الأربعاء، 5 يناير 2022

العالم العربي وموت الأفكار الكبرى **********

البؤس الفلسفي في العالم العربي

Dec 6, 2019 Jul 24, 2021

الحداثة "داهمت" المجتمعات العربية لا لتحررها من ماضيها، وإنما لكي تصبح ذريعة للعودة إليه والنبش في قبوره

نعلم أن العرب فاخروا ولا يزالون يفاخرون بأن لهم فضلا كبيرا على الغرب لأنهم نقلوا إليه أصول الفلسفة اليونانية، وعرّفوا برمزها الكبير أرسطو في فترة نهوضه وخروجه من عصور الظلمات والانحطاط. وهذه حقيقة لا يمكن التشكيك فيها أو نكرانها.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو التالي: لماذا استفاد الغربيون من المجهود الكبير الذي بذله العرب بهدف إحياء الفلسفة اليونانية، في حين لم يجنوا هم من ذلك ما يمكن أن يساعدهم على تطوير الفكر الفلسفي، وترسيخه في تراثهم وفي ثقافتهم وفي مناهجهم التربوية؟
الأسباب مختلفة ومتعددة، لكن ما يتوجب قوله هو أن محاربة الفلسفة وتهمشيها وإهمالها وكل هذا لا يعود إلى الحكام العرب الذين كانوا يضيقون بكل ما يخلخل اليقينيات والمسلمات، ويهدد نفوذهم وسلطتهم القائمة على الطغيان والاستبداد، وإنما يعود أيضا إلى الفقهاء والبعض من المفكرين. فقد تصدى الإمام الغزالي لفلاسفة عصره، ونعتهم بـ“الضالين” وبـ“المتهافتين”.
وانتقد تقي الدين بن تيمية بشدة ابن رشد وابن سينا وكل من كان يظهر ميلا إلى الفلسفة اليونانية، بل ذهب به التشدد إلى حد تكفير هؤلاء لأنهم تجرأوا على “المس من المقدس”، والتشكيك في مصادره وفي أصوله. حتى ابن خلدون المشهود له بالرصانة والتعقل لم يرحم الفلاسفة لأنهم يعتمدون بحسب رأيه على “المجردات” وليس على “المحسوسات، لذلك لم يتردد في وصفهم بـ“منتحلي العلوم”.
وفي فترة النهضة التي برزت للوجود في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، واستمرت حتى العقود الأولى من القرن الماضي، سعى بعض المفكرين العرب إلى إحياء الفكر الفلسفي. وفي كتابه “مستقبل الثقافة في مصر”، طالب د.طه حسن بضرورة تشريك العرب في الإرث الفلسفي اليوناني، إلاّ أن رجال الدين تصدوا له وحاكموه قضائيا. وهذا ما فعلوه مع جميع من نحوا منحاه.
وخلال العقود الأخيرة من القرن الماضي، كثر الحديث عن ضرورة بعث حركة تعيد إحياء المشروع الفلسفي التنويري الذي جاءت به حركة النهضة. وتكون هذه الحركة قادرة على مواجهة التيّار السلفي الذي اكتسح العالم العربي وتغلغل في الأوساط الشعبية، وأيضا في النقابات المهنية وفي الجمعيّات والنوادي الثقافية والرياضيّة.
 وبالفعل برز في هذا البلد العربي أو ذاك مثقفون متحمّسون لهذا المشروع التنويري الجديد. وقد سعى هؤلاء جاهدين لفرض وجودهم خصوصا بعد أن استفحلت ظاهرة العنف الأصولي، وغدت تهدّد لا العالم العربي والإسلامي فقط، وإنما العالم برمّته، منذرة بتقويض كلّ ما يمكن أن يساعد الثقافة العربية على الخروج من حالة الانغلاق والتزمت التي أصبحت تعيشها منذ فشل المشروع التنويري، غير أن تلك الجهود فشلت فشلا ذريعا. إذ ظلّ من أصبحوا يسمّون بـ“التنويريين الجدد” فئة معزولة عن الواقع والمجتمع، وظلّت أفكارهم وأطروحاتهم منحصرة داخل دوائر مغلقة.
بالإضافة إلى كل هذا، لم يتسلح هؤلاء بالشجاعة التي تحتمها المعركة الفكرية ضد الظلامية والتزمت. لذلك لم يجرؤوا على خلخلة أسس الفكر الأصولي ودحض بطلانه وفضح تضليله للناس.
ولعل التهديدات التي يطلقها المتطرفون والمتشددون ضدّ كلّ من ينتقدهم، هي التي تقف حائلا دون ذلك، ولكن علينا أن ندرك أن هذا الفكر الأصولي المتغلغل في المجتمعات العربية منذ عصور الانحطاط، والذي ازداد عنفا وانتشارا في الزمن الراهن، لا يمكن بأيّ حال من الأحوال أن تخفّ حدته، وتتقلص تأثيراته الخطيرة إلا بالنقد الجذري له، وبتعرية خوائه، وانقطاعه المطلق عن الواقع، وعن حضارة العصر ومقتضياته. وكل هذا يتطلب من النخب العربية الشجاعة والإرادة الحازمة والتضحية تماما مثلما كان حال النخب الأوروبية في معركتها ضدّ الفكر الأصولي والظلامي.
وفي غياب خطاب فكري وفلسفي يقرأ الواقع في تفاصيله، لم تجد الجماهير العريضة غذاء ثقافيا وفكريا يحميها من شرّ الخطاب الرسمي المحنّط الذي تجلده به الأنظمة المستبدة يوميّا غير الخطاب المحنّط الآخر الذي يروّجه الأصوليون والسلفيّون الذين تكاثروا بسبب ما يمكن أن نسميّه بـ“الجهل المعمّم”.
الجانب الآخر الذي انجر عن بؤس التفكير الفلسفي هو أن الحداثة لم تتمكن رغم الجهود الكبيرة التي بذلت من أن تتجذّرَ في المجتمعات العربية ويعود ذلك إلى هيمنة الدين في نزعته الأصولية والسلفية على الحياة الاجتماعية والثقافية. وهي هيمنة تكاد تكون في غالب الأحيان مطلقة بحيث لا تترك المجال لأي فكر آخر بأن يشهد الانتشار والرواج. ثم أن هذه الحداثة “داهمت” بحسب تعبير المفكر المغربي الدكتور محمد سبيلا المجتمعات العربية لا لتحررها من ماضيها، وإنما لكي تصبح ذريعة للعودة إليه، والنبش في قبوره المظلمة بحثا عن المزيد من الأوهام والخرافات والأباطيل.
*
من مجلة الفيصل 

الأنوار: الاستعارة والحقيقة

‫-  | نوفمبر 1, 2019
 فالفنانون التشكيليون يسحرهم الضوء والألوان والأنوار. والسحر هنا بمعنى الانجذاب، والافتتان، أي بين بعدين أولهما فيزيائي وكيميائي والثاني روحي وسيكولوجي، أضفْ إليهما البعد الفلسفي المتمثل في الانبهار بالعقل كمصدر لنور أو لأنوار المعرفة. كنا نظن أن الفلاسفة وحدهم هم المهووسون بالأنوار لكنْ شغف بل هوس التشكيليين لا يقل حدة عن هوس الفلاسفة إنْ لم يَفُقْهُ هيامًا. ولعل هذا الشغف الثنائي هو على الأقل ما يبرر عقد القران هذا بين الأنوار التشكيلية والأنوار الفلسفية.

 أنوار الروح وأنوار العقل هل يجتمعان؟ هل يتعايشان؟ أولهما مبني على الاعتقادات والمسلَّمات والغيبيات، في حين أن أنوار العقل قوامها التساؤل والتشكك ونقص البديهيات ومساءلة المسلمات. أنوار العقل قلقة ومتوجسة وكشافة، في حين أن أنوار الروح تقوم على السكينة والقناعة والطمأنينة والاكتفاء.

الأنوار أو عصر العقل
يطلق اسم الأنوار على مجموعة من التيارات الفلسفية والأدبية والفنية ظهرت في أوربا في القرن الثامن عشر، ويطلق عليها كذلك اسم عصر العقل. وقد تنوعت هذه التيارات الفكرية حسب البيئات الثقافية المحلية مما جعل مؤرخي الفكر يميزون بين الأنوار الفرنسية والأنوار الألمانية والأنوار الإنجليزية والأنوار الإسبانية أو الأنوار الإيطالية والأنوار البرتغالية والأنوار الأميركية والهاسكالا اليهودية.
– نقد السلطتين الدينية والسياسية.
– الرفع من شأن العقل والدعوة إلى استعماله بقوة في كل المجالات الإنسانية.
– إعمال النقد باعتباره وظيفة عضوية للعقل، وهذا النقد يعني الاستعمال الفعلي الأقصى للعقل وإلى اليقظة والخروج من السبات الدوغمائي.
– الإيمان بالتسامح بين المعتقدات والآراء والأعراف والمذاهب المختلفة.
– التمسك بنزعة إنسانية كلية معرفية وأخلاقية.
– إيلاء الأولوية للعلم وللأفكار العلمية ولمهمة إشاعة العلم والمعرفة العلمية.
هي إذن تيارات فكرية وثقافية قوية، الجامع بينها هو التمرد وانتقاد التقاليد وسُلَط التقليد والأحكام المسبقة وسطوة السلطة السياسية والدينية وتحالفهما، والدعوة إلى الاستعمال الأقصى للعقل في المجال العمومي وإلى نقد الذات بوصفها تستمرئ هذه السلط ولا تتحمل المسؤولية الفردية في مقاومتها والتكتل ضدها، وهذه الأفكار سنجد أصداء متفاوتة لها في الأيديولوجيا المؤطرة للثورة الفرنسية 1789م.
وقد تقاسمت مجموعة كبيرة ومتعددة من الأدباء والفنانين والفلاسفة والعلماء العديد من هذه الأفكار بدرجات متفاوتة وهو ما أضفى على العصر (القرن الثامن عشر) صبغة أيديولوجية متقاربة، قوامها: محاربة السلط العتيقة الدينية والسياسية، ونقد الأفكار المترسبة التي تتحول إلى قيود في التفكير، والاعتقاد أن في الإمكان تحقيق أحسن مما كان أي الاعتقاد الراسخ في مقولة التقدم، وما لازمها من دعوات إلى تبني الروح الكونية والتسامح وطبع فكرها لقدر من التفاؤل.
 فدافيد هيوم (Hume 1776 -1711) والمدرسة الإنجليزية عمومًا ارتبطوا بالنزعة التجريبية وركزوا على فكرة أن المعرفة العلمية لا يمكن أن تتحقق إلا عبر التجربة وليس عن طريق الأفكار العقلية المسبقة.
أما جان جاك رسو (17١٢ -17٧٨م) فقد ارتبط بالدفاع عن فكرة المساواة بين كل الكائنات الإنسانية وبشَّر بالديمقراطية وإقامة العقد الاجتماعي، وألح على ضرورة التربية في إعداد الإنسان وتهيئته للتطور والتقدم، واستنكر وأدان التراتبية المجتمعية. هذا بينما يؤكد كانط 1804 -1724)م) أن العقل والعقل النقدي خاصة هو أهم ميزة للإنسان، وأنه هو الأداة المثلى للتفكير والطريق الأكيدة للمعرفة، وأن الأنوار هي خروج الإنسان فردًا ونوعًا من دائرة الخضوع إلى دائرة استعمال العقل. يُعَدُّ فولتير عنوانًا بارزًا لهذا التيار الفكري؛ بسبب راديكاليته الفكرية المتمثلة في الدفاع عن فكرة التسامح الكوني، وإدانة كل أشكال التعصب والتحجر والعبودية والسحر والحرب.
أكتفي هنا بشهادة Michel onfray في مجلة magazine de philosophie- في رجل الأنوار العظيم الذي كثيرًا ما يتم تناسيه هو كوندورسيه لانه، رجل ميال للتربية الشعبية، وهو مؤمن حقيقي بقضيته ومدافع شرس عنها، فقد ناهض حكم الإعدام ورفض العنف، وأنتج أفكارًا تنويرية واقعية، وناهض العبودية.
من أبرز الأنواريين كذلك مونتيسكيو، وهو من أهم المفكرين الذين وضعوا الأسس الفكرية للحداثة السياسية المتمثلة في المبدأ الأساسي الذي دافع عنه مونتيسكيو، وهو الفصل بين السلط المختلفة التي تشكل هيكل الدولة: الفصل بين السلطة القضائية والسلطة التشريعية والسلطة التنفيذية، كما عُرف بانتقاده للسلطة الملكية المطلقة والمتعسفة.
 كانط «ما الأنوار»: «الأنوار هي تحرر (خروج) الإنسان من قصوره (أو عدم نضجه) الذي هو نفسه مسؤول عنه. القصور هو عدم القدرة على استعمال أو استخدام العقل (أو الذهن) من دون الاعتماد على قيادة أو توجيه الآخرين. هذا القصور هو صفة راجحة للإنسان (= الفرد) ذاته ليس بسبب افتقاد العقل بل بسبب افتقاد القرار، والقدرة على استعمال العقل من دون اللجوء إلى الاقتياد والاستعانة بالآخرين.
جرؤ على المعرفة
إن شعار الأنوار هو Saper aude: اجرؤ على المعرفة لتكن لديك الشجاعة على استخدام ذهنك الخاص (أو ذكائك الخاص). ومع ذلك فإن كانط لم يتخذ موقفًا صلبًا وصادمًا تجاه هذه السلط؛ إذ إنه ميز بين الاستعمال الخصوصي للعقل والاستعمال العمومي.
تعرضت الأنوار لانتقادات عديدة داخلية وخارجية. فقد كانت هدفًا للعديد من الاتجاهات نذكر منها الحركة الرومانسية أو الفكر الرومانسي في ألمانيا الذي تميز بتقربه من الكاثوليكية، ورفض النزعتين الثورية والمهدوية أو الرسولية، والدفاع عن الاستقرار، ونقد النزاعات العدمية ونقد فكرة التقدم على أن منطقه هو المنطق الميكانيكي الشكلي للتقدم الحالي. كما عبرت الرومانسية عن رؤية مثالية وحنائنية للعلاقات الاجتماعية التي كانت قائمة قبل حلول العصر الحديث، وكذا استلهام مسيحية محافظة بعيدة من أي فكر نقدي. في هذا الصدد نذكر سجالات الفيلسوف الألماني Shelling دروس ميونيخيه (1837م) ضد العقلية الهيغيلية ممجدًا في الوقت نفسه القوى والمنابع اللاعقلانية للأفكار، وهي الأفكار التي رُسِّختْ نهاية القرن في أوربا (Encyclopédie 1442).
والخلاصة أن عصر الأنوار طور أيديولوجيا متفائلة تقوم على أن الإنسان يمكنه أن يسيطر على الطبيعة (الطبيعة الإنسانية) محققًا الظفر والسعادة. فحسب الأنوار أن الناس سيتخلصون من كل الظلاميات المتمثلة في التصورات اللاعقلانية للدين، والشعوذة والجهل والأحكام المسبقة.
ظلامية الأنوار نفسها
مقابل ذلك نجد نقاد الأنوار والحداثة ينسبون الظلام والظلامية للأنوار نفسها، هايدغر مثلًا ينسب للحداثة سمات ظلامية فهو يتحدث عن حالة عناء العالم، عناصرها الأساسية هي:
– اقتلاع الإنسان من جذوره.
– نزع القدسية عن كل ما هو مقدس.
– إضفاء صبغة ظلامية على العالم. أو تلييل العالم (نسبة إلى الليل).
– تحطيم الأرض.
وفي الوقت الذي كان فيه المبتهجون بالأنوار والحداثة يتحدثون عن اقتلاع الطابع السحري أو التغني بنزع الطابع السحري عن العالم نجد هايدغر يَسِمُ هذه بأنها إعادة «إضفاء طابع سحري» على العالم.
قبل ذلك نجد أن فلسفة نيتشه (فيلسوف المطرقة) هي في وجه من وجوها بمنزلة عاصفة فكرية مدمرة؛ لأن نواتها هي نقد ما يسميه بالأفكار الحديثة كفكرة التقدم والنزعة الإنسانية، والهوية الثقافية والمثل الأعلى، الأخلاقي والعقلاني القاسي.
إلا أنه رغم هذه الأشكال في النقد فإن هناك تيارات فكرية ترى نفسها وريثة للأنوار وتنصِّب نفسها للدفاع عنها. فالفيلسوف الألماني المعاصر هابرماس في كتابه الأساسي «الخطاب الفلسفي للحداثة» يدافع عن الأنوار والحداثة معًا ضد انتقادات كل التيارات الفلسفية اللاحقة، وبخاصة تلك المنتمية إلى ما يسمى بتيارات ما بعد الحداثة، وهو يرى أن الحداثة مشروع لم يكتمل إنجازه، بمعنى أنها لم تَفِ بالوعود الأنوارية التي قطعتها على نفسها والتي تتلخص في تحرير الإنسان من سيطرة القوى والمجتمعية.
كما نجد أن ميشيل فوكو الذي يتسم الكثير من إنتاجاته الفكرية بنقد الأنوار والحداثة (والذي قال عنه أكسل هونيت: إننا لا يمكن أن نعثر في تاريخ الفكر الأوربي بعد كتاب «جدل الأنوار» لأدورنو وهو ركهايمر، على محاولة نقدية أكثر جذرية من نظرية السلطة عند فوكو من حيث هي محاولة لفضح أو تعرية الخلفية الفكرية لهذا النقد)، إن إيمان الأنوار بالعقل لم يتبين بما يكفي أن العقل ليس فقط أداة كشف وتحرير بل هو أداة سيطرة أيضًا. وهذا هو الدرس العميق وراء العديد من أعمال ميشال فوكو الذي ينسب نفسه للتيارات الفلسفية الكبرى ابتداء من هوسرل إلى ماركس ومدرسة فرانكفورت الذى يضعه على الخط الفاصل، بحيث يكون داخل الأنوار وخارجها في الوقت نفسه، وذلك من حيث إن النقد هو روح الأنوار ومنهجها الأساسي.
هل انتهت الأنوار؟ ونحن نتحدث عنها وكأننا نرثيها أو نسير في جنازتها.
إن الأنوار هي مجموع الأفكار الجريئة الناقدة للسلطتين الدينية والسياسية في أوربا في القرن الثامن عشر، وهي المحضن الكبير لأفكار الحداثة ولعل روح الأنوار هي روح الحداثة نفسها. والأنوار لم تنطفئ، فثوراتها العلمية والفكرية والجمالية تحولت إلى ثورات سياسية، وأصبحت نموذجًا للتطور في جل بقاع العالم.
يميز مؤرخو الفكر بين بعدين مختلفين للأنوار: فهي رائدة العقلانية وطرد الساحرات والخوارق والظلاميات، وهي التي هيأت الأسس الفكرية للتحديث السياسي في الغرب، إلى غير ذلك من الإيجابيات لكن الأنوار استعملت لتبرير السيطرة والاستعمار، كما مهدت للأيديولوجيات الشمولية وللأنظمة الكليانية.
الأنوار في الفكر العربي
أما انعكاسات الأنوار على الفكر العربي الحديث فهي متنوعة؛ نورد منها كمثال نموذجي أفكار عبدالله العروي الذي يوجزها في مطالب عدة. فهو يدعونا إلى أن:
– نودع نهائيًّا المطلقات جميعًا.
– ونكف عن الاعتقادات بأن النموذج الإنساني وراءنا لا أمامنا.
– ونكف عن عدِّ كل تقدم هو في جوهره تجسيدًا لأشباح الماضي.
– ونكف عن الاعتقادات بأن العلم هو تأويل لأقوال العارفين.
– ونكف عن الاعتقاد بأن العمل الإنساني يعيد ما كان، لا يبدع ما لم يكن.
– بذلك ندرك لأول مرة معنى السياسة كتوافق مستمر بين ذهنيات جزئية تمليها ممارسات الجماعات المستقلة وتتوحد شيئًا فشيئًا عن طريق النقاش الموضوعي والتجارب المستمرة، بحيث لا يمكن لأي أحد فردًا كان أو جماعة الادعاء أنه يملك الحقيقة المطلقة عن طريق الوعي أو المكاشفة، ويفرضها على الآخرين.
– صيرورة الواقع الاجتماعي.
– نسبية الحقيقة المجردة (التاريخانية).
– إبداع التاريخ (فعل الإنسان).
– جدلية السياسة.
هذه هي معالم الفكر والمجتمع العصري، عرفها حقًّا البعض (النخبة الفكرية الطلائعية) وفسرها ونادى بها، لكن المجتمع العربي ككل، منذ القرن الماضي (القرن التاسع عشر) يتردد في تبنيها تبنِّيًا كليًّا، ينكرها ليس فقط في دائرة الأسرة والمسجد والكتاب، بل داخل البرلمان والمدرسة العصرية والمصنع.
– وباختصار في ذهن كل فرد منا.
إذا كان لتجارب الأمم مغزى فإن أمرنا لا يصلح إلا بصلاح مفكرينا، باختيارهم اختيارًا لا رجعة فيه.
– المستقبل عوضًا عن الماضي.
– الواقع عوضًا عن الوهم.
انظر ع. العروي : الأيديولوجيا العربية المعاصرة. مقدمة الطبعة العربية. ص. 16. بيروت. ط. 3. 1979م.
فهل نحن مؤهلون للاستجابة لشروط ومتطلبات العصر؟ هل نحن قادرون على الإنصات لحفريات الطليعة أو الطلائع الفكرية والثقافية التي تحفر في جدار الأنوار لاستخراج بعض جذور التنوير ولاكتشاف نسائم الحرية المنعشة؟
*

مسار الوعي العربي منذ ثمانينيات القرن المنصرم: محمّد سبيلا.... مفكّر الحداثة المغربية 

دراسة مفاهيم وقضايا كالحداثة والتحديث والنَّزعات الأصولية وحقوق الإنسان والديمقراطية والتقنية وما بعد الحداثة وغيرها من المفاهيم الفكرية، التي طفت على المشهد الفكري العربي، منذ ستينيات القرن العشرين. شهدت هذه المرحلة صراعاً فكرياً وإيديولوجياً، بين دعاة فكرٍ سلفيّ، وبين رواد الحداثة المغربيّة أمثال عبد الله العروي، ومحمد عابد الجابري، وعبد الكبير الخطيبي وأسماء أخرى من الأجيال الجديدة،

 الجيل المُؤسِّس في تاريخ الفكر المغربي مثل محمّد سبيلا، وعبد السلام بنعبد العالي، وسالم يفوت، وكمال عبد اللطيف، وعبد الإله بلقزيز، وموليم العروسي، ومحمد نور الدين أفاية... انشغل هؤلاء ضمنياً بتشريح مفهوم الحداثة سياسياً واجتماعياً وثقافياً وفنياً مواجهين أنصار الفكر السلفي خلال سبعينيات القرن العشرين

يغوص المُفكّر المغربي محمّد سبيلا (1942-2021) عميقاً في سؤال الحداثة على امتداد نصف قرن من التدريس والتفكير والكتابة والترجمة والبحث الأكاديمي
*

Dec 11, 2021

العالم العربي وموت الأفكار الكبرى

أفكار على غرار القومية العربية أو الرؤية الإسلامية، أو حتى الأفكار الوطنية الملهمة باستثناء مقولات التنمية،

العالم العربي هو جزء من العالم الأكبر الذي انحسرت فيه المقولات الكبرى أو السرديات الكبرى (metanarratives) لصالح حالة التقطيع الفكري المتمثلة في رؤى ما بعد الحداثة، والتي شهدت أهم أمثلة عليها في انفجارٍ وتشظٍّ للهويات الكبرى لصالح هويات وطنية أصغر في البلقان، فرأينا تمزق يوغوسلافيا إلى صرب وكروات وبوسنة ورأينا تمزق تشيكوسلوفاكيا إلى تشيك وسلوفاك... إلى آخر قائمة التصدعات القومية التي بلغت ذروتها في حروب القبائل في أفريقيا (هوتسي وتوتو، وهاوسا ويوروبا وإيبو، وتيغراي وهويات أصغر في إثيوبيا وإريتريا والصومال والسودان)، ولكنّ حالة التشظي الأفريقية ليست حالة ما بعد حداثية بقدر ما هي حالة أقرب إلى ما تحدثت عنه جماعة «كليفورد جيرتنز» في علم الأنثروبولوجيا والمتمثلة في الحالة البرومارياليه أو صراعات الهويات البدائية (primordial).

العالم العربي ورغم صراعاته لم يتفكك إلى الهويات الأصغر إلا في حالة السودان (مسلمين عرباً مقابل أفارقة مسيحيين) أو في حالة العراق التي هي مزيج من الطائفية والإثنية (أكراداً وشيعة وسُنة)، أما الحالة اللبنانية فهي حالة خاصة إلى درجة ما.
ورغم هذا التفتت في العالم العربي لم نرَ إنتاج سرديات محلية تبحث عن هوية بديلة بشكلٍ متماسك مثلما رأينا في حالة يوغوسلافيا التي استطاعت المجموعات المختلفة فيها إنتاج سردية وطنية بديلة.

 نضبت الأفكار، حتى المحلية منها التي معها فقد الناس القدرة على إنتاج سرديات وطنية متماسكة؟ أياً كان البلد العربي الذي أنت فيه اليوم لا بد أن تسأل نفسك: ما الفكرة المتماسكة الجامعة التي تُلهب مشاعرنا؟ وهل هي قادرة على الاستمرار كأفكار قادرة على صناعة هويات وشرعيات بديلة؟

كأن البوست أو التويتة قد أصبحا بديلاً عن الأفكار التي تخبر بصرامة في حالة الكتب أو المقالات الأكاديمية الطويلة. سمعت أناساً حصلوا على درجة الدكتوراه وعندما تحدّث أحدهم عن فكرة يقول لك إنه كتب بوستاً على «فيسبوك» حول هذه الفكرة. لا أعرف أي ردة فعل يمكن أن يتبناها الإنسان ولو مفتعلة حتى يخفي امتعاضه من هذا الانحطاط الثقافي العام. 

 موت الأفكار الكبرى على المستوى الإقليمي والوطني يعود إلى تسيّد فكرة المديوقراطية التي كتبت عنها هنا من قبل، أي عندما يتسيد المشهد الثقافي مَن ليست لديهم القدرة على التفريق بين الغثّ والسمين أو أفكار الدرجة الأولى (high culture) وثقافة الدرجة الثالثة أو الترسو، وما الحوار الدائر في مصر حول الأغنية إلا أحد تجليات سيطرة أفكار الترسو أو الدرجة الثالثة.

حالة موت العقل العربي، على مستوياته المختلفة الكبرى والوطنية والأصغر، وأولها ثبوت البيئة التي تُنتج فيها الأفكار، والفاعلين المنوط بهم إنتاج الأفكار أو رعايتها، وانحياز الدولة إلى تافه الثقافة على حساب الثقافة العالية. وحتى تتغير هذه العناصر ومعها تتغير المحركات لن تكون لدينا أفكار ملهمة بل مجرد ومضات تختفي مع الوقت لغياب صرامة المعايير.

 مشروعات تتبنى التخلف وتحتضنه للدرجة التي معها يمكن القول إن بعض دولنا وبعض رجال الأعمال عندنا ينفقون على مشاريع التجهيل أكثر مما ينفقون على مشاريع التعليم.

Dec 20, 2021
*
Sep 18, 2019

 الأفكار الكبرى

فى يناير عام ١٨٧٨م؛ نشر الفيلسوف الأمريكى «شارل بيرس» مقاله «كيف نصنع أفكارنا؟». مقال «بيرس» هو البداية الحقيقية للحركة البراجماتية فى العالم. وصار المقال نواة لكتاب الفيلسوف وليم جيمس «البراجماتية» الذى صاغ الفكر الرسمى الأمريكى القائم على أساس الفكر البراجماتى. والبراجماتية؛ مذهب فلسفى وسياسى اعتنقه الآباء المؤسسين للولايات المتحدة الأمريكية، أثّر فى سياسة ومعتقدات الأمريكيين، إذ يعتبر أنّ النجاح فى سيادة العالم هو المعيار الوحيد للحقيقة، وأنّ الحق والحريّة يمتلكهما الشعب القادر على قهر الشعوب الأخرى، فضلا عن تكريسه لمبادئ الرأسمالية العالمية.

عام ١٩٠٤ م نشر السير الإنجليزى؛ هالفورد ماكيندر مقاله الاستراتيجى «محور الارتكاز الجغرافى فى تعاليم التاريخ» فى جريدة «The geographical Journal»؛ تناول نظرية - قلب العالم «Heart of land»؛ وهى منطقة مَنْ يسيطر عليها سيحكم العالم، وأن أوروبا الشرقية هى مفتاح منطقة قلب العالم. فى مقاله قَرع ناقوس الخطر لبريطانيا أن: أوروبا الشرقية تدور فى فلك ألمانيا الموحدّة (الرايخ الألمانى - أوروبا الوسطى). وفى ذات العام حوَّلَ ماكندر مقاله إلى كتاب نشره بعنوان «المحور الجغرافى للتاريخ»، تلقّفَ فكرة المقال - والكتاب - الضابط الألمانى؛ كارل هاوسهوفر، وعكف يؤسس بها معهد «ميونخ للجغرافيا السياسية» ليصير بوصلة ألمانيا النازية فى الحرب العالمية الثانية، وظل هتلر منتصرا حتى عام ١٩٤٢ بإرشادات معهد ميونخ - مقال ماكيندر فى الواقع - ولَم يهزم الا حينما قرر غزو روسيا ومخالفة استشرافات «الجغرافيا السياسية» لمقال ماكيندر.

عام ١٩١٩م نشر «أينشتاين» مقالًا - أقرب أن يكون أدبيًا - بعنوان «الاستقراء والاستنتاج فى الفيزياء» أنطوى على تجاربه الشخصية ورؤيته المؤيدة بإلمامه بأساسيات الفلسفة، أكدّ فيه اعتماده على منهج الاستنتاج ومن خلاله اكتشف النظرية النسبية، وأن المنهج الاستقرائى الكلاسيكى لنيوتن عقيم، ساهم المقال فى تأسيس مدرسة الفيزياء النظرية الحديثة، وإرساء المذهب الاستنباطى فى البحث العلمى، وبناءً عليه اكتشاف «جيمس تشادويك» النيوترون. ساهمت أطروحته - ومن قبلها مقال أينشتاين - فى تطبيقات عسكرية لانفجار اليورانيوم فى البدء بتصنيع القنبلة النووية بشكل جدى.

وفِى عام ١٩٧٩ نشر الناقد الأمريكى «فريديريك جيمسون» مقاله «التشيؤ واليوتيوبيا فى الثقافة الجماهيرية» وخلق به ما سُمى حقبة «الثقافة الجماهيرية» أو الثقافة الشعبية، بعدما كانت موضع احتقار وإهمال من كافة النقاد، وكان إنشاء مجلة «social text» هو الرد المباشر للمقال. وكذلك فى عام ١٩٨٤م نشر «جيمسون» أيضًا مقال آخر بعنوان «ما بعد الحداثة» فى جريدة «new left review» صار كتابًا بعنوان «النقد الثقافى للرأسمالية المتأخرة» واُعتبر مرجعًا أساسيًا فى تطوير ثقافة ما بعد الحداثة من جانب فنانين ونقاد وسينمائيين. ولم يعد - بعد مقالى جيمسون - التوجه الفكرى الدولى والروئ النقدية قاصرة على النخبة أو المثقفين، إذ أصبحت الوسائل الإعلامية والثقافية جزءاً من الحياة العادية واليومية للمواطن البسيط.
وفى عام ١٩٨٩م نشر المفكر الأمريكى فرانسيس فوكايما مقاله «هل هى نهاية التاريخ؟» فى مجلة «The National interest» يؤكد فيه شرعية الديمقراطية الليبرالية كنظام وحيد - دون غيره - للحكم، تحوَّل المقال الشهير عام ١٩٩٢م إلى كتاب نشره فوكاياما تحت عنوان «نهاية التاريخ» اُعتبر «مانيفستو» المحافظون الجُدد (سياسيون أمريكيون يؤمنون بأحقية أمريكا فى السيطرة على العالم أبرزهم عائلة الرئيس بوش) وكانت أطروحة فوكاياما فيما بعد بمثابة الداعم الفكرى الرئيسى لغزو العراق عام ٢٠٠٣ م. ليرُد المفكر الأمريكى صموئيل هانتجون على أطروحة تلميذه - فوكاياما - مؤكدًا قصورها وتأثرها الوقتى بنشوة الانتصار على الاتحاد السوفياتى؛ وفى هذا الصدد نشر مقال «صراع الحضارات» عام ١٩٩٣ فى مجلة «Foreign Affairs» فأحدث جدلًا عالميًا؛ يرى فيه أن الصراع القادم - ما بعد الحرب الباردة - لن يكون بين الدول القومية ولا الأيديولوجيات؛ إنما سيتخذ شكل الصدام بين الحضارات. ليحوِّل هانتجون المقال عام ١٩٩٦م إلى كتاب بعنوان «صدام الحضارات». وهو ما 
اتخذته الولايات المتحدة الآن منهجًا استرشاديًا فى صراعها القُطبى مع جمهورية الصين الشعبية.

المقال لغة عالمية، يترجم بها الفكر الإنسانى فى سطور معدودة معجونة بخلاصة الفكر، يُعبِّر عن شجون تَلمس ضمير الجماهير فى كافة أركان الأرض، يتفاعلون معها رغبةً فى استكشاف وفَهم الجدليات القائمة بالأذهان. ولا ننسى أن إحدى الطرق البناءّة لعرض الإجابات؛ هى تقديم فرض مختلف وافى، يفضل أن ينتهى بعلامة استفهام؟

*


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق