“وحدهم الفقراء يستيقظون باكرا كي لا يسبقهم إلى الشقاء أحد
هذه البرمجة الأيديولوجية الهادفة إلى الرفع من مردودية العمل والإنتاج إلى الحدّ الأقصى، لصالح الطبقة المسيطرة، مقابل إنهاك قواها الحيوية وحرمانها من كل متع الحياة وأفراحها دون شفقة ولا رحمة، بنظرة ربحية صرفة، تهدف إلى “أن تجعل من العامل مجرّد آلة منتجة تجرده من إنسانيته لمراكمة الخيرات والمنافع حتى تستمتع بها الطبقة الرأسمالية وحدها دون غيرها”
بذل المزيد من الجهد والتفاني في خدمة الصناعيين والإقطاعيين
كتاب “الحق في الكسل”، جاء في هذا الإطار الذي يدافع فيه الكاتب عن حق العمال المشروع في أيام الراحة والعطل والأعياد، في التمتع بنوع من “الكسل المحمود” وليس بالمفهوم الأخلاقي السائد.
“الكسل” مصدر مهمّ للتقدم البشري، وذلك على اعتبار أن الكائن البشري يستحق هذه الراحة التي لا بدّ منها كشرط أساسي للإبداع، ذلك أن الإنسان الذي لا يتمتع بقدر كاف من الراحة، لا يمكن له أن يبدع ويتقدم ضمن خطط إنتاجية تعوّل عليها الدول والمجتمعات.
العمل في نظر لافارغ، يصبح مرضا عضالا، في حالة الإدمان عليه، ويصبح مصدر تعطيل للإنتاج والإنتاجية بدل أن يكون محفزا، ذلك أن النفوس تقنط ساعة بعد ساعة، فكان من الواجب إراحتها كما ورد في الأثر العربي.
نرى الآثار السلبية التي يتركها الإدمان على العمل في المجتمعات التي تحكمها أنظمة رأسمالية أو اشتراكية على حدّ سواء، وذلك إن كان بالتعبئة العقائدية والأيديولوجية كما تفعل المنظومات الشمولية أو بالإغراءات المالية كما هو الشأن بالنسبة إلى الدول الرأسمالية التي ترفع العمل إلى درجة التقديس.
على الرغم من التركيبة الطبقية للمجتمع، فإن الإغريق اعتبروا العمل أمرا يخصّ العبيد والفئات المستضعفة، وقال هؤلاء بإعلاء شأن التفكير وفنون القول والرسم والنحت، معتبرين ذلك من هبات الآلهة، بينما ازدرى الكثير منهم العمل العضلي واعتبروه ضربا من الشقاء المجاني إن لم تكن تصاحبه غاية سامية وراقية.
لا يمكن لرجل تزوّج ابنة كارل ماركس، أن يحط من شأن العمل كقيمة مضافة تقدر بالمال وتساهم في تطوير المجتمعات ورقيها، لكنه يلفت الانتباه في هذا الكتاب الإشكالي، إلى أن العمل كحالة شقاء فردي وجماعي ليس غاية من نضالات الطبقة الكادحة، بل على الأخيرة أن تتفطن إلى أن الراحة تصنع التقدم والرفاهية وليس عبادة العمل لأجل العمل.
المواطن الذي يكرس ماهية وجوده بالعمل مقابل مال يحط نفسه إلى رتبة العبيد”
“الكسل يمكن أن يصلح شعارا ضدّ تطرف الاستغلال” ذلك أن الفئات المهيمنة والمتحكمة في رأس المال، يمكن أن تجعل من العمل عقيدة مقدسة في أذهان البسطاء من البروليتاريا الرثة، وتلهيهم عن قضايا أساسية وجوهرية صلب الكائن البشري كتربية الأطفال والعناية بأشياء ذات قيمة جمالية وحياتية.
خبير التربية والأسرة إبراهيم ريحاني، مفهوم الرفاه الاجتماعي، بالعمل على ترسيخ دور الأسرة والمدرسة في التنشئة السليمة، من خلال تقليل ساعات العمل حتى يتسنى للوالدين الاهتمام بأبنائهم بعيدا عن الضغوط الاقتصادية والاجتماعية، ولتكون بذلك العائلة أولى آليات إصلاح منظومة الطفولة.
التقليص في الزمن المدرسي وترسيخ مفهوم المدرسة الصديقة عن طريق التخفيض من ساعات التعلم وإحداث نوادٍ وورشات فاعلة صلب المؤسسات التربوية لتساهم في صقل المهارات الحياتية للناشئة خاصة في السنوات الأولى من العمر”.
كتاب “الحق في الكسل” يندرج في سياقه التاريخي ضمن نضالات سياسيّة مريرة، انتهت بإقرار قانون عطل نهاية الأسبوع المدفوع الأجر، والعطل السنوية والوطنية، وإقرار حق عطلة المرض والتطبيب المدفوع الأجر، وتقليص ساعات أوقات العمل اليومي، وحق تعميم الرفاه ووسائل الراحة في التنقل والسفر على جميع فئات المجتمع.
كونوا كُسالى واستغلّوا كلّ دقيقة من وجودكم لتكونوا أنتم كنز أنفسكم الوحيد”.. ما أعمق هذه المقولة التي تقترب من الشعر في كتاب صهر كارل ماركس، ذي المزاج الفرنسي الذي لم تؤثر فيه الصرامة الألمانية. ويذكّر بشعار مارتن لوثر كينغ “كن سيّد نفسك فلست قيمة مضافة”.
البعد الإنساني هو الذي أكسب الكتاب قيمته المعرفية، وجعله محطّ أنظار العديد من الدارسين، لأنه لم يمجد العمل على غرار تلك الكتب الحمراء التي تقدس قيمة العمل ضمن منشورات دار التقدم السوفييتية السابقة، ولا مساندا لمقولات ثورجية تسوّق لها أنظمة شمولية على شاكلة كوريا الشمالية، لكن الكتاب وقفة تأمل، في صياغة أقرب إلى الشعرية، من مفكر اقترب من روح كارل ماركس الفيلسوف وليس المنظر الأيديولوجي
أن مصدر الحب السخيف للعمل، إلى حدّ تحويله إلى ديانة تشمل البشرية جمعاء، جاء في الأصل من “رجال الدين والاقتصاديين وصناع الأخلاق”، وهو مجرد غطاء أيديولوجي يهدف إلى رفع الإنتاجية نحو أقصى حدّ على حساب الطبقة العاملة مع إنهاك قواها وحرمانها من متع الحياة وأفراحها وتحويلها دون شفقة ولا رحمة، إلى مجرد آلة للربح يستفيد منها فقط أصحاب رأس المال.
يمضي صاحب “الحق في الكسل” بعيدا في تذوق الزمن، والاستمتاع به قطرة بعد قطرة في تصادم عنيف مع أصحاب الأيديولوجيات المناصرة لاستعباد الكائن البشري، والتعامل معه كآلة لا تكلّ ولا تملّ، ولا تجد راحتها إلا في القبر.
في عالمنا العربي يحاول البعض من المزايدين الادعاء بأنهم يقدسون العمل وفق النموذج الألماني أو الياباني دون أن ينتبهوا إلى خطورة ما يدعون إليه وسط تركيبة اجتماعية تتميز بالركون إلى الروحانيات ومغازلة الطمأنينة الأبدية في دعة وسكون كما هو الشأن في لوحة الفنان الهولندي الشهير فان كوخ، المسماة بـ”لكسل”، والتي نشاهد فيها استرخاء الكائن البشري على طريقته القلقة، بينما تقف حيوانات في الخلفية على قوائمها الأربع وسط مرج أصفر على الطريقة الفانكوخية، لا يوحي إلا بالقلق والتردد
وعالمنا العربي “يعد الكسل من المحظورات في عالمنا الاجتماعي، الكسول رمز وفيّ للتعاسة يحتاج يد المساعدة لانتشاله من الضياع، يكفي أن تقول: أفضلّ ألّا أفعل”.
على خلفية خنوع الإنسان بطبعه في عالمنا العربي لعقلية الكسل والاتكاء، لكن الموضوع أعقد من ذلك بكثير، ويتناول خفايا العقلية التي تزرع تقديس العمل لدى بسطاء الناس كمحاولة لإنقاذ أنفسهم وفرض السيطرة على بسطاء الفئات الاجتماعية الهشة باسم حمايتهم من الفقر والخصاصة
العمل في نظر لافارغ، يصبح مرضا عضالا، في حالة الإدمان عليه، ويصبح مصدر تعطيل للإنتاج والإنتاجية
ى تقديس الزمن الذي لا ثمن له، ويأخذ بيد القارئ نحو فلسفة أشدّ تعقيدا وعمقا من مجرد الدعوة إلى الامتناع عن العمل، لأنه قد أدرك قبل غيره ـ وهو الماركسي الحاذق انتماء وانتسابا وفلسفة ـ إلى أن العمل بضاعة تُبتاع وتُشترى في الأسواق كما انتبه إليها ابن خلدون قبل قرون.
العمل لم يعد موجودا أصلا كي نقدسه أو نزدريه،
طريف المفارقات أنّ هذا الكاتب والصحافي والفيلسوف الماركسي، الذي رثاه لينين أبلغ رثاء، اختار أن ينتحر وزوجته،
- الكسل: وهو عندما يشعُر الفرد بالتعب، أو الافتقار إلى الطاقة، أو اللَّامُبالاة، أو الاكتئاب، أو القلق، أو الشعور بالذَّنْبِ، أو عدم وجود حافز، أو جميعها في آنٍ واحد.
- الكبرياء: عندما لا تشعر بأي حاجة إلى تعلُّمِ أي شيء أو لتحسين ذاتك وصقلها بعلمٍ نافع، والظنّ بنفسك أنك دومًا على استعداد لأي شيء. الروْعَة والكمال شعوران مُتلازمان في تلك الحالة.
- الخوف: عندما يخاف المرء من مواجهة مخاوفه، مثل: الخوف من المجهول، أو الخوف من المخاطر والشكوك، أو الخوف من النتائج، أو الخوف من فقدان السيطرة على زمام أمرٍ ما، أو الخوف من أراء الآخرين فيه.
- قصر النظر: عندما لا نتمكَّن من رؤية الآثار والعواقب لبعضِ المواقفِ والسلوكيات في حياتنا، على المدى المتوسّط أو البعيد.
يهزم أعداءه، لأن أصعب انتصار هو
الانتصار على الذات
طلب العلم طلع صعب جدا أنا
هطلب أكل
في مدح الكسل.. لماذا نحب الاسترخاء على الأريكة؟!
أعتقد أن العمل الذي يُنجَز في العالم يزيد على ما ينبغي إنجازه بكثير، وأن ثمة ضررا جسيما ينجم عن الإيمان بفضيلة العمل".
(برتراند راسل، فيلسوف إنجليزي في مقاله "في مدح الكسل")
نشأت الحضارات الإنسانية قبل اثنتي عشرة ألف سنة تقريبا، وكان الإنسان قبل ذلك التاريخ صيادا جامعا بامتياز، إذ لم يكن هناك طريقة أخرى للحصول على الطعام سوى الخروج يوميا في مجموعات، بعضها تتولّى مهمة الصيد، والأخرى تتولّى جمع الفاكهة والجذور.
تطوَّر الجنس البشري كثيرا منذ ذلك الحين، وبدلا من الخروج للعالم لتأمين طعامك، أصبح العالم يأتي إلى عتبة بابك، حاملا ما لذَّ وطاب من أصناف الطعام دون أن تبذل جهدا يُذكَر. قد يدفعك هذا للظن بأن الراحة لم تَعُدْ ضرورية لبقاء البشر، فلو نفدت طاقتك لأي سبب، ما عليك إلا أن تمد يدك لجارور (درج) مكتبك، وتتناول قطعة الشوكولاتة المخبأة هناك، هكذا ببساطة! هذا الوفر في الطاقة والوقت كان من المفترض أن يدفعنا للحركة أكثر، لكن الواقع كان له رأي آخر.
المخاطر الصحية لنمط الحياة الكسول (Sedentary lifestyle) السائد في عديد من الدول، كزيادة الوزن، والإصابة بأمراض القلب والضغط العالي وارتفاع نسبة الكوليسترول في الدم، فإنك قد تجد صعوبة بالغة في مغادرة الأريكة والذهاب للصالة الرياضية، أو حتى صف السيارة أبعد قليلا عن وجهتك، حتى لا تضطر لمشي الأمتار الإضافية، فما السبب وراء هذا السلوك الذي قد لا يبدو منطقيا؟
"مفارقة التمرين"، فبينما تزداد حملات التوعية والدعوة لممارسة الرياضة واتباع أسلوب حياة أكثر نشاطا، تنخفض معدلات النشاط بين الناس، مما دفعهم للاعتقاد أن الإنسان المعاصر ما زال مُبرمَجا على حفظ الطاقة كما كان يفعل أسلافه.
الفرضية القائلة إن البقاء ليس للأقوى، بل في الواقع للأكسل. ربما تنطبق هذه النظرية على ساكنات الأعماق الصغيرة، ولكن الأمر قد يبدو مختلفا في كائنات أكبر حجما، مثل أسلاف البشر من جنس الإنسان المنتصب.
لعلك لاحظت أن العضلات التي لا تعمل كثيرا تُصاب حتما بالضمور، وكأنما يُغلق جسدك أجهزته التي لا تعمل ليُوفِّر الطاقة للأجهزة الأخرى. تنطبق النظرية نفسها على كفاءة القلب والأوعية الدموية، حيث تتصلَّب الشرايين وتقل كفاءة عضلة القلب، بل ويمتد التأثير على العظام أيضا، إذ يتوقف الكالسيوم عن الترسُّب داخلها وتُصاب بالهشاشة مع نقص النشاط البدني.
ما يحاول ليبرمان قوله هو إن الإنسان مُبرمَج على الكسل بدافع حفظ الطاقة، وهو ما يُعَدُّ الهدف الأسمى لخلايا جسدك حتى تُبقيك حيًّا، وإن أمراض العصر التي تسبَّبت بها الحياة المتراخية قد تكون قابلة للعكس عن طريق زيادة الطلب من جديد، أي عن طريق زيادة النشاط البدني، وأن أفضل طريقة لفعل ذلك هي أن نُحوِّل النشاط البدني الثقيل إلى نشاط اجتماعي مُحبَّب، كما كان أسلافنا يطاردون الفرائس في مجموعات ويحصلون على مكافأة جهودهم معا في شكل وجبة شهية، ثم ينالون قسطا من الراحة بعدها.
كتب راسل أن عدد ساعات العمل اليومية يمكن أن يُقتطع إلى النصف دون أن يؤثِّر ذلك على الإنتاجية أو رخاء المجتمع، كما ثبت أثناء الحرب العالمية الأولى عندما انسحبت نصف العمالة من الوظائف العادية لتعمل في التجسُّس وصناعة السلاح، دون أن يؤثِّر ذلك على توافر الخبز.
لكن بدلا من أن يعمل الجميع قليلا كل يوم، ويعيش الكل في سعادة ورخاء، أصبح نصف المجتمع يعمل لساعات إضافية، بينما النصف الآخر يتراوح بين البطالة وحياة الدعة. ما أراد راسل قوله منذ 90 عاما هو أن الكسل فضيلة فقط إن كانت متاحة للجميع بالتساوي.
في يومنا هذا، ما زالت فضيلة العمل ذات صوت عالٍ، وربما هذا ما يدفعك للشعور بالذنب لبقائك مُستلقيا لا تفعلُ شيئا، أو ما يدفعك لإنهاك نفسك في العمل أو النشاط، وبين هذا وذاك، يمكنك أن تخلق توازنا صحيا، يحميك من الانقراض كأسلافنا الكسالى، ويقيك من أمراض العصر التي تفتك بالكثيرين ممن يعيشون حولك الآن.
*
Jun 14, 2021
العمل مهمة سيزيف السعيد أو لعنة وإكراه
تقديس العمل واستحقار الراحة
مثل استخدام القوالب النمطية أو التحيزات أو المعتقدات الراسخة. وهذا هو ما يفعله دماغنا بالضبط، تبسيط المعلومات التي نتلقاها لتَوفير الوقت والطاقة. ويترجم ذلك إلى التصديق بالحقائق الشائعة والخطيرة جدا.
فنحن تقريبا بشكل يومي نتلقى معلومات وصورًا جديدة، ناهيك أنه لا يوجد وقت لمعالجة كل شيء بدقة.
عندما نفتح الهاتف المحمول، نريد فقط إلهاء أنفسنا أو البحث عن بعض الراحة أو الاستمتاع… نحن نشاهد ونقرأ بدون تفكير وهذا يجعلنا نصدق حقائق تم التلاعب بها بالكامل.
فيجب علينا تنشيط التفكير القابل لعكس كل ما نراه ونقد كل ما نقرأه
*
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق