الجمعة، 12 مارس 2021

مصطفي النشار اهم المفكرين والفلاسفة المعاصرين إعادة بناء قيمنا الأخلاقية

Mar 6, 2021

 نعيش فوضى أخلاقية عارمة؛ إذ انتشرت الأنانية والشللية وتغلبت فى سلوكياتنا المصلحة الذاتية على المصلحة العامة وأصبح كل منا لا يراعى فى سلوكه نتائج أفعاله على الآخرين ومدى ما يمكن أن يحدث لهم من أضرار نتيجة سلوكه الفردى النفعى الأنانى!! لقد أصبحنا مشغولين بسعادتنا الفردية وتحقيق أكبر قدر منها ولا يهمنا مصلحة أو سعادة الآخرين فى شىء!

 قواعد أخلاقية ثابتة تعيد للإنسان منا كفرد فى مجتمع كرامته بحيث تتوافق المصالح والخيرات الذاتية مع المصالح والخيرات الجماعية. وهنا يجيبنا أمانويل كانط كواحد من أعظم فلاسفة الأخلاق على مر التاريخ الإنسانى فى كتابه الشهير «تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق»-

«إن جميع المبادئ الأخلاقية التى يمكن للإنسان أن يسلم بها إما أن تكون مبادئ تجريبية (أى مبادئ من حياته الفردية المعاشة) أو مبادئ عقلية، والمبادئ الأولى المستمدة من مبدأ السعادة تبنى على العاطفة الفيزيائية أو العاطفة الأخلاقية، والمبادئ الثانية المستمدة من مبدأ الكمال، إما أن تبنى على التصور العقلى للكمال بوصفه نتيجة يمكن أن تترتب عليها أو على تصور كمال مستقل بذاته (أى على إرادة الله) بوصفه علة تتولى تعيين إرادتنا، وفى رأى كانط لا تصلح المبادئ التجريبية لأن تؤسس عليها القوانين الأخلاقية وذلك بالطبع لأن التجارب الذاتية المعاشة تجارب نسبية بنسبية ما يقيس به كل فرد منا سعادته الخاصة! وهذه السعادة– كما يقيسها كل منا تبعاً لمنفعته أو لذته الخاصة أو ما شابه– قد لا تتناسب مطلقاً مع حسن السلوك الذى يصلح لحياة الإنسان بما هو إنسان يعيش فى مجتمع يسعى إلى تحقيق الخير للجميع!

وعلى ذلك اعتبر كانط أننا بحاجة إلى مبادئ أو قواعد أخلاقية مبنية على العقل والعقل وحده سعياً لتحقيق الكمال الإنسانى الذى به يتحقق الخير للجميع. وقد اعتبر كانط أن رأس وأهم هذه القواعد الأخلاقية المطلقة المؤسسة للسلوك الأخلاقى القويم هى «إفعل الفعل بحيث يمكن لمسلمة سلوكك أن تصبح مبدأ تشريع عام» أو بعبارة أدق «بحيث تريد لها أن تصبح قانوناً عاماً لجميع الناس». وهنا حملنا كانط كأفراد عاقلين مسئولية الإصلاح الأخلاقى؛ فلو أعمل كل منا عقله فيما يفعل قبل أن يفعل وتساءل عن مدى خيرية فعله لما وجد خيراً من هذه القاعدة الأخلاقية لكى يسلك وفقاً لها ومن ثم فهو لن يفعل إلا وفقاً لما يصلح أن يكون هو سلوكاً عاماً لكل الناس فى أى زمان وأى مكان. وهذه القاعدة بالمناسبة هى الوجه الآخر للحديث النبوى الشريف «عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به». وكم كان كانط عظيماً حينما عبّر عنها فى صيغة مبدأ آخر يقول فيه «افعل الفعل بحيث تعامل الإنسانية فى شخصك وفى شخص كل إنسان سواك باعتبارها دائماً وفى الوقت نفسه غاية فى ذاتها ولا تعاملها أبداً كما لو كانت مجرد وسيلة»، فهذا المبدأ الأخلاقى الثانى يعنى ببساطة ألا نتخذ الناس فى حياتنا الأخلاقية والاجتماعية مجرد وسائل نحقق من خلالها سعادتنا الفردية، بل ينبغى أن يكون سلوكنا معهم سلوكاً أخلاقياً راقياً إذ يجب أن نعاملهم جميعاً كبشر «كغايات فى ذاتها»

والحقيقة أنه قد فات هؤلاء النقاد أن هذه القواعد الأخلاقية ليست مبادئ عقلية مجردة من العواطف بل على العكس ففى اعتقادى أنه بقدر ما فيها من تجريد وعمومية عقلية واضحة، بقدر ما فيها من مراعاة للعواطف الإنسانية السامية؛ فكونى أعامل كل البشر كما أحب أن يعاملونى به بطريقة فيها مراعاة لخيرى الخاص مع خيرهم ومراعاة لإنسانيتى مع إنسانيتهم، فهذه قمة الأخلاقية الإنسانية عقلًا وعاطفة معاً، إن بتر الفوضى الأخلاقية من أى مجتمع يبدأ من تغليب مصلحة المجموع على مصلحتى أو منفعتى الشخصية والإيمان القاطع بأن كرامتى الإنسانية تتحقق بقدر ما أكون حريصاً على مراعاة كرامة الجميع – جميع البشر أياً كان لونهم أو مكانتهم الاجتماعية. ويا ليتنا نتأسى بهذه المبادئ الأخلاقية الكانطية، فهى تتوافق كل التوافق مع مبادئ كل الأديان وتحقق الخيرية لجميع البشر دون استثناء

*

نحو عهد أخلاقى جديد

ومنذ أن اكتشف المفكرون المصريون القدماء « الضمير» باعتباره جوهر وباعث الأخلاق لدى الإنسان، ومنذ أعلن سقراط فيلسوف اليونان الكبير مبدأه الشهير « اعرف نفسك « وأن « الفضيلة واحدة « وإلى الآن ظل البحث مستمرًا عن أخلاق عالمية واحدة ذات معايير محددة  تعلو فيها المبادئ الأخلاقية السامية على حسابات المنافع والمصالح الأنانية للأفراد والشعوب.

وقد لعبت الأديان سواء الطبيعية أو السماوية دورًا مهمًا فى مسيرة الإنسانية نحو أخلاق عالمية شاملة على أساس أن كل دين يؤمن به أصحابه باعتباره دينًا صالحًا للجميع واعتبار دعوته الإصلاحية الأخلاقية صالحة لكل البشر فى أى زمان وأى مكان. هكذا كانت ديانات الشرق منذ مصر القديمة وخاصة ديانة أخناتون التوحيدية وكذا كانت البوذية والهندوسية والزرادشتية والكونفوشية فيما قبل الميلاد، حتى الديانات اليونانية كانت تتصور نفسها عالمية واتخذت صورها المتعددة وتعاليمها من تأثرها بديانات الشرق القديم فأواصر القربى مشتركة بين الديانات الأورفية والفيثاغورية والأوليمبية بتلك الديانات الشرقية القديمة وأخذت منها أسماء الآلهة وتصوراتها الأخلاقية والدعوة إلى المصير الأخروى واقتران أخلاقية المرء فى حياته الدنيوية بمصيره الأخروى فى الثواب والعقاب.

 ولما ظهرت الديانات الكبرى وخاصة المسيحية والإسلام دعمتا هذه التصورات الأخلاقية والدينية ونقلتها من مجرد التصورات التى يؤمن بها البشر كنتائج لتأملاتهم العقلية فى الوجود والمصير إلى عقائد يقينية لدى المؤمنين بها، وظل أمر ارتباط العقائد الدينية بالتعاليم الأخلاقية عالمية الطابع لدى أصحاب هذه الديانات والمؤمنين بها حتى جاء مطلع العصر الحديث حاملاً معه تباشير ما سمى بعصر العلم وتقهقرت الدعوات الأخلاقية والدينية أمام سطوة العلم الحديث وتطور تكنولوجياته للحد الذى جعل البشر ينغمسون فى حياة مادية تركزت على تلبية المطالب اللذية للإنسان والتى لم تتوقف عند حد، فأصبح اللهاث وراء حياة لذية تكثر مطالبها الشهوانية يومًا بعد يوم هو نمط حياة الناس فى عصر الحداثة وما بعد الحداثة، عصر العولمة وما بعد العولمة، عصر العلمانية وما بعد العلمانية.

إن ما يشهده عصرنا الحالى من انحلال أخلاقى وفوضى سلوكية ينقلب فى إطارها الحق باطلاً والباطل حقًا وتختلط فيه المشاعر الإنسانية بالرغبات الحيوانية. وتتعدد التصورات الأخلاقية بتعدد المجتمعات وبتعدد النظرات النسبية لمفهوم الحياة عند الأفراد والجماعات. إن كل ذلك يعد دافعًا لإعادة النظر من خلال إعادة السؤال القديم – الحديث: هل يمكن إقامة أخلاق إنسانية عامة يتفق حولها البشر ؟!

أعتقد أن ذلك ليس أمرا صعبا فى ظل ظاهرة جائحة كورونا التى ساعدت فى بدايتها فى توحيد المشاعر الانسانية وجعلت العالم كله يتجه نفس الوجهة ويتساءل نفس الأسئلة ويبحث عن نفس الاجابات . لقد علت آنذاك قيمة العلم على قيمة السلاح وتعالت صيحات الأخوة الانسانية والمصير المشترك للبشرية محاولة التغلب على مظاهر الانقسام والصراع . لكن الطريف أن البشر وبالذات فى الدول المتقدمة لم يستوعبوا الدرس جيدا بعد، فعادوا إلى روح الأنانية والتنافس واحتكار اللقاحات وتأجيج الصراعات ؛ إذ لم يتأثر دعاة الصراع والارهاب الدولى فظلوا على مواقفهم المخيبة لآمال البشر فى عصر جديد يسوده السلام والمحبة والأخوة العالمية . لن يكون ذلك العهد الأخلاقى الجديد  ممكنا فى ظل وجود قوى دولية لاتزال تحتل أرض الآخرين وتستبيح ثرواتهم ، وفى ظل وجود ارهاب دولى يستخدم أذرعه وميليشياته فى ضرب استقرار الدول ، وفى ظل صراع محموم على السيادة بين الدول الكبرى وكأن العالم أمامهم لوحة من قطع الشطرنج تجرى عليها صراعاتهم !!

إن الأمل فى عهد أخلاقى جديد لايزال بعيدا رغم أنه كانت هناك فرصة سانحة لذلك لم نتعلم منها الدرس بعد .. فهل نحن فى انتظار كوارث عالمية جديدة لكى نعود بشرا متحابين مسالمين يعيش كل منا على أرضه فى سلام ؟!!


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق