السبت، 15 يناير 2022

الاقتصاد المصري

  سألوا موشي ديان بعد نكسة 1967 عن سبب انتصار إسرائيل رغم نشرها المُسبق لخطط هجومها على العرب، أجاب: " العرب لا يقرأون، وإذا قرأوا لا يفهمون، وإذا فهموا لا يستوعبون، وإذا استوعبوا لا يطبّقون، وإذا طبّقوا لا يأخذون حذرهم"، ويبدو أننا ما زلنا لا نقرأ ولا نفهم ولا نستوعب، ناهيك عن أن نطبّق.

لا تستطيع الحكومة التدخل في الاقتصاد إلا من باب الإنفاق على البنية التحتية بالأساس، والذي أصبح بذاته قلب استراتيجية تنموية كاملة، تظنها الحكومة المصرية مدخلاً لبناء سوق رأسمالي وجذب استثمار خاص محلي وأجنبي لبناء قطاع خاص فاعل في مصر، وما أكثره شططًا من وهم.

ظلت معظم استثمارات القطاع الخاص محصورة بالأساس في القطاعات الريعية والخدمية من تجارة وسياحة وعقارات ..إلخ، ولم تسهم مساهمة جادة في نمو الإنتاج السلعي وتطور الصناعة المحلية والتصدير للخارج، بل لعلّها لعب الدور الأكبر في تضخّم الواردات المصرية منذ بدأت سياسة الانفتاح في أواسط السبعينات، عندما تضاعفت عدة مرات، وظلت أعلى من الصادرات بما تراوح ما بين الضعفين والثلاثة أضعاف طوال أربعة عقود.

متناسية حكمة أينشتاين الكلاسيكية، أن الغباء هو تكرار محاولة ذات الشيء مع افتراض اختلاف النتيجة.

والمعضلة هنا أن الغباء يجري تكراره بحذافيره، فتوسّع هائل في الإنفاق على البنية التحتية بالمديونية الخارجية هو بالضبط كل ما كان يفعله مبارك اقتصاديًا طوال عقد رئاسته الأول، بلا أي فارق حقيقي أو جوهري.

ويبدو أن الرهان حاليًا هو ذاته الرهان وقتها، وهو الإنقاذ بأثمان سياسية، وتبريد تلك الديون المتفاقمة بالتنازل عن بعضها وإعادة جدولة بعضها الآخر، يومًا ما.

أعقد من مجرد غباء

مجرد الغباء أو الجهل، فالحقيقة أن إشكالات الاقتصاد المصري ليست بذلك التعقيد، ولسنا بحاجة لاكتشاف النار، ولا إعادة اختراع العجلة لفهم جوهر أزماتنا وعلاج أساس تخلفنا وفقرنا، فجلّ ما نحتاجه هو تحرير ذلك الاقتصاد من شبكات المصالح التي تعوق تطويره أولاً وقبل كل شيء آخر.

فحتى بفرض سارت مصر في اتجاه تنمية رأسمالية تقليدية تمامًا، وبفرض توفّرت كافة الشروط البنيوية الداخلية والخارجية، فإن اكتمال تحوّل رأسمالي وتكوّن سوق حرّة حقيقية بالمعاني الفيبرية، ستظل أمورًا في حكم الاستحالة طالما ظلت البيروقراطية واللامؤسسية والمحاسيبية المسيطرة، التي أحالت الاقتصاد لما يشبه "الإقطاعات" المُوزّعة على مجموعة من الفئات والعائلات والمؤسسات، بشكل أبعد ما يكون عن السوق الحرة، وآليات المنافسة والفرز بالكفاءة؛ بشكل لا يكتفي بإهدار الموارد وخسارة الفرص، بل يزيد الطين بلة بصد وتنفير أي إمكانات بديلة، بطرده أي بدائل محتملة من تلك "السوق المُغلقة إقطاعيًا"، إن جاز التعبير.

الثمن المُزدوج للرأسمالية المُبقرطة التابعة

هنا تتجلّى معضلة مصر الكبرى، التي بسببها تدفع ثمنًا مزدوجًا للتطبيق المُختل للرأسمالية فيها؛ وذلك بسبب وقوعها بين قوتين متحالفتين رغم اختلافهما، فالبيروقراطية الحاكمة حليفة البورجوازية المصرية تضمنان مصالحهما المعوّقة للتطور والنمو بأشكال ما قبل رأسمالية، لكن في الإطار الشكلي للأيديولوجيا والتطبيقي للبرامج النيوليبرالية المهيمنة عالميًا.

فتتحالف على مصر "التبعية للخارج" ومصالحه من خلال طبقة حاكمة عاجزة وراغبة عن اتخاذ موقف وطني مستقل، مع "المصالح ما قبل الرأسمالية" لتلك الطبقة ذاتها التي تمتلك هنا القوة الكافية للدفاع عن مصالحها الضيقة فقط؛ لينتج لنا ذلك الكيان المُشوّه من رأسمالية تابعة تحرّكها مصالح الخارج، لكن تحت قيادة تحالف رأسمال تجاري مع بيروقراطية شبه إقطاعية (أو باترومونيالية بالتعبير الفيبري)؛ لتصبح رأسمالية لها كل رذائل الرأسمالية، لكن دون سوق حرة أو شبه حرة، وبدون فضائلها ولو جزئيًا، من منافسة ومؤسسية ومعيارية وحكم قانون ..إلخ.

يقتل هذا الوضع أي ديناميكية مُحتملة يمكن أن تقود لتطوّر كيفي يتيح الاستفادة من أي فضائل أو مزايا محتملة من الرأسمالية ويغيّر الوضع الاقتصادي والاجتماعي بشكل جذري؛ ليتحوّل الاقتصاد لمجرد ثقب أسود لانتزاع الفوائض وتوزيعها بممارسة تشبه التوزيعات المافياوية عبر عُقد ومفاصل الهيمنة والتبعية بين الداخل والخارج.

فيما تتراكم التكاليف والخسائر المحلية لتتضخّم الأزمات الكامنة في جسم الاقتصاد الراكد بغياب التصنيع المستقل وتكلّس السوق التي تحتويه، مع تكرار الدورة الاقتصادية بفجوات تجارية ومالية ونقدية يجري سدّها باستمرار باقتراض من الداخل والخارج (الدين العام)، ومن الحاضر (بالجباية) والمستقبل (بالتضخّم)؛ ليظل الاقتصاد في حالة من المديونية الدائمة والتدهور المستمر للعملة، ناهيك عن التكاليف الاجتماعية.

تتجلّى مظاهر ذلك وجذوره معًا، في استمرار نمط النمو الذي تغلب عليه الخدمية والريعية غير المُنتجة، مع تدهور نصيب القطاعات السلعية في الاقتصاد لصالح القطاعات الخدمية، وتحقّق جزء كبير من النمو من صادرات أوّلية غير متجددة ومحدودة القيمة المُضافة كالبترول، ومن قطاعات خدمية متقلبة الأوضاع والعوائد كالسياحة، ومن ريوع جيوبوليتيكية كعوائد قناة السويس وتحويلات المصريين العاملين بالخارج؛ لا عجب في تقلّب هذا النمو وتدهوره مع الزمن، وسوء توزيع عوائده، وعدم شعور المصريين بآثاره في مستويات معيشتهم المتدهورة.

إن نمو الجسد الاقتصادي يمكن تشبيهه بنمو الجسد البشري، فالجسد البشري يلزمه نمو متوازن في العضلات واللحم والدهن، وكذلك الجسد الاقتصادي، فهو بحاجة لنمو متوازن وتناسبي بحسب مرحلة تطوره في كلٍ من العضلات (أي القوى الإنتاجية)، واللحم (أي الإنتاج السلعي المادي)، والدهن (أي الإنتاج الخدمي).

فإذا اختلت العلاقات بين مكونات النمو الثلاثة؛ كان نموًا مختلاً غير آمن ولا مستقر ولا مُستدام، وتجربة مصر منذ الانفتاح الاقتصادي تفرض عليها الانتباه لنمط نموها الشحمي الذي غلبت عليه الدهون، وتغييره إلى نمط نمو عضلي لحمي، تغلب عليه تنمية القدرة الإنتاجية وتعزيز الإنتاج المادي، الأمر الذي يعود بنا لنقطة البداية، أن كل شيء يبدأ بالسياسة وينتهي إليها، أي ضرورة تحرير ذلك الاقتصاد من شبكات المصالح المحلية المُتكسّبة من احتكار السوق المحلية والتطفّل الريعي على المجتمع، ومن إغلاق المنافذ على ما سواها وتوزيع الكعكة الاقتصادية عبر قنواتها عمومًا، وبالمثل من التبعية الخارجية التي تسيّد رأس المال التجاري على ما سواه من قطاعات رأس المال الأكثر إنتاجية؛ فتعوق التعميق الصناعي والتطوير السلعي الذي لا بديل عنه كمسار تنموي لبلد كثيف السكان كمصر.

*

مصر بحاجة ملحة إلى تهيئة المناخ الجاذب للاستثمارات، وإلى مصالحة مجتمعية تنهي حالة الانقسام داخل المجتمع وتطمئن المستثمر وتدعم الاستقرار

والبداية تكون بالقضاء على المنافسة غير العادلة التي يتعرض لها القطاع الخاص المولد الحقيقي لفرص العمل، والمحرك الأساسي لزيادة الإنتاج القابل للتصدير والمساهم في سد احتياجات الأسواق المحلية من السلع الضرورية.
والتشجيع بحاجة أيضا إلى تقليل التكاليف التي يتحملها المستثمر، سواء المتعلقة بالإنتاج، مثل الطاقة التي شهدت قفزات خلال السنوات الأخيرة خاصة الكهرباء والغاز الطبيعي، أو الضرائب والقيمة المضافة والتأمينات.

كذلك، نجد أن المستثمر في حاجة إلى أموال رخيصة تتطلب خفض سعر الفائدة داخل البنوك وسهولة الوصول إلى القروض المصرفية، وتقليل منسوب الفساد والبيروقراطية والتعقيدات الإدارية عند منح التراخيص وتخصيص الأراضي.

فالقطاع الخاص، سواء المحلي أو الأجنبي، هو القادر على إقامة المجمعات الصناعية الحديثة والمشروعات الإنتاجية والفنادق السياحية وإعادة تأهيل آلاف المصانع المغلقة، والموانئ، ومشروعات توليد الكهرباء وغيرها.

وهو القادر على استيعاب الخريجين الجدد، وهو الذي يمتلك الإمكانات لتزويد العمالة بالخبرات والتدريب الحديث، وقبلها بالأجر المناسب والتأمين الطبي والتقاعدي. 
أما الحكومة، فقد توقفت عن استقبال العمالة الجديدة، ولديها خطة مع صندوق النقد الدولي بتقليص عدد العاملين في الجهاز الإداري للدولة عبر عدم استقبال خريجين وموظفين جدد، وبالتالي لا يجب الرهان عليها في حل أزمة البطالة على المدى البعيد والمتوسط، أما على المدى القصير، فقد تستوعب جزءاً من العمالة في المشروعات الكبرى التي تعمل عليها، ومنها العاصمة الإدارية الجديدة.

وتشجيع الاستثمار، المحلي والأجنبي، هو المدخل الأمثل لعلاج أزمة عجز الموازنة العامة. فعندما ينشط القطاع الخاص في المجتمع، وتدور عجلة الإنتاج، وتؤسَّس مشروعات جديدة وتزيد خطوط الإنتاج، هنا ترتفع الإيرادات الضريبة للدولة، سواء من القيمة المضافة أو ضريبة الأرباح الرأسمالية أو الجمارك أو الرسوم الحكومية وغيرها.

كذلك نجد أنّ تشجيع مشاركة القطاع الخاص في تمويل مشروعات قطاع البنية الأساسية والمرافق والخدمات العامة يخفف العبء عن كاهل الموازنة العامة في تمويلها، وهو ما يتيح للحكومة توجيه هذه الموارد لخدمات أهم للمواطن مثل رغيف الخبز والتعليم والصحة وشبكات المياه والصرف الصحي والطرق والكباري.

وتشجيع الاستثمار هو المدخل لزيادة إيرادات الدولة من النقد الأجنبي وعلاج عجز الميزان التجاري ودعم العملة المحلية واستقرار سوق الصرف.
فزيادة الإنتاج داخل الأسواق يترتب عنه ارتفاع فاتورة الصادرات، أهم مصدر للنقد الأجنبي في البلاد، والحدّ من فاتورة الواردات، وجذب الاستثمارات الأجنبية من الخارج للدخول في شراكة مع القطاع الخاص المصري.
وهذا يعني تدفق مزيد من السيولة الدولارية على مصر، وتوفير عشرات المليارات من الدولارات التي تُحوَّل إلى الخارج لسدّ فاتورة الواردات البالغة قيمتها نحو 41 مليار دولار في النصف الأول من العام الجاري، وقد تتجاوز 80 مليار دولار هذا العام مقابل صادرات تبلغ نحو 30 مليار دولار في المتوسط. 

دعونا نعترف بأنّ القطاع الخاص المصري يعاني بشدة، وأنّ مستثمرين كُثراً أغلقوا مصانعهم وسرِّحوا العمالة بسبب تراجع الإيرادات والمنافسة غير العادلة التي يتعرضون لها والتي تحدث عنها كثيرون، وآخرهم الملياردير نجيب ساويرس.

لو اهتمت الحكومة بملف الاستثمار ما احتاجت إلى تعويم الجنيه، والحصول على قروض خارجية ضخمة، أو زيادة الأسعار وخفض الدعم


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق