ضرورة القيام بثورة إصلاحية من داخل الدين نفسه، حفاظاً على بقائه واستمرار جماعة المؤمنين به. لذلك ليس صدفة أن من قاموا بالإصلاح الدينى فى المسيحية واليهودية كانوا فى الأصل من رجال الدين. فى المسيحية، قاد لوثر وكالفن، وغيرهما، عملية شاملة لإعادة تعريف المسيحية باعتبارها رابطة فردية بين الإنسان والرب، لا مكان فيها لسلطان الكنيسة. فى اليهودية، قاد «موسى مانلدسون» ما يُسمى بالـ«هاسكلاه»، أو التنوير اليهودى، فى القرن الثامن عشر، لإخراج المجتمعات اليهودية فى أوروبا من عزلتها. السؤال هنا: ما الذى يدعو رجالاً من داخل الجماعة الدينية إلى إدراك حتمية الإصلاح؟.
الإجابة أن أى منظومة دينية تقوم على مجموعة من المُعتقدات والعقائد التى تُشكل أسلوب حياة الجماعة ونظرتها للعالم. هذه المعتقدات والعقائد الثابتة ترتبط فى الغالب بنصوص تنظم الحياة، كما هو الحال مع الأديان الإبراهيمية الثلاثة. المشكلة تبدأ عندما تصطدم النصوص بالواقع كما يعيشه الناس، خاصة إذا شهد الواقع تغييرات جذرية فى مفرداته. والحال أن هذه التغييرات الجذرية كانت نادرة الحصول فى العصور القديمة، ثم تسارعت وتيرتها منذ عصر النهضة والكشوف الجغرافية، وما ارتبط بهما من صعود الرأسمالية، ثم جاء التغير الأخطر مع عصر الصناعة باعتباره نقلةً نوعية فى حياة البشر.
أمام متغيراتٍ عميقة ومتسارعة، تجد الجماعة الدينية نفسها فى مأزق. أهلها يريدون العيش بنفس الطريقة التى حفظت لهم بقاءهم لقرونٍ عدة. على أن عمق المتغيرات حولهم يجعل هذا الخيار أصعب مع الوقت. لا قضية تُلخص عمق هذا المأزق قدر قضية الربا. لقد حرمت الأديان الإبراهيمية الثلاثة الربا، واعتبرته البوذية والهندوسية أيضاً محرماً. بل إن الكثير من فلاسفة العصور القديمة- مثل أفلاطون وأرسطو- اعتبروه نوعاً من الظلم الشديد والإجحاف بحق الغير، وسار على خطاهم «توما الإكوينى» وغيره من رجال الكنيسة فى العصور الوسطى. السبب أن الربا- خاصة بفائدة كبيرة- كان مرتبطاً بسقوط الكثير من الناس فى أسر العبودية، وهو ما كان يحدث فى اليونان القديمة مثلاً.
على أن اليهودية اعتبرت أن الربا مع الأغيار- أى غير اليهود- مُباح. وهذا هو السر وراء عمل اليهود فى إقراض الأموال فى كثير من المجتمعات المسيحية والإسلامية التى حرمت الربا، وحرمت- كذلك- عمل اليهود فى أغلب الحرف والطوائف، فلم يعد أمامهم سوى المُعاملات المالية. وربما كان هذا هو السبب الكامن فى الكراهية التى تأصلت وترسخت ضدهم فى المجتمعات الأوروبية عبر قرون.
والحال أن حركة الإصلاح الدينى قد ترافقت مع بزوغ الرأسمالية فى المدن الأوروبية، حيث صارت التجارة مصدراً رئيسياً لثراء هذه المدن. ودرس قادة حركة الإصلاح مسألة الربا، ورفضوه من حيث المبدأ (لأن تحريمه واردٌ بنص فى الكتاب المقدس)، إلا أن لوثر وكالفن أباحاه فى نطاق معقول، وحددا الفائدة المباحة فى حدود 5%. ولا شك أن هذا الاجتهاد الدينى لعب دوراً هائلاً فى دفع عجلة الرأسمالية، خاصة فى المجتمعات البروتستانتية، وعلى رأسها إنجلترا وهولندا.
غنىٌ عن البيان أن مسألة الربا ظلت حتى عهد قريب موضع خلاف كبير فى العالم الإسلامى. هناك آراء تذهب إلى أن عدم الأخذ بنظام الفائدة يُعد سبباً رئيسياً فى تأخر المسلمين اقتصادياً. والثابت أن الإمام محمد عبده لما سُئل عن موقف الشرع من حوافز أو مكافأة التوفير فى صندوق البريد، أجاز هذا الأمر مع التأكيد على أن الحكمة فى تحريم الربا ألا يستغل الغنى حاجة أخيه الفقير، وعلى هذا النهج سار الشيخ شلتوت.
جوهر الأزمة يتعلق غالباً بالتصادم مع العصر. الحل، فى أغلب الأحوال، يأتى من قادة ورواد من داخل الجماعة الدينية يُدركون خطورة هذا الصدام على حال الجماعة ومستقبلها
محمد عبده وطه حسين وعلى عبد الرازق وغيرهم، جاءوا كلهم من الأزهر. لسببٍ ما، لم تصل هذه العملية فى العالم الإسلامى إلى غايتها المنشودة.
نكوص المسلمين عن خوض غمار العملية الإصلاحية التى خاضتها الأديان المختلفة من أجل الحفاظ على بقائها وبقاء جماعة المؤمنين بها عبر الزمن.
لا أبالغ إذ أقول إن الإصلاح فى الإسلام هو ضرورة بقاء.
*
الإصلاح الديني الأوروبية
الحرية هي نتيجة التنافس الديني، ولولا هذه الاختلافات الدينية لضاعت الحرية في ظل السلطان المطلق للملوك. فقد عملت الصراعات الدينية الأوروبية في النصف الثاني من القرن السادس عشر على تمهيد السبيل للثورات الديمقراطية في القرن السابع عشر ولعصر التنوير في القرن الثامن عشر.
*
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق