الاستبداد الذي تعاني منه المنطقة العربية هو الغول المتوحش والإرهاب الحقيقي الذي يجب على الجميع -حكاماً ومحكومين- أن يعملوا على مواجهته واصطياده والتخلص منه، حتى تتمكن المنطقة من تحقيق الاستقرار والتنمية وبناء الإنسان القادر على صناعة المستقبل المشرق والمحافظة عليه وتطويره، ولكن يبدو أن هذا حتى الآن يعتبر ضرباً من الخيال، فالجهات الداعمة للاستبداد -خارجياً وداخلياً- تبذل جهوداً حثيثة ومتواصلة لضمان استمرار الاستبداد في بلداننا، والقضاء على أي محاولة لتصحيح مسار الحكم فيها بما يحقق استقلاليتها ويعزز سيادتها ويدعم تماسكها ويضمن تفوقها.
أما خارجياً، فقد كانت الديمقراطية والمدنية الحديثة هي ما وعدت به الدول الاستعمارية قادة المنطقة إذا وقفوا إلى جانبها في الحرب العالمية الأولى، وانتهت الحرب العالمية لتتقاسم الدول الغربية المنتصرة المنطقة العربية وتوزعها إلى دويلات محتلة خاضعة لسيطرتها. ولم تخرج منها إلا بعد أن غرست بذور الاستبداد فيها واطمأنت إلى سلامة غرسها، واستمرت في تغذيته ورعايته إلى يومنا هذا، وكل ما تتشدق به حول دعمها للحرية والديمقراطية هو محض هراء لا أساس له من المصداقية والجدية، إنها ترعى الديمقراطية في بلدانها، وتحافظ عليها لشعوبها، أما بلادنا فلتحترق ولتذهب إلى الجحيم.
وأما داخلياً، -وهو الأشد خطراً والأكثر ألماً- فهو دوائر أصحاب المصلحة الذين يعتقدون أن مصالحهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية أكثر أماناً واستقراراً وضماناً مع الأنظمة المستبدة من غيرها، وأخطر هذه الدوائر ما يأتي:
القوى السياسية التي تقتات على حسنات السلطة المستبدة، وليس لها أي سند سياسي شعبي أو اجتماعي، وتوفر للنظام المستبد غطاء شرعياً داخلياً وخارجياً.
القوى الاقتصادية المتحالفة مع السلطة المستبدة بما توفره لها من ضمانات وتسهيلات وتفضيلات في التجارة والصناعة وحركة مالية داخلية وخارجية.
الأجهزة الأمنية التي تراكمت خبرتها في حماية النظام الاستبدادي، والولاء له، والبطش بخصومه وأعدائه، وتنفيذ جرائمه واعتداءاته والتغطية عليها، فهذه الأجهزة عمود من أعمدة الاستبداد، وجودها من وجوده، وأمنها من أمنه، والعكس صحيح تماماً، لا تفهم أكثر من ذلك، ولا تتقن عملاً أفضل من ذلك.
ماذا لو تحدثت مع الرئيس أن يستوعب "هذه الجماعات الإسلامية" ضمن النسيج الوطني ووفق أحكام القانون والدستور مثل بقية القوى والجماعات في الدولة، فهذا أفضل لتعزيز الاستقرار ومعالجة التوتر الداخلي ودعم التماسك الوطني والاجتماعي، وسد الباب أمام الانتقادات الإقليمية والدولية. فقال الضابط الكبير: إذا تحقق ذلك ماذا سنفعل نحن؟!
النخبة التكنوقراطية التي اندست في فلك النظام المستبد، تدور معه حيثما دار، تروّج له، وتدافع عنه، وتحيل من أخطائه وكوارثه إلى إنجازات وطنية خارقة، وتصوّر جرائمه على أنها عين الحكمة وسيف العدل.
الشعب المضلَّل، الغائب عن الوعي، والمنفوخ بدخان العاطفة وزئير الانفعال، تسحره ابتسامة الحاكم المستبد، ويؤمن بوعوده المراوِغة، يرى في الاستبداد نوعاً من القوة الفريدة والسيطرة المحكمة، يقوده الإعلام والفن، ويخضع سريعاً لعبارات التهديد والوعيد، يهتف لمن يقوده، ويدعو لمن يطعمه، ويصلي لمن يغدق عليه، وهو الأكثر دفاعاً عن الاستبداد بين كافة المدافعين.
النظام المستبد لا يقتصر على الحاكم الذي يقوده، فهناك الحكومة المستبدة، والوزير المستبد، والوكيل المستبد، والجيش المستبد، والأمن المستبد، والبيروقراطية المستبدة، والإعلام المستبد، والفن المستبد، والأدب المستبد، والنخبة المستبدة، والموظف المستبد، والشعب المستبد.
يتفاقم هذا الوضع حتى يخضع الجميع للاستبداد ويتلونون به، فتبدو الدولة المستبدة مستقرة ومنسجمة، ما يؤكد مشروعيتها، وسلامة ما تقوم به، بعد أن قامت بتغييب الآخر وراء قضبان السجون وخلف جدران الرعب والخوف والتهديد والوعيد التي أحاطت بها كل من تسوّل له نفسه النصح أو الانتقاد فضلاً عن الاعتراض والعصيان.
دعائم الاستبداد
العدو: يعتمد النظام المستبد على اختلاق عدو ما، داخلي أو خارجي، يشغل الشعب به، ويزيده التفافاً حوله، واقتناعاً بما يقدمه له من حجج وذرائع لتبرير فشله في إنجاز وعوده، وما يؤخذ عليه من اعتراضات، وما يوجه ضده من حملات، فتارة محاربة التهديدات الخارجية الإقليمية أو الدولية، وتارة محاربة الأعداء الموجودين داخل الوطن ويعملون على تقويض أركانه وزعزعة استقراره، وتارة محاربة التطرف والإرهاب، وتارة محاربة الفساد،… إلى غير ذلك من الأشكال. فالنظام المستبد لا يستطيع البقاء بدون عدو، فالعدو يعني وجود خطر محدق بالدولة والشعب، والنظام مشغول بهذا الهدف الأعلى ومحاربة العدو والحفاظ على أمن الوطن واستقراره، ويقدم التضحيات الباهظة في سبيل ذلك، وأن على الشعب الالتفاف حول النظام ليتفرغ لمواجهة العدو، ودفع الخطر المحدق.
ما حدث في مصر، ولا يزال، يؤكد أننا أمام حالة فجة في السعي بكل السبل لتفكيك الدولة من خلال سيطرة العسكر على كل مقدرات الأمور، فحينما ثار الشعب المصري على النظام السياسي الفاسد المستبد، لم يجد إلا الالتفاف حول مطالبه التي كان يأمل أن تتحقق من حرية، وعيش، وعدالة اجتماعية، وكرامة إنسانية.
من التصريحات غير المفاجئة في هذا السياق الانبطاحي ما قاله وزير خارجية السعودية الأمير فيصل بن فرحان يوم السبت الموافق الثالث من أبريل/نيسان 2021 في مقابلة أجرتها معه قناة "سي إن إن" الأمريكية، أن التطبيع مع الاحتلال "سيكون مفيدًا للغاية اقتصاديًا واجتماعيًا وأمنيًا"، وذلك لعموم المنطقة!
المسألة شديدة التعقيد؛ لأن الحالة التي عليها المنطقة العربية الآن، تم الترتيب لها منذ فترة طويلة، من خلال تقسيمها تبعًا لاتفاقية (سايكس بيكو)، والتمكين لكل من يسعى لخدمة الغرب وتحقيق أجندته، والسعي بكل السبل لمحاربة وتشويه المصلحين والداعين إلى الاستقلال الوطني، باستخدام أنظمة مستبدة لقهر الشعوب وتطويعها بكل الطرق، ومن ثمّ المسألة تحتاج إلى عدة أمور كبداية لتغيير المعادلة، منها:
ثانيًا ـ إيجاد مشروع وطني يجمع شتات المصلحين والداعين إلى التمكين الديمقراطي للشعوب، في كل دولة، وهذا الأمر شديد الأهمية، لما له من دور كبير في توحيد الجهود للسعي نحو رؤية جامعة يمكن أن تجد الحلول للمشاكل التي تعاني منها المنطقة، وهذا الأمر لن يكون بين يوم وليلة، بل يحتاج إلى وقت ونفس طويل، لأن المتربصين في الداخل والخارج كُثر، والتحديات كبيرة.
المستبد.. الطاغية.. الديكتاتور
في شموليّة التحرّر والاستبداد
نحن لا نعيش في فقاعات منفصلة عن الواقع كما يحلو للكثيرين أن يعتقدوا، فحياتنا اليوميّة وظروف معيشتنا وعلاقاتنا كلها خاضعة لمنظومة واحدة: كلّ مجال ومستوى فيها يؤثّر ويرتبط بالآخر. كما أنّ الحريّة مفهومٌ لا يُجزّأ، فلا حريّة للفرد وهو يعيش تحت منظومة رأسماليّة تستعبده، أو تحت سلطة أب يستبدّها، أو في مجتمع يفرض عليه وعليها كيف تفكّر وتلبس وتتحرّك، أو من ومتى وكيف يحب. كما لا يمكن أن أقاوم المُحتل بفعاليّة وأنا مُضطّهَد ومُفقَر، وخاضع لاستبداد سلطة داخليّة ما. لا يمكن تحقيق الحريّة الاجتماعيّة أو الوطنيّة بمعزل عن الأخرى.
"كيف تصبح طاغية": الكلّ دكتاتور إلى أن يثبت العكس
هذا الاستثناء التاريخي النازيّ، يتجاهل في كثير من الأحيان الظروف وخصوصية كل بلد، والأهم، أنّ سقوط الدكتاتورية النازية كان إثر حرب عالميّة، أما الباقية، كصدام حسين، والقذافي، فكانت نتيجة تدخلات عسكريّة. وهنا، تهضم السلسلة حق الثورات العربيّة، ولا تشير أبداً إلى إمكانية نجاحها، فالطاغية إما يستمر في الحكم للأبد، هو وسلالته، كما في كوريا الشماليّة، أو يسقط بتدخل أجنبي.
المثير للاهتمام، أيضاً، أنّ المسلسل ينتهي بعبارة "أيّ أحد يمكن أن يصبح طاغية". وهنا إشارة ربما إلى جدل غير محسوم في النظرية السياسية، فالتيار الأول يرى أنّ الشرط الاستثنائي يخلق الطاغية، مثل خسارة الحرب العالمية الأولى في ألمانيا، والمجاعات في كوريا الشماليّة، أو العكس؛ الطاغية نفسه هو من يخلق الشرط الاستثنائي من أجل توطيد حكمه، كقتل اليهود في ألمانيا النازيّة، وتهجير الجالية الهندية في كوريا الشمالية. صحيح أنّ هناك كثيراً من العوامل المشتركة بين الطغاة، كالعمل مع جماعة مقربة يتصل بها بالدم، وتصفية كلّ الأعداء من دون رحمة، لكن يستثني المسلسل إرادة الشعوب كلياً، ولا يشير أبداً إلى الأداء الساخر المرتبط بالدكتاتوريات، فالطاعة التي تظهر علناً في المسيرات، أو في الحياة اليومية المحكومة بالخوف، لا تعني الإيمان بالدكتاتور، بل هي أداء ساخر ظاهري لا يصدقه من ينفذه بسبب الخوف والرعب؛ فقدرة الدكتاتور تحكم الأشكال الخارجيّة فقط، لا بواطن النفوس التي تشير إليها كلمة إيمان، وفئة قليلة جداً هي التي تؤمن حقيقة بالخلاص الذي يمثله الطاغية.
لا يتطرق المسلسل إلى الثورات العربية والطغاة المعاصرين، كبشار الأسد أو حسني مبارك، وكيفية الإطاحة بالثاني وحفاظ الأول على حكمه، وهذا ما يثير الحفيظة، كوننا أمام نماذج دكتاتورية تختلف عن الماضي، نماذج توظف استعراض الموت العلني مثلاً، ولا تستطيع في كل الوقت ضبط التحركات ضدها بسبب الإنترنت وما تأمنه من تواصل آمن في أغلب الأحيان.
الأهم، لا يتحدث المسلسل عن أشكال الطغيان الغربيّة، تلك التي استبدلت الأفراد بالمؤسسات وسلطة القانون، عبر تحويله إلى أداة عنصرية، كالحديث عن القوانين التي تستهدف اللاجئين والمهاجرين، ناهيك عن المؤسسات الطبية والسياسات الحيويّة وشبكات المراقبة التي تمارس طغياناً يشابه الأمثلة المذكورة، كونها تتحكم بالأفكار والمعتقدات، وتهدد في بعض الأحيان طبيعتنا كبشر.
وُجهت العديد من الانتقادات للمسلسل بوصفه لا يقدم ما هو جديد، وهذا ما نتفق معه، خصوصاً في ما يتعلق بالنظرية السياسية وأساليب الدكتاتورية، لكن، أيضاً، وُجهت له انتقادات تتعلق بالشكل المتبنى، وأسلوبه في تحويل تاريخ الدكتاتورية الدموي إلى شأن تعليمي مبسط، مليء بالرسوم المتحركة، يمكن نسيانه وتجاهله لاحقاً.
الأهم أنّ هذا الشكل ربما يُفقد الموضوع جديته ويتركه بعيداً عن المركز، المتمثل بأميركا: ألم يتبع ترامب مثلاً ذات خطوات الطغاة طوال فترة حكمه؟ أم أنّ الأمر لا ينطبق عليه؟
*
المسلسل الوثائقي "كيف تصبح طاغية" أن صناع المسلسل لم يقدّموا عائلة الأسد وسورية من النماذج عن الطغاة في العالم، فالمسلسل الأميركي الذي أنتجته منصّة نتفليكس أخيراً (يبثّ لأول مرة على الشاشة منذ 9 يوليو/ تموز الحالي)
ستة نماذج للطغاة في العالم
متلاك السلطة والقوة يمكنهم أن يستلهموا منه كيف يصبحون طغاة، ويحكمون شعوباً بأكملها سنوات طويلة، وهي ترى فيهم أشباه آلهة، أو على الأقل يجعلها الخوف تشعر بذلك، أو تُبدي ذلك، حيث الخوف المتراكم عبر سنوات طويلة يحوّلها إلى شعوب "باطنية"، تظهر عكس ما تخفي، وهو ما يجعل الانتقام، عندما تأتي اللحظة المناسبة، من الطاغية وجماعته، مهولاً ومروّعاً، سواء من الشعوب نفسها، أو من أعداء الطاغية في الخارج، إذ غالباً ما تكون شبكة التحالفات الخارجية التي ينشئها الطاغية، خلال مسيرة حكمه، واهية وآنيّة، ولا تمتلك الديمومة الصالحة لاستمرار الحكم، مهما طالت مدته، إلا إذا استطاع الطاغية عزل بلاده تماماً عن العالم الخارجي، على طريقة كوريا الشمالية.
المسلسل استطاع تقديم معلومات معروفة بطريقةٍ فيها من التشويق والإثارة والاختزال ما يُنسي المشاهد أنه أمام مسلسل وثائقي تاريخي، حيث الكتاب المفترض، الذي يقدّم وصفات جاهزة لصنع الطغاة، أضفى على المسلسل منحىً قريباً من الكوميديا، بيد أنها الكوميديا السوداء، إن صحّ القول، فلا يوجد ما هو أكثر إيلاماً لمتابعٍ من دول العالم الثالث، أو من دولة بوليسية أمنية، كسورية، أن يرى كيف تتم صناعة الخوف التي ميّزت مجتمعه، بحيث يزول الفاصل بين الوطن والنظام، ويوضع البلد، بكل ما فيه، باسم الزعيم الطاغية.
مع هتلر (الاستلاء على السلطة)، ويكمل في الحلقة الثانية مع صدّام حسين (سحق المنافسين)، ليصل في الثالثة إلى (الحكم من خلال الإرهاب) وعيدي أمين، ثم ستالين في الرابعة (السيطرة على الحقيقة)، ومعمر القذافي و(بناء مجتمع جديد) في الخامسة، ليختم المسلسل مع الديكتاتورية التي لا مثيل لها في التاريخ البشري، كيم إيل سونغ وورثته في حكم كوريا الشمالية، تحت عنوان (الحكم مدى الحياة). لكننا نكتشف مع الحلقات أن العناوين هي الوصفة الأولى المعتمدة لدى كل طاغيةٍ ليكرّس سلطته، لكن التفاصيل الأخرى تكاد تكون متشابهة، حيث تصلح كل العناوين لتكون عامة للشخصيات الست، ولباقي طغاة العالم ممن ذكرهم صناع المسلسل في المقدّمة، كماو تسي تونغ، مثلاً، وممن أغفل ذكرهم تماماً كآل الأسد.
*
Jul 1, 2021
سيف الدين عبد الفتاح في مواجهة اماني فؤاد
الخلافة مستندةً إلى شورى المسلمين. ويُعَدّ تغلب معاوية بن أبي سفيان على منصب الخليفة حدثاً طارئاً على النظام السياسي الإسلامي آنذاك،البيعة السياسية
القبول بإمامة المتغلّب كأمرٍ سياسي واقع لا يمكن التصدّي له آنذاك، ولا يمكن دفعه إلا بوجود فتنةٍ شديدة. إلا أنّ هذا الاتجاه - في واقع الأمر - قد أُسرف فيه عند بعض هؤلاء (وبعضهم من الفقهاء)،
تمرير حال الاستبداد، والتغاضي عن شروط العدالة. من مثل مقولات "ستون سنة بسلطان ظالم خير من ليلة بلا سلطان"، و"سلطان غشوم خير من فتنة تدوم"، و"من اشتدّت وطأته وجبت طاعته". كل تلك المقولات وجدت لها تسويغاً في سياقات درء الفتنة والحفاظ على استقرار الأمة، ولم يكن يعلم هؤلاء أن هذا الاختيار قد يجلب استبداداً، ولا يوقف فتنة، بل صار الاستبداد، في هذا المقام، هو الفتنة الحقيقية في الأمة، حينما فتحت باب القوة والتغلب ذا الطبيعة العسكرية، ليكون مدخلاً للوصول إلى السلطة.
مسؤولية ميراث التغلب في الممارسة السياسية في تاريخ المسلمين عن الإسهام في تراث الظاهرة الاستبدادية وذاكرتها، وهو أمر لا يجوز الالتفاف عليه أو التبرير له. وحين اشتدّت هذه الحيرة أوقعت الفقهاء في "ورطةٍ" كان يصعب الخروج منها بحلّ حاسم للقضاء على التغلب. لذا، رأى الفقهاء الذين أجازوا إمامة المتغلب وإمارته في التغلب ضرورة ملجئة، ولم يروا فيه ضرراً. والواقع أن هذه الرؤية المبرّرة فقهياً لم تكن تتوقع أن يتحوّل التغلب من ضرورة إلى ضرر. ولم يلبث أن تحوّل الأمر من حال الضرورة الاستثنائي إلى الضرر العام الاستبدادي. وقد رأينا مع دائرة التغلب أن القوة لم تتوقف عند المصلحة المرجوّة منها، بل تحوّلت باختلاط ممارساتها وجنوح تطبيقاتها إلى ضررٍ جديد يكرّس الفتنة ويزيد من إراقة الدماء.
أصل الخلافة تكليفٌ بإقامة العدل وصيانة الحقوق، وضبط الأمن، وما يقوم بتدبير الشأن العام والنهوض به
شهدنا كيف أن بعض الفقهاء تخلوا عن عديد من شروط الإمامة، وكان من بينها شرط العدالة، كما يقول عبد اللطيف المتديّن في رسالته عن "إمارة التغلّب في الفكر السياسي الإٍسلامي"، التي كانت تحت إشراف من الكاتب، "وقد ركزوا بالمقابل على مفاهيم أخرى تتناسب مع الظروف المستجدة كمفهومي الفتنة والفسق"، و"وصلت اجتهاداتهم إلى تجويز أشكال جديدة للسلطة، والدعوة إلى القبول بها، فمررت هذه الاجتهادات في بداية الأمر قبول التغلب ومنحه الشرعية إلى مرحلة أخرى قبول الإمام الفاسق ومنحه العفو". وقد كان الأصل عند الفقهاء أن الفاسق أو الظالم لا يتولّى على المسلمين ولا تستمر إمامته، لكن الخروج عليه، إذا كان سيجرّ فتنة، فمن الأولى إعمال قواعد ارتكاب أخفّ الضررين، والضرورات تبيح المحظورات، فقد رافقت هذه القواعد مختلف مراحل تشكل نظرية الخلافة، وأشرفت على تحوّلها من مستوى التماسك النسبي في عهد الخلافة الراشدة إلى مستوى التفكّك المطلق في عهود التغلب. فليس من السهل التنبؤ بالشكل الذي كانت ستأخذه النظرية، إذا استمرّت حالة الضرورة في الازدياد، واستمر الفقهاء في الاجتهاد على هذا الطريق. ومن المؤسف حقاً أن هذا الذي ابتدأ جوازاً واستثناءً، صار قاعدة وعرفاً مقبولاً، ولم يلحظ هؤلاء أن هذا لم يكن إلا خروجاً عن مقتضى النظرية التعاقدية للبيعة في ولاية المسلمين العامة
تمكين الحالة الاستبدادية، إذ تعدّدت أشكال التغلب في العصر الحديث، التي من أبرزها الاستناد إلى حال القوة في فتح الطريق إلى سلسلة من الانقلابات العسكرية، الأمر الذي يجعلنا نؤكد أن التغلّب وإقراره كان من أهم المداخل التي جعلت للانقلابات العسكرية غطاءً في هذا المقام، وهو ما يفرض علينا أن نهتم بهذه القضية والموقف منها في إطار مواجهة الاستبداد والمستبدّين، خصوصاً حكم العسكر المستند إلى حكم القوة، ذلك أن هذه الانقلابات العسكرية لم تكن إلا انقلاباً في عالم المعادلات السياسية، تحاول أن تجعل القوة أساساً للاستيلاء على السلطة، مضحية بأصول الفكرة التعاقدية، والبيعة، والشورى، والرضى، والاختيار، وباتت هذه الانقلابات العسكرية هي التي تهدّد الاستقرار في النظم السياسية المعاصرة.
التقسيم للتغلّب الأصغر، والتغلّب الأكبر؛ فالتغلب الأصغر يشير إلى تعلقه بفساد الأداء السياسي والإخلال بوظائف السلطة، فيما يشير الآخر إلى فساد أخلاق الذين أسندت إليهم السلطة في غياب شرط العدالة، وأين كان هذا التغلّب، أصغر أو أكبر، فإن ذلك كان منافياً للقواعد التأسيسية في الفقه الإسلامي، ذلك أن التولي على الرعية منوطٌ بتحقيق المصلحة، أو ما يمكن التعبير عنه بواجبات الإمام وحقوق الأمة، وأن المصالح العامة لا يمكن أن تقوم على قاعدةٍ من الظلم والاستبداد، فأصل الخلافة تكليفٌ بإقامة العدل وصيانة الحقوق، وضبط الأمن، وما يقوم بتدبير الشأن العام والنهوض به، وأن المعادلة الحقيقية في هذا المقام هي التي تجمع بين ضرورة السلطة والحاجة الملحّة إلى الاستقرار من جانب، وضرورة الشرعية في الوقت ذاته، القائمة على قاعدة من الرضى وسياسات العدل والشورى من جانب آخر، ولا يمكن دفع ضرورة الشرعية بضرورة السلطة، ولا الاستغناء عن ضرورة السلطة عن ضرورة الشرعية. وهو أمر كفيل بسدّ كل منافذ الاستبداد ومحاولات تسرّب الظاهرة الاستبدادية في حياة الناس، وإقرار الحالات التي تتعلق بالاستيلاء على السلطة بالقوة.
، على الذين يتبنّون هذه المقولات والممارسات ويعيدون إنتاجها في عالمنا المعاصر (رئيس الضرورة)، معتقدين أن ذلك سائغ في التاريخ السياسي للمسلمين، أو التبرير للحاكم باستخدام القوة (اضرب في المليان)، وما ترتب عليها من سياسات طغيانية، عليهم أن يفطنوا إلى أن تلك النماذج التاريخية تؤكّد أن ظاهرة التغلب والاستبداد لم تكن إلا تدشيناً لطريق الظلم، وفتح باب الفتنة واسعاً، وإراقة الدماء، وأنهم في إطار تبنّيهم ضرورة السلطة واستقرارها ضمن أفكار تتعلق بـ"الدولتية" إنما تشكل خطراً كبيراً، حينما تحاول أن تسوّغ كل مظاهر الاستبداد ضمن مقولات غير منضبطة؛ مثل "الدفاع عن هيبة الدولة" و"الحفاظ على استقرارها"، فجوهر الدولة هو القيام بالوظائف الأساسية التي تتعلق بعموم المواطنين وتحقيق الأمن الإنساني والقومي. أما عدم القيام بذلك، بل والقيام بضده، ثم الحديث عن استقرار وضرورة السلطة، فهو أمر خطير لا يحقق، بأي حال، الغرض التأسيسي من ارتباط السلطة بالشرعية، والشرعية، ابتداءً، هي شرعية تنصيب، وممارسة؛ هي شرعية رضى، ومحصلة، هي شرعية إنجاز، ومن غير ذلك لا يمكن بأي حال إلا القبول بالمعنى الحقيقي للدولة، ووظائفها الجوهرية والمصلحة العامة ضمن إنجازات حقيقية.
*
Jul 23, 2021
نحن الذين نصنع الطغاة، نصنعهم بقوة الخوف الذي يسكن في قلوبنا وبالشكوك التي تحتل عقولنا وبالخنوع الذي يمتص وجداننا وبالكسل الذي يشل أطرافنا، والطاغية لا يولد من العدم وإنما يولد من رحم الجهل والفقر والمرض، وكما في قوانين التنمية إن الثراء يولد الثراء والتخلف يولد التخلف والطغيان ليس سوى شكل من إشكال إعادة إنتاج التخلف في النظام السياسي الحاكم المستبد الذي يكرس التخلف بدوره ويزيده رسوخا بقوة الطغيان وهو يستخدم سيطرته المطلقة لوأد مواهب التحرر وامكانات التقدم في شعبه قبل أن تبلغ سن الرشد ضمانا لاستمرار سلطانه.
فلماذا لا يخطر على البال وجود الطغاة في سويسرا مثلا أو في فرنسا أو إنكلترا والسويد أو غيرها من دول العالم المتقدم ؟!! ليس لهذا من تفسير سوى أن التقدم الذي حصلت عليه تلك الدول لم يكن مقصورا على نخبة قليلة في البلد وإنما كان خيرا عميماً شمل كل الأحياء هناك من بشر وحيوان ونبات، وان الوعي الذي يصاحب التقدم هو الذي قطع الطريق على كل احتمالات تسرب الطغاة إلى سدة الحكم.
يتوهمون بأن الاستبداد يجسد القوة المثلى وإن الديمقراطية تمثل التفكك والتباعد والضعف وإنهم (الطغاة) قادرين على كسب الحروب ضد جميع المعارضين، وهكذا يغرق الطغاة في البلد المتقدم سريعا محكوما بمنطق استحالة سباحة الفرد عكس التيار الجارف السائد.
أما الطغاة في العالم المتخلف فتراهم راسخين على عروشهم فإذا سقط أحدهم خلفه على الفور طاغية آخر أسوء منه، وكأن الطغيان وهو يعيد إنتاج نفسه بهذه السهولة يؤكد ميدانيا إنه هو القانون الأساسي الذي يحكم علاقات الحاكم بالمحكومين.
نحن الذين نصنع طغاتنا، ولا يحق لنا أن نشتكي منهم وحدهم، فالشكوى يجب أن تكون منا ومنهم أو علينا وعليهم، فنحن لن نتحرر من الطغيان بأن نتمرد ذات يوم على أحد الطغاة وننجح في إسقاطه مادام هناك طاغية آخر مستنفر أبدا لخلافته، وإنما نتحرر إذا ما تمكنا أن نتمرد على أنفسنا أولا وعلى البالي من عاداتنا وعلى الخوف الساكن بقلوبنا والأوهام التي تسوق خداعنا وتعمق قناعاتنا حول قدسية الحاكم ثانيا، ومتى ما تغيرنا حقا واستبدلنا الخوف بالشجاعة والذل بالأنفة والتعصب الأعمى بالتسامح والجهل بالمعرفة فلا سبيل عندئذ للطاغية أن يعيش بيننا.
ولا يعني هذا أن ندع الطغاة وشأنهم من دون احتجاج أو اعتراض حتى تتم عملية التغيير الشاملة في القاعدة فتلك عملية معقدة طويلة النفس، إن العمل ضد الطغيان نشاط بشري شامل يبدأ من كل الجوانب والأطراف في آن واحد، والتمرد على الطغيان في كافة المجتمعات جزء لا يتجزأ من عملية التعود على الشجاعة والحكمة ومراجعة الذات، والتغيير لا يحصل بشكل سهام متباعدة متفاوتة وإنما يحصل بشكل قوس مفتوح مترابط وبقدر ما يكون هذا التغيير عاماً وشاملاً يكون حقيقياً وفعالاً.
نحن الذين نصنع طغاتنا، ونحن ملوثون بقدر ما نتهم به الطغاة من تلوث، ونحن ظالمون بقدر الحيف الذي نسببه لأنفسنا، فإذا راودنا الشك بعد كل هذا في مسؤوليتنا عما نحن فيه فذلك ليس إلا دليلاً على استحقاقناً لمصيرناً الذي نشكو منه وإن وجود الطغاة بيننا ليس ظاهرة طارئة بل هي صورتنا الحقيقية التي لا تتم إلا بوجوده.
إذا أردنا أن نتحرر من الطغاة فيجب أن نتغير لأن لا يغير قوم حتى يغيروا أنفسهم
* Aug 5, 2021
الكتاب الصادر حديثا عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر، "كيف تعمل الدكتاتوريات؟ السلطة وترسيخها وانهيارها". وهو نتاجُ عملٍ بحثيٍ مشترك لكل من باربرا غيديس وجوزيف رايت، وإيريكا فرانتز، وترجمة متميزة من عبد الرحمن عياش.
لا تنشر الدكتاتوريات بياناتٍ أقل فحسب، ولكن ما تنشره قد يكون غير دقيق بشكل متعمّد
كما أن للانتخابات في الدكتاتوريات وظيفة أخرى غير التي تعرفها الدول الديمقراطية
*
Aug 6, 2021
كيف تصبح دكتاتوراً
هذا الصنف من البشر (الدكتاتوريون) شيء من التميز والخبث وتبلد الإحساس العام والشعور بالنرجسية والأنانية، وهي صفات عامة اجتمعت في كل من موسوليني، هتلر، ستالين، ماو تسي تونغ، كيم إيل سونغ، تشاوشيسكو، منغيستو من إثيوبيا ودوفالييه من هايتي.
لا يمكن لأي دكتاتور أن يحكم من خلال الخوف والعنف وحده. إذ يمكن الاستيلاء على القوة العارية، والاحتفاظ بها مؤقتًا، لكنها لا تكفي أبدًا على المدى الطويل.
الطاغية الذي يستطيع إجبار شعبه على الهتاف له سيستمر فترةً أطول. التناقض في الدكتاتور الحديث أنه يجب أن ينشئ وهم الدعم الشعبي. وهذا الوهم هو ما اعتقد الرئيس التونسي، قيس سعيّد، أنه استحقّه في تونس، وهو ما فتئ يردّد أنه يحظى بالدعم الشعبي منذ 25 يوليو/ تموز الماضي،
*
Sep 21, 2021
Oct 29, 2021
سيف عبد الفتاح
Nov 26, 2021
Jan 2, 2022
حقيقة الاستبداد المجتمعي تكون في غياب العلم، وعدم معرفة الواجبات والحقوق، حيث إنه كلما كان الجهل عند العوام وعامة الشعب يولّد عندهم الخوف الذي يقود إلى الاستسلام للمستبد، بعكس إذا ما انتشر العلم والمعرفة، فإن الشعوب تكتسب حينئذ الجرأة على القيام بالثورات والمطالبة بحقوقها، الأمر الذي يكون مصدر قلقٍ وخوفٍ عند السلطة "المستبدّة منها أو غير المستبدّة". وبالتالي، لا يمكن أن يستقر الاستبداد، إن وجد، في هذا النظام أو ذاك، بناء على المعطيات المعرفية، والمطالبة الحقوقية التي اكتسبتها الشعوب علماً ومعرفة.
*
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق