غير موفق بالنّظر إلى تمركز الحدث الفلكي في نقطة معينة من الزمان والمكان (ستة أشهر وفق الفيلم)، مقابل مسألة المناخ التي تأخذ عقوداً طويلة قبل لمس الدمار الذي ستجلبه للكوكب،
المأساة التاريخية للنخب الحاكمة في عجزها المتكرّر منذ الحضارات الأولى عن التصرّف لمصلحة الأكثريّة ولو كان وجودها نفسه، كنخبة، مهدّداً بالزوال (أنظر كتاب جوزيف تينتر المرجعي «سقوط المجتمعات المعقدّة
» The Collapse of Complex Societies).
صيغة التعامل الموغلة بالفوقيّة والاستعلاء تجاه الكتلة الهلاميّة المسماة الشعب الأميركي في «لا تنظر إلى الأعلى» بدت شديدة المباشرة ومحمّلة باحتقار، ليس غريباً بالطبع في نظرة النخبة الأميركية البيضاء للآخرين سواء في الولايات المتحدة أو خارجها. فالجمهور المحليّ وفق ماكاي قطعان من البشر الهائمين الذين يسهل التلاعب بهم عبر الميديا ووسائل التواصل الاجتماعي، ويسقطون في الثنائيّات المختلقة (أنظر للأعلى، لا تنظر للأعلى)، ويؤمنون بالخزعبلات الدينية والشعارات السياسيّة. وعندما يثورون، يمارسون فوضى عبثيّة ضد بعضهم أقصاها تحطيم زجاج (المقاهي أو المصارف). أما بقيّة الكوكب (روسيا والصين والهند تحديداً)، فتفشل قبل أن تبدأ بالتعامل مع المُذَنّب (لا يذكر الأوروبيّين كجزء من هذا الفشل بوصفهم بيضاً مثلنا نحن الأميركيين). والخلاصة أنّ أمل البشريّة الوحيد وخلاصها يظلّ رهن نجاح النظام الأميركي حصراً في إدارة الأزمة، وإلا فالكارثة.
الفيلم نوع من منتجات ثقافة النخبة الأميركية (سينما وكتب وأغان...) التي تعدّ لاستهلاك الكتل الشعبية بوصفها قطعاناً من السذّج والحمقى المحتاجة لتبسيط الأمور المعقدة كي تصلها الفكرة (على نسق أغنية البوب التي يلجأ إليها العلماء المحبطون في الفيلم لتحذير الجمهور من خطر المذنّب أو سلسلة كتب «...للحمقى» المعروفة) رغم أنّه نفسه يتناول بالسخرية جوانب من الحماقات الأميركية.
ليس التهديد للبشرية آتياً من الفضاء الخارجي، وأزمتها ليست إيلون ماسك أو دونالد ترامب كأشخاص. وسواء نظرنا إلى الأعلى أو لم ننظر، كما انقسم الأميركيون وفق آدم ماكاي، فإنّنا نبحث عن المشكلة والحلّ في المكان الخطأ. فلننظر أمامنا: إنها نخبة واشنطن، القاتلة، وإنقاذ البشرية والكوكب يمرّ اجبارياً بإسقاطها... حتى اسألوا جوليان أسانج.
استهتار الدول الكبرى، وأنانيتها في توزيع اللقاحات، وتضارب الآراء بين العلماء، أطلّ عمر الجائحة وراح ضحيتها الملايين.
مستوحاة من شخصيّة الرّئيس الأميركي السّابق دونالد ترامب، شخصية هزيلة، ساذجة، مستهترة، أنانيّة، تحاول استثمار الكارثة لتزيد أصوات المؤيّدين لها قبل الانتخابات.
استوحى المخرج شخصيته من دكتور فاوتشي كبير علماء البيت الأبيض، شرح نظريته للرئيسة، تتدخّل مساعدته ديباسكاي لتبسيط المسألة، لكن الرئيسة لا تعير الكارثة أي اهتمام، على طريقة ترامب الذي قال في بداية الجائحة إنّ كورونا هو «مجرد رشح» داعيا الناس إلى الالتحاق بأعمالهم، لتتربع الولايات المتّحدة لاحقا على قائمة الدّول التي سجّلت أكبر عدد لضحايا كورونا.
فيختاران برنامجا جماهيريا في محطة مرموقة، وهناك يصطدمان بكم السطحية التي تتعاطى بها وسائل الإعلام مع القضايا الكبرى، وتفضيلها المسائل الخفيفة، مثل انفصال نجمين وعودتهما، على مذنب يهدّد كوكب الأرض.
لا تصغي وسائل الإعلام إلى الصوت المنخفض، تضطر كيت (جينيفير لورانس) إلى الصراخ «سوف نموت جميعاً» لتتحوّل إلى مادّة ساخرة على مواقع التواصل الاجتماعي.
يعرّي الفيلم الإعلام الأميركي، واستخفافه بالقضايا الكبرى، وضحالة المذيعين، وميل دفّة الأخبار التافهة لتكون هي الحدث، على حساب القضايا التي تمسّ حتى الوجود الإنساني.
ويعرّي المجتمع القائم على «الترند»، حيث يخضع كل شيء للموضة، بما فيها قضايا الموت والمرض ونهاية العالم.
يعرّي الفنانين الذين يسارعون إلى اقتناص الفرص، عندما تقف أريانا غراندي على المسرح تغنّي لنهاية العالم.
يدير حملتها ابنها الذي لا يقلّ عنها سطحية، يقول صناع العمل إنّ هذا الأخير مستوحى من إيفانكا ترامب.
تواطؤ السلطة والمال، عندما يقنع مالك شركة هواتف كبرى، مستوحى من شخصية إيلون ماسك الذي اقتحم الفضاء، بإقناع الرئيسة بأنّ المذنب الذي ينصح العلماء بتوجيه رؤوس نووية لتفتيته قبل أن يفتّت الأرض، يحتوي على معادن ثمينة ستجعل الولايات المتّحدة أغنى بلد في العالم، وستعزّز موقعها بين الدول، وينصح باستخدام أسلوب جديد لتخفيف الارتطام بدل القضاء على مذنب الذهب والمعادن الثمينة.
المؤمن يصلّي، والملحد ينظر إلى السماء لا يدرك كيف يناجي خالقا لم يؤمن به يوماً، والعائلات تجتمع، وبعضها يتفرّق، والخائن يعود طالبا السماح، والموظفون يتركون أعمالهم فلا شيء يستحق العناء في كوكب على شفير الرحيل، والطعام يصبح طعمه ألذ، والذاكرة تنشط، والخوف يقوى عند البعض، ويخف عند البعض الآخر، فالموت الجماعي يعزّز فكرة أنّ لا أحد سيبكي على أحد، ولا أحد سيبكي بالمطلق لأنّها ستكون نهاية حتميّة بعدها ليس ثمّة من يخبر ماذا حصل.
نهاية الفيلم أقلّ ما يقال عنها إنّها نهاية مهيبة تعطي أعذارا تخفيفيّة لعثرات الفيلم
«لماذا لا يصدّق الناس الحقائق الماثلة أمامهم؟»،
*Jan 5, 2022
البديل الذي يطرحه الفيلم هو إدمان النظر إلى الأسفل، إلى شاشات الموبايل التي شكّلت وعي جيل مأزوم
الكوميديا السوداء ومجتمع السطحية والتفاهة المنشغل بسفاسف الأمور والذي يمكن أن يغرق في بحر من الأكاذيب ويصدقها من دون أن يفكر ولو للحظة أن يبذل مجهودا لدحضها.
الترويج للسياسيين على أساس الفذلكة الكلامية والألاعيب اللفظية والوعود الكاذبة وإغراق الناس في الوهم.
واقعيا إن البديل الذي يطرحه الفيلم هو الغرق في النظر إلى أسفل دوما، الانغماس في النظر بل إدمان النظر إلى الشاشات ومن أهمها شاشات الموبايل التي في حد ذاتها مع دوامة وسائل التواصل الاجتماعي والانغماس في التعليقات وتبادل الصور وألعاب الفيديو قد شكّلت وعي جيل مأزوم بإمكانه أن يصدق أي شيء بشرط ألا يطالبه أحد أن تفارق عيناه الشاشات والنظر إلى أسفل بدلا عن النظر إلى الأعلى أو محاكمة ما يسمع.
*Jan 10, 2022
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق