الخميس، 27 يناير 2022

حسام بداروي ******

مفهوم الطبقية والعدالة الاجتماعية بين الفلسفة الإسلامية والنظريات الحديثة

May 23, 2020


 إلغاء الفوارق بين الناس على مستوى التطبيق،
التفاوت يستدعى صراعًا على مستوى الفرد وعلى مستوى المجتمع، وقررت أن الصراع الطبقى هو الحاكم والمتحكم فى علاقات الإنسان على المستويات كافة؛ ومن ثم رأت أن هذا الصراع حتمى فى المجتمعات، ويجب أن يفضى فى النهاية إلى زوال الطبقات من تلك المجتمعات، وسيادة طبقة واحدة هى طبقة البروليتاريا.

أما الرأسمالية فقد تعاملت مع هذا المفهوم من منظور آخر، فهى من جانب أقرت هذا التفاوت بين الطبقات على مستوى التنظير، وعملت على ترسيخه على مستوى التطبيق، فأطلقت للأفراد حرياتهم دون قيد أو شرط، وجعلتهم المالكين الوحيدين لما يكتسبون، ولا حق فيه لغيرهم سوى من خلال نظم ضرائبية تكفل سداد الأغنياء لنسبة من أرباحهم لمجموع المجتمع واتخذت الاحتياطات القاسية ضد من يتهربون من سداد هذه الضرائب. وفى نفس الوقت منعت الدولة من القيام بأى تدخل فى سلوك الأفراد، واعتبرت أن سيطرة القوى والغنى هو القانون الذى يحكم المجتمعات والعلاقات بين الناس. واعتبرت الرأسمالية فى شكلها الأمريكى المتطرف أن وجودها يعتمد على القوة الاقتصادية للشركات والأفراد الذين يحمون هذه الفلسفة بتحكمهم أيضا فى الحكم حتى وإن أخذ شكل الديمقراطية التى أصبحت قوة المال والمصالح الاقتصادية تتحكم فى مقدراتها بدرجات متفاوتة.

سياسيا مصريا يميل إلى اليسار ويعتمد على الاتحاد السوفيتى فى مواجهة الغرب الرأسمالى المؤيد لإسرائيل 

 ظاهرة التفاوت الطبقى بين الناس؛ من ذلك قوله تعالى: {ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض} (النساء:32)، وقوله سبحانه: {والله فضل بعضكم على بعض فى الرزق} (النحل:71)، وقوله تعالى: {انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض} (الإسراء:21)، وقوله سبحانه: {نحن قسمنا بينهم معيشتهم فى الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات} (الزخرف:32). فهذه الآيات ونحوها تقرر حقيقة واقعة وهى أن الله قد فضل الناس بعضهم على بعض بشتى أنواع التفضيل؛ فضلهم بالرزق فمنهم الفقير ومنهم الغنى. وفضلهم بالجسم فمنهم القوى ومنهم الضعيف. وفضلهم بالعقل فمنهم العالم ومنهم الجاهل. وفضلهم بالشكل فمنهم الجميل ومنهم القبيح وفضلهم بالأخلاق فمنهم حسن الخلق ومنهم سيئ الخلق. وأشير إلى الآية التى أحبها ويتغير فهمى لها كلما ازداد علمى ومعرفتى ونضوجى الفكرى «إن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها، لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت».

إذن، القرآن الكريم يقرر ظاهرة التفاوت بين الناس. وهو إذ يفعل ذلك إنما يفعلها لحكمة يريدها، ولو كان الناس كلهم فى مستوى واحد من الرزق لما احتاج أحدٌ لأحد، ولم يعد ثمة مسوغ للدعوة لفعل الخيرات، وعمل الصالحات.

ومن الناحيه الفلسفيه فلا يمكن أن تستقيم الحياة إلا بهذا التفاوت؛ وذلك أن التفاوت ضرورى لتنوع الأدوار المطلوبة لعمارة هذه الأرض. ولو كان جميع الناس نسخًا مكررة ما أمكن أن تقوم الحياة على النحو المطلوب، ولبقيت أعمال كثيرة لا نجد لها من يقوم بها. والذى خلق الحياة وأراد لها البقاء والنمو خلق الكفايات والاستعدادات متفاوتة تفاوت الأدوار المطلوب أداؤها

فعلى مستوى التفاوت الاقتصادى بين الناس، طلب من الغنى الإنفاق على الفقير، ومدِّ يد العون له، كما قال تعالى: {وأنفقوا مما رزقناكم} (المنافقون:10). وهو على هذا المستوى لم يسع إلى العمل على محاربة ما فطر الله عليه الناس من تفاوت واختلاف،

 طلب من الفقير ألا يتمنى ما فضل الله به غيره من الناس، كما قال تعالى: {ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض}. ومدح المتعففين من الفقراء، فقال: {يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا} (البقرة:237). وأيضًا طلب من الناس السعى فى طلب الرزق والكد من أجل تحصيله، قال تعالى: {هو الذى جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا فى مناكبها وكلوا من رزقه} (الملك:15)،.

وعلى مستوى التفاوت الفكرى، طلب القرآن من العالِم أن يُظهر علمه، ولا يكتمه عن الناس، وتوعد من يفعل ذلك أشد الوعيد، قال سبحانه: {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس فى الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون} (البقرة:159). فالعالِم مطالب أن يعلم غيره، ولا يكتم علمه فى صدره.

وبالمقابل، حضَّ القرآن غير المتعلم على طلب العلم، وميَّز بين العالم وغير العالم، ما يفيد مدح الأول وذم الثانى، كما قال تعالى: {قل هل يستوى الأعمى والبصير أفلا تتفكرون} (الأنعام:50)، وقال تعالى: {قل هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون} (الزمر:9)، وطلب من غير المتعلم أن يسأل العالم، قال سبحانه: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} (النحل:43) فغير العالم مطالب بأن يتعلم ولا ينبغى أن يبقى جاهلاً.

إذن فلسفة الإسلام أقامت الحياة الاجتماعية على أساس التفاوت بين الناس. ولم يقع يوماً حتى فى المجتمعات المصطنعة المحكومة بمذاهب موجهة أن تساوى جميع الأفراد فى هذا الرزق أبداً. ودولاب الحياة حين يدور يسخر بعض الناس لبعض حتمًا {ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا} (الزخرف:32). و(التسخير) -وفق المنظور القرآني- لا يعنى استعلاء طبقة على طبقة، أو استعلاء فرد على فرد حيث إن كل البشر مسخر بعضهم لبعض ليس بمفهوم العبودية ولكن بمفهوم طبيعة الاحتياجات والقدرات والمهارات لأن الحياة تستمر وتدار بالجميع، حيث يسخر بعضهم لبعض فى كل وضع، وفى كل ظرف. المقدَّر عليه فى الرزق مسخر للمبسوط له فى الرزق. والعكس كذلك صحيح. فهذا مسخر ليستثمر المال، وينشئ الوظائف فيعمل الآخرون ويرتزقوا، والتفاوت فى الرزق هو الذى يسخر هذا لذاك، ويسخر ذاك لهذا فى دورة الحياة. العامل مسخر للمهندس، ومسخر لصاحب العمل. والمهندس مسخر للعامل ولصاحب العمل. وصاحب العمل مسخر للمهندس وللعامل على حدٍّ سواء. وكلهم مسخرون للخلافة فى الأرض بهذا التفاوت فى المواهب والاستعدادات، والتفاوت فى الأعمال والأرزاق.

والقرآن إذ يقرر هذا التفاوت بين البشر لا يدعو إلى ترسيخ هذا التفاوت وتنظيمه، بل غاية ما فى الأمر أنه يقرر الحقائق الخالدة فى فطرة هذا الوجود. وحتى الاختلاف فى الدين والطبائع والثقافات واللغه هو جزء من ثوابت الوجود الإنسانى وكل من يحاول أن يزيل هذا التنوع ويجعل المجتمع نسخة واحدة من أفكاره وعاداته ويحدد ثقافته فهو يحارب الطبيعة البشرية ويمنع التنمية النفسية والعقلية التى تتمتع بها المجتمعات ذات التنوع مثل مصر.

أود أن أقرر، أن فلسفة الدين الإسلامى حسب فهمى قد أقرت ظاهرة التفاوت بين الناس، واعتبرت ذلك من المقتضيات الملازمة لاستمرار هذه الحياة، ودعت فى الوقت نفسه إلى تقليل هذه التفاوت قدر المستطاع، لكنها لم تسع إلى إلغائه؛ لأن فى ذلك إلغاء لسنة من سنن الحياة.

 تحقيق العدالة فى المجتمع بتوازن بين بقاء حافز النجاح وتحقيق الربح واحتياجات الإنفاق العام

 هناك فلسفتين مختلفتين تتعاملان مع العدالة الاجتماعية: الفلسفة الأولى تتعامل مع العدالة الاجتماعية كنتيجة يتعين الوصول إليها بغض النظر عن عدالة الوسائل، مثلما فعلت الشيوعية وكما يدعو بعض السياسيين فى مصر الآن، والفلسفة الثانية تتعامل مع العدالة الاجتماعية بوصفها عدالة الفرصة ومكافأة المجهود وفى نفس الوقت إتاحة خدمات وحقوق معينة للجميع كالتعليم والرعاية الصحية والمواصلات العامة والصرف الصحى والمياه النظيفة مثلا بغض النظر عن تفاوت الدخل بالإضافة إلى الإنفاق على مؤسسات العدالة (القضاء) ومؤسسة الدفاع عن الوطن (والجيش) ومؤسسات تطبيق القانون (الشرطة) وهى الفلسفة الأقرب إلى عقلى ووجدانى فى تحقيق حد معروف من الحقوق وفى نفس الوقت مكافأة العمل والاعتراف بتعدد واختلاف القدرات والرزق.

إن السياسات الاقتصادية باختلافاتها منذ آدم سميث «أب الاقتصاد الحديث» تؤكد أن «العمل والإنتاج والكفاءة» هو أصل تحقيق إعادة توزيع الدخل. 

ويتحقق تكافؤ الفرصة من خلال الإنفاق على نظام تعليم أساسى لا يفرق بين الغنى والفقير أو المهمش، ونظام أساسى للخدمات الصحية لا يميز بين الطبقات، وسبل انتقال عامة كريمة إلى العمل من خلال الاستثمار فى البنية التحتية، ومناخ أعمال شفاف يمنع الاحتكار ويحمى أصحاب الأعمال الصغيرة ويضمنهم فى العملية الإنتاجية وفى خلق فرص عمل كريمة وتوليد دخول لأسرهم. فإذا قامت الحكومة بدورها فى وضع لبنة الفرص المتكافئة والمتاحة بشفافية للجميع يسهم الجميع من خلال عملهم فى تحقيق النمو الاقتصادى- زيادة حجم الكعكة- ونمو الدخل لجميع العاملين من خلال جنى ثمار النمو الاقتصادى الذى يساهم فيه كل العاملين- أى نصيب أكبر من الكعكة لكل مجتهد. ومن خلال ثمار هذا النمو تتاح الفرصة لإعادة توزيع نسبة منه على المهمشين كما تم تعريفهم. وهنا علينا أن نفهم تحقيق العدالة الاجتماعية بهذا المفهوم يقع على الدولة كمنظم وضامن للحقوق وعلى المواطن القادر فى استعمال أمواله لخلق فرص عمل جديدة والعامل بجهده وإتقانه لعمله لتحقيق مزيد من الدخل والرفاهية له ولأسرته ومجتمعه عملاً بالآية القرآنية «إن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا». وتتجلى الفلسفة الإيجابية للعمل مرة أخرى فى الآية القرآنية «إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم» التى تضع عبء تغيير الحال على الفرد ومجهوده وليس على الرب فما بالك الدولة.

*
بين الثقافة والفن والسياسة

د. طه حسين فى كتابه العظيم «مستقبل الثقافة فى مصر»: «الأمية ليست هى أمية القراءة والكتابة فقط، بل القراءة والكتابة والفهم. من يقرأ ويكتب ولا يفهم هو مطية لمن يفهم.. وعبد لمن يختار له طريقة لأنه لا يستطيع الاختيار








ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق