بعد كتاب "المحنة العربية" لـ"برهان غليون"، و"تضخيم الدولة العربية" لـ"نزيه الأيوبي"، خرج واحد من أثرى الكتب وأغناها للمفكر العربي والأكاديمي الكويتي "خلدون النقيب" تحت عنوان "الدولة التسلُّطية في المشرق العربي".
الدولة التسلُّطية لأنها تختلف عن الدولة السلطانية القديمة التقليدية أو ما قبل الحديثة، إذ إنها دولة بيروقراطية في المقام الأول، وتستمد شرعيتها من قدراتها التنظيمية الضخمة، "أي من قدرتها الفائقة على تنسيق البنى التحتية للمجتمع"، ومن ثَم تستغل تلك الشرعية وتلك القدرات في "اختراق المجتمع المدني، على مختلف مستوياته ومؤسساته، وجعله امتدادا لسلطتها، فتحقِّق بذلك احتكار مصادر القوة والسلطة في الفضاء العام، وهذا هو جوهر الحكم التسلُّطي".
تشكُّل الدولة في المشرق العربي لم يكن نتيجة لصيرورة اجتماعية تكاملية نابعة من الداخل، بل كان بدرجة كبيرة نتيجة لصيرورة سياسية مفكِّكة مفروضة من الخارج"، وهو ما نجد مصداقه عند خلدون حين يشير إلى "عجز المجتمع العربي عن تأسيس الدولة الحديثة الديمقراطية، نظرا للتطور اللاعقلاني الذي لازم تَشكُّلها…، فأصبحت نموذجا مشوَّها للدولة البيروقراطية الحديثة كما هي في الغرب".
مصر والشام والعراق، ليقدِّم سردية تحليلية تقسِّم تاريخ المشرق إلى حقبتين أساسيتين: أولا، المرحلة الثورية بداية من سنة 1916، وثانيا، مرحلة انهيار الحكم المدني وبداية الحكم العسكري التي بدأت منتصف القرن الماضي.
المرحلة الثورية للمشرق العربي
1916 حين ثارت شعوب المشرق العربي ضد "الاستبداد العُثماني" أثناء الثورة العربية الكبرى، مفتتحة بذلك حقبة ثورية شملت بلدان المَشْرق الرئيسية، مصر والشام والعراق، إذ اندلعت "ثورة الشعب المصري سنة 1919، وثورة الشعب السوري في السنة نفسها بالدعوة إلى المؤتمر الوطني الذي أعلن الاستقلال في مارس/آذار 1920، هذا إضافة إلى ثورة الشعب العراقي في يوليو/تموز 1920".
الاستقلال وحق تقرير المصير وإقامة نُظم ملكية دستورية تمثيلية. وتدرَّجت هذه المطالب بدءا من الدعوة إلى الحكم اللامركزي الفيدرالي إلى الإصلاح السياسي والقانوني والتحديث في ظل السَّلطنة العُثمانية، كما تجلَّى ذلك في المؤتمر العربي الأول عام 1913، ثم انتهت بالاستقلال الوطني والحكومات الدستورية النيابية.
ليبراليا دستوريا، ليبرالي في أنها ترى الدولة مجموعة مؤسسات فنية وقانونية موضوعية تمثل مصالحها بوصفها قوة اجتماعية محلية دافعة للضرائب. ويصف خلدون النقيب تلك الفئة قائلا: "في مصر كان هؤلاء في الحزب الوطني ثم في حزب الوفد،
نقطة التحوُّل التي عمَّقت من أزمة الليبرالية الدستورية هي تحالف قطاعات واسعة من داخل الطبقة السياسية الحاكمة مع الاستعمار والمصالح الغربية الرأسمالية بمرور الوقت، ثم هزيمة الجيوش العربية في حرب فلسطين عام 1948، الأمر الذي سَرَّع بالحكم على التجربة الليبرالية في المشرق العربي بالموت، وفَتَح الباب أمام صعود التوجه الثوري الجديد الذي قضَى على الحكم المدني في المشرق.
أفول الحُكم المدني
تتسم المرحلة التي تحياها المجتمعات المشرقية، وفقما كتبه النقيب وقت صدور الكتاب في بداية التسعينات، بهيمنة الجيوش أو العسكر على النظام السياسي؛ ما نتج عنه صعوبة بناء دولة مؤسسات أساسها ومبدؤها الديمقراطية، ولذا ظهر نمط جديد من الاستبداد قائم على الدولة البيروقراطية التسلُّطية. وقد انهار الحكم المدني في المشرق العربي دفعة واحدة، حيث توالت الانقلابات العسكرية في مصر والعراق واليمن وسوريا ضد أشكال الحكم المدني شبْه الدستورية القائمة سابقا، إلا أن هذا الحَراك لم يأتِ من فراغ.
كانت القوى الاجتماعية الجديدة الداعمة لتلك الانقلابات هي الطبقات الوسطى الصاعدة في المشرق العربي التي رأت في أنظمة الحكم العسكرية الناصرية والبعثية تعبيرا عن مصالحها ورغباتها، فالانقلابات التي استولت على السلطة ينتمي أغلب ضباطها إلى الطبقة الوسطى، وأغلبهم من أصول ريفية. في النهاية، انتصرت تلك الانقلابات للنزعة الدولتية السلطوية على التوجُّه الليبرالي الدستوري، وانتصرت للريف على المدينة، وللحكومة المتدخِّلة في حياة مواطنيها على الحكومة المُقيدة سلطاتها.
اتخذت الحكومات التي شكّلتها الانقلابات العسكرية إجراءات لاستصلاح الأراضي، وقامت بإصلاحات أسهمت في خلق طبقات جديدة، وفي الوقت نفسه، تصفية الإقطاع الزراعي والأرستقراطية الرأسمالية الكبيرة، وتمدَّد الجهاز البيروقراطي والإداري وسيطر على جميع الأنشطة السياسية والاقتصادية تحت شعارات قومية وتقدُّمية وسياسات هدفت إلى تحقيق الأمن والاستقرار والعدالة الاجتماعية.
لكن سرعان ما اتضح زيف هذه الشعارات، وأن هدفها المضمر ليس فقط تبرير استيلائهم على السلطة فحسب، وإنما تصفية كل المؤسسات الدستورية والديمقراطية في البلاد، وبات من الواضح أن المؤسسة العسكرية لم تستمد مشروعيتها من سند شعبي كبير عندما أتت إلى الحكم في البلدان العربية، غير أن قدومها خلّف ارتياحا وتقبلا لدى الشعب؛ رغبة منهم في تحقيق التنمية بأبعادها المختلفة بعد فشل القوى الليبرالية في تحقيق أي تقدم".
هذه السياسات التقدمية الراديكالية نفسها هي اللحظة التأسيسية لدولة التسلُّط بحسب خلدون النقيب،
أنظمة الحكم العسكرية لم تقدر على تحقيق الأمن والاستقرار بسبب الخلل في رؤية العسكريين التي سعت إلى تعزيز تدخُّل الدولة على نطاق واسع في الاقتصاد والمجتمع، وقتل الروح الخلّاقة للمجتمع المدني؛ ما جعل الدولة تعادي قوى المجتمع نفسها، وتغذي حالة من العنف المُضمر والمُعلن.
طوّرت النخبة العسكرية الجديدة رؤية مفادها أن "سبب فقدان الأمن وعدم الاستقرار… هو تعدد الآراء واختلاف الميول وتكاثر الأحزاب والتنظيمات…، ولذلك حتى يتحقق الأمن والاستقرار فلا بد من حل الأحزاب، وإن كان لا بد من وجودها فيتم التضييق عليها وخنقها تدريجيا، لمصلحة الحزب الحاكم أو التنظيم الذي يدعمه العسكر". وقد كانت عاقبة تلك الرؤية الكارثية هي القضاء على الحريات الديمقراطية والضمانات الدستورية في البلاد العربية والرقابة الشعبية، ومن ثَم تأسيس الأنظمة السياسية بوصفها أنظمة تسلُّطية.
عقدَا الخمسينات والستينات من القرن الماضي مرحلة فاصلة ومأساوية في التاريخ العربي الحديث، حيث نجحت الجيوش والبيروقراطيات العربية في تحقيق انتصارات كبيرة على حساب المجتمع المدني في المشرق العربي؛ أولا عبر السيطرة العسكرية الكاملة على هياكل السلطة داخل الدولة، وتوظيف القوة المنظمة للدولة وشرعيتها الإدارية والتنظيمية للقضاء على كل التنظيمات السياسية، ثم السيطرة على مصادر القوة الأخرى والمتمثلة في النقابات العمالية والاتحادات المهنية الأخرى؛ ما أدى إلى احتكار بالغ القسوة لكل مصادر القوة والثروة، وتشكيل ترسانة قانونية تخدم مصالحها، لا سيِّما بعد توسيع القطاع العام وتحجيم القطاع الخاص وإلغاء المبادرات الفردية.
النظم العسكرية التسلُّطية امتلكت هدفا وحيدا، هو ضرورة إعادة إنتاج شرعيتها عبر تبنيها لسياسات حالة الاستثناء والعمل على تفكيك المجتمع المدني والأهلي أكثر من اعتمادها على تقوية شوكة المجتمع لتعزيز قواعد الدولة الذاتية بدلا من السلطوية.
في الأخير، فشلت تلك الدولة التسلُّطية المتنافرة مع مجتمعها في بناء مؤسسات سياسية راسخة ومستدامة وذات جذور اجتماعية حقيقية، وفتحت مسارات مأساوية وكارثية على مستقبل مجتمعات المشرق العربي، شملت الفساد والمحسوبية والهزائم العسكرية والقمع والتعذيب في السجون والتلاعب بخطوط الانقسامات العرقية والمذهبية. هذا وكان القدر رحيما بخلدون النقيب؛ إذ وافته المنية في أواسط عام 2011 قبل أن يرى تلك الدولة المتسلِّطة وقد ازدادت شراسة في مواجهة ثورات مجتمعها بشكل غير مسبوق
*Dec 31, 2021
كان شعار الأردن “الله، الوطن، الملك”، مع هذه التعديلات رح يصير “الملك، الملك، الملك وحده لا شريك له”. “لا أُريكم إلا ما أرى، أنا الدولة والدولة أنا”، سلطة مطلقة وحكم مطلق وحصانة دستورية من المحاسبة والمساءلة، لم تحدث حتى في كوريا الشمالية!
المفروض يلغوا كلمة الأردنيات والأردنيين من الدستور واستبدالها بكلمة "خراف" هو أحسن وصف للواقع اللي بنعيشه
خراف + راعي + كلب = زريبة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق