الافراد في جميع أو كثير من هذه المجتمعات يتمتعون بقدرة كبيرة في الفهم لمطالب الحياة الحديثة ولديهم من المهارة والمبادرة الشيء الكثير، فاللبناني مشهود له في أي مكان هو فيه بالإنجاز، والسوري مبادر ونشط، العراقي مبتكر، واليمني يحمل ثقافة وتاريخ مميزان، والليبي قدم الكثير من المساهمات الفكرية والاجتماعية، والفلسطيني متعلم ويحمل صفة القدرة على النجاة من المخاطر، والجزائري عاش في الغرب وتكيف ولديه القدرة على البقاء، بعد استعمار طويل و قاسٍ. اذاً أين المشكلة؟
في كل تلك المجتمعات يمكن النجاح الفردي وفي الوقت نفسه الفشل الجماعي. أحد أهم صفة مشتركة للثقافة العربية أنها غير قادرة على العمل الجماعي الخلاق والمفيد للمجموع. هذه الظاهرة تحدث عنها عبدالرحمن ابن خلدون في السابق، وعاد اليها في اللاحق المفكر الجزائري مالك بن نبي في أطروحته "ظاهرة القبول بالاستعمار". يبدو للوهلة الأولى أن هناك تناقضاً مبدئياً بين الأهلية الفردية الناشطة، وبين الخمول الجماعي في القدرة على حل المشكلات التي تواجه المجتمع. يرى البعض أن السبب هو الفشل في القيادة، وأن عدم توفر قيادة جامعة وقادرة ومقبولة وعادلة، هو السبب الرئيس لبروز تلك الظاهرة المتناقضة.
ما توفر من قيادات في القرن الأخير للعرب، معظمها شمولية ومؤدلجة ونافرة من بناء المؤسسات. الحزب الواحد والرئاسة الواحدة والقيادة الملهمة، والضرورة التاريخية. في هذا الجو يلتئم المجموع في (قبائل) ولكن ليس عن رضىً وقناعة، بل عن جبر وإلحاق. لو نظرنا حولنا لكل تجارب الفشل نرى أن أوكسيجين الرأى و الرأي الآخر، ليس غير موجود فقط، ولكنه منعدم. ليأذن لي الإخوة الناصريون أو من بقي منهم، أن أنقل رأياً للمرحوم جمال عبد الناصر، على كل ما فعله بحسن نية لوضع العرب تحت الشمس. سُئل مرة: لماذا لا نتيح لحزب غير الاتحاد الإشتراكي العمل في الساحة، رد بالقول: لدينا حزباً "رجعياً" يعمل في الخفاء، فما حاجتنا لواحد علني (مذكرات ثروت عكاشة)، الأمر الذي تكرر في شكل كاريكاتوري في ليبيا القذافي "ملك إفريقيا" وسوريا الأسد "الى الأبد" وصدام "رئيس الضرورة"، و"لولاك ما ظهر القمر "! وعمر البشير "عمر العادل أو عمر الثاني"... إنه إرث ثقافي طويل سمته الرئيسية تأليه الفرد وعدم قبول الرأي الآخر أو إتاحة البناء المؤسسي.
ثقافة القطيع ليست جديدة على الشعوب، فالاتحاد السوفياتي وغيره من الأنظمة الشمولية العدائية، مثل الرايخ الثالث... تراث آدولوف هتلر،
*
الحوار وقبول الآخر
بعد رحيل الاستعمار عن بعض الدول العربية، نشأت ما سمي الأنظمة الوطنية وأطلقت شعارات مؤثرة آنذاك لارتباطها بالاستقلال والأرض والحرية، إلا أنها سرعان ما عادت إلى ممارسة ذات القمع الاستعماري، بمجيء أنظمة عسكرية كرّست الاستبداد والديكتاتورية. المشهد تحول من ليبرالية مشوهة بعد الاستقلال إلى فضاء ملوث بالعنصرية والتمييز الطائفي. لم يعد للمواطنة والحوار والتعايش حيز، بل أصبحت ساحات المدن ميداناً لاشتباكات أهلية وطائفية وتعصب وانغلاق وتخلف؛ ولذا فالعرب وإنْ كانوا قد تخلصوا من الاستعمار إلا أنهم ارتهنوا له مرة أخرى بصيغ وأشكال مختلفة، وربما أشد وطأة.
عوائق ومثبطات في الكثير من دولنا العربية مردها لغياب منظومة دولة القانون والمواطنة وضمانات حقوق الإنسان واحترام الدستور، وهي من الأدوات التي ساهمت في افتقار العرب عملياً إلى السيادة سياسياً واقتصادياً، لا سيما في وقتنا العولمي الراهن الذي أصبح بمثابة عالم للتكتلات. هذه الحالة المأساوية إذا ما أخضعناها لمنهج الملاحظة، نجد أن أهم أسبابها هو غياب الحوار والخشية من التعددية والإصغاء وقبول المختلف واستيعاب الآخر؛ فالإنسان العربي ما هو إلا انعكاس لبيئته، وقاموسه بات مليئاً بالإحباط والصخب والنزق والانفعال ليصبح التحاور لديه ظاهرة صوتية كما وصفها عبد الله القصيمي.
الحوار ظاهرة صحية تؤدي إلى التواصل والإثراء والتفاعل بين فئات المجتمع كافة، بشرط قبوله كما هو لا كما يراد له أن يكون؛ ولذا فالحوار ركيزة أي مشروع ثقافي أو طرح فكري؛ كونه يفرز عادة مواقف متباينة ما يثري النقاش ويعمّقه، إلا أن البعض يجعل منه فرصة للسيطرة والتباهي بسبب تركيبة البعض الثقافية وبنيتهم الفكرية، التي غالباً لا تستسيغ الفكر المخالف لرؤيتها، أو الطرح المعارض لتوجهها، وهذه الفئة لا تعبر عن السلوك السائد للمجتمع، إلا أنها بطبيعة الحال تبقى جزءاً من نسيجه ومؤثرة في سلوكه الاجتماعي، وهذا يعني أن أزمة الحوار ستبقى قائمة ما لم ترتهن إلى قبول المختلف والآخر.
سمة من سمات تنفرد بها العقلية العربية، التي عادة ما تنزع إلى الرأي الأحادي الذي يتوافق مع رغباتها وأهوائها، وفي مجتمعاتنا فئة من تلك النوعية التي تصر على صحة ما تراه، وتقف موقف الرفض أو التشكيك إزاء الرأي الآخر؛ لأنها ترى فيه تهديداً لأمنها أو لمذهبها أو لحزبها أو لسلطتها، والتاريخ في جعبته مليء؛ ولذا بمقدور عمره المديد كشف مثل هذه الحقائق وفضح الغايات التي تجسدت في مؤامرات وتصفيات جسدية وانقلابات عسكرية.
لا شك، هذه الأجواء تصيب المواطن العربي بعدم القدرة على التفكير السليم وتدخله في دوامة السلبية والنكوص، فتجده ينعزل لشعوره بعدم أهميته، وعند المواجهة تجده يمارس نفي «الآخر» بكشف عيوبه والتركيز على النواقص والتهاجي، وكأنه استقى نموذجه من الدولة الأم.
سوء التواصل سواء بين الأفراد أنفسهم أو بينهم وبين الحكومات والمؤسسات الاجتماعية، والتي تأخذ أشكالاً متعددة، منها السخرية والاستخفاف. يقول الدكتور جاب الله موسى «الإنسان العربي يشكّل لنفسه آلية رفض خاصة به تحقق له التوازن النفسي مع نفسه ومع الآخر بأقل قدر من الخسائر في بيئته الاجتماعية، تلك الآلية هي التكور على النفس أحياناً، والنفاق أحياناً أخرى، والذي أصبح جزءاً مكوناً لشخصيته لدرجة صعوبة فصله كسلوك طارئ».
الثقافة الأحادية، يتولد عنها جو من الاختناق؛ وبالتالي فالمصير هو التقوقع وعدم القدرة على التوازن، وهذا ينعكس بالتالي على طبيعة العلاقات الاجتماعية، ناهيك عن تعاطي أي دولة مع الغير في ظل حواجز وتفسيرات واجتهادات ودفع أثمان مكلفة ما كان لها لتحدث لو ارتهنت للحوار كما شهدنا في دول الثورات العربية.
وفي هذا السياق، وفي ظل هكذا مناخ يلاحظ تكريس مفهوم المؤامرة داخل الحيز العربي لسبب أو لآخر، مع أنه قد آن الأوان أن نتخلص من مقولة إن الغرب يتربص بالعرب أو بالإسلام، وتعليق أخطائنا وخلافاتنا وإخفاقاتنا على شماعة الغرب الذي لا يعنيه شيء إلا مصالحه، وعلينا أن نعامله بالمثل مرتهنين إلى العقل والبراغماتية ونسبية الأشياء.
سر النجاح يكمن في أن يكون المرء مستقيماً لا نافعاً، والاستقامة تعني هنا العدالة، أي قدرة الموازنة بين القناعة الذاتية وتقبل الاعتقاد المخالف؛ ولذا فهي معادلة تحتفظ بالمضمون (الاعتقاد الذاتي) والمزاوجة مع تفاعل الآخر (الرأي المخالف) في مساحة تسمح بالتفاعل وتبادل الإيقاع بين الطرفين من دون فرض أو محاولة استحواذ.
تعويد الذات على احترام الرأي المخالف ضرورة إنسانية يتولد عنها تسامح وتعايش؛ مما يقتضي من العرب القيام بحركة نقد معرفية للثقافة والعقل، تحدد من جديد تلك العلاقات التي تربطهم بأنفسهم وبالعالم من حولهم، فالدور للعقل وليس للعاطفة، وإن كان العقل دائماً، هو ضحية القلب كما يقال.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق