الخطاب الشعبوي، خطاب لا عقلاني، تعبوي، دعائي، محرض على الكراهية، هدفه إثارة مشاعر الجماهير وشحنها بعدائية الآخر الحضاري أو الديني أو المذهبي أو القومي، الزعيم الشعبوي لا يقود، بل يقاد من قبل الجماهير التي يظن قيادتها، يركب الموجة الجماهيرية ويتملقها صوابا أو خطأ، ولو على حساب مصالحها الحقيقية، الهدف الأسمى للقائد الشعبوي، الوصول إلى السلطة، ولو داس كل القيم والأعراف، يتبنى الشعبوي خطابًا معاديًا للبناء السياسي والاجتماعي القائم وللنخب السياسية والثقافية، ويؤمن بالفكر التآمري، ويغذي به الجماهير.
ظهرت الشعبوية في ثلاثينيات القرن الماضي، وأنتجت الفاشية والنازية في أوروبا، والحكام الديكتاتوريين في أمريكا الجنوبية، وامتدت إلى العالم العربي لتنتج زعماء شعبويين متسلطين، تبنوا سياسات شعبوية
لكن أوروبا وعت الدرس، ومنذ نهاية الحرب الثانية استطاعت الأحزاب الليبرالية، المزاوجة بين الديمقراطية والاشتراكية، ونجحت في تحجيم التيار الشعبوي وتهميشه على امتداد 7 عقود، لتعود الشعبوية وتنتعش من جديد، وتمتد موجاتها لتكتسح أوروبا والولايات المتحدة، وإذ استثنينا هولندا التي نجت من قبضة الشعبوية بأعجوبة، وألمانيا، القلعة الأخيرة، فإن فرنسا تشهد اليوم صراعًا رئاسيًا ساخنًا، والاستطلاعات ترجح اقتراب اليمين الشعبوي من الرئاسة، وانحسار ظاهرة الأحزاب التاريخية: وبخاصة الاشتراكية عن الساحة السياسية.
الشعبوية، أكبر معاول هدم الديمقراطية
بالرعاع، والغوغاء، والدهماء، لاحق لهم في المشاركة في أي شأن عام، ولا مدخل لهم في الشورى، لأن الشورى، بحسب رأيهم، للنخبة والصفوة، أهل الحل والعقد والمعرفة والخبرة والرشد والحكمة، أما رجل الشارع، الإنسان العادي، فغير أهل للمشاركة في شؤون الحكم والسياسة، بناء على أن القرآن الكريم ذم الغالبية الشعبوية، ووصفها بالجهل والضلال، كونها تستثار بسهولة، وتتلاعب بها الأهواء، فتنقاد لمن يتلاعب بعواطفها، ولو على حساب الحق والحقيقة والمصالح العامة، فيحذر القرآن الكريم الرسول عليه الصلاة والسلام من اتباع أهواء الناس فيقول: وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله، وفي آيات أخرى: ولكن أكثر الناس لا يعلمون، ولكن أكثرهم يجهلون، فالإسلام نهى عن الغوغائية، وكان كبار العلماء يسمون العامة الشعبوية، بالجهلاء والجراد المخرب، قال ابن عباس عنهم: ما اجتمعوا إلا ضروا، وعلى ذلك، فالشورى في الإسلام، لا تبالي بأصوات الغوغاء في المجال السياسي، ولا تعمل لهم حسابًا، وإنما تبحث عن الرشد والصواب والحكمة عند أهل الذكر والمعرفة والخبرة، وتنهى عن اتباع أهواء الذين لا يعلمون.
نحن اليوم في عصر الشعبوي الصاعد، رجل الشارع البسيط والذي كان مهمشًا، هملا في الماضي، لا رأي له في أي شأن عام، ونجد من الكتاب والمثقفين، اهتمامًا متزايدًا بظاهرة صعود الشعبي وسقوط النخبوي، أوالمثقف، كما في كتابات الناقد والمفكر السعودي الدكتور عبدالله الغذامي، والمفكر اللبناني الدكتور علي حرب.
***
مواطنون لا ذميون
الاستعمال المتكرر لمصطلحات مثل «مستأمنين» و«ذميين» و«أهل كتاب» في وصف المواطنين الأقباط الذين وقعوا ضحية الهجوم الغادر. ومثل هذه المصطلحات ترد عادة في أحاديث رجال دين، تأكيداً لحرمة العدوان على غير المسلمين،
هذه المصطلحات ليست إطلاقات لغوية محايدة، بل هي «حقائق شرعية» أي مصطلحات خاصة ذات محمولات محددة، وتقال في سياق مفهومي قيمي مستمد من الفهم الفقهي القديم، الذي كان يقسم العالم إلى دارين: «دار إسلام» و«دار حرب»، حيث كانت دولة المسلمين تسود العالم وكانت جيوشها تتوسع في البلدان، فتنمو، وتنمو معها علاقات المسلمين بغيرهم، فكان من الطبيعي، يومها، تنظيم العلاقة بين القوة الكبرى المنتصرة ورجالها الأقوياء، والأفراد والمجتمعات الخاضعة لها، ضمن هذه المفاهيم والمصطلحات، لتأكيد الولاية السياسية ومسؤولية الدولة عن كل رعاياها. كقاعدة عمل موازية لولاية الإيمان التي تربط المسلمين بالدولة، والتي تحولت مع مرور الزمن، إلى مضمون وحيد للرابطة السياسية والاجتماعية، ودون مراعاة للمراحل التاريخية الفاصلة، انتقل هذا الموروث الفقهي التاريخي، وحتى بعد سقوط الخلافة الإسلامية ونشأة الدولة الوطنية الحديثة، إلى معظم من كتبوا في هذه القضية، وتكفي نظرة سريعة على كثير مما كتبه الفقهاء والكتاب الإسلامويون المعاصرون حول الموضوع، طبقاً للدكتور السيف، كي نكتشف المشكلة التي واجهوها، حين أرادوا وضع تصور يتلاءم مع الموروث الديني الفقهي، من جهة، ومع المبادئ السياسية والقانونية وحقوق الإنسان، جهة ثانية، ومبادئ العدالة، من جهة ثالثة.
الدولة الحديثة تنتمي لعالم مفهومي مختلف عن ذلك الذي كان قائماً في عصر الخلافة الإسلامية السالفة، ولا يمكن فهمه وفق المنظور الفقهي القديم، ولا المصطلحات الناتجة عنه، فعلاقة الدولة الحديثة برعاياها، اليوم، قائمة على مبدأ المواطنة فقط، والذي يعني تساوي جميع المواطنين في حقوقهم وواجباتهم، أياً كانت أديانهم، وانتماءاتهم الاجتماعية، لا الذمة ولا الاستئمان.
ما ذهب إليه السيف، يتفق مع ما ذهب إليه الأزهر في «إعلان المواطنة والعيش المشترك» مارس 2017، حيث أكد «التأسيس لشراكة متجددة أو عقد مستأنف بين المواطنين يقوم على التفاهم والاعتراف المتبادل والمواطنة والحرية والشراكة الكاملة»، كما دعا إلى إعادة النظر في هذه المصطلحات التاريخية المحكومة بسياقها الزمني وفق اجتهاد جديد يتلاءم وواقع العصر ومقتضيات الدولة الوطنية.
أخيراً: علينا التحرر من أسر الموروث الفقهي التاريخي لعلاقة المواطنين غير المسلمين بالدولة الوطنية اليوم، فتلك العلاقة التاريخية، والأحكام التي انبنت عليها، والمصطلحات كافة الناتجة عنها، بنتُ عصرها، ولا ينبغي سحبها إلى عصرنا، ومن غير المناسب أن نظل محكومين باجتهادات فقهية، محكومة بزمنها، فآراء الفقهاء ليست مقدسة، فهم أبناء عصرهم، واجتهاداتهم ناسبت قضايا زمنهم، ونحن أبناء عصرنا، علينا أن نجتهد بما يناسب واقعنا، بما لا يخالف الثوابت والمقاصد الشرعية.
***
ثائر على فكر "السلف"
أكثر من 150 مؤلفاً.
عاش جمال البنا 93 عاماً، نشطاً يقرأ ويكتب، متحرراً من قيوده الوظيفية والزوجية والحزبية، منشغلاً بقضية واحدة، هي قضية «تجديد الفكر الإسلامي»، نذر نفسه لهذه الرسالة العظيمة وسماها «دعوة الإحياء الإسلامي»،
ثار جمال البنا على فكر الأسلاف، وعلى كل ما أنتجوه في مجالات الفقه والتفسير والحديث ورأى أن المسلمين المعاصرين غير ملزمين بأفكارهم وأعمالهم.
(الإنسان مقياس الأشياء)، ومن ثم عندما نقل هذه الرؤية إلى الإسلام، وجد أن الإسلام بدأ بالإنسان أيضاً، في قوله تعالى: «وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة»، فكانت نقطة لقائه بالإسلام أن الإسلام جعل الإنسان خليفة الله تعالى وسخر له كل شيء، وذلك أكبر تكريم. وأكد ذلك قوله تعالى: «ولقد كرَّمنا بني آدم». ومن هنا آمن مفكرنا، أن كرامة الإنسان فوق كل اعتبار، ولكل الجنس البشري من غير أي تفرقة، وما كان لمخلوق كرمه المولى تعالى بنفسه أن تصادر كرامته، كما آمن جمال البنا بأن الإسلام إنما أنزل للإنسان ولم يخلق الإنسان للإسلام، فالإنسان هو الغاية والإسلام هو الوسيلة.
كان جمال البنا مهموماً بقضية (إسلام الإنسان) مدافعاً عن الجانب الإنساني في الإسلام (الإسلام الإنساني)، وهذه الرؤية هي ثمرة تفكير متصل في فهم الإسلام أرهص عنها مبكراً في أول مؤلف له (ديمقراطية جديدة) عام 1946. وقال للإخوان المسلمين فيه: «لا تؤمنوا بالإيمان، بل آمنوا بالإنسان». وقال - أيضاً- إذا تعارض نص مع المصلحة، أخذنا بالمصلحة وأوَّلنا النص، لأن النص جاء من أجل الإنسان.
الأصلان العظيمان: الكتاب والسُنة ثم (الحكمة)، أما ما جاء عبر الإجماع والقياس، فلا يعد مرجعاً أصلياً، إنما هي أحكام فقهية تمثل فهم السلف للإسلام، ويقصد البنا بـ(الحكمة) الثقافات والعلوم والمعارف الإنسانية (كل الفلسفات والنظريات التي أثمرها فكر الفلاسفة يجب أن ينظر فيها، ويستمد منها ما يصلح دون غضاضة، لأن الشعوب جميعاً أسهمت فيها، وهذا التجديد هو الذي يعيد للإسلام، طابعه الإنساني/ الحضاري). كما أن القرآن الكريم نفسه يعتمد (الحكمة) قرينة الكتاب، وتعليم الرسول يتضمن الكتاب والحكمة، كما أن الحكمة ضالة المؤمن، وتجارب الشعوب النافعة في مجالات الحكم والإدارة والتنظيم والإنتاج والفكر هي (الحكمة)، الباب الأعظم لانفتاح الإسلام على الثقافات والعلوم والمعارف وتفاعلها أخذاً وعطاء،
لماذا لم ينضم البنا إلى حزب أخيه حسن البنا رغم إجلاله وحبه الشديد له؟ سئل في ندوة (الهلال المصرية، أغسطس 2008)، فقال: لم أدخل الكُتّاب ولم أحفظ القرآن، وكانت قراءاتي في مدنية حديثة. وهذه القراءات أبعدتني عنهم، كما كانت لي تحفظات على أفكارهم فيما يتعلق بالمرأة والفنون والحريات. رحم الله تعالى جمال البنا.
***
إسلامية مجتمعاتنا.. لماذا التشكيك؟
الطرح المحوري الدعائي لتنظيمات الإسلام الحركي كافة، أن مجتمعاتنا غير محكومة بالإسلام، وأن أحكام الشريعة غابت عن دنيا المسلمين من بعد سقوط الخلافة العثمانية، رمز الوحدة الإسلامية، وإلغاء منصب الخلافة، المنوط بها كثير من أحكام دين الله تعالى، وحلول الشرائع والنظم والقوانين الوضعية المستوردة من الغرب مكانها، وذلك عام 1924، فأصبحت مجتمعاتنا لا تحتكم إلى الشريعة، وارتدّت إلى مجتمعات جاهلية ما قبل الإسلام، تتحاكم إلى الطاغوت، وتسوِّغ انتشار المنكرات والمعاصي، وتعطل إقامة الحدود الشرعية، وتوالي الكفار، لتقوم مملكة البشر على أنقاض مملكة الله في الأرض، وينقطع وجود الأمة المسلمة، طبقاً لمُنظر أيديولوجية (الحاكمية) الشهير: سيد قطب في كتابيه: (معالم في الطريق) و(في ظلال القرآن)، والذي دعا أتباعه من الشباب الطليعي - في بيان ناري، أشبه بالمنشورات النازية - إلى المفاصلة وقطع علاقاتهم كافة بالمجتمع الجاهلي، تمهيداً لـ(إزالة الطواغيت كلها من الأرض جميعاً وإقامة مملكة الله تعالى في الأرض).. دعونا نناقش هنا مسألتين: الأولى: من صاحب نظرية (الحاكمية)؟ يتفق الباحثون على أن الداعية الباكستاني أبو الأعلى المودودي، هو الذي صاغ نظرية أو أيديولوجية (الحاكمية) حلاً للوضع السياسي والاجتماعي للأقلية المسلمة في الهند، ورفضاً للدولة القومية الديموقراطية العلمانية التي تبناها (حزب المؤتمر الهندي)، أي أنها أيديولوجية محكومة بسياق سياسي اجتماعي زماني معين، أقلية مسلمة وسط أغلبية غير مسلمة تخشى ذوبانها، لكن «قطب» استعارها وطرحها على مجتمع مسلم، ونظّر إليها دينياً، وجعلها عقيدة محورية لتنظيم انقلابي، عنيف ومدمر، لا للمجتمعات الإسلامية - التي ينفي عنها الصفة الإسلامية، وإن ادعت بالإسلام وزعم أفرادها أنهم مسلمون بشهادات ميلادهم - فحسب، بل للمجتمعات البشرية كافة التي، لا تحكم بالإسلام، لإعادة مملكة الله تعالى (المغتصبة) وتحرير الإنسان من العبودية لغير الله تعالى!
في تصوري أن المودودي مسبوق في نظريته، بالخوارج الذين كفّروا المجتمع الراشدي، واستحلوا دماء الصحابة رضوان الله عليهم، وسلوا سيوفهم عليهم، رافعين شعار (لا حكم إلا لله)، تلك هي الجذور البعيدة لأيديولوجية (الحاكمية)، التي تبنتها تنظيمات الإسلام الحركي، في ما بعد وحكمت على مجتمعاتنا بأنها لا تطبق الشريعة.
الإمام علي كرم الله وجهه، حينما رد على الخوارج، وقال بأن شعارهم كلمة حق يُراد به باطل، أما الحق فإن أصل الشعار الآية الكريمة (إنْ الحكم إلا لله) وأما الباطل الذي قصده الإمام، فهو إساءة توظيف الآية الكريمة، وجعلها شعاراً سياسياً بهدف السلطة والحكم، فحاكمية الله تعالى مطلقة للبشر والحياة والكون وما فيه، ولكن هذه الحاكمية لا تلغي حاكمية البشر في تنظيم وتدبير أمورهم وأمور مجتمعاتهم في ظل الثوابت الدينية والأخلاقية والإنسانية، مثلما أن إرادة الله تعالى الشاملة لا تناقض إرادات البشر الجزئية، وهل ينفذ المولى تعالى حكمه وإرادته إلا من خلال البشر؟!
أما الزعم بأننا مجتمعات غير إسلامية، فيكذبه الواقع المعاش للمجتمعات الإسلامية كافة، وشرع الله تعالى لم يغب عن دنيا المسلمين قط، منذ نزوله إلى اليوم، يحيا المسلمون بالإسلام: ديناً ومعتقداً وتشريعاً ومعاملة وشعائر وعبادات وثقافة وفطرة وأسلوب حياة، والإسلام دين حاضر باستمرار في المكون الثقافي والنفسي والاجتماعي للشعوب العربية والإسلامية عامة، بل هو فطرة تتمسك بها شعوبنا، وكتاب الله تعالى يتلى ليلاً ونهاراً في بيوتنا ومؤسساتنا ومرافقنا وفي مناشطنا كافة، وبيت الله تعالى لا ينقطع أبداً من الطائفين الراكعين، والمساجد عامرة بروادها المصلين، كل ذلك من قبل ظهور الإسلام الحركي ومن بعده. ختاماً: هذا الإسلام الذي توارثناه عبر الآباء والأجداد، هو الإسلام كما أنزله المولى تعالى على رسوله عليه الصلاة والسلام، وأما الإسلام الذي تسعى لفرضه تنظيمات الإسلام الحركي، فهو دخيل مبتدع، لم تعرفه المجتمعات الإسلامية من قبل، يُراد به تحويل الدين إلى أيديولوجية سياسية وأداة ووسيلة إلى السلطة، هو إسلام صدامي، مفسد للدين، ومفرق للمسلمين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق