الجمعة، 2 أكتوبر 2020

العلمانية وحتمية التغريب

 صحيح أن الحياد أمر نسبي؛ ما دام أن المؤسسات تُدار من بشر لا يستطيعون تجاوز الانتماءات الأسرية الأولى، ولا المكونات الفكرية اللاحقة، ولا التفضيلات العاطفية... إلخ، لا يستطيعون تجاوز ذلك بالكامل، لكنهم يستطيعون تحييد ذلك إلى حد كبير، خاصة إذا ما توفّرت الثقافة (بالمفهوم الأوسع للثقافة) الداعمة لذلك، وتوفرت المؤسسات الناظمة للعمل على ضوء ذلك، إضافة إلى كونها ـ أي المؤسسات ـ بما تقدمه من خدمات على مستوى الحياد؛ تدعم رصيد القناعة به؛ بقدر ما تسحب من رصيد الانتماءات الأخرى التي ستستمر محاولاتها لاختراق هذا الحياد، وستحقق بعض النجاح بين الحين والآخر في هذا المضمار أو ذاك، ولكن مهمة "الضمير التنويري/ المستنير" أن يجعل هذا الاختراق في أضيق الحدود.

لا يمكن أن تستفيد ـ استفادة حقيقية من الآخر ـ وأنت تعاديه، وتتخيّله متربصا بك على الدوام

العلمانية ـ في نمطها الحيادي ـ هي الضامن لمثل هذا العمل المؤسساتي المتجرّد من التحيزات الانتمائية. والعلمانية ـ بما هي كذلك ـ منجز غربي بامتياز؛

 استقبل الحداثة ـ المتضمنة للعلمانية ضرورة ـ على صورة تهديد خارجي/ استعمار يستعيد ذاكرة الغزوات / الحروب الدينية التي كانت هي منطق حراك القرون الوسطي.

رُهَاب العلمانية في الشرق الأوسط، والعالم العربي خاصة، ليس إلا تفريعا على رُهَاب التغريب. حتى وصل الأمر بكثير من التقدميين/ الحداثيين العرب الذين امتهنوا طرح الخيار العلماني كخيار حتمي لتجاوز العطالة في الشرق الأوسط، أنهم لا يطرحون العلمانية إلا من خلال التاريخ/ التراث، أي من خلال محاولة البحث لها عن مشروعية ما، داخل السياق الحضاري للأنـا. وهذا هروب ـ واعٍ أو غير واعٍ ـ من تهمة: التغريب، وهي التهمة التي يتوقعون أنها ستكون حائلا دون استقبال العلمانية استقبالا إيجابيا في الوعي العام.

لا يمكن أن تستفيد ـ استفادة حقيقية من الآخر ـ وأنت تعاديه، وتتخيّله متربصا بك على الدوام. هكذا هي ـ للأسف ـ صورة الغرب في الشرق الأوسط، لا عند الأصوليين المتطرفين فحسب، بل كذلك عند كثير من "المستنيرين" الداعين للانفتاح الثقافي والحضاري. يقول الرئيس الإيراني الأسبق/ محمد خاتمي: "بلحاظ الأزمات التي أوجدها العالم الغربي لنفسه وللآخرين، هل من الحكمة تبنّي أطروحة التغرّب من أعلى الرأس إلى أسفل القدمين؟!" (من بحث له بعنوان: "الدين في العالم المعاصر"، منشور في كتاب: "تمهيد لدراسة فلسفة الدين" تحرير: عبدالجبار الرفاعي) فإذا كان خاتمي ـ وهو الرئيس المثقف الذي تصفه بعض المنصات الثقافية الغربية بـ"الرئيس الليبرالي" ـ يُعاين الغرب بكل هذه السلبية، بكل هذا المستوى من التحفّز الضدي الذي يقود في النهاية إلى الانكفاء على الذات؛ فماذا يقول الفصيل المقابل له: الفصيل الأصولي المتشدد/ الانغلاقي الذي يتحكم اليوم بدولة من أكبر دول الشرق الأوسط: إيران؟!

فمنذ مطلع القرن العشرين، وعندما كان الوطنيون المصريون يناضلون ضد "الاستعمار"، كان مصطفى صادق الرافعي ـ المُعبّر عن الأصالة/ عن الوعي الجماهيري التراثي ـ يقول: "ومن البلاء على هذا الشرق أنه ما برح يناهض المستعمرين ويُوَاثِبهم، غافلا عن معانيهم الاستعمارية التي تُنَاهِضه وتُوَاثِبه، جاهلا أن أوروبا تستعمر بالمذاهب العلمية كما تستعمر بالوسائل الحربية، وتسوق الأسطول والجيش، والكتاب والأستاذ، واللذة للاستمتاع، والمرأة والحب"؛ حتى يقول: "فكيف ـ لعمري ـ غَفَل الشرقيون عن أخلاق ناريَّة حمراء يأكلهم بها المستعمرون أكلا كأنما ينضجونهم عليها ليكونوا أسهل مساغا، وألين أخذا، وأسرع في الهضم" (وحي القلم، الرافعي، ص209).

المسلمون لا يعيشون التغريب من خلال أفعالهم، بل يتعاطون مع التغريب في صورته المادية، في منتجه الاستهلاكي، وهي صورة خارجية

الرافعي ربط كل صور التحديث بالتغريب، وربط التغريب بالاستعمار. وهو يرى أن الغرب لا يهيمن بجيوشه فقط، وإنما بعلمه (الكتاب والأستاذ)

النسق العام للقيم (نسق القيم الحداثية التي تعولمت) 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق