Jan 7, 2022
يدرس كتاب “صوت الإمام.. الخطاب الديني من السياق إلى المتلقي” لأستاذ علم الاجتماع المصري أحمد زايد بالتحليل والتأويل الخطب المنبرية التي تلقى على الناس في المساجد، ليطرح أسئلة لا حول الخطاب فحسب بل حول السياق والنصوص التي يفرزها وطريقة وإنتاج هذه النصوص وتلقيها، وهذه الأسئلة مبدئية مثل: كيف يتشكل السياق المنتج للخطاب الديني، وما دور التعليم الديني واتساع دوائر المنصات الخطابية في توسيع نفوذ الحقل الديني في الحياة؛ وكيف تتشكل النخب الدينية؟ وما دورها التاريخي في صناعة الإطار الفكري الديني الأكثر سيطرة وهيمنة؟ وما معالم هذا الإطار؟ وكيف يستمر معزولا بقضايا الدفاع عن الدين والهوية؟
هل توجد في ثنايا النصوص موضوعات وقضايا تحث البشر على التنمية والنهوض والتقدم والسعي نحو تغيير الحياة؟ أم أنه خطاب أخروي يصب جل اهتمامه على ما بعد الحياة ولا ينشغل بقضايا النهضة والتنمية وبالتالي ما حجم اهتمام النصوص الخطابية بمنظومة القيم التي يقال عنها إنها قيم تتجه لتحسين ظروف الوجود الإنساني فما طبيعة التنمية أو التقدم التي يستجلبها هذا الخطاب؟ أم أنه خطاب مرسل لسد متطلبات مهنية؟
كيف يتلقى الجمهور وهل يلعب الهابيتوس الديني للأفراد والجماعات دورا في هذا التلقي؟ هل المتلقي يخضع للنصوص على نحو سلبي أم أنه يستقبلها فاهما وناقدا ومأوّلا؟
الخطاب لا ينفصل عن سياقه، فالسياق هو الذي ينتج الخطاب وهو الذي يستقبله بعد إنتاجه، فالخطاب يتوالد عبر سياق خاص، وينتج عبر سياقات هذا الواقع ومن خلال الذوات التي تنشأ داخل هذا الواقع وتتربى فيه.
المنصات الخطابية التي تنتشر في أماكن متعددة عبر صور مختلفة (الوعظ في المساجد، المؤتمرات الدينية، المسابقات الدينية، البرامج الدينية، في التليفزيون..) تعمل على نحو متوافق تماما مع الإطار الديني المهيمن الذي تدعمه النخب المهيمنة على الحقل الديني، فالنخب الدينية تنتج الخطاب على المستوى الأعلى في صورة خطب أو كتب أو برامج تلفزيونية، ويتم تلقي هذه المنتجات الخطابية عبر المنصات المختلفة لكي يتم نشرها عند المستوى الأدنى، ويغذي التعليم الديني كلا المستويين،
تعمل الرأسمالية المعاصرة بأدوات اتصالها دائمة التطور وبسوقها الاستهلاكية واسعة النطاق على دعم هذه المنصات الخطابية بتقنيات حديثة “سمعية وبصرية” تجعل الخطاب الديني برمته جزءا لا يتجزأ من المنظومة الرأسمالية الاستهلاكية، وتخضعه في الكثير من الأحيان إلى عمليات أشبه بعمليات العرض والطلب، أو الإنتاج والاستهلاك.
القراءة الإحصائية للخطب ذات التوجه الأخروي والماضوي، عن أن الطابع الأخروي يغلب على الخطاب، فقد بلغ عدد الخطب ذات التوجه الديني 362 خطبة أي بنسبة 77 في المئة في حين بلغت عدد الخطب ذات التوجه الدنيوي 108 خطبة بنسبة 23 في المئة وجاءت الموضوعات التي تناقشها الخطب الدينية متجهة في معظمها نحو الحياة الآخرة، كالتالي: العلاقة مع الله تكرار 76 بنسبة 21.2 في المئة، الدار الآخرة تكرار 66 بنسبة 18.4 في المئة، العبادات بأنواعها تكرار 65 بنسبة 18.1 في المئة، الأحكام والفتاوى والتحذيرات تكرار 43 بنسبة 11.1 في المئة، الإسلام وصفات المسلمين تكرار 39 بنسبة 10.9 في المئة، القرآن تكرار 30 بنسبة 8.4 في المئة، النبي وصفاته تكرار 22 بنسبة 6.1 في المئة، الأحداث التاريخية تكرار 21 بنسبة 5.8 في المئة، ليكون الإجمالي تكرار 362 بنسبة 100 في المئة.
وأما في ما يتعلق بالخطب ذات التوجه الدنيوي المرتبط بالحياة الدنيا فهي وفقا لزايد قليلة إذا ما قورنت بالموضوعات الأخروية، وقد بلغ عدد الخطب التي صنفت على أنها تتناول موضوعات دنيوية على نحو مباشر 108 خطبة بنسبة 23 في المئة من إجمالي الخطب وغطت هذه الخطب موضوعات متنوعة كالتالي: موضوعات سياسية واجتماعية عام تكرار 12 بنسبة 11.1 في المئة، الحقوق تكرار 25 بنسبة 23.1 في المئة، العلاقات بالنفس وبالآخرين تكرار 8 بنسبة 7.4 في المئة، القيم والمثل العليا تكرار 51 بنسبة 47.3 في المئة، نقد سلوكيات تكرار 7 بنسبة 6.4 في المئة، قضايا علمية عامة تكرار 2 بنسبة 1.8 في المئة، المستقبل 2.8 في المئة، الإجمالي 108 بنسبة 99.9 في المئة.
“تأسيس الخوف” وقال فيها “تنبثق عن الخطاب دلالات ومعان بشكل مباشر وغير مباشر لبث الخوف وتأسيسه في النفوس، فالخطاب يزخر بعبارات الزجر والتحريم من ناحية والحديث عن عذاب القبر وظلمته من ناحية ثانية، ومحاولة تصوير أحوال العباد على أنها أحوال سيئة، وأن البشر عليهم أن يبذلوا جهدا إيمانيا كبيرا ليصلوا إلى حالة من الاطمئنان من ناحية ثالثة.
يصبح الخوف لصيقا بقلب المؤمن وعقله. وتؤدى دلالات الخوف ومعانيه الصادرة من الخطاب وظائف أخرى أبعد من حالة الخوف والقلق، فالإمام يفترض أن الخوف سوف يقرّب الإنسان من الله، ولكن ربما يحدث العكس تماما، فالخوف قد يوسع المسافة بين العبد والرب ويخلق لديه قدرا من عدم الاطمئنان على إيمانه”.
“الذات القلقة” وقد أوضح فيها زايد أن الخطاب يكشف عن شقاء حقيقي للوعي الديني، فهو وعي مشتت بين التاريخ والواقع المعاصر بما فيه الآخر المختلف المهيمن.
تتنازع الوعي هذه المكونات الثلاثة “الواقع المتردي ـ الآخر المهيمن ـ التاريخ الضائع” فيصير وعيا شقيا، قلقا باحثا عن أمن وأمان، وتنتج هذا الوعي ـ المشتت ـ ذات قلقة تنقل قلقها بشكل مباشر إلى المتلقي، فيبث القلق في المجتمع بأسره، فالحياة لا تبعث على أمن وطمأنينة وسعادة “فلا طمأنينة ولا سعادة.. ولا انشراح للصدر ولا لذة في العيش، والإنسان لا يهنأ بثوب ولو كان فاخرا.. ولا بمركب ولو كان فارها.. ولا مال ولا متاع ولا جاه يعيد للنفس الطمأنينة.
هكذا تحدث الإمام، ويعكس النص ذاتا قلقة لا تجد سعادتها في أي شيء إلا الإيمان الذي يطرح دائما لتحقيق الطمأنينة للنفس ومع ذلك فإن قصدية الخطاب نحو تأكيد القلق وعدم الطمأنينة تتوازى مع قصدية أخرى تتحدث عن الذات أو النفس اللوامة، والذات الأمارة أو النفس الأمارة والذات المطمئنة أو النفس المطمئنة”.
هل يبث الخطاب الديني رسائل تحث الأفراد والجماعات على تحقيق نهوض ـ قيام ـ اجتماعي واقتصادي؟
من خلال تحليل لمصفوفة قيم التنمية في نصوص الخطب الـ470 يكشف أولا أن أكثر القيم تكرارا في الخطاب هي القيم الاجتماعية بنسبة 34.1 في المئة وأن أقلها تكرارا هي قيم العمل بنسبة 13.2 في المئة حيث أن الإشارة إلى العمل تكررت 38 مرة في الخطب، وأن معظم الإشارات ونسبتها 89.5 في المئة تمت على نحو غير مباشر.
الخطاب ينشغل بالحياة الآخرة أكثر من انشغاله بالحياة الدنيا
77
في المئة من موضوعات الخطاب تتجه نحو موضوعات تتصل بالآخرة أو العبادات، أي بموضوعات دينية ولا تتعلق بالحياة.
قضية العبودية لله والحياة الآخرة، والعبادات بأنواعها المختلفة في مقدمة الموضوعات التي ينشغل بها الخطاب. وعندما ينشغل الخطاب بموضوعات مثل القرآن والإسلام والنبي أو حتى موضوعات تاريخية، فإن توجهه يكون توجها دينيا خالصا لا يربط بين الخطاب وبين الحياة الدنيا.
أما العدد القليل من الخطب التي تتجه نحو موضوعات دنيوية بنسبة 23
الخطاب يخلو تقريبا من الحديث عن المستقبل، فحقيقة قد نصادف هنا وهناك حديثا عن الغفلة. وقد تفهم الغفلة على أنها غفلة عن تدارك أسباب التقدم، وعن تدارك النظرة الثاقبة للمستقبل. ولكن الحديث عن الغفلة هنا لا يرتبط لا بأسباب التقدم ولا المستقبل، بل يرتبط بالغفلة عن ذكر الله، أو الغفلة عن العبادات، أو الغفلة عن عبودية الله، أو الغفلة عن قراءة القرآن، فالغفلة تفهم بالمعنى الديني البحت، بل يؤكد الخطاب أن التعلق بالحياة الدنيا يعتبر سببا من أسباب الغفلة.
ويؤدي ذلك إلى نزعة انعكاسية ماضوية مضادة لنزعة الحداثة، فإذا كانت انعكاسية نزعة الحداثة تتجه نحو المستقبل، وتنطلق بالفكر والحياة إلى عوالم متجددة فإن النزعة الماضوية تتجه نحو الخلف لتعتبر أن الماضي أفضل من الحاضر. وأن هذا الماضي هو المخزن الحقيقي للقيم الفاضلة والاستقامة والحكم الصالح. وتتضح هذه الانعكاسية في الخطاب الديني في نقده المرير للواقع المعيش وكذلك لثقافة الآخر ومنجزاته الحضارية والتمجيد الشديد للماضي وفيما يحتويه من انتصارات وأمجاد.
الخطاب يؤكد على أن ثمة إسلاما غائبا وثمة فرائض غائبة، وثمة قطيعة بين النص والواقع، ولكن هذه القطيعة تحل عبر الخطاب لا بدمج النص في الواقع، وإنما بالانعكاسية الماضوية، أي بالحديث عن الماضي على أنه نموذج مثالي يجب أن يحتذى ويجب ضمنيا أن يستعاد.
فالماضي كان ذهبيا ناصعا، والحاضر حديدا أسود صدئا يحتاج إلى تجلية، ولا طريق إلى ذلك إلا بالقياس على الماضي واحتذائه، يرتمي الخطاب بذلك في أحضان الماضوية فيترك الحاضر صلدا وآسنا.
*
علاقة الدنيا بالآخرة في الثقافة القرآنية الشعبية ******
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق