ظاهرتان كبيرتان صنعت تاريخ الإنسان وتاريخ الإنسانية - على الأقل حتى اليوم - هما الدين والقومية.
إرتبط الدين بالمجتمع الإقطاعى العبودى، بينما إرتبطت القومية بالمجتمع البرجوازى الليبرالى ، لكن المراجعة الفكرية وتجربة التاريخ تثبت أن هاتين القوتين ، الدين والقومية ، كانت دائما ثقافتان تعملان فى حياة الشعوب بإستمرار، وبمعزل عن التطورات الاقتصادية والاجتماعية وإلا بماذا نفسر سيادة الفكر الدينى فى دول لها كل ملامح الدول الرأسمالية كإيران والسعودية مثلاً، وسيادة الفكر القومى الليبرالى لدى شعوب قديمة لها كل ملامح المجتمعات الإقطاعية العبودية كبلاد اليونان القديمة وروما مثلاً ؟
فقد إستولى الدين على حياة الإنسان منذ البداية لكنه - وبمرور الزمن - تحول
من دين سلام إلى دين سياسة ، وبدلا من أن يمنح الإنسان السلام منحه الحرب والصراع ، وإستمر ذلك هو الحال حتى ثارت أوربا - قائدة التاريخ الإنسانى - على الدين وقدمت للإنسانية ديناً بديلاً هو الوطن - وهوعزيز على الإنسان أيضاً - لكن المشكلة لم تنتهى ، فقد كان الدين البديل دين سياسة بدوره ، وتصارعت دول أوربا فيما بينها وأفنت بعضها البعض بدافع التعصب القومى فى حربين عالميتين لم تعرف الإنسانية لقسوتهما مثيلاً.
عرفت الإنسانية ديانتان عالميتان هما المسيحية والإسلام ، أما باقى الأديان الآسيوية الكبرى كالبوذية والهندوسية والكونوفوشية ، فلم تتطور فى أى لحظة من لحظات تاريخها إلى أن تصبح ديانات عالمية، وظلت عبر تاريخها الطويل محتفظة بدائرة إنتشارها داخل البيئة الآسيوية فقط - بإستثنائات قليلة - كما أنها لم تتطور لتصبح ديانات سياسية تماماً ، كالديانات الإبراهيمية الشرق أوسطية الثلاث ، اليهودية والمسيحية والإسلام. ولسنا هنا بصدد الحديث عن لماذا أصبحت المسيحية والإسلام فقط ديانتان عالميتان، ولكنا نود الحديث عن ماذا حدث عندما أصبحت كذلك؟
**********
الاديان باقية
تشعر قطاعات عريضة من المتدينين فى كل الأديان بالغيرة على معتقداتهم الدينية، يستوى فى هذا أصحاب الأديان الكبرى، أو الذين يؤمنون بمعتقدات فلسفية أو وضعية. وتجد أحيانا أناسا يتقمصون دور «فرسان المعبد» يدافعون عن الدين، ويزأرون بغضب فى مواجهة من يسىء إليه، فى حين أنهم «غير متدينين»، لا يمارسون عبادة بانتظام، ولا يتسلحون بأخلاق وقيم. هؤلاء موجودون فى كل الأديان والمجتمعات.
نسمع أحيانا فى حوارات مع مثقفين غربيين أن المسلمين أكثر حساسية تجاه النقد الذى يمارس لمعتقداتهم الدينية فى بيئة غربية منفتحة تفعل الأمر نفسه مع المسيحية، وكم أسىء إلى شخص السيد المسيح،
أعقاب الحادث الإرهابى الذى وقع ضد صحفيى «شارل أبدو» ــ منذ سنوات ــ أن أكاديميا بريطانيا رفيعا هو «تيموثى جارتون آش» كتب مقالا حادا تمسك فيه بالليبرالية، باعتبارها منجزا غربيا، مؤكدا أن ممارسة الحرية تقتضى النقد، ونقد كل شىء، حتى لو كانت معتقدات دينية، وهذه هى شروط الحياة فى المجتمع الغربى.
هذا كلام فريق من الغرب يرى الحرية تسمو على المعتقد، وممارسة النقد هى جزء من الحرية، ولكن هناك الآن فريق آخر من أهل الغرب، خاصة بعد أن زاد تواصله مع مجتمعات وثقافات أخرى، أصبح أكثر ميلا إلى إدراك أهمية احترام المعتقدات الدينية لإدارة صحية للتعددية الثقافية ** علي راي بطيرك الروسية الارثوثكسية تعدد قوميات لا ثقافات مستحيل عادات وتقاليد ***، والعلاقات بين أهل الأديان والمعتقدات.
فى الواقع تحتاج البشرية إلى عقود طويلة تتخلص فيها من مخزون سلبى من التصورات النمطية عن الآخرين. نجدها ليس فقط بين أهل الأديان، ولكن بين أصحاب المذاهب داخل الدين الواحد، وبين سكان دول مختلفة، وأحيانا بين سكان أقاليم داخل نفس الدولة، ولن تستطيع البشرية أن تحقق ذلك إلا بمزيد من التواصل، والانفتاح، والثقافة، والحوار العاقل، وإدراك أن الآخر أيا كان لديه ما يقدمه للإنسانية من أفكار وقيم.
ليس الحل هو تبادل الإساءة، كما يروج الغاضبون فى كل زمان ومكان، ولكن الحل هو التجاوز عن الإساءة، وتقديم الصورة الصحيحة للدين والمتدينين. لن تتلاشى المسيحية إذا هوجم السيد المسيح، ولن ينهار الإسلام إذا تعرض النبى محمد إلى هجوم، وكم تحفل كتب التاريخ بأحداث وقصص وحكايات عن الهجوم الذى تعرضت له الأديان، ثم ما لبث أن تلاشى، وظلت الأديان باقية، بل واشتد حضورها وتأثيرها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق