Aug 12, 2020 Dec 17, 2021
حكام العالم الأربعة
تغير العالم بأكثر مما نتخيل. لم تعد الثروة تأتي من الذهب أو الفضة بالطبع، ولا هي من القطن أو الصوف، ولا حتى من النفط والغاز؛ ولم يعد أغنياء العالم من الذين يصنعون الحديد والصلب، أو محطات الكهرباء، أو الذين يصنعون السيارات أو حتى الطائرات والأسلحة بجميع أنواعها، أو حتى كما حدث في أزمنة قريبة بين هؤلاء الذين يتاجرون بالمال في البنوك وشركات السمسرة والمضاربة العالمية. أصحاب الثروات العظمى في العالم باتوا من نوعيات جديدة، لم يرث أحد منهم ثروة أجداده العقارية، أو مزارع الفاكهة، أو حتى عندما قاموا بإنشاء الأسوق التجارية أو السلاسل التي تقدم الطعام والملبس. هذه بالطبع تظل تعبيرات عن أشكال مختلفة من الثروة، ولكن ما نتحدث عنه هو أمر آخر، مختلف تماماً، كماً ونوعاً؛ فلم يحدث في تاريخ الغنى أن وصلت شركات إلى مرتبة قيمة تريليون دولار سوى أربعة: «أمازون»، و«آبل»، و«فيسبوك»، و«غوغل». هؤلاء هم المتصدرون قائمة الأثرياء والغنى والقيمة المادية والمعنوية في القوائم العالمية المعنية بالثروات والمال. أرقام الغنى لديهم مذهلة، فلم يحدث في تاريخ المال من قبل أن زادت ثروة أحدهم في يوم واحد، كما جرى مع جيف بيزوس، عندما زادت ثروته ثلاثة عشر مليار دولار في يوم واحد، حتى بلغ ما لديه من مال 185 مليار دولار. هذه تمثل قفزة طائلة لم يصل إليها عدد ممن كانوا أغنياء العالم مثل بيل غيتس ووارن بافيت، ويبدو أنهم لن يصلوا إليها ربما لأنهم لم يعودوا يهتمون، أو أن نشاطهم الآن هو ترك بصمة في حل مشكلات البشر، أو أن السباق وجوهره قد تغيرا، وأصبحا يقومان على أمور لا نعرف عنها الكثير.
الأربعة جيف بيزوس (أمازون)، ومارك زوكربيرغ (فيسبوك)، وساندر بيكاي (ألفابيت/ غوغل)، وتيم كوك (آبل)، على لجنة فرعية مضادة للاحتكار في الكونغرس الأميركي. وعندما كتبت هيذر كيلي في صحيفة «واشنطن بوست»، التي شعارها «إن الديمقراطية تموت في الظلام»،
مقاومة الاحتكار، فواحد من أهم أركان الرأسمالية وقدرتها على النجاح، المنافسة، ومعناها منع أي من المنتجين أو المستهلكين من السيطرة على السوق، حتى لا ترتفع الأسعار من دون مبرر، وحتى يستمر دخول منتجين ومستهلكين جدد إلى السوق فتكون منافسة يحصل فيها الجميع على السعادة. ماذا يكون معنى ذلك كله بالنسبة للشركات الأربع التي منتجاتها ومستهلكوها وعوائدها بالمليارات من البشر والدولارات في الكرة الأرضية كلها. ولذلك فإن القارئ لمحضر الاجتماع الذي استمر خمس ساعات، أو حتى للعروض الصحافية عنه، سوف يجد أن موضوع الاحتكار لا يلقى إلا القليل من الاهتمام، وفي معرض أن هذه الشركات العملاقة لا تسمح لمنتجين جدد مثل «إنستغرام» بدخول السوق والمنافسة فيها، وذلك عندما قامت «فيسبوك» بشرائها. هل كان العالم سوف يكون أسعد حالاً لو انفصلت الصور عن الكلمات في شركة واحدة، أو أن «فيسبوك» سوف تكون أقل غنى إذا ما طورت هذه التكنولوجيا بنفسها، أو أن البشرية قد استفادت عندما جرى جمع الزمن، فاختصرت البشرية بعضاً من الوقت على طريق تقدمها. ولأن المفاهيم كلها جاءت للتعامل مع عالم خاص من الشركات والمنتجات والمنتجين والمستهلكين والأسواق في عمومها، فإن أعضاء اللجنة الموقرة ذهبوا إلى الأمور التي ربما يكون لديهم فيها بعض علم. فالجمهوريون في اللجنة تساءلوا بإلحاح لم يخلُ من تهديد عما إذا كانت الشركات الرقمية لديها تحيز خاص ضد «المحافظين» و«الفكر المحافظ» والسياسة «المحافظة». الديمقراطيون على العكس ذهبوا إلى موضوع آخر هو «الكراهية»، وكيف يمكن منع انتشارها على منصات التواصل الاجتماعي. كيف يمكن تحقيق هذا الحلم الذي لم يتحقق في أسواق فكرية أكثر قرباً من الإنسان في الجوامع والصوامع والكنائس والأندية والصحف الحزبية والمستقلة في كافة أشكال منصات التعبير.
الثورة العلمية التكنولوجية الرابعة، وبعد المتابعة، فإن الحيرة سوف تتملكنا بخصوص مدى قدرة هذه الشركات على استيعاب نوع جديد تماماً من الإنترنت الكمي أو (Quantum Internet)، الذي يقوم على تسخير الخصائص المميزة للذرات والفوتونات والإلكترونيات لبناء أجهزة كومبيوتر أكثر قوة وقدرة على معالجة المعلومات، وتسمح بمشاركة المعلومات من دون اتصال مادي. السيد إيلون ماسك آخر القادمين إلى نادي العمالقة من خلال ملكيته لشركة «تسلا»، يفكر في أمر مختلف تماماً، وهو تكنولوجيا «النيرولينك» (Neuralink) التي تصل إلى العقل مباشرة، وتبث فيه الموسيقى والسعادة وتعالج الزهايمر ومرض «باركنسون».
الصين وروسيا وإيران
إيران تطلب من حلفائها في العراق وسوريا ولبنان واليمن أن توفر بعضاً من العون لدولة ولاية الفقيه. وفي إيران من الأذكياء ما يكفي لإدراك أنَّ مثل هذه الحالة غير قابلة للاستمرار.
في مقابل المأزق الإيراني القادم من الضعف، فإنَّ هناك مأزقاً صينياً يعبر عن مأزق القوة التي تمدَّدت خلال العقود الثلاثة الماضية مستفيدة من «العولمة»، وجذب الاستثمارات العالمية، والاستئثار بسلاسل الإنتاج الدولية. في عام 1992 كانت الصين هي الدولة العاشرة في العالم من حيث الناتج المحلي الإجمالي، وفي عام 2008 أصبحت الدولة الثالثة بعد الولايات المتحدة واليابان، وفي عام 2010 تعدَّت الأخيرة وأصبحت الثانية، ووفقاً للمنتدى الاقتصادي العالمي، فإنَّها سوف تتفوق على الولايات المتحدة عام 2024. وفي الحقيقة، فإنَّ بكين تفوقت على واشنطن بالفعل إذا ما حسب الناتج المحلي الإجمالي بالقدرة الشرائية للدولار، وهي التي فوق ذلك تستحوذ على ثلاثة تريليونات من الدولارات احتياطيات نقدية وأذون خزانة أميركية. في مثل هذه الحالة، وبعد القدرة على تجاوز أزمة «كورونا»، فإنَّ الصين لم تعد الدولة التي تقبل أن تكون موضع عقاب للولايات المتحدة، أو اضطهاد تجاري منها.
روسيا فيها من مجمعات القوة والضعف ما يشكل سلوكها في السياسة العالمية. فعندما ورثت الاتحاد السوفياتي السابق، فإنَّها ورثت أيضاً أسلحته وقدراته العسكرية والنووية وأجهزة مخابراته الذي أتى فلاديمير بوتين من قلبها. ولمدة عشر سنوات عاشت روسيا فترة من الفوضى واستحواذ المافيا على الحياة الروسية التي باتت فقيرة جعلت المواطن الروسي يتشوق إلى أيام الاستقرار والسيطرة والقوة، حتى ولو كان مقابل ذلك نوعاً من السلطوية الجديدة. وفي هذه الحالة، فإن روسيا باتت مستعدة لكي تشكل لنفسها مكانة للدولة العظمى بالاستمرار في استكشاف الفضاء، والتدخل العسكري النشط في جورجيا وسوريا وأوكرانيا مع الوجود البحري في شرق البحر الأبيض المتوسط. روسيا هذه لم تعد مستعدة لقبول العقوبات الغربية بعد استحواذها على شبه جزيرة القرم، ولا الاتهامات المستمرة بالتدخل في الانتخابات (الرئاسية الأميركية في 2016) والاستفتاءات الغربية (بريكست 2016).
الدول الثلاث هكذا باتت مستعدة للدخول في تكتل من نوع ما لمقاومة ما يبدو وكأنه طغيان أميركي يفرض العقوبات، ويوزع الاتهامات بمسؤولية «كورونا» على أكتاف الصين، واختراق الدول الديمقراطية على أكتاف روسيا دائماً، والصين أحياناً. ولأن إيران واقعة تحت «الضغط الأعظم»، فإنها عرضت وعقدت مع الصين صفقة من عدة اتفاقيات اقتصادية وأمنية تستمر 25 عاماً لا تستطيع الصين رفضها. ستجلب الشراكة الجديدة رأس المال الصيني إلى صناعة الطاقة في إيران، وتهدد بكبح آثار حملة العقوبات التي يمارسها الرئيس دونالد ترمب ضد إيران. ستمنح الصفقة الجديدة جمهورية الصين الشعبية خصماً منتظماً لمدة ربع قرن على صادرات النفط الإيرانية. في المقابل، ستستفيد إيران من التعاون الأمني والبحثي مع الجيش الصيني، المجهز بتقنيات مراقبة قوية. ومن المعروف أن بكين تتمتع بتاريخ طويل من الاعتماد على الطاقة والنفط الأجنبي بنسبة 75 في المائة من احتياجاتها، ما يجعلها أكبر مستورد للنفط في العالم. الصفقة هكذا مع طهران ستحرر النظام من الاعتماد على بيع النفط من دول أقل صداقة لمصالحها، كما تعطي الصين على الجانب الآخر تحرراً من ضغوط مصادر أخرى للطاقة.
*
Apr 14, 2021
أميركا وأربع آيديولوجيات
الثقافة الغربية، والأميركية بوجه عام، كانت تعتبر «الآيديولوجية» من سمات الدول المتخلفة أو الديكتاتورية بوجه عام، والتي تحتاج إلى مجمع من الأفكار، التي تستخدم للحشد والتعبئة الداخلية وتبرير الواقع الصعب الذي تعيشه الدولة. الليبرالية والديمقراطية لم تكن تدخل ضمن هذا الإطار الجامع، لأنها تقوم على «التعددية»، وقبول الآخر، والتنوع الثقافي، ولأن السياسة فيها تقوم على لعبة قوامها التوافق، والبحث عن الحلول الوسط، عبر عملية تلعب فيها ثقافة مشتركة دوراً مهماً للتوصل لحل الخلافات، وإذا ما تعذر الأمر فإن التصويت الذي ينتج أغلبية وأقلية يحسم الأمر، فلا يكون هناك صراع، ولا امتشاق لسلاح.
فرغم كل شيء فقد عرفت الولايات المتحدة الآيديولوجية منذ الثورة الأميركية حتى الآن، وإن كانت حدتها تختلف من عصر إلى آخر. وفي البداية فإن الثوار الأميركيين عملياً انقسموا بين فريقين سياسيين، كانت لكل منهما آيديولوجية خاصة؛ وكانت لكل منهما وثيقة يستند إليها، فالأكثر إيماناً بالمساواة والحريات الشخصية استندوا بشدة إلى إعلان الاستقلال الأميركي الذي أقرّ بهذه المبادئ، أما الآخرون فقد استندوا إلى الدستور الذي أقرّ «العبودية» باعتبارها واحدة من الأركان الاقتصادية للدولة. وسرعان بعد إقامة الدولة ما انقسمت مرة أخرى حول الموقف من الثورة الفرنسية ومبادئها المنادية بالحرية والإخاء والمساواة، فكان هناك من رأى ذلك امتداداً للثورة الأميركية الأولى، وكان هناك من أصرّ على إقرار قانون «الفتنة والغرباء» الذي يعاقب كل من يتبنى المبادئ الفرنسية باعتبارها داعية إلى الفتنة والانقسام. وبالطبع عندما جاءت الحرب الأهلية الأميركية (1860 - 1865) فإنها عبرت عن انقسام حاد في المجتمع لم ينفع فيه توافق ولا حلول وسط، ولم تكن المسألة متعلقة فقط بالعبودية، وإنما بالاتحاد الأميركي ذاته، وحق الولايات أو أصحاب الأفكار المخالفة في اتخاذ ما يرونه ملائماً لها، بما فيه الانفصال عن الدولة الاتحادية...
*
التحالف الديمقراطي الجديد
كان المعتاد عند الحديث عن المعسكر الغربي في العلاقات الدولية هو اسم «العالم الحر»، وذلك لتميزه عن العالم «غير الحر» أو «الاستبدادي» وأحياناً «الديكتاتوري» أو «الأوتوقراطي». الأسماء والمفاهيم تعددت ولكن المحتوي كان معبراً عن المعسكر الشرقي الذي تحكمه أحزاب شيوعية بقبضة حديدية لأفراد ذاعت أوصافهم مثل ستالين في الاتحاد السوفياتي وماوتسي تونج في الصين. كان الفارق بين المعسكرين كبيراً، فذلك الحر كان حراً في بنائه السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، وكان الآخر مقيداً في كل هذه المجالات. وعندما كتب «جورج أورويل» روايتيه «مزرعة الحيوانات» و«1984»، كان يعبر بصدق كيف كان الحال في المعسكر الآخر. ولكن العالم لم يعد كما كان في الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي؛
ومع مطلع القرن الحالي فإن الاتحاد السوفياتي لم يكن قد انهار فقط ومعه دول حلف وارسو، وإنما أصبحت الصين في طليعة الدول الرأسمالية الصافية في الدنيا دون القيود المعروفة. لم يعد الاستبداد مطلقاً كما كان متصوراً، وإنما جرى اختراقه والتخفيف منه إلى حدود دنيا، بثورة المعلومات التي لم يعد ممكناً حجرها، وثورات انتقال البشر وسفر الفنون والرياضيات التي تنتقل وتمارس عالمياً على مدار الساعة. وفي المقابل فإن الحرية والديمقراطية أسفرتا عن عيوب جسيمة تبدأ من كيف يؤدي الاختلاف في الآراء أحياناً إلى انقسام مجتمعي وسياسي حاد يهدد وحدة الدولة القومية؛ وكيف تؤدي «الشعبوية» إلى أشكال من الفاشية الدينية والعقائدية بأشكال شتي. ثبت في نفس الوقت أن الرخاء والازدهار ليسا مرتبطين فقط بالعالم الحر، بعدما تبين أن العالم صار من التعقيد إلى درجة جعلت من «التكنوقراطية» حالة ماسة بكل المجتمعات سواء كانت غربية أم شرقية.
رغم كل ما تقدم فإن الرئيس الأميركي جو بايدن بدأ رحلته الأوروبية عازماً أن يعيد بعث «التحالف الديمقراطي» من جديد؛ وكأنما لا يزال حال العالم على حاله. بداية الرحلة كانت إلى «المملكة المتحدة» الحليف التاريخي للولايات المتحدة في حربين عالميتين، ومن بعدهما استمرت العلاقات الأمنية خاصة وتتعدى حالتها الوثيقة مع كل العالم الحر. كان هذا العالم الأخير يوجد في جوهره تجمُّع «أنغلو ساكسوني» مكون من البلدين ومعهما كندا وأستراليا ونيوزيلندا، وبين هؤلاء توجد علاقات خاصة ترتب اجتماعات بالغة الأهمية خصوصاً بين أجهزة المخابرات والمعلومات. المقابلة مع بوريس جونسون والملكة إليزابيث الثانية تعيد، أو هكذا الأمل، للعلاقات الأطلنطية حالتها التي كانت عليها قبل عاصفة ترمب التي وضعت الأرستقراطية البريطانية التليدة في مواجهة الشعبوية الديماغوجية الأميركية السوقية. أمل بايدن هو أن تعود الأمور إلى نصابها كي تقود أميركا العالم الديمقراطي إلى تحالفه الذي يعزز جهود الإصلاح والانطلاق بعد التخلص من جائحة «كورونا»، وتعود الأيام إلى سيرتها الطيبة الأولى، وتشكل فيما بينها حائط صد منيعاً في مواجهة الصين اقتصادياً، وروسيا سياسياً وعسكرياً، وكل منهما «سيبرانياً». لحسن حظ الرئيس بايدن أن سابقيه جعلوا من التحالف الغربي مؤسسات في قاعدتها منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، وفوقها يوجد حلف الأطلنطي الدرع العسكرية للجماعة الديمقراطية، وفوقها في الهرم يوجد الاتحاد الأوروبي، وفوق القمة أو بقربها توجد مجموعة الدول السبع: الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، وفرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، واليابان، وكندا. الدول السبع تمثل 58 من ثروة العالم البالغة 317 تريليون دولار، و46 من الناتج المحلي العالمي.
عالم ثلاثي الأقطاب العظمى مع الصين وروسيا، سوف يكون عليه أن يقابل الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والصيني شي جينبينغ؛ ومعهما سوف تكون صفقة فيها توافق على المشترك وهو ليس قليلاً، ولكنه في النهاية سوف يعكس توازن القوى العالمي كما هو. معضلة بايدن الأساسية هي أن العالم لم يعد كما كان، وأن الشروخ الجارية في المعسكر «الديمقراطي» لا يمكن تجاهلها.
المسألة ليست فقط أن ألمانيا سوف تكون في القريب العاجل بدون أنجيلا ميركل، وأكثر من ذلك أن السياسة الألمانية لم تعد مركبة كما كانت، ولا الفرنسية أيضاً، بين اليمين واليسار؛ فالدفع الآن يجري في نوع جديد من اليمين الذي له علاقة واهية مع الديمقراطية. بايدن يعلم جيداً أنه ترك الولايات المتحدة ذاتها وهي فاشلة في التوحد حول مشروع للبنية الأساسية يريده الجميع، ولكن المراد مُخْتلف بين المعسكرين الجمهوري والديمقراطي.
*Jun 16, 2021
Oct 28, 2021
ولا تبدو الأحداث في السودان أو لبنان شاغلة لكثير من السطور الصحافية. ربما كانت تونس وليبيا لهما أهمية خاصة نظراً لأنهما يشكلان نافذتين على البحر المتوسط ومن ورائه الفضاء الأوروبي، والتوتر في الأولى محكوم بانضباط شعب وهوية، ورئيس نجح حتى الآن في ميزان الإدارة السياسية للأزمة. والثانية محكومة بتوافق دولي وإقليمي على إجراء الانتخابات قبل نهاية هذا العام، وليس نهاية العام ببعيد.
*
الحرب الأيديولوجية
انتصار كبير لليبرالية والنظام الديمقراطى فى الحكم على ما عداه من نظم جرى وصفها بأنها استبدادية أو ديكتاتورية أو أوتوقراطية أو سلطوية وكفي.
العراق وأفغانستان، أو الضغط على أمم أخرى بإشهار أسلحة أيديولوجية فى مقدمتها كانت الديمقراطية وحقوق الإنسان. انتخاب الرئيس دونالد ترامب الجمهورى لأربع سنوات خلق موقفا آخر يقوم على أن الولايات المتحدة لا يهمها كثيرا كيف تحكم الدول الأخري، بل إن الرئيس الأمريكى باتت لديه علاقات ودية للغاية مع القيادة الروسية والأخرى فى كوريا الشمالية؛ وكان الرئيس الصينى هو وزوجته أول الزائرين له فى منتجعه الخاص فى مارا لا جو بولاية فلوريدا. كان العامل الأيديولوجى قد تراجع كثيرا فى العلاقات الدولية، ولكن مع انتخاب الرئيس الديمقراطى بايدن فإنه عاد مرة أخرى إلى إشهار الأيديولوجية الليبرالية فى مواجهة ما سماه السلطوية مع التركيز بصفة خاصة على الصين باعتبارها الخصم المنافس على قيادة العالم.
أصبحت الصين قوة عظمي، وأكثر من ذلك أصبحت لها إستراتيجية للنفاذ على العالم ممثلة فى مشروع الحزام والطريق. ولكن بكين التى لفظت السلاح الأيديولوجى منذ تركت الكتاب الأحمر للرئيس ماوتسى تونج، اختارت دائما أن تنفذ إلى العلاقات الدولية من نافذة الاقتصاد والمصالح المشتركة. ولكنها فى مواجهة مؤتمر الديمقراطية الذى عقدته الولايات المتحدة أخذت اتجاها مخالفا تماما.
رفض التدخل فى الشئون الداخلية للدول، فإن الصين باتت مستعدة للخروج بوثيقة تمثل الإطار الأيديولوجى للدولة الصينية وتقدمه للعالم باعتباره معبرا عن النجاح والإنجاز.
كتابا أبيض بعنوان الصين: ديمقراطية فاعلة. وينقسم النص الأساسى للكتاب الأبيض إلى خمسة أقسام: الديمقراطية الشعبية للعملية بأكملها فى ظل قيادة الحزب الشيوعى الصيني،
الخطاب يصف الصين بأنها أول مجتمع واسع النطاق فى العالم يمارس الديمقراطية الشعبية الكاملة متحديا فى ذلك التعريف الاحتكارى للولايات المتحدة والغرب للديمقراطية، ولكنه لا ينكر الديمقراطية الغربية كلها، وإنما يشير إلى وجود ممارسات البشر المختلفة للديمقراطية. الكتاب الأبيض يقول لا نعتقد أن النظام الديمقراطى على النمط الغربى ليس له أى ميزة. على سبيل المثال، تتمتع سيادة القانون بسلطة عالية فى العديد من الدول الغربية، وقد اعتادت المجتمعات بشدة على حل نزاعات محددة من خلال القنوات القضائية. ويستمر فى القول إن الديمقراطية الشعبية فى الصين الكاملة لا تحمل علاقة عدائية مع الديمقراطية على النمط الغربي. إن الديمقراطية نتاج خلفيات تاريخية وثقافية مختلفة فى بلدان مختلفة. ولكن الكتاب من جهة أخرى يعقد مقارنة قاسية بين مخرجات أو منجزات النظام الديمقراطى على الطريقة الأمريكية، والآخر على الطريقة الصينية. وينتهى الكتاب بالقول إن المجتمع الصينى اليوم مليء بالثقة السياسية، لأننا شهدنا نجاحنا، وتقدمنا، وفاعليتنا فى التعامل مع أزمة صحية عامة شديدة مثل كوفيد-١٩. نحن ندعو إلى الديمقراطية، وملتزمون بممارسة الديمقراطية. بالنسبة للقوى التى تشتم علينا، نريد أن نقول: قارن إنجازاتك بإنجازاتنا، ستجدون أنفسكم عالقين فى ركود، وعندها ستعرفون أن ديمقراطيتكم لم تعد تستحق التباهى بها.
ورغم المحاولة لخلق نوع من المرجعية الديمقراطية المستندة إلى تنوع الظروف
أصبحت الانتخابات بحد ذاتها السمة الوحيدة للديمقراطية الأمريكية، وأصبح الفوز فى الانتخابات الهدف الأسمى للأحزاب السياسية والساسة. ومع تمزق المجتمع الأمريكي، أصبح العمل على حل المشكلات أمرًا غير اقتصادى على نحو متزايد. ثبت أنها طريقة أذكى للتظاهر بحل المشكلة ثم إلقاء اللوم على المعارضين السياسيين لعدم قدرتهم على حل القضايا والاحتيال على ثقة الناخبين. سيقدر السياسيون الشعب الأمريكى فقط عندما يكونون ناخبين. لكن بعد كل انتخابات، لا يمكنهم الإشراف المستمر على الجانب الفائز. ورغم أن فى ذلك نوعا من إنكار الدور الذى يلعبه الكونجرس، فإن النقد حول شيوع الحكومات الصغيرة فى الولايات المتحدة والغرب يجعلها لا تتحمل مسئولية أخلاقية عن معيشة الناس. وحتى لو أدت جائحة كوفيد-١٩ إلى وفاة أكثر من ٧٠٠٠٠٠ فى الولايات المتحدة، فإن الحكومة الفيدرالية ليست بحاجة لتحمل المسئولية. بدلاً من ذلك، يمكن للرئيس التنصل من المسئولية تجاه الأشخاص العاديين الذين لا يتم تطعيمهم أو يرفضون ارتداء الأقنعة. يبدو أن الحرب الأيديولوجية بدأت!
*
تاريخ الديمقراطية الأميركية
الأكثر خطورة هو أنه بينما تريد الولايات المتحدة للعالم أن يكون «ديمقراطياً» فإنها تنسى وتتجاهل تاريخها الخاص بالمسألة الديمقراطية ذاتها، سواء ما كان ماضياً عند إنشاء الدولة الأميركية، أو التجربة الحديثة خلال العقد الأخير الذي أظهر عيوباً جوهرية في النظام السياسي الأميركي.
توازن السلطات والانتخابات الدورية التي تؤدي إلى التأكيد على قاعدة الأغلبية والأقلية التي تكفل الحل السلمي للنزاعات، وهو الذي يمثل نوعاً من «الاختيار الطبيعي» الذي يجعل القوة والصحة من سمات الدولة والأمة ونظامها السياسي
فلاسفة العقد الاجتماعي
ورغم ما قدمه الدستور من إطار محكم للحد من سلطة الحاكم والفصل بين السلطات، فإنها في ذات الوقت أقرت العبودية ومعها استعباد المواطنين الأصليين مع شن حرب إبادة ضدهم. ولفترة طويلة فإن حقوق المرأة لم تكن واقعة ضمن هذا الإطار الرائع للحريات العامة؛
مؤتمر الديمقراطية الذي عقده الرئيس بايدن، ودعا فيه 110 من دول العالم، ربما كان الأحرى به أن يعقده في الولايات المتحدة ذاتها التي تحتاج أكثر من أي وقت مضى لمراجعة الفكرة الديمقراطية داخل الدولة ومدى كفاءتها في تحقيق المصالح العليا للدولة، وكيف يمكنها التكيف مع واقع جديد داخلي وعالمي. الرئيس بايدن يتصور أن الديمقراطية، كما ذاعت، هي حالة مطلقة، ليست لها علاقة بالظروف الموضوعية للدول، والولايات المتحدة في مقدمته. وبعد ما يقرب من عام من ولايته، فإن هدف تحقيق وحدة الأميركيين لم يتحقق، ولا مقاومة «كوفيد - 19» أصبحت أكثر كفاءة. أميركا تحتاج قدراً كبيراً من التفكير.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق