السبت، 22 يناير 2022

أنظمة شمولية ناعمة يقودها مجتمع متقدم بلا معارضة

المجتمع الصناعي المتقدم سعى جاهداً بكل قواه لتفريغ المجتمع من كل أشكال النقد، بهدف السيطرة عليه وتطوعيه.

يعتقد معظم رواد مدرسة فرانكفورت أن المجتمع الصناعي المتقدم قد استطاع “أن يكسب كثيرا من الأرض التي كان على الحرية الجديدة أن تزدهر عليها.

(هربرت ماركيوز: فلسفة النفي).

سعى المجتمع الصناعي المتقدم جاهدا بكل قواه، لتفريغ المجتمع من كل أشكال النقد، بهدف السيطرة عليه وتطوعيه في خدمة تحقيق أهدافه وغاياته المتمثلة بالسيطرة والتسلط على الإنسان والطبيعة. فوسائل الاتصال الجماهيري المحصنة بالتكنولوجيا التي يمتلكها هذا المجتمع على سبيل المثال، لا تجد أيّ عناء يذكر في تحويل المصالح الخاصة إلى مصالح تهم كل أفراد المجتمع من ذوي الحس السليم. حيث يبدو أن كل شيء عقلاني ولا يشوبه أيّ تناقض أو خلل.

ويشرح هربرت ماركيوز سبب هذه السيطرة أن طاقات المجتمع المعاصر (الفكرية والمادية) الحالية أعظم بكثير مما كانت عليه في السابق، وهذا معناه أن هيمنة المجتمع على الفرد أكثر بكثير من السنوات الماضية، لقدرة هذا المجتمع على استخدام التكنولوجيا وترشيدها في سبيل السيطرة على أفراده من خلال تحسين مستوى معيشتهم وجعلهم أسيرين لها بكل ممارستهم اليومية. (هربرت ماركيوز:  الإنسان ذو البعد الواحد).

 الأنظمة الليبرالية الراهنة ما هي في جوهرها إلا أنظمة شمولية من نوع جديد وإن زعم أنصارها غير ذلك، فالفرد في ظلّها يجد نفسه مشدود الوثاق إلى عجلة هائلة من التنظيمات الإنتاجية لا يستطيع الفكاك منها

البرلمانية، وبهذا تصبح المعارضة مندمجة داخل منظومة المجتمع القائم، وبالتالي يجردها تماما من سلاحها الوحيد، ألا وهو القدرة على رفض النظام القائم. وبنفس هذا السياق يساعد هذا التسامح أيضا على الترويج لسائر البرامج الإصلاحية السلمية التي تتوهم إمكانية الوصول إلى تغيرات جذرية دون اللجوء إلى العنف الثوري، لذا نجد أن هذا التسامح الحذر الذي تمنحه المجتمعات الرأسمالية، يصبح أداة ناجحة لتحديد القوى الراديكالية المعارضة للنظام، فالشعب يتسامح مع الحكومة، والحكومة تتسامح مع المعارضة داخل إطار شمولي يتخذ من الديمقراطية ستارا لممارساته القمعية.

والدليل على ذلك، أن النظم السياسية الراهنة التي تتخذ الشكل الديمقراطي، فإن هذا لا يؤخر ولا يقدم شيئا لموقفها الأساسي، فما الديمقراطية إلا واجهة تحكم من ورائها صفوة ما لحساب مصالح معينة، أو ما هي في الحقيقة إلا نوع من الطغيان الذي يرتدي الرداء الديمقراطي من خلال الأغلبية. وما الالتزام بالقرار الديمقراطي إلا نوع من الالتزام الزائف، ذلك أن الالتزام الحقيقي لا يمكن أن ينبع من إرادة تم تخريبها والسيطرة عليها. (أنطوني دي كرسبني وكينيث مينوج: أعلام الفلسفة السياسية المعاصرة).

فالبرجوازية والبروليتاريا كطبقتين كبيرتين متعارضتين في المجتمع قد وعتا الدور التاريخي للنظرية وراحتا تستخدمانه في عملهما السياسي. أما في الوضع الحالي نجد أن البرجوازية والبروليتاريا على الرغم من أنهما الطبقتان الرئيستيان في العالم الرأسمالي، إلا أن العالم قد شوه بنيتهما ووظيفتهما إلى حد عدم القدرة على النظر إليهما كعامل للتحول التاريخي. ففي القطاعات من المجتمع المعاصر توجد مصلحة قوية لتوحيد خصوم الأمس بهدف الحفاظ على مؤسسات المجتمع الصناعي المتقدم من جهة وتدعيمها من جهة أخرى. (هربرت ماركيوز: الإنسان ذو البعد الواحد، مرجع سبق ذكره، ص 29).

إن البنية الطبقية للمجتمع الصناعي والصراع الطبقي بين الطبقات، كما صوّرها ماركس لم تعد تعتبر قسمات هامة للمجتمعات الغربية الحديثة، لأن هذه المجتمعات سعت إلى توحيد الخصمين السابقين في المجالات الأكثر تقدما للمجتمع المعاصر، لأن من مصلحتها الإبقاء على مقاليد السيطرة والهيمنة التي تستحوذها باسم التقدم والارتقاء (توم بوتومور: مدرسة فرانكفورت). أي أن الطبقة المعارضة، والمتمثلة بالطبقة العاملة لم تعد موجودة لأنه تم استيعابها واسترضاؤها، ليس من خلال الاستهلاك فقط، وإنما أيضا من خلال عملية الإنتاج المرشدة ذاتها. (المرجع السابق نفسه، ص 82).

ونتيجة لغياب عوامل التغير الاجتماعي في هذا المجتمع تم القضاء على أيّ محاولة بناءة للنقد مما أدى به إلى تقوقعه في مجال التجريد فقط. الأمر الذي أدى إلى تحطيم حقيقي للأرض المشتركة بين النظرية والممارسة. لكن السؤال الذي يطرح نفسه وبقوة. إذا كانت عوامل التحول غائبة (أي التغيير الاجتماعي)، فهل هذا نقد حاد للنظرية؟

المجتمع بوصفه نقيضا للدولة. وهذا الأمر ينطبق على مقولات كثيرة في هذا المجتمع مثل: الفرد، الأسرة، الطبقة. (المرجع السابق نفسه، ص 30 – 31).

فالأنظمة الليبرالية الراهنة ما هي في جوهرها إلا أنظمة شمولية من نوع جديد وإن زعم أنصارها غير ذلك، فالفرد في ظلّها يجد نفسه مشدود الوثاق إلى عجلة هائلة من التنظيمات الإنتاجية لا يستطيع الفكاك منها. (أنطوني دي كرسبني وكينيث مينوج: أعلام الفلسفة السياسية المعاصرة، مرجع سبق تم ذكره، ص 23).

بذلك يكون المجتمع الصناعي قد أحكم إغلاق كل أبواب النقد الاجتماعي التي يمكن أن يتعرض لها للمحافظة على السوية التي يرى أنها مناسبة لتطوره والتقدم بغض النظر عن الاعتبارات الأخرى حتى لو كان هذا على حساب حرية الفرد والمجتمع، أي “مجتمع بلا معارضة”.


 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق