إلى العوامل المادية والفقر المدقع. من هذه الناحية، فإن جيل كيبل وريث حقيقي لكبار فلاسفة الأنوار، من أمثال فولتير وديدرو وجان جاك روسو وكانط ورينان وفيكتور هيغو... إلخ.

 فكما أن مشكلة الأصولية المسيحية، وبالأخص الكاثوليكية، كانت شغلهم الشاغل في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، فإن مشكلة الأصولية الإسلامية هي شغله الشاغل حالياً. وذلك لأن الأصولية المسيحية لم يعد لها وجود في أوروبا، وإنما أصبحت نسياً منسياً. فهل تحارب طواحين الهواء؟ أما الأصولية الإسلامية، فهي في عز عنفوانها، ومقدرتها على الضرب والتفجير. وبالتالي، فشيء موضوعي ومنطقي أن تكون الشغل الشاغل للمثقفين العرب. والواقع أن كثيراً منهم لم يهملوها. نذكر على سبيل المثال لا الحصر العفيف الأخضر وجورج طرابيشي وآخرين.

- الخروج من الفوضى

يصدر كتاباً كاملاً، بأكثر من خمسمائة صفحة، وعن «غاليمار»، بعنوان «الخروج من الفوضى الشرق أوسطية!». هل هذا معقول؟ هل هذا ممكن يا ترى أم أنه متفائل أكثر من اللزوم؟ بصراحة، كنت أتوقع أن «البراكين التراثية» الإخونجية الداعشية لن تنضب قبل خمسين سنة مقبلة! ولكن بما أني من أكبر المتشائمين في التاريخ، فربما أكون مخطئاً، بل أرجو من كل قلبي أن أكون مخطئاً! وأرجو في الوقت ذاته أن يكون جيل كيبل على صواب. ماذا؟ إذن الفرج على الأبواب؟ ماذا؟ إذن حالة الفوضى العارمة سوف تنتهي قريباً من منطقتنا العزيزة الغالية؟ ماذا؟ إذن «داعش» أصبحت في خبر كان وأخواتها؟ للحق والإنصاف، فإن المفكر الفرنسي الشهير لا يقول ذلك؛ إنه يعرف أن «داعش» قد تعيد تنظيم صفوفها مرة أخرى بطريقة أخرى، ويعرف أيضاً حقيقة أخطر بكثير، وهي أن مواعظ الظلاميين وفتاواهم الرهيبة، سواء في الجوامع أو على الأنترنت، سوف تغذيها بجحافل جديدة لا تنضب. تضاف إلى ذلك عوامل الفقر المدقع، والبؤس الاجتماعي الذي لا يرحم، والذي يصيب شرائح كبيرة من شعوبنا، سواء في العالم العربي أو حتى في فرنسا ذاتها. كل هذا يعرفه جيداً جيل كيبل، ولكنه يعرف أيضاً أن الجميع أنهكوا وتعبوا. كما يعرف أن دولة «داعش» قد سقطت في الرقة والموصل، وهذا حدث عظيم لا يستهان به على الإطلاق. لقد تنفسنا الصعداء!

من أكبر الأخطاء التي وقع فيها القادة الغربيون أنهم اعتقدوا أن الربيع العربي يشبه الربيع الأوروبي في القرن التاسع عشر، ولهذا دعموه بتسرع شديد وغباء أشد. لقد فاتهم أن ربيع الشعوب الأوروبية جاء بعد الاستنارة الدينية لا قبلها. لقد جاء بعد سحق الظلامية المسيحية على يد فلاسفة الأنوار والثورة الفرنسية، ولذلك نجح. لا ريب في أن ما يدعى خطأ بـ«الربيع العربي» كان يحمل نسمة الريح في جوانحه وبداياته، ولكنه سرعان ما استولت عليه حركات الإسلام السياسي، وبالأخص الإخوان المسلمين، فكان أن فشل فشلاً ذريعاً.

 إذا كان المثقفون العرب يريدون أن يفهموا واقعهم الحالي، وماذا حصل منذ سبع سنوات في المشرق العربي خصوصاً، فليقرأوا هذا الكتاب الضخم؛ إنه يلقي على بلداننا أضواء ساطعة لم يسبق لها مثيل.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق