العقل العربي في التراث غير العقل العربي المعاصر، وهذا ما يثبت أن العقل العربي بوصفه فكراً موجود قبل أي ثقافة، مثلما أن عقل أوروبا في العصر الوسيط غير عقل أوروبا في عصر النهضة. ثم دعا غليون إلى تأسيس عقلانية حديثة بين أزمة المجتمع وأزمة الفكر والثقافة، وبهذا المعنى نجد أن من مظاهر الاختلاف بين المفكرين العرب المعاصرين المشتغلين بإشكالية العقل والعقلانية، أن يدعو بعضهم إلى استعادة التراث استعادة نقدية، أما بعضهم الآخر فيرى أن ما يفيد هو طي الصفحة وقطيعة نهائية مع التراث.
العمل العلمي الذي أنجزه «الراحلان محمد أركون ومحمد عابد الجابري، منذ ثلث قرن؛ الأول في نقد العقل الإسلامي، والثاني في نقد العقل العربي، لوجدنا أن مشتَرَكاً معرفيَّاً قام بين العَمَليْن المتزامنين؛ في الموضوعية والغاية المعرفية من النقد، إلا إن مساحات الاختلاف بينهما في المناهج، والنظام المفهومي، وطريقة المقاربة، ومساحة الموضوع المقروء، واسعة وغير قابلة للتجاهُل، لأسباب عدة؛ أقلها الاختلاف في المصادر المعرفية، وفي عُدّة الاشتغال النظرية، وفي الاستراتيجية المعرفية».
يأتي كتاب «تكوين العقل العربي» لمحمد عابد الجابري في تحديد موقفه من: «العقل العربي الذي قال عنه إنه يفكر بطريقة معيارية... أي إنه يَختزل الأشياء في قيمتها فتضيق، ولا يبقي لها مجالاً للتحليل أو بعد النظر. إنه قليلاً ما يتمكن من فعل العكس وهو التفكير بطريقة موضوعية وتحليل الأشياء من حوله»، لذلك لا يستطيع أحد أن ينكر أن الحضارة الإسلامية، مثل غيرها من الحضارات، لم تنشأ من فراغ ولم تظهر من العدم؛ بل سبقتها حضارات عريقة أثرت فيها، واستنبط العقل الإسلامي منها مشروعاً علمياً مميزاً؛ لأن العقل العربي من قبل الإسلام اتصف بنوادر عدة لم يجدها الغرب في زمانهم، وقد كوّن مساحة من الاختلاف حوله؛ فمنهم من تساءل: هل ثمة شيء اسمه فكر عربي؟ وهل الفكر العربي حي يرزق أم إنه لم يولد أصلاً؟
نعم يوجد فكر عربي مستقل عن الثقافة الغربية وعن الثقافة الإسلامية، فقد أدرك العرب قبل الإسلام علوماً عظيمة في جميع التخصصات والأقسام، وما أحرزه العالم في هذا العصر نتيجة تركيبات عتيقة طورها العقل من قيمها الأساسية قدم العلماء حزمة من المعارف استفاد منها الغرب واستمرت إلى ما بعد ظهور الإسلام، فإذا ذهبنا إلى ما انتهى إليه البعض في تحليل العقل العربي، فإننا نجد أن الخطابين العربي والإسلامي القديم اقترنا في التعريف، ولا يمكن أن نذكر الخطاب العربي دونما نتبعه بالخطاب الإسلامي.
العربي المعاصر يستمد علومه وطاقته المعرفية من المادة الدينية، وما نخلص إليه في هذا الظهور الجديد هو ما حملناه معنا في عصرنا من تراث بعضه مناسب والبعض الآخر لا يصلح لأن يكون حياً، وقد صنع تناقضات ذاتية في قلب القاعدة الاجتماعية.
وعلى هذا الأساس تبنى الجابري المنهج الإبستمولوجي بغية التمكن من تفكيك العقل العربي والكشف عن مكوناته، ولم يدخل في مضمار العلوم الإنسانية والمجتمع.
يبدو أن مقاربة الماضي بالحاضر لها أهمية في العقل العربي وتأثره بالموروث من ناحية؛ والانخراط في عصر المستجدات من ناحية أخرى، مما يجعلنا نجزم بأن الثقافات الثلاث ينفصل بعضها عن بعض، وكل ثقافة لها فوائد على الأخرى، ويصعب التحرر من الربط بينها لولا اجتهادات كثير من العلماء والباحثين والمفكرين لتوضيح وتفنيد أن الفكر العربي موجود قبل أي ثقافة ينتمي لها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق