Apr 10, 2019
ما أحوجنا جميعًا لجرعة تفاؤل فى عالمنا الذى تهتز فيه ثقتنا بكل شىء بسبب الانفجار السكانى، الغلاء، مشاكل التلوث، الإرهاب، توحش الرأسمالية العالمية، «فيك نيوز» الإعلام، وتسليم أسرارنا للسوشيال ميديا.. إلخ.
«التنوير الآن» وجبة دسمة من التفاؤل فى شكل كتاب صدر حديثًا فى أوروبا.
كتاب ربما سيذكره التاريخ فيما بعد، ليس فقط لما أثاره من اهتمام، أو للمجهود البحثى المُضنى الذى بُذِل فيه، أو لشهرة مؤلفه ستيفن بِنكَر، بروفيسور «الكوجنيتيف ساينس» (علوم الذهن التكاملية) بجامعة هارفارد، وإنما «التنوير الآن» هو كتاب تاريخى أساسًا لأن كلًا من موضوعه، ومنهجه، ونتائجه، تتعلق جميعها بتغيرات حاسمة فى المسار البشرى.
موضوع الكتاب، كما هو واضح من عنوانه، هو عصر التنوير: العصر الذى أعلن فيه الإنسان، لأول مرة فى تاريخه، ريادته للكون بعد اختراع الطباعة التى أنهت احتكار الكنيسة للإنجيل، وبالتالى احتكار علاقة الإنسان بربه (انظر مارتن لوثر)، العصر الذى نادى فيه فرانسيس بيكون بضرورة سيطرة الإنسان على الطبيعة عن طريق العلم، ونادى الفيلسوف كانط فيه بتحكيم الـ«فرنونفت»، أى التعقل. كل ذلك نتج عنه كم هائل من التقدم بشكل أدى بالفائزين، أى مَن خاضوا هذا الطريق التنويرى، أى «الغرب»، إلى احتكارهم حقوق تحديد كل من طبيعة ومكان وقواعد «اللُعبة» للبشرية جمعاء، حتى يومنا هذا.
«لا شك فى أن أفضل العصور حضاريًا على مر التاريخ هو العصر الذى تعيشه البشرية الآن». هكذا يقول المؤلف ستيفن بِنكَر، الذى أثبت فى كتابه- بالأرقام والإحصائيات- أن الإنسان لم ينعم فى تاريخه بطول العمر، والصحة، والثراء، والمساواة، والسلام، والأمن والأمان، والمعرفة، والسعادة، كما ينعم بها الآن. وهذا لا ينطبق على الدول الغنية فقط، وإنما- نسبياً- على سكان الكرة الأرضية بصفة عامة.
على سبيل المثال: متوسط الأعمار العالمى قفز من ثلاثين عامًا فى منتصف القرن الثامن عشر إلى ما يفوق السبعين الآن. نسبة المجتمعات التى يمكن وصفها بالحرة أو شبه الحرة زادت من واحد فى المائة فقط فى بداية القرن التاسع عشر إلى ثلثى شعوب العالم الآن. تراجعت، إن لم تكن قد اختفت، أشكال من المجاعات والأوبئة التى أطاحت بحياة مجموعات كبيرة من البشر على مر التاريخ بفضل رفع كفاءة الزراعة وتقدم الطب. نسبة حوادث السيارات فى العالم الآن هى خَمسة فى المائة فقط مما كانت عليه فى بداية القرن العشرين. وهكذا يستمر «بِنكَر» فى سرد الحقائق الإحصائية لستة عشر مؤشرًا فيما يقرب من ستمائة صفحة.
رسالة المؤلف بسيطة وواضحة: ثُلاثى «العقل والعلم والإنسانية» هو «الخلطة السرية» للتقدم، لا استثناء فى ذلك لدولة أو شعب أو أمة أو ثقافة.
العقل: التفكير المنطقى النقدى الهادف إلى التحرر من قيود اللاوعى والتعصب.
العلم: القائم على الدليل التجريبى.
الإنسانية: الأخلاق العابرة للأديان والأيديولوجيات.
ولكن هذه المبادئ التنويرية الثلاثة تواجهها أحيانًا تحديات تعوق أو تُبطئ مسيرتها، أهمها فى رأى «بِنكَر» هو التضحية بالإنسانية فى سبيل مبادئ أو معتقدات عليا جذَّابة، أيًا كانت هذه المبادئ والمعتقدات.
ستيفن بِنكر- بوصفه عالِم «كوجنى»، أى متخصص فى الكوجنيتيف ساينس- هو على علم تام بأن الإنسان يحمل كلًا من الخير والشر فى طياته. يمكنه أن ينفعل أو يتعقل، يؤمن بالعلم أو يعيش فى الخرافة، يتعامل مع الآخرين بإنسانية أو بوحشية. ولكن «بِنكر»- أيضًا لتبَحُّرِه فى علوم الذهن البشرى- يؤكد أن فى استطاعة الإنسان أن يختار. وقد اختار. وتحَضَّر.
لذلك يكاد يصرخ كتاب «التنوير الآن»، وبحنجرة الأرقام: «نعم نستطيع، بل استطعنا بالفعل، فلماذا لا نستمر؟»، ولماذا لا يبدأ مَن لم يبدأوا بعد؟!.
التنوير.. الآن.
* دكتوراه علم النفس- جامعة فيينا
**********************
إزالة ما علق بالنصوص المقدّسة من آراء وأحداث حرّفتها عن حقيقتها؟
لا يمانع في سفر المرأة من دون محرم في ظلّ الأمان الذي يتوفر في وسائل النقل الحديثة؟ أم لأنه لا يرى حرجاً في الاختلاط الطبيعي بين الجنسين؟
هل التنوير يغيظهم لأنه يعتبر الدين شأناً شخصياً؟
هل التنوير يغيظهم لأنه يدعو إلى النقاش العلمي حول المسلمات للتمييز بين الصائب
منها والخاطئ والنافع منها لزماننا من غير النافع
منها والخاطئ والنافع منها لزماننا من غير النافع
*****************************
الكاتب الكبير «محمود عوض»: إن خطاب التهديد معناه أن صاحبه لم يعد يرفض رأى «طه حسين» فقط.. إنه يرفض وجوده شخصياً.. إن بعض أفراد المجتمع لا يريدون قتل الرأى فقط.. لكن يريدون أيضاً قتل صاحب الرأى.. لأنه لا يطيع.. لا يفكر كواحد من القطيع.. لأنه ليس واحداً من الذين يذهبون إلى أطلال الماضى ويذرفون الدموع.. إنه يرفض أن نأخذ القديم على علاته لمجرد أنه قديم.. يرفض أن نصدق آباءنا فى التاريخ الذى رووه لمجرد أنهم آباؤنا.. إنه يريد لنا عقلاً واعياً.. يبحث ويقارن ويفحص ويراجع ثم فى النهاية يؤمن.. إنه يرى أن القدماء أغلقوا على أنفسهم باب الاجتهاد فى الأدب.. كما أغلقه الفقهاء فى الفقه.. لقد قدم المجتمع استقالته من القرن العشرين.. عاد إلى الكهف.
وحيث إنه مما تقدم يتضح أن غرض المؤلف لم يكن مجرد (الطعن) و(التعدى على الدين) بل إن العبارات التى أوردها فى بعض المواضع من كتابه إنما أوردها فى سبيل البحث العلمى مع اعتقاده أن بحثه يقتضيها.
وحيث إنه من ذلك يكون القصد الجنائى غير متوفر
«الطهطاوى» و«الأفغانى» و«محمد عبده» و«لطفى السيد» و«قاسم أمين» و«سعد زغلول» وغيرهم كثيرون إذ ترجم حصاد جهود متواترة لحوالى القرن فى إفراز مثل هذا المناخ الذى تم فيه تأليف ونشر كتاب «فى الشعر الجاهلى».
أما كتاب «الله والإنسان» والذى ألفه د.«مصطفى محمود» وصدر عام (1957) وتضمن أفكاراً تراجع عنها فى رحلته الطويلة من الشك إلى الإيمان.. وكان الكتاب قد صودر بعد عاصفة عاتية من الهجوم عليه.
+++++++++++++++++++++++++++++++++++++++
خطاب التعصّب وهزائم التنوير
لعل أهم إنجازات التنوير الاعتراف بالآخر أياً كان لونه أو دينه أو قوميته. ما أسس لتجاوز المنحى الأصولي الإلغائي الذي رأى إلى الآخر بوصفه ضالاً أو مبتدعاً أو عدواً يجب نفيه أو استئصاله. فيما الحق والحقيقة والصواب من سمات»الذات» التي أسبغت عليها العصمة والقدسية واحتكار الحقيقة. فالإيمان القويم وفق هذا المنحى هو ما نؤمن به. والحزب الطليعي هو الذي ننتسب إليه و «الفرقة الناجية» هي فرقتنا. والرؤية الصائبة هي رؤيتنا. والعرق المصطفى هو عرقنا. عليه، لا معنى ولا مشروعية للحوار لأنه ليس لدى الآخر ما يبدل قناعاتنا أو يضيف جديداً إلى تفكيرنا وتصوراتنا طالما أننا استحوذنا على المعرفة الكلية والحقيقة المطلقة.
جاء فكر التنوير ليضع حداً لهذه الرؤية الأصولية وهذا المنحى المدمر السلام الإنساني والعلاقات الودية والتضامنية بين البشر، فقال بالمساواة التامة بين الناس وبالنسبية والتعددية في الرؤى والتصورات والمعتقدات. نادى بالوحدة القومية. وبالأممية الإنسانية وتوحيد البشر إن بمقتضى الطبيعة أو بمقتضى العناية الإلهية. فجرى تبعاً لهذه الرؤية توحيد قبائل وإثنيات وأعراق وعشائر في أمم وأوطان، ثم في اتحادات إقليمية أو قارية، فيما ظل التطلع إلى الوحدة الكونية قائماً، إن من منظور إيماني أو من منظور طبقي أو إنساني.
تأسيساً على فكر التنوير، أبدى نهضويونا العرب إعجابهم بحداثة الغرب ونظمه السياسية والاجتماعية القائمة على المساواة والانفتاح على الآخر والتطلع إلى الوحدة الوطنية والقومية على أسس علمانية. كتب الطهطاوي في «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»: «الغالب على أهل باريس البشاشة في وجوه الغرباء. ومراعاة خاطرهم. ولو اختلف الدين فالتعبد بسائر الأديان مباح عندهم. لا يعارض مسلم في بنائه مسجداً. ولا يهودي في بنائه صومعة». ولاحظ فارس الشدياق أن «من يأت إلى بلاد الإنكليز لا يسأل عن جواز ولا إجازة. ولا يهمه إن كان جاره قاضي القضاة أو شرطياً أو جلوازاً. لأن كل الناس في الحقوق البشرية عندهم متساوون».
في الإطـــار ذاتـــه دعا بطرس البستاني وفرح أنطون إلى الفصل بين الدين والسياسة. ونادى فرنسيس المراش بـ «المحـــبة الوطـــنية المنــــزهة عن أغراض الدين»، ونجيب العازوري وأمين الريحاني بالوحدة الوطنية القومية العربية.
إلا أن ما يجري في هذه الحقبة من تاريخنا، يمثل بارتداده عن تلك المثل والتطلعات. هزائم قاســية للتنوير. وخيبة كبرى لرهانه على تجاوز التفتت القبلي والعشائري. إن في العالم العربي أو في الغرب معقل الحداثة ومنطلق التنوير. فآفة التعصب ورفض الآخر باتت تهدد الغرب الليبرالي. ومن قلب أوروبا بالذات. مهد الحرية والتسامح والقبول بالمختلف. ولم يعد في وسع الأوروبيين الاعتداد بالنفس في هذا الخصوص. فبعد قرون على ليبرالية الغرب وأفكاره التنويرية، نجد لدى هولندا التي كانت شديدة التسامح. نسختها من القبلية العنصرية. حيث إن مجرد ذكر كلمة «مسلم» تحرّض على حملة شعواء من الاحتجاجات. وفي سويسرا العريقة في الديموقراطية، صوتت الأكثرية ضد تشييد مآذن في البلاد. وفيما قررت بريطانيا الانسحاب من الاتحاد الأوروبي تنجلي الانتخابات في فرنسا وألمانيا والنمسا والسويد، عن تقدم لافت للاتجاهات الشعبوية الرافضة الآخر، حتى إن الولايات المتحدة، وفق عالم الاجتماع الأميركي ريتشارد سينيت، تحولت إلى مجتمع قبلي يعارض الناس فيه التعايش مع من يختلف عنهم. وقد بات التماسك الاجتماعي حالياً، إن في المجتمع الأميركي أو في المجتمعات الأوروبية أقل مما كان علـــيه قبل ثلاثين سنة. فمن خلال بحث ميداني في سبعينات القرن الماضي في بوســـطن، تبين أن العمال كانوا يبدون قدراً كبيراً من التضامن والتعاون في ما بينهم، حتى إنهم كانوا يؤدون عمل غيرهم في حال حصول خطب طارء. أما اليوم، بعد أربعين سنة على هذا البحث، فقد عبر العمال عن ثقة سطحية بزملائهم، وعن هشاشة التعاون في ما بينهم. فضلاً عن إحساسهم بالمرارة بسبب الروابط الاجتماعية الضحلة مع زملاء العمل.
++++++++++++++++++++++++
متى يبدأ التنوير؟
فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال وتضمن الكتاب محاولة تبيان قيمة العقل، والتي -في نظره- لا تقل في الدرجة عن قيمة الشريعة في مقاربة مسائل المعرفة، بل هي تعادلها. اختار ابن رشد مصطلح ”الحكمة” وهو المصطلح الوارد في القرآن، بديلا عن مصطلح ”الفلسفة” بسبب ما عرفه المفهوم الأخير -في زمنه- من نفور واستهجان لدى الأوساط الفقهية
رحلة نابليون إلى مصر 1798، لم يكن سؤال التنوير مطروحا لدى كتاب النهضة، بقدر ما انصبّ الاهتمام عندهم حول كيفيات ترجمة المنتوج الأوروبي والاستفادة منه في تصحيح المسار الاجتماعي والفكري الضعيف، الذي أنتجته سلطة الخلافة. لقد كانوا في حالة انبهار بعدما اكتشفوا أن شعوبا أخرى -لا تقاسمهم المعتقد- تصنع المفاهيم والقيم وتؤسس لجمهوريات جديدة. لقد تبين لهم -فجأة- أن العقل بمفرده في مقدوره أن يؤسس المستقبل انطلاقا من حسن الاستعمال.
التنوير مشروع ضخم ومتشعب، من المستحيل أن تتحمله الرؤية الأيديولوجية أو تستطيع أن توفر له ما يحتاجه لارتباطها الشديد بالحاجة لا أكثر. إن أكبر عائق على أيّ مشروع تنويري هو في اختزاله ضمن سياج الرؤية الأيديولوجية كونها تتأسس على يقين زائف وعلى الوهم والإقصاء بأنواعه الأكثر تقدما. التنوير قبل كل شيء هو في شرعية السؤال وبلا قيود، هذه الشرعية هي ما لا تقبله الأيديولوجية السياسية أو الدينية.
التنوير هو في انتهاء الوصاية على الحرية والاختيار، وفي تفطن الناس إلى ما يمتلكون من قدرات نفسية تؤهلهم على تبنّي ما يحبون من دون وسيط. يبدأَ التنوير عندما يقتنع الجميع، على اختلاف انتماءاتهم الإثنية واللغوية والفكرية أنهم لا يمتلكون كل الفضاء الاجتماعي بل هم ًأجزاء فيه لا أكثر. يبدأ التنوير عندما يعيد الجميع التفكير فيما ورثوه من أحكام وقيم ظلت مترسبة في عقولهم من دون أدنى حلحلة. يبدأ التنوير عندما يقتنع الجميع بأنه لا يمتلك كل الحقيقة، بل حقيقته هو فقط.
إذا كان لوثر في القرن السادس عشر للميلاد قد أسهم في تقويض سلطة البابا على العقل والمعتقد، فإننا عربيا نحتاج إلى ألف لوثر لأن حجم مشاكلنا الموروثة عن القرون الوسطى مضاعفة مرات.
يبدأ التنوير عربيا عندما نستطيع التخلص من ثقافة القطيع وتلك الحاجة الملحّة إلى راع أبله مستبد، يجب الاقتناع بالفردية والاختلاف والحق في الحياة وقدسيتها. يبدأ التنوير عندما تقتنع الكثير من العقول أنها غير مطالبة في هذا العصر بإعادة إنتاج نفس القيم التي أنتجها الناس في القرون الماضية، بل عليها أن تتفتح وبصدق على قيم عصرنا وتعمل على تبنيها بشجاعة كبيرة ودون تردد.
إننا لا نواجه الوصاية على الفكر والمعتقد فحسب، بل كذلك الوصاية على أبسط السلوكيات والتصرفات اليومية من لبس الحذاء إلى شرب الماء. إننا ننتمي إلى مجتمعات يؤلمها رؤية الفردية ولا تتقبل الاختلاف إطلاقا، ينظر إلى الجديد بحذر وخوف شديد. وغالبا ما يجرّم الأفراد لأجل حقوقهم الطبيعية. إننا ننتمي إلى مجتمعات لم تعلمها المؤسسات الوطنية في قطاع التعليم أو حتى من خلال الإعلام الفرق بين الدين والتديّن، الفرق بين الكتاب الديني المقدس والتشريع الديني المؤقت.
التخلص من ثقافة القطيع
هل نحن في الطريق الصحيح نحو أنوار عربية؟ لا، المسافة لا تزال بعيدة
لمجهودات الفكرية التي كتبت في هذا المجال وفكر أصحابها بصدق في مشروع عربي للأنوار، للأسف هي أعمال يقرأها الأقلية ولا حضور لها إلا على الهامش في كل مجتمع.
قبل الحديث عن تجديد البنيات الاجتماعية والسياسية المهترئة ينبغي التفكير وبكثير من الصدق في تجديد العقول ومساءلة الذات وفسح المجال واسعا أمام الحرية، هي أولى الشروط التي من شأنها بناء مجتمع متنور. لقد جرب غيرنا الانغلاق عن العالم ورفض كل دخيل وعرف سلبيات مثل هذا الاختيار على الواقع الاجتماعي، فلماذا الإصرار على تكرار أخطاء الآخرين.
لا يمكن أبدا أن تسير المجتمعات نحو الأمام وتتفادى الكثير من الأزمات إلا في ظل بيئة تتوفر على قدر كبير من الحرية وتفسح المجال واسعا للمبادرات الفردية ولا تميتها باسم المحرم والمنبوذ. مشكلة المجتمعات التي ننتمي إليها أنها ترفض حتى مجرد التفكير في الاختلاف، ولا تقبل بالنجاح، بل ترى فيه تهديدا لكيانها. مجتمعات تفتقد إلى الثقة في ذاتها، اعتادت انتظار الحلول الجاهزة ولا تؤمن بقدراتها على الخلق والإبداع. مجتمعات تخاف من كل شيء، من الجديد من المحاولة من المغامرة من التميّز.
سيسأل البعض عن وضعية الدين في مجتمع الأنوار وفي ذهنه الصورة التي كونها لنفسه عن تجارب أوروبية بين القرن السابع عشر والقرن التاسع عشر للميلاد، سيقول إننا سنفتقد إلى الاخلاق وسيتمزق المجتمع وتتفكك الأسرة، وهلمّ جرّا من مفردات صارت مألوفة في أًبجديات خطاب الإسلام السياسي. مشكلتنا أننا نعطي للدين أكثر مما هو مطلوب ونجعل منه كل شيء إلا أن يكون دينا. نجعل من الدين حلا اقتصاديا وبرنامجا سياسيا ومشروعا ثقافيا ورياضة جسدية وطريقة في الأكل والزيّ، نجعل منه كل شيء إلا أن يكون عبادة خالصة.
من المؤكد أن التنوير لن يكون إلا عبر مراحل، للأسف لا تزال الكثير من الأصوات النيرة تخوّن وتقصى وتضرب الرقابة على بيع كتبها. كنا نعتقد أن محاكمة طه حسين أو علي عبدالرازق قد انتهت في القرن العشرين وانتهت الأيديولوجية التي كانت تغذيها، ولكننا وبعد مضي كل ذلك الوقت، لا يزال ينظر بحذر كبير إلى كتب رشيد إيلال، محمد المسيح، هالة وردي، كمال داود، وغيرهم.
كمال داود
الجنس يمثل "البؤس الأكبر في بلاد الله".
(المهاجر) جاء من عالم واسع أليم ومروع ، وهو عالم عربي إسلامي زاخر بالبؤس الجنسي، بعلاقته المريضة تجاه المرأة والجسد الإنساني والرغبة. مجرد استقباله ليس كافيا".
أجاب "أنا لم أشعر بنفسي يوما عربيا"، وكشف أن "هذا الحديث عادة ما يسبب له تهجمات ضد شخصه"، ليؤكد أنه "جزائري وليس عربيا" لأن العروبة ليست جنسية، واعتبر أن "العروبة احتلال وسيطرة".
وبخصوص موقفه من الدين اعترف داود بأنه كان إسلاميا في بداية شبابه بسبب غياب بدائل أيديولوجية أو فلسفية تطرح أمام الفرد الجزائري، وأضاف أن "الشاب الجزائري يجد نفسه مجبولا على الإسلاموية منذ صغره باعتباره فكرا شموليا"، وقال إن "علاقة العرب بربهم هي من جعلتهم متخلفين".
لا يمكن أن نبني المستقبل باليقين الزائف ولا أن نسير بثبات من دون ممارسة الشك وزعزعة كل اليقينيات بما فيها اليقينيات الدينية. يجب التخلص من ثقافة الغرور. لسنا أفضل أمة أخرجت للناس ولن نكون كذلك إلا بإعادة قراءة مشكلاتنا بكثير من الصدق..
نقدس لغة الفقيه حتى وإن كانت تافهة ومن دون جدوى، ونطالب بها لحل أبسط المعضلات. وهو ما أسهم في تضخيمها اجتماعيا وسياسيا لأننا لا نؤمن بأنفسنا، وفي المقابل نستبعد خطاب الباحث النقدي لأنه يؤذي غرورنا ويقيننا ولا نتقبل منه إلا ما يرضي الكسل والانغلاق لدينا. لا نريد أن نختبر ذواتنا خارج السياج الذي ورثناه جاهزا.
السؤال حق طبيعي، السؤال هو ما يحقق إنسانيتنا ويؤكد وجودنا. لقد تساءل المعتزلة -في الكوفة والبصرة- بداية من القرن الثامن للميلاد بكثير من الجرأة في مسائل قد تبدو لنا غريبة نحن أبناء هذا العصر. لقد كانوا أكثر تنويرا منا، ولم يكن حينها أسلوب التكفير غائبا في تلك البيئة التي عرفت بحدة الاقتتال لأجل السلطة… نسمع بآراء المعتزلة ونعجب لقراءتها ولا نسمع اليوم بمن كفّروهم في بداية التسعينات من القرن الماضي، عندما كنت أستاذا للفلسفة واجهت الكثير من المتاعب والتعنيف بسبب إصراري على تدريس أراء المعتزلة لطلبة الطور الثانوي،
ما هو السؤال؟ السؤال هو قلق يحرّرنا ويكشف خفايا الخطاب الجاهز الذي يحبه المؤدلج، السؤال هو الإنسان فمن منا لا يؤمن بإنسانيته الكاملة. السؤال هو الأداة التي بها نتميَّز عن بعضنا البعض أو نتخاطب، نتفق أو نتخاصم، نجتمع أو نفترق، هو ما يجعل وجودنا يتحقق بالفعل. الأنوار هي الخروج من ظلمات القرون الماضية وخطابها المتجمد الذي لا يمكن أبدا تبيئته. الأنوار هي حقيقة الانسان الذي كان يعتبر رعية وغلاما ليصبح مواطنا كامل السيادة.
الأنوار هي الإبداع والثورة على المألوف والكلاسيكي، في الفن والفكر والقانون، هي الانقلاب على وضع لم يعد يطاق، وصار لا يمتلك الأجوبة. هي انفجار كبير ينبع من وسط الصخر ليسقي الأرض العطشانة. هي عقل جديد ورؤية مختلفة وصناعة لظروف أكثر ملاءمة وقادرة على تقبل اختلافاتنا من دون ضرر.
إن عقل الأنوار لا ينتظر من السلطة أن توفر له ظروف الكتابة والإبداع لينتج ما ينبغي إنتاجه… إنه عقل يولد من المآسي وفي خضم الأزمات. يولد ليقول بأنه مختلف وجديد ومبدع وثوري. هل لدى النخبة المثقفة العربية ما يؤهلها لصناعة أنوار؟ نعم، يوجد الكثير من الأقلام والطاقات الممتازة. فقط هي تحتاج إلى الإيمان بذاتها وإلى الكثير من الشجاعة. يجب أن ننسى عقدة النموذج الجاهز، ولا نحاول السقوط في لغة التقليد، لأنها قد تعمينا عن رؤية واقعنا بشكل واضح… نحن لسنا في فرنسا ولا في ألمانيا ولا حتى في أميركا. إننا أبناء مجتمع يتوسط كل النماذج، له خصوصياته الجغرافية، الثقافية والتاريخية.
تبدأ الأنوار عندما تتعلم نفوسنا حب الجمال، وتفكر في تعميم ذلك الحب ونشره قبل أن نفكر في شكل الأنظمة السياسية والاقتصادية التي تخرجنا من المآزق الكثيرة التي وقعنا فيها، علينا أن نفكر في خلق عقول جديدة متحررة من العقد والتابوهات المترسبة. الأنوار ثورة والثورة يؤسسها عقل جديد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق