الجمعة، 14 يناير 2022

المثقفون العرب *********************

Feb 21, 2021  Oct 25, 2021

انقساماً أيديولوجياً وفكرياً وسياسياً في أوساط النخب العربية المثقفة، إلّا أنّ أغلبها ينادي، منذ عقود، بالتحرر من الاستبداد، وقاموا بجهود فكرية وسياسية كبيرة، بحثاً عن طريق الخلاص من الأنظمة الاستبدادية والديكتاتورية، ونسبة معتبرة منهم دفعت ثمناً كبيراً لذلك، سجناً ونفياً وقتلاً، ولا تزال النخب المثقفة تحاول إيجاد مخرج من الأزمات المتتالية التي تقع فيها المجتمعات العربية، سياسياً واقتصادياً ومجتمعياً.

 دور للمثقفين العرب يتجاوز الحالة القُطرية لكل دولة، ودورهم الملحوظ إلى واقع المجتمعات والشعوب بصورة جمعية، بخاصة مع الأخطار الجديدة التي لا تقلّ خطورةً، ولا فتكاً، من الاستبداد، مثل أمراض التعصّب القومي والعرقي والديني والهويّاتي والطائفي، إذ أصبحت الأصوات المأزومة، والمسنودة بماكينة إعلامية كبيرة، هي الأكثر ضجيجاً ورواجاً، ما غيّب الصوت العقلاني الهادئ الذي يقدّم أجوبة على التحدّيات الكبيرة التي تواجه الشعوب.

أيّدت نخبة عريضة من المثقفين العرب الصادقين المخلصين ثورات الربيع العربي، ووقفت وراء الشباب الذي حطّم جدران الصمت، وقلب المعادلات التقليدية، وهزم ثقافة الاستبداد والديكتاتورية، قبل أن تنقلب عليه الأنظمة السلطوية، وتدخل المجتمعات في أتون نزاعات داخلية وحروب أهلية، تمهّد الطريق للجماعات المتطرفة الكارثية، مثل تنظيم داعش ليختطف آلاف الشباب العرب الذين سلبت حالة الإحباط، وما واجهوه من آلة عسكرية وأمنية دموية، أفكارهم نحو المنهج العدمي الذي قدّمه "داعش".

وعلى الرغم من أنّ المعركة مع السلطوية والاستبداد لا تزال قائمة، بل ما يحدث اليوم هو بعض تجلياتها، إلّا أنّ هنالك أدواراً ومهمات رئيسية تقع على عاتق المثقفين لإنقاذ المجتمعات والثقافة الإنسانية العربية من الوقوع في فخّ "الهويات القاتلة"، بتعبير الروائي اللبناني، أمين معلوف، وإعادة تأطير فكرة الصراع والتقدّم في سياقات جديدة تعالج الأوضاع القائمة.

مواجهة نزعات الديكتاتورية، أسس المثقفون العرب شبكات ومنتديات مهمة، كشبكة الديمقراطيين العرب، ومراكز حقوق الإنسان، وقدّمت مراكز دراسات مرموقة وعريقة قراءات ودراسات معمّقة دورية للحال العربية، منها مركز دراسات الوحدة العربية، ثم المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات الذي حمل مهمة تبني قيم الربيع العربي، في إنتاجه المعرفي والفكري ومؤتمراته العديدة.

 بناء شبكة كبيرة من المثقفين العرب (فقهاء ومفكرين ورجال دين وأكاديميين وسياسيين) تقدّم خطاباً حضارياً يقوم على البعد الإنساني الديمقراطي الحقوقي، في مواجهة تلك الهويات وموظيفها، لتتبنّى هذه الشبكات المكونة من مثقفين من مختلف الألوان، لهم مصداقية وحضور، قيماً ترفض التضحية بالأوطان والإنسان والكرامة والحرية على مذبح الطائفية أو الهويات العرقية أو الاستقطابات الأيديولوجية والفكرية؛ كما يحدث في دول عربية عديدة اليوم (العراق، سورية، اليمن، ليبيا، الصومال، السودان، لبنان...)، ما يؤدي إلى حالة استنزاف كبيرة لكل الطاقات الإنسانية والمقدّرات والثروات، بل يُدخل المنطقة في نزاعات مسلّحة تهدر فيها مليارات، والنتيجة الرئيسية: هزيمة جمعية وكوارث حضارية وإنسانية وانهيارات أخلاقية واقتصادية ومجتمعية.

*

المثقف العربي وأزمة الاغتراب: قراءة في رواية "قنديل أم هاشم" ليحيى حقي

Sep 4, 2020

  الصراع بين العقل الواعي الرافض لكل ما هو غير عقلاني، والاحتياج لكلّ ما هو مفارق. وهو احتياج يغذّيه ذلك العدد الهائل من المعطيات الدينية، الممتزجة بالموروث الشعبي المفعم بالأسطورة، لتنتج في النهاية نمطاً من التدين الشعبي له سماته الفريدة والخاصة في الوقت نفسه.

ذلك الشاب الذي نشأ في بيئة شعبية (حي السيدة زينب)، وأصر أبوه على إرساله إلى أوروبا لدراسة الطب، فيسافر إسماعيل محمّلاً بتراث الشرق وعاداته، ومتأثراً بحياته البسيطة التي لم تكن تخرج "عن الحي والميدان، أقصى نزهته أن يخرج إلى النيل ليسير بجانب النهر أو يقف على الكوبري"[3]، وفي محيط يعيش أجواء الأساطير، ويحلق في فضاءات عوالم مفارقة من الروحانيات، حيث يؤمن الناس بالخرافة، ويجاورون أرواح الأولياء، ويستأنسون بها، ففي "ليلة الحضرة يجيء سيدنا الحسين والإمام الشافعي يحفّون بالسيدة فاطمة النبوية والسيدة عائشة"[4]. وهي كما يبدو صورة تشبيهية شديدة الأهمية، تتمدّد هذه الصورة، لتأتي بشخوص العالم المفارق إلى حيث العالم الأرضي، فتمنح القداسة لزيت القنديل، وهي قداسة يغدو الإيمان بها ملزماً للجميع، في نسق إيماني يخضع لمنطق التماثل وظروف الواقع ومشروطياته، بعيداً عن حاكمية النصوص.

فكرني بفيلم 2020 صاحب المقام 

سافر إسماعيل إلى لندن تصاحبه وصايا الأب بالتمسك بفروض دينه وعدم الانجراف خلف المغريات: "وصيتي لك أن تعيش في بلاد برّة كما عشت هنا، حريصاً على دينك وفرائضه"[5]، وتبدو العلاقة هنا بين المفردات ومدلولاتها علاقة سببية، فالالتزام شريطة التفوق من وجهة نظر الأب الذي يمثل الشرق بتعاليمه وأنساقه الإيمانية الروحانية.

في لندن تصطدم مكونات التسامي الإيماني الظاهري لدى إسماعيل بحضارة الغرب المبهرة، ليفاجأ بعالم آخر تتجلى فيه مظاهر الحضارة الحديثة بكل منجزاتها وماديتها، وينجرف في حب ماري التي ترمز هنا إلى حضارة الغرب، ماري الجميلة فائقة الحسن تجرفه بعيداً عن ثوابته الإيمانية، "فآثرته واحتضنته، عندما وهبته نفسها كانت هي التي فضّت براءته العذراء".[6] فينطلق معها لينهل من رحيق الهوى بلا قيود، ينسلخ إسماعيل من شرقيته رويداً رويداً، لكن مع مرور الوقت تتأجج شحنة الصراع الداخلي بفعل التناقضات الحادة، بين روحه اليقظة وواقعه المادي، هنا ينشأ مجال حيوي واسع من التوتر بفعل ماري، حيث "كانت روحه تتأوه وتتلوى تحت ضربات معولها. كان يشعر بكلامها كالسكين يقطع من روابط حيّة يتغذى منها... واستيقظ ذات يوم فإذا روحه خراب لم يبق فيها حجر على حجر، بدا له الدين خرافة لم تخترع إلا لحكم الجماهير".[7]

مع عودة إسماعيل يتأجج الصراع في عالمه القديم، عاد طبيب العيون ليجد في انتظاره نوعاً من التحدي، حيث أصيبت فاطمة ابنة عمه بالرمد، وعولجت بزيت القنديل (المبارك)، فيثور إسماعيل ثورة عارمة، "أهي دي أم هاشم بتاعتكم اللي هتجيب للبنت العمى، سترون كيف أداويها فتنال على يدي أنا الشفاء الذي لم تجده عند الست أم هاشم"[8]، لكنه يفشل فتنهار ثقته فيما تلقاه من علم، ليدخل في دوامة صراع وجودي وعزلة يصل من خلالها إلى اليقين بحتمية اقتران العلم المادي بالروحانيات، وكانت ليلة القدر بكلّ ما تحمله من دلالات روحانية، وتجليات ربّانية ليلة فاصلة "فانتبه إسماعيل، ففي قلبه لذكراها حنين غريب، رُبيّ على إجلالها والإيمان بفضائلها"[9]، لكنه كان في حاجة إلى علامة، فرفع بصره، "فإذا القنديل في مكانه يضيء كالعين المطمئنة التي رأت وأدركت واستقرّت، خيّل إليه أنّ القنديل وهو يضيء يومئ إليه ويبتسم"[10]. وكأنه وصل إلى شاطئ الأمان أخيراً، وأدرك حتمية الإيمان، وحاجته إلى قلب متجرد من سطوة ما هو مادي، إلى رحاب أم هاشم بكل ما ترمز إليه من دلالات روحانية.

هنا يعلن إسماعيل عن قناعاته الجديدة الناتجة بعد تجربة مريرة، وصراع محتدم: "تعالي يا فاطمة لا تيأسي من الشفاء لقد جئتك ببركة أم هاشم، ستجلي عنك الداء وتزيح الأذى، وترد إليك بصرك فإذا هو حديد"[11]، لم يهمل إسماعيل العلم، لكنه "عاد من جديد إلى علمه وطبّه يسنده الإيمان".[12]

وبمزيد من الإصرار في ظلّ متلازمة العلم/ الإيمان واصَلَ محاولات إنقاذ بصر فاطمة، "ولم ييأس عندما وجد الداء متشبثاً قديماً يجادله بعناد لا يتزحزح، ثابر واستمر ولاحت بارقة الأمل، ففاطمة تتقدم للشفاء على يديه يوماً بعد يوم، وإذا بها تكسب في آخر العلاج ما تأخرته في مبدئه، فهي تقفز أدواره الأخيرة قفزاً".[13] وهكذا كُتب لها الشفاء.

 فإسماعيل واقع باستمرار تحت تأثير البيئة، متموقع في معطياتها، بحيث نلحظ التغير النوعي في تحولاته، لتتسع جبهة الدلالة لتشير إلى ذلك الصراع بين الغرب بحضارته وماديته، وبين الشرق بتخلفه وروحانيته، فالكاتب غير مؤيّد للانسياق الكامل خلف الغرب، فهو ينطلق من رؤية كلاسيكية تدعو إلى أخذ العلم مع الاحتفاظ بالإيمان، والعقل إلى جوار الروح، وهو ما تجلى بوضوح في حسم الصراع لصالح الإيمان.

*****

إن اسمي لا يكاد يذكر إلا ويذكر معه هذه الرواية كأني لم أكتب غيرها

على كثرة النصوص في الأدب العربي التي تطرح إشكالية الصراع بين الأصالة والمعاصرة، تظل رواية "قنديل أم هاشم"، التي كتبها حقي في أربعينيات القرن الماضي، صاحبة خصوصية بوصفها مرجعا أصيلا في تفنيد ذلك الصراع.

ورغم قصر الرواية حيث لا تتعدى صفحاتها السبعين، نجح حقي في إظهار الهوة بين الحداثة المرتبطة بتمجيد العلم على حساب الكفر بكل ما هو قديم، والإيمان المتجذر بالموروث، من خلال البطل إسماعيل الذي تربى في حي السيدة زينب لكنه سافر ودرس الطب في أوروبا ليعود إلى وطنه ويقع بين مطرقة ما نشأ عليه وسندان ما ذاقه في بلاد الغرب.

فإسماعيل المتخصص في طب الرمد يؤمن بالعلم سبيلا وحيدا لعلاج الناس من العمى، في حين أن العميان أنفسهم يعلقون كل آمالهم على زيت يتكوم في قنديل بمسجد السيدة زينب، ومع تصاعد الأحداث لا يجد البطل حلا للصراع سوى أن يغزل خيطا رفيعا يصل به بين ما وصل إليه العلم وما يؤمن به الناس.

*

May 26, 2021

المثقف العربي ***


Jan 17, 2021

 نتقبل بامتثال مُبرر- للأسف – روايات الآخرين عن أحوالنا. ففي العقود الأخيرة، كان النبأ العربي اللافت والنافذ يصدر عن منابر إعلامية أجنبية، لأن سدوداً قائمة تحول دون أن نصنع الخبر عن أنفسنا بأنفسنا، إذ يسهل جداً أن يحصل الأميركي أو البريطاني على أسرار الكواليس، بينما يصعب ذلك على العربي، وإن أحرزه يُخاطر. ولكي لا يخاطر، يظل يحوم في مدار الفعل السياسي للسلطة، بين الحياة والمال والأمن!

المثقف العربي الذي يكتب؛ لا يزال خارج الجدل في المسائل الاقتصادية والسياسية الكبرى، على أهميتها الحاسمة في مصائر الأوطان. على الرغم من ذلك، لا ننسى أن أعلاماً من المفكرين والفلاسفة الذين استهدى بهم الغرب، قد مروا في حياة العرب وأيامهم السالفة، واستهدى الغرب بهم، وما أكثرهم هؤلاء كأبي الوليد بن رُشد والعّلامة أبي يوسف الكندي، وغيرهما ممن استحقوا إكبار الأمم الأخرى. ولم يكن أولئك يجافون الثقافات القديمة مثلما يجافيها الأصوليون اليوم.

مر عندنا، في ما وصفه الغرب “الربيع العربي” فوران ساخن. فقد أطلقت بعض الشعوب سيقانها للريح، بحثاً عن حلول لمعضلات الحياة وإشكاليات الاستبداد. لكن الحلول نأت عنهم كسراب في فلاة، لأن الشارع لا يملك حلولاً. فإن لم ينشغل المفكرون والمثقفون والمبدعون، قبل الشارع، بأسئلة المصير، وينخرطوا في حوار خصيب حول المسؤولية التاريخية عن التردي وكذلك عن النهوض من جديد، فلن يجد الشارع حلاً، وإن أظهر غضباً!

*

المشروع الفكري الغربي صار نقيضا لواقعنا العربي. ضع صراع الأيديولوجيات جانبا لأن أيّ توافق بين الليبرالية الغربية والانغلاق الإسلاموي في منطقتنا مستحيل. السياسيون الغربيون منافقون أو متأقلمون. يقبلون الإسلاموية على علاّتها لأسباب أمنية وسياسية.

المثقف اليومي العربي اليوم مجموعة تناقضات في شخصية واحدة. تستطيع أن تجد مثقفين عربا تنقلوا من اليسار إلى القومية إلى الإسلاموية وصولا إلى الشعبوية. هؤلاء كانوا نسخا قديمة من التأثر بالتيارات الجارية في حينها. المثقف الحالي يجمع من هذه الأفكار سوية وأكثر من هذا. يتغير اتجاه الريح، ولكنه لا يغير اتجاهه، بل يزيد على تناقضاته اتجاهات جديدة. يرى المجتمعات تعيد تشكيل نفسها، فيقوم بتقديم التناقضات سوية في إطار يعتبره فكريا.

الميديا الحديثة تساعده على هذا. مفكرنا يبرز إعلاميا حتى قبل أن يبرز فكريا. مثقفنا سلعة يومية تتداولها الفضائيات، بعض الأحيان أكثر من فضائية في اليوم الواحد. من لديه هواية اللعب بريموت كونترول التلفزيون يعرف هذا. نفس الوجه الفكري يتنقل، ويعيد تشكيل أفكاره ومفرداته بحسب طبيعة القناة الفضائية. اللغو كثير وسيضيع ما يقوله. لا يوجد مشروع فكري أو ثقافي له مدوّن في كتاب أو مكتوب في موقع ليحاسب عليه أو أن تطاله أقلام النقاد. المفكر أو المثقف أصبح مشهدا تلفزيونيا.

الإعلام مفيد للشهرة. ولكنه في النهاية مشروع فضيحة فكرية للسذج من مدّعي المعرفة والثقافة والفهم والفكر. الشبكات الاجتماعية مليئة بالمشاهد من برامج يقول فيها مفكرنا الشيء وضده خلال أيام أو أشهر، وإذا كان محظوظا خلال سنوات. من حق المرء أن يغير أفكاره. لا يوجد ما يجبر المثقف على الالتزام بفكرة معينة طوال عمره. ولكن من حق الناس على المثقف أو المفكر أن يثبت على رأيه في ذلك اليوم أو الأسبوع أو المرحلة. هو ليس حلوى بنكهات وألوان مختلفة.

الانفتاح الفكري ليس تقلبا. هذا ما نحن بحاجة إليه. أن نستطيع أن نفهم التغيرات العميقة التي تجتاح العالم، وتجتاح عالمنا العربي تحديدا، كي نستطيع أن نسهم فيها فكريا وثقافيا. من دون هذا الانفتاح سيكون من الصعب النهوض بمشروع فكري أو ثقافي عربي. والانفتاح هنا بالتأكيد ليس على الطريقة القديمة من الإسقاطات الفكرية والثقافية العربية من/عن النتاج الفكري الغربي. لا نريد أن نقول السرقات الفكرية فهي أيضا كثيرة.

مشكلة هذا التحدي عويصة. إذا استثنينا المثقف أو المفكر اليومي المتنقل بين الفضائيات فهو لا يصلح لهذه المهمة، فأن قولبة الفكر في إطار ثابت مهمة صعبة. وكي نتأقلم مع التغيرات فأن الانفتاح يخرجنا من مناطق الراحة التقليدية. يريد البعض أن يضع المفكر ضمن قالب وصايا عشر تحسم كل شيء. علينا أن نتخيل كيف أن المشروع الفكري – لو حدث – سيولد خديجا ويبقى خديجا. الوصايا تضع سقفا لما يمكن أن نصل إليه حتى من قبل أن نبدأ. لكن العقلية السائدة، سواء الفكرية أو الاجتماعية، تريد هذه القولبة وهذه الأسقف.

ينظر بيسار ديني شعبوي

هناك الكثير من الأدوات المعرفية المتاحة مما تؤهل لقيام ثورة فكرية وثقافية في مجتمعاتنا تبني على الأسباب الحقيقية. لا أدري لماذا نعجز مرات ومرات عن التقاطها. ربما لم يحن الوقت بعد.

مثقف السلطة وسلطة المثقف

*Aug 17, 2021

الفرق بين الفلاسفة الحقيقيين وأشباه المثقفين
Jul 26, 2021

 هاشم صالح 

المفكر الفرنسي المعاصر روجيه بول دروا.

 أهم كتبه نذكر العناوين التالية: «صحبة الفلاسفة» و«الفلاسفة الكبار: عشرون فيلسوفاً صنعوا القرن العشرين» و«الغرب مشروحاً للجميع» و«كيف يمشي الفلاسفة»... إلخ. وأخيراً «تاريخ مختصر للفلسفة»، وهو الذي سنتوقف عنده هنا.

*

 إلغاء الدولة العربية هذه الهوامش، وإلحاق مؤسسات المجتمع المدني بالدولة التي تمت عسكرتها، بصرف النظر عن شكل الحكم، مدنيا كان أم عسكريا، على زيادة صعوبة معركة المثقف

حد تعبير هشام شرابي. وتجنبًا للمساءلة، أخذ المثقفون العرب يعوّمون المسائل من خلال تعميمها، وأخذت أشكال النقد الكلي تظهر من خلال تحليلات عامة لنقد العقل العربي أو الدولة العربية أو الاقتصاد العربي... إلخ، من دون أن يأخذ هذا النقد نموذجًا محدّدًا، لأن العام لا يعني أية دولة على التحديد، ولأن التحديد يعني المساءلة.

أسفرت الممارسة الاستبدادية للسلطة في العالم العربي بعد الاستقلال عن غياب المثقف إلى حد كبير باستثناء المريدين للسلطة، والذين يمارسون النقد العام. والقمع المتواصل الذي تعرّض له المثقف النقدي منذ الاستقلال أسفر عن هذا الغياب، إما بصمت المثقف، أو بتهجيره، وأما بسجنه. 

 فولادته في الغرب كانت في ظل استقرار الديمقراطية، ولأن المثقف النقدي يؤثر من خارج السلطة، لذلك يجب أن يمتلك المجتمع مساحةً من الحرية، لا يمكن من دونها أن يكون دوره إلا ناقصًا، فحتى يستطيع المثقف أن يقوم بدوره يحتاج، إلى وجود ساحة ثقافية مفتوحة على كل الممكنات، متحرّرة من السيطرة، ومن ضغوط السلطات العقائدية والدينية والسياسية، بحيث يكون النقد ممكنًا من الناحية المعرفية، من دون محاسبة أو مساءلة أو عقاب. ويرتبط هذا الانفتاح أيضًا بضمان حرّية التفكير والمعارضة والاحتجاج والتعبير عن الرأي، وأن يستطيع نشر المواقف المتعلقة بالمشكلات المطروحة على المجتمع.

 تنوع انحيازات المثقفين، فتجمّعاتهم ليست خارج المجتمع، ولا هي فوقه، بل تحمل أمراضه ككل التجمعات الأخرى. فإذا كان المثقف النقدي يشعر بالعزلة والهامشية، فمردّ ذلك تضافر التراجعات والمساومة الذاتية وانكفاؤه على ذاته، مع العوامل القمعية التي تمارسها السلطة، بحرمانه من وسائل الاتصال التي تسيطر عليها. بالإضافة إلى محاسبته ومساءلته عن مواقفه من سلطات البلد التي ينتمي إليها إذا كان مقيما فيه، وأحد أهم عوامل الإحباط للمثقف النقدي أنه محرّم عليه القراءة في بيئته التي يفترض أنه يكتب عنها ولها، فلا أحد يكتب من أجل أن يحتفظ بما كتب.

الأساس كائنٌ ينتمي إلى ثقافة وتاريخ معينين. وباختصار "المرء لا يكون سوى نتاج مجتمع معين"، كما يقول زيغلر. ولهذا المجتمع قضاياه ومشكلاته التي تختلف عنها في المجتمعات الأخرى، وعلى المثقف، بوصفه عاملا في الشأن العام، الإدلاء بدلوه في هذه القضايا.

*

النخب الثقافية في العالم العربي مغتربة عن واقعها

المثل العامي القائل “قالوا له: يا فرعون من فرعنك؟ قال لهم: ما لقيت من يصدني”؟

أدمن اللعب على الكلمات والمخاوف لاستمرار ثقافات الاستبداد والترهيب والتخويف.

هذا التخاذل مردّه الخوف والأنانية وغياب مفهوم “المثقف العضوي” الملتحم بقضايا شعبه كما يفهمه الإيطالي غرامشي أو “المثقف الملحمي” الذي يقبل بالنهايات المشرفة كما أراده اليوناني سقراط حين تجرع السم بشجاعة في سبيل الحقيقة.

القادر على إحداث الإضافة وصنع التغيير وليس القابع وراء أكوام الكتب أو المتمترس داخل أسوار الجامعة أو المتفرج على آلام شعبه من خلف زجاج المقاهي.

فالأولى بنا أن نبدل عبارة “إني أُؤمن أولًا ثم أفهم” بـ”إني أفهم أولًا ثم أُؤمن”.

 إما تستهلك منتجا غربيا بآليات عربية أو تعيد تدوير واقع محلي في ماكينة غربية الصنع والتفكيك والتركيب، أما إذا أرادت ملامسة الواقع وحاولت البحث عن خصوصيتها، فقد تسقط في الانغلاق الموصول بالسلفية التي تؤدي حتما إلى التطرف والتكفير.

متى كان للمثقف العربي دور كي يتراجع عنه؟ دعونا نقل إنه، ودون جلد للذات، يعاني سكرات الموت السريري ولم يعد يتنفس إلا في الغرف الزجاجية داخل المنتديات المتخصصة وأمام جمهور قليل من المتثائبين.. وفي أحسن حالاته يمرّغ ماء وجهه في الاصطفافات السياسية؛ إما موالاة مفضوحة أو معارضة مأجورة، فما العمل مع هذا الصنف من المثقفين الذي شبهه أحدهم بالضرس المنخول والمسحوب عصبه لكثرة عدم تحسسه للواقع؟

الحقيقة أن لا عزاء للجماهير المخذولة إلا في ما بدا يحمل مسحة أمل في الآداب والفنون رغم سيطرة العملة الرديئة، لكن هذا المجال لا يمكن له أن يسد الفراغ ويعوّض “بهجة المعرفة” التي تحدث عنها نيتشه في الفلسفة الألمانية التي زاوجت بين فكر هيغل وشعر شيلر، وكذلك المتعة التي تحدث عنها الكاتب الإنجليزي ألدوس هكسلي في قوله “المثقف هو من اكتشف شيئاً أكثر تشويقاً من الجنس”.

 فمن دون أشباه المثقفين يصبح العيش مستطابا.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق