سقوط أقنعة العولمة
Apr 3, 2020
من دروس التاريخ أن الأقوى هو من يهيمن بفكره ويفرض المعاني والرموز ويحدد البوصلة، سواء كان الأضعف منه موافقاً أو مكرهاً على ذلك. ومن مظاهر قوة القوي أنّه يجعلنا نعتقد أن قوته دائمة، وأنّها على حدّ تعبير فرنسيس فوكوياما هي نهاية التاريخ، بمعنى أفضل ما أنتجه العقل البشري من فكر وقيم ونمط حياة.
رغم كل الانتقادات التي وجهها مفكرون كثيرون لظاهرة العولمة، فإن تلك الأصوات ظلت بلا صدى، واعتبر خطابها الذي يصف العولمة بالبؤس وبتفقير العالم وتسطيحه، وبأنها وحشية المضامين والأدوات، فإن أصحاب الخطاب المناهض للعولمة تمّ التعامل معهم من منطلق كونهم خارج السرب ومثاليين ولا يفقهون من موازين القوى شيئاً، وأنهم خارج التاريخ ولا دراية لهم بما فعلته تكنولوجيا الاتصال من اختزال الكون إلى قرية، وما أنتجته القيم الاستهلاكية وقوانين رأسمال الحر من ثقافة تقوم على التنميط وقهر ما يسمى بالعناصر التي تصنع بها كل ثقافة خصوصيتها. بل إن حتى الذين رفعوا شعار الخصوصيّة الثقافية تمت قراءة شعارهم على أنه لعب على الوقت، ومحاولة تأجيل الاستسلام النهائي للعولمة.
كان منسوب الثقة في تمكن العولمة منا وأنّها القدر المحتوم عالياً جداً وبشكل يصعب السباحة ضده. أطاحت العولمة بالخصوصية تلو الخصوصية والفكرة تلو الفكرة، فرأينا من المجتمعات من استسلم مبكراً، وهناك من ظل يقاوم ولكن ليس مقاومة رافضة بقدر ما كانت مقاومة تحاول التفاوض حول صيغة بعيدة عن صيغة الانصهار والذوبان.
في أوروبا رفعت فرنسا شعار الاستثناء الثقافي، وتصدى المفكرون من ذوي الخلفية الاشتراكية لمظاهر العولمة، ونذكر هنا عالم الاجتماع الفرنسي الراحل بيار بورديو الذي شارك في مظاهرات مناهضة للعولمة. أما في العالم العربي والإسلامي فقد انخرطنا في العولمة المادية حسب الإمكانيات، وظل التفاوض الصامت حول العولمة الفكرية ولم ننخرط فيما تحمله العولمة من ضرورة القطع مع الديني، وتجنبنا المواجهة وجهاً لوجه مع ما يروّج من حتميات تقول بأن العالم الذي صاغته العولمة وتريد حلوله بالكامل لا مكان فيه للمقدس.
أربكت العولمة مجتمعات كثيرة وأرغمت الحضارات والثقافات على الخضوع بشكل ما. فُرضت العولمة مدعومة من أقوى دولة في العالم هي الولايات المتحدة. حصل نوع من القبول القسري وصارت النخب السياسية والثقافية تتحدث عن العولمة كحقيقة غير قابلة للنقاش، حتى لكأن ظاهرة العولمة أضحت المقدس الجديد!
المشكلة أن العولمة أذاعت في العالم أوهاماً كثيرة: لم ينهَر الاتحاد السوفياتي فقط ولم يسقط جدار برلين وحده، بل سقطت أفكار كبرى مثل قوة الدولة القومية وهيبتها وسيادتها، حيث أطاحت العولمة بهذا، ورفعت من أسهم الشركات العابرة للقارات، وحتمية الاعتماد على القطاع الخاص، وانسحاب الدولة من السوق وتحولها إلى مشرفة بالمعنى الفعلي لا غير. فالعولمة في جوهرها اقتصادية حاملة لثقافة تخدم الاقتصاد الذي تدافع عنه.
كل هذه الأفكار تعرضت إلى تصدعات عميقة مع كارثة فيروس «كورونا». فالقوة ليست عظيمة كما كنا نعتقد. ولم تفعل للعالم الذي تحكمه أي شيء. الوباء أطاح بالجميع أقوياء وضعفاء. بل إن منطق القوة نفسه اختفى ورأينا كيف هرعت كل دولة إلى داخلها تحارب الوباء داخلها لا حولها ولا في العالم. وحتى ما رأيناه من مساعدات قامت بها الصين وكوبا هي جاءت لتسجل فراغ «الأقوياء» ولتدون في لحظات تاريخية موجعة بعض ما في الشيوعية والاشتراكية من أخلقة وأنسنة.
ما عدا ذلك فالكل منهمك في همه. سقطت أسطورة التكتلات الدولية، وأن العالم لا يقبل اليوم التكتلات الصغيرة، والدولة الذكية هي التي تتموقع في الاتحادات الدولية، وتنخرط في تفاعلية وانضباطية بحيث تجد من يقف بجوارها في الأزمات، ومن يمهد لها الطريق الدولية السيارة للاقتراض والاستثمار.
في أول محنة طبيعية عرفتها العولمة سقطت أقنعتها دفعة واحدة: الاتحاد الأوروبي أصابه شلل رمزي سيلاحقه زمناً طويلاً، والحركة الرمزية التي حصلت في إيطاليا بإسقاط علم الاتحاد معبرة جداً عن شعور الإيطاليين بالخذلان من الاتحاد الأوروبي. أيضاً أسطورة أقوى دولة في العالم أصابها خدش في أبسط الحالات، ورأينا قصوراً فادحاً في مواجهة استحقاقات مقاومة الوباء واللجوء إلى الشركات الخاصة لحل المشكلة. بل إننا عندما نسمع حاكم ولاية كونيتيكت يقول إنّ مخزون ولايته من الإمدادات الطبية قد نفد، ويضيف «الآن نحن بمفردنا، في الوقت الحالي نبذل قصارى جهدنا للبحث عن معدات الوقاية الشخصية»، فإن هذا الكلام لا يختلف عن استغاثة وشكوى أي مسؤول عن محافظة في دولة من دول العالم الثالث.
العولمة هي وهم وغطاء للهيمنة الاقتصادية، بدليل أن التضامن الدولي كان ضعيفاً، وشكّل صدمة رغم مادية العلاقات الدولية وتوتراتها.
فاللحظة الراهنة هي لحظة التشبث بالدولة القومية والتنصل من كل الالتزامات الخارجة عن الحدود الجغرافية: ليست دعوة للانغلاق بقدر ما أظهر وباء «كورونا» أن الانفتاح القائم على منطق التبعية والأقوى هو انفتاح هش جداً.
*
ثقافة التخوين والتكفير
ليس هناك اتهامات أكثر قوة من التحريض على تكفير شخص ما أو تخوينه. فهي تهم تبيح الاعتداء على صاحب التهمة وحتى قتله. لذلك فنحن أمام تهمتين مدججتين بالعنف الرمزي والمادي معاً.
طبعاً هذه القوة التحريضية، التي تقوم عليها التهمتان المشار إليهما، هي نتاج مستندات كل تهمة، أي أن قوة التهمة من قوة مستندها والحقل الذي تنتمي إليه إحالة ومدلولاً ومعنى.
فالتكفير يحيل مباشرة على الديني والمقدس. والتخوين في علاقة بالوطن والوطنية نفسها في المخيال العربي والإسلامي من الإيمان أي من المقدس.
هكذا نفهم حالة الهلع الشديدة التي تنتج عند توجيه إحدى هاتين التهمتين إلى شخص ما، وذلك لأن توجيههما يمثل في حد ذاته ترخيصاً رمزياً لاستباحته وتعنيفه.
لقد اخترنا تناول هاتين التهمتين دون غيرهما من التهم ذات الرواج الاجتماعي والإعلامي اليوم في مجتمعاتنا لأنهما صارتا من التهم التي تميز المجتمعات العربية والإسلامية عن غيرها من المجتمعات الراهنة. تقريباً كل المجتمعات عرفت هذه الثقافة وهيمنت هاتان التهمتان على نقاشها العمومي زمناً طويلاً وقاسياً. ولكن هناك مجتمعات كثيرة تمكنت من حل مشكلة تهمة التكفير وبات الحديث عن التخوين لا يكاد يذكر، وذلك لأن الثقافة في هذه المجتمعات تغيرت وتعرضت إلى عملية جراحية عميقة وتم استبدال المرجعيات والمستندات ناهيك أنه تم تحييد الحقول المولدة للعنف.
لم تتخلص مجتمعاتنا بعد من أذى هاتين التهمتين ولم يتسنَ لها أن تعرف حراكاً مهماً في مستوى التغيير القيمي الذي بات ضرورياً، بل إن اللجوء إليهما بات أكثر تواتراً في الخطاب السياسي والإعلامي دون أن نحسب الجماعات المتشددة التي تصنف الناس تنظيماً راديكالياً على أساس الإيمان أو الكفر.
إزاء هذا الواقع الثقافي العام في مجتمعاتنا، وتحديداً في ظل الاستثمار السياسي والديني لتهمتي التكفير والتخوين، يمكننا أن نتوقف عند بعض الاستنتاجات المقلقة والمؤلمة التي تستوجب على المدى القصير انتباهاً ومعالجة.
لقد باتت مجتمعاتنا تمثل نشازاً على مستوى العالم. فكثرة اللجوء في تصفية الحسابات إلى هاتين التهمتين دليل هيمنة التوتر على العلاقات الاجتماعية بين النخب وغيرها في مجتمعاتنا. وهو توتر لا يتغذى من تباين اقتصادي يمكن تجاوزه بمراجعة كيفية توزيع الثروة في المجتمع، بل إنه توتر ينتعش من الاختلافات في التفسير والتأويل وفي مقاربة الأسئلة الأنثروبولوجية الثقافية. أي أن الآيديولوجيا حاضرة بقوة في النقاشات العمومية بالفضاءات العربية الإسلامية.
من جهة أخرى، فإن استعمال هذه التهم دليل ضعف تجذير قيم المواطنة في مجتمعاتنا ومظهر انفصام ثقافي وتردد وعدم الحسم قيمياً، بما يضمن التعايش والحريّات الفردية والشخصية وما يحفظ مقومات الهوية من التوظيف والمناورات. لذلك فإن المجتمعات المتقدمة حسمت أمرها فغابت عن نقاشاتها وخلافاتها مثل هذه التهم التي لم تعد مقبولة في زمن الدفاع عن قيم المواطنة التي تنتظم وفق الحقوق والقوانين لا وفق الانتماءات الدينية والمذهبية والجنسية.
فالتكفير والتخوين سلاحان يفتكان بأي مجتمع لا يحمي نفسه من هاتين القنبلتين وتخليص الدين وسماحته من تأويلات تراكمت مع الوقت ولا تخدم إلا مشاريع الظلامية.
طبعاً التكفير أشد بأساً من التخوين، ولكن ما يجمع بينهما أن التخوين يحاول أن يلبس لباس التكفير. ولعل ما يؤكد ما ذهبنا إليه هو أنه قبل ظهور الإسلام السياسي وجماعات «السلفية الجهادية» لم تكن تهمة التكفير رائجة في الخطاب العربي، إذ يتم استخدامها للتخويف من جهة ولاستباحة الدم من جهة ثانية، إضافة إلى أن التكفير هو إخراج من الملة وأقصى ما يمكن أن يتهم به مسلم لما تثيره هذه التهمة من خوف ومصير مفتوح على المجهول.
أيضاً التناحر الآيديولوجي بين الأحزاب السياسية المختلفة المرجعيات في مجتمعاتنا يقوم على التخوين الذي عادة ما يقصد به خيانة الوطن. كما يؤدي معنى خيانة الأمة في سياق الصراع العربي الإسرائيلي مسألة التطبيع بوصفها قضية جعلت خطاب التخوين يزدهر ولا تزال تمارس نفس السطوة الرمزية رغم الاختراقات التي قام بها بعض المثقفين وواجهوا حملات تخوين وتشويه ومضايقات هائلة.
وعلى المستوى السياسي وتحديداً في العلاقات بين الأحزاب فإن خطاب التخوين حاضر أيضاً، فنرى من يتبنى برنامجاً يقوم على الاقتراض والتعامل مع البنوك الدولية يتهم بالخيانة وأنه يعرض الوطن للبيع، ومن يتعامل اقتصادياً أو يتبادل ثروات طبيعية مع الكيان الإسرائيلي خائن للقضية الفلسطينية والأحزاب ذات العلاقات مع دول أخرى تعتبر ذات ولاء لغير الوطن ومن ثم فهي خائنة.
وكما نلاحظ، فإن القضية الفلسطينية بشكل خاص كانت أكثر المستندات قوة في توجيه تهمة الخيانة وقد وصل الأمر إلى أن مجرد حضور مهرجان شعر فيه شعراء إسرائيليون يسمى تطبيعاً، ومن ثم خيانة، وهناك من يعتبرها خيانة عظمى.
إن ثقافة التخوين والتكفير لا تثير إلا الخوف والرعب وتمنع أي حوار وتسوّغ اللجوء للعنف بأشكاله المختلفة، لذلك فإننا نحتاج إلى مراجعة هذه الثقافة من دون أن تكون هذه الدعوة في حد ذاتها سبباً للتخوين والتكفير.
*
العدالة الاجتماعية أو بيت الداء
إن الحديث عن العدالة الاجتماعية هو حديث عن كل المشاكل دفعة واحدة، لأن انعدامها أو ضعف تحققها ينتجان شتى أنواع الأزمات والظواهر الخطيرة. كل مشكلة يمكن تفسيرها بغياب العدالة الاجتماعية وكل تقدم وتنمية حقيقية يفسران بالضرورة بنجاح ملموس في مسار تحقق العدالة الاجتماعية.
على مستوى العالم تبدو العدالة الاجتماعية مُعنفة وغائبة، حيث إن الدول القوية تحتكر الثروة وتسطو على ثروات الدول الضعيفة، وشعوب الدول القوية لها الحق في التمتع بحقوق الإنسان والأخرى الفقيرة، سواء التي لم تبدأ بعد السير في طريق النمو أو التي قطعت في هذا الطريق بعض الخطوات غارقة في مشاكل التمييز، وما زالت في طور محاولة الاستجابة للبعد الاجتماعي للتنمية دون أبعاد الثقافة والاقتصاد والسياسة.
العدالة الاجتماعية هي التوزيع العادل لكل من الثروة والفرص والامتيازات، وتعرفها الأمم المتحدة أيضاً بأنها المساواة في الحقوق. وهكذا يتضح لنا إلى أي حد يسهل وصف العدالة الاجتماعية في أي مجتمع من المجتمعات، ذلك أن أرقام الفقر والبطالة وواقع الحقوق ومؤشرات التمييز من عدمه ونسبة محتكري الثروة وكيفية توزيعها... كل هذه التفاصيل هي بنود كبرى وأساسية في تحديد واقع العدالة الاجتماعية.
صفقة الخسارة
للجميع
هناك أفعال يقوم بها أحياناً فرد واحد فتكون تداعياتها على كامل أفراد العائلة التي ينتمي إليها ذلك الفرد. وهناك فعل يقوم به فاعل سياسي على رأس هرم السلطة فيتحمل تبعاته السلبية كل الشعب الذي يسوسه. كما يحصل أحياناً أن يخوض زعيم سياسي مغامرة متهورة فيجني على كامل الشعوب العربية والإسلامية تماماً كما جنى علينا صدام حسين بغزوه للكويت وتوريط بلداننا منذ تلك المغامرة في سلسلة من المآزق إلى اليوم.
بناءً على ما تقدم فإن ما قام به الرئيس الأميركي دونالد ترمب مؤخراً من قتل للحق الفلسطيني في إقامة دولة فلسطينية مستقلة ذات حدود واضحة وعاصمتها القدس الشرقية، إنما يعد مأزقاً لكل العالم وليس لفلسطين أو للبلدان العربية فقط كما قد يظهر للوهلة الأولى. طبعاً معظم القراءات التي تناولت خطة ترمب لما يصفه السلام تكاد تُجمع على وقوع النظام السياسي العربي في مأزق وأيضاً انهيار الحلم الفلسطيني وتراجعه إلى نقطة الصفر.
*
مجتمعاتنا والعلمنة اللينة
العلمانية بحثاً وتنقيباً وحفراً وتحليلاً أكثر من عدد أصابع اليدين وأغلبها من المؤلفات المهمة والمرجعية، التي تعكس جهداً علمياً دقيقاً وجاداً وعلى رأس هؤلاء نذكر الراحل عبد الوهاب المسيري
الدكتور عادل ظاهر
فالعلمانية ليست الإلحاد كما يُسوق البعض ولا تعني أيضاً العلم بل هي مشتقة من كلمة العالم. وبأكثر دقة نقول إن كلمة العلمانية مشتقة من الكلمة اللاتينية «سيكولوم» وتعني العصر أو الجيل أو القرن. وقد استخدم مصطلح «سكيولار» لأول مرة مع نهاية حرب الثلاثين عاماً في سنة 1648 عند توقيع صلح وستفاليا وبداية ظهور الدولة القومية، وهو التاريخ الذي يعتمده المؤرخون للتأريخ لظاهرة العلمانية في الغرب. ويعتبر جون هوليوك (1817 - 1906) هو أول من سك المصطلح بمعناه الحديث، وحوله إلى أحد أهم المصطلحات في الخطاب السياسي والاجتماعي الفلسفي الغربي، فعرف العلمانية بأنها الإيمان بإمكانية إصلاح حال الإنسان من خلال الطرق المادية من دون التصدي لقضية الإيمان سواء بالقبول أو الرفض.
أيضاً من المهم الإشارة إلى نقطة أخرى وهي ارتباط نشأة الحركات العلمانية في الغرب بالتخلص من هيمنة الكنيسة على شؤون السياسة وتحرير السلطة السياسية من أي تأثير مباشر أو غير مباشر من قبل السلطة الدينية
تغير سلوك الناس إزاء مراسم دفن الأموات والقبول بعدم الصلاة في المساجد. فمثل هذه السلوكيات الانقلابية على أنماط السلوك الاعتيادية والمتوارثة جيلاً بعد جيل، إنما تنضوي في إطار مظاهر العلمنة. ذلك أنه لولا توفر الاستعداد للعلمنة وبداية تجذر النظرة العلمانية وإعلاء شأن الحياتي الدنيوي، لوجدت الحكومات مقاومة ورفضاً. ولكن الملاحظ أن السلوك كان متعاوناً وليناً وامتثالياً ولم يكن بالإمكان أن يكون كما وصفناه لولا توفر النزعة والأرضية العلمانية لذلك.
فهل أن ما أظهرته جائحة كورونا من نزعة للعلمنة في السلوك هو فقط نتاج الخوف من الموت؟
طبعاً الحسم بشكل قاطع ليس سهلاً. قد يكون للخوف من الموت بعض النصيب ولكن التفسير العقلاني يُلزمنا بوضع ما تمت ملاحظته من تطبيع مع العلمنة السلوكية في إطار سياسات التحديث المختلفة الوتيرة التي خاضتها الدول العربية بعد الاستقلال. ولا يخفى صلة القرب المدلولية والرمزية بين الحداثة والعلمانية، حيث إن هذه الأخيرة ثمرة من ثمراتها.
لذلك يمكن الاستنتاج أن العلمنة أصبحت عنصراً من العناصر المنتجة للسلوك الاجتماعي في الفضاء العربي وعاملاً من العوامل المحددة له.
لا شك في أن هناك فرقاً شاسعاً وعميقاً بين ما وصفناه قصداً بعض مظاهر العلمنة اللينة والعلمنة الصلبة كما هي في الفضاء الثقافي الأوروبي. فالعلمنة الكاملة والصلبة هي التي تفصل بين جميع حقول الفعل الاجتماعي والدين، بينما ملاحظاتنا تندرج ضمن نوع من رصد لحظات فك الارتباط بين مواقف شديدة التعقيد (مثلاً الذهاب إلى المسجد في أوج انتشار الفيروس مع ما يعنيه ذلك من انتحارية في السلوك) والتعاليم الدينية.
طبعاً الحسم بشكل قاطع ليس سهلاً. قد يكون للخوف من الموت بعض النصيب ولكن التفسير العقلاني يُلزمنا بوضع ما تمت ملاحظته من تطبيع مع العلمنة السلوكية في إطار سياسات التحديث المختلفة الوتيرة التي خاضتها الدول العربية بعد الاستقلال. ولا يخفى صلة القرب المدلولية والرمزية بين الحداثة والعلمانية، حيث إن هذه الأخيرة ثمرة من ثمراتها.
لذلك يمكن الاستنتاج أن العلمنة أصبحت عنصراً من العناصر المنتجة للسلوك الاجتماعي في الفضاء العربي وعاملاً من العوامل المحددة له.
لا شك في أن هناك فرقاً شاسعاً وعميقاً بين ما وصفناه قصداً بعض مظاهر العلمنة اللينة والعلمنة الصلبة كما هي في الفضاء الثقافي الأوروبي. فالعلمنة الكاملة والصلبة هي التي تفصل بين جميع حقول الفعل الاجتماعي والدين، بينما ملاحظاتنا تندرج ضمن نوع من رصد لحظات فك الارتباط بين مواقف شديدة التعقيد (مثلاً الذهاب إلى المسجد في أوج انتشار الفيروس مع ما يعنيه ذلك من انتحارية في السلوك) والتعاليم الدينية.
من ناحية أخرى للعلمنة الجزئية اللينة حضور أيضاً في بعض البلدان العربية، حيث مظاهر الفصل النسبي والجزئي بين الدين والسياسة بدأت تظهر ونعتقد أنها في طريقها إلى مزيد من التنامي لأن قيماً مثل المدنية والمواطنة لها شروط ومسارات من التحقق تقود بالضرورة إلى تطبيق قسري وآلي لبعض مبادئ العلمانية الجزئية التي يمكن اعتبارها المرادف لمفهوم اللائكية.
إن المحن مرايا نرى فيها ما لا يُرى في سائر الأوقات العادية. ولقد مثلت محنة فيروس كورونا فعلاً خزاناً من الملاحظات الجديرة بالتعمق في بحوث ودراسات تقوم بها مجموعات من الباحثين حتى نفهم مناطق التغير القيمي والثقافي ومداه.
إن المحن مرايا نرى فيها ما لا يُرى في سائر الأوقات العادية. ولقد مثلت محنة فيروس كورونا فعلاً خزاناً من الملاحظات الجديرة بالتعمق في بحوث ودراسات تقوم بها مجموعات من الباحثين حتى نفهم مناطق التغير القيمي والثقافي ومداه.
*
السيّاسة والكلام والأهداف خارج المصلحة
إننا لا نستطيع أن نتحدث عن لغة واحدة تجمع الجميع بكل معانيها ورموزها داخل المجتمع الواحد، إذ هناك مفهوم الثقافة التحتية الذي يخلق بعض الفروقات في استعمال اللغة وفي كيفيات توظيفها، وأيضاً في المحمول الرمزي الذي قد يتغير حسب الثّقافات التّحتية طبقياً وجنسياً وغير ذلك من المتغيرات (متغيرات السن والجنس والمستوى التعليمي والانتماء الطبقي...) المنتجة للفروقات.
لذلك فإن الاستهانة باللغة وعدم إيلائها الأهمية والانتباه اللازمين مسألة غاية في الخطورة. وإذا كان لكل حقل من الحقول المعرفية معجمه الدلالي الخاص، فإن المؤكد هو أن الحقل السياسي فضاء منفتح على أكثر من حقل، ويتميز عن الحقول الأخرى في كونه يعطي للحظة وللمقام التداولي وللسياق وللظرف أهمية مضاعفة، وللحظة أحكامها وشروطها أيضاً. ومن هنا نفهم لماذا الخطاب السياسي يختلف عن أصناف الخطابات الأخرى ولماذا أيضاً يحتكم إلى استراتيجية وأهداف وتفاوض وموازين قوة وصراع على من يهيمن ويفرض مقولاته ورسالته التي لا فقط تمر عبر الخطاب اللغة أو الكلام بل تتحدد باللغة. فاللغة ليست وسيلة لنقل الكلمات والكلمات ليست بضاعة بقدر ما اللغة هي نظام التفكير.
لا سلطة خارج مدار اللغة. وحتى الحضور الدلالي يمكن أن يستثمر إدارة جيدة للمورد اللغوي الرمزي.
اللغة فعل في الواقع، وبين اللغة والواقع علاقة جدليّة وعلاقة أيضاً تشبه أحياناً لغز الدجاجة والبيضة ومن سبق الآخر. الثابت أن اللغة جزء مهم وأساسي من الواقع وتسهم في تشكيله وفي تغييره سواء بناء أو هدماً.
*
Jun 18, 2021
الحكم زمن «تويتر» و«فيسبوك»
لم يعد السياسي في ظل وجود تكنولوجيا الاتصال الحديثة يحكم بنفس القبضة. العلاقة بين الحاكم والمحكوم لم تتحول فقط من عمودية إلى أفقية، بل إنّها تحولت عمودية لصالح المحكوم، أي أن الشعب بات يقيم علاقة عمودية مع السياسي الحاكم. إنه انقلاب العلاقة ذاتها.
لقد أصبحت شبكات التواصل الاجتماعي اليوم من أقوى تقنيات ممارسة الشعوب للرقابة على السياسيين. فالجميع تحت المجهر. وفي مجهر شبكات التواصل الاجتماعي كل أفعال السياسيين غير المقبولة هي كبيرة بالضرورة. لذلك، فلا أحد من السياسيين ينجو من الضغط النفسي لشبكات التواصل الاجتماعي. ونلاحظ أن الجزء الأكبر من عملية المراقبة التي تمارسها شعوب شبكات التواصل الاجتماعي، إنّما ينصب على السياسيين. وكأن في تغير الأدوار وانقلابها ما يشبه التعويض التاريخي للشعوب.
المشكل أن السياسي القادر على الإفلات من ضغط شبكات التواصل والاجتماعي وأنيابها الحادة هو من لا تشوب سلوكه أي شائبة أو تهمة. أي أن المطلوب ممارسة السياسة بطهورية عالية جداً. ونفترض أن هذه التغييرات ستقلص كثيراً من حبّ السلطة والحلم بالحقيبة الوزاريّة وبلوغ سدة الحكم، لأن الفاتورة المنتظرة، قلة قادرة على تحملها.
أزالت تكنولوجيا الاتصال الحديثة ما علق بمفهوم الحكم والسلطة من انحرافات، تراكمت حتى أصبحت من بنية السلطة نفسها، ولا غرابة في أن وسائل تكنولوجيا الاتصال الحديثة بدأت تجرف فعل السياسة نحو المفاهيم الأصلية التي ابتدعتها الثقافات المختلفة، ومنها ما قدمته الحضارة العربية الإسلامية من معانٍ وشروط تتصل بالحكم الرشيد والحكم التكليف.
لم نذكر عمداً أثر تكنولوجيا الاتصال على حدوث فضائح، مثل «ووتر غيت» وغيرها، لأن مقالنا يركز على شبكات التواصل الاجتماعي كأحد أبرز مظاهر تكنولوجيا الاتصال الحديثة، حيث إن هذه الشبكات جعلت الفضائح حدثاً متواتراً مألوفاً بعد أن كان نادراً.
دعوة للتفكير في ضغط شبكات التواصل الاجتماعي، وقوة تأثيرها التي تسير نحو ما يضمن شيئاً فشيئاً أخلقة الحقل السياسي وطهوريته.
*
النزول إلى أرض الواقع
رجل السياسة والإعلامي والباحث هم أكثر الأشخاص المعنيين بهذه المنهجية.
نزول المسؤول السياسي إلى أرض الواقع ضرورة لبناء الثقة ولتوطيدها ولتجسيد ثقافة القرب من المواطن والإنصات إلى مشاغله. ويكشف لنا التاريخ أن الساسة الذين كانوا ينزلون إلى الشارع هم الأكثر قرباً من العهود الأولى لنشأة المدينة العربية والإسلامية.
الانتقال من النظام الشمولي إلى النظام الأكثر مشاركة سياسية والدخول في زمن المجتمع المدني والتعددية السياسية. كل هذا يقوي من توجه سلطة المواطن، ما يجعل من القرب منه أفضل المقاربات. كما لا يفوتنا أن القرب يعني جودة الإنصات وملاحظة الواقع بالعين المجردة.
الإعلامي الجيد ليس الذي يكتفي بالنقد والتنظير والدفاع عن الآيديولوجيات، بل إن العمل الميداني هو الذي يضمن للعمل الإعلامي الجماهيرية، وذلك يظهر من كثافة استعمال الأشكال الصحافية مثل الريبورتاج والتحقيق الصحافي والتحقيق الاستقصائي. فالوسيلة الإعلامية التي تؤثث برامجها بالأعمال الصحافية الميدانية تحرص على حضور المواطن والتحقيق في الظواهر الاجتماعية والمشكلات التي يعرفها المواطنون بشكل عام. من جهة ثانية، فإن العمل الميداني يضمن جودة العمل الإعلامي ومصداقيته، وأيضاً يجعل من دور الإعلام أكثر وظيفية في التنمية والتغيير الاجتماعي والنقد وتسليط الضؤ على مناطق الخلل والعطب في المجتمع والمؤسسات والممارسات بمختلف أنواعها وأبعادها.
فالبحوث اليوم تغلب الدراسة الميدانية واستقراء الواقع بناء على استنطاق عناصره ومكوناته سواء في كليتها أو من خلال طرق العينات. وتكتسي هذه البحوث أهمية مخصوصة لأنها تنطلق من الدراسة الميدانية وتعود إلى مجتمع البحث ذاته وهو تمشٍّ مهم جداً في تأمين الفهم والتفسير اللازمين لأي بحث تحركه حيرة معرفية حقيقية. وهنا يظهر الدور الاجتماعي للبحوث، حيث إنها تأخذنا إلى الواقع بأدوات علمية موضوعية متفق حولها وتضمن أكثر ما يمكن من علمية مع وعي عميق بنسبية كل العلوم بما فيها الموصوفة العلوم الصحيحة.
الواقع هو أساس توجهاتنا وقراراتنا وسياساتنا ومشاريعنا. فالنزول إلى الواقع هو الضامن أننا في الطريق الصحيح وهو الذي يقطع مع كل الشعارات التي فقدت مصداقيتها.
لذلك، فالناجحون اليوم هم الذين لا يخافون الواقع ويجيدون التحرك في أرض الواقع ويمتلكون مهارتي الملاحظة والإنصات.
لذلك، فالناجحون اليوم هم الذين لا يخافون الواقع ويجيدون التحرك في أرض الواقع ويمتلكون مهارتي الملاحظة والإنصات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق