"أي شخص قرأ نظرية الكم ولم تصبه الدهشة فهو لم يفهمها"
Dec 10, 2021 22/4/2020
العالم والفيزيائي الدنماركي نيلز بور
في هذه الحياة ثمة عالم مذهل، حيث كل ما نتصوره حول الكون، وما ندركه حول الطبيعة خاطئ، وحيث أعادت قوانين هذا العالم طريقة فهمنا للواقع بشكل جديد، ومدهش: إنها قوانين الكم في العالم الصغروي أو ما تحت المجهري. إن قوانين هذا العالم على غرابتها إلا أنها ليست تخيلات أو هرطقات أو مدونات شعرية لا تسمن في دنيا العلم ولا تغني من جوع، بل هي حقائق أكدتها المعادلات الرياضية والتطبيقات العملية في شتى مجالات الحياة، من الهواتف الذكية والترنزستورات، مرورًا بالتصوير عن طريق الرنين المغناطيسي، وصولًا إلى الحواسيب الكمية. على الرغم من ذلك، ما انفكت فيزياء الكم أن توجه الضربة تلو الأخرى لحس البداهة والمنطق السليم، حيث إنها تتحدى المنطق الأرسطي بركائزه الثلاثة.
بدأت القصة عندما ظهرت بعض الإشكاليات والظواهر الطبيعية التي لم تستطع قوانين الفيزياء الكلاسيكية من تفسيرها. من هذه الظواهر أنه عندما يتم تسخين أنبوب من الغاز فستنطلق منه طاقة على شكل توهج ضوئي وحرارة. وعند تحليل هذا الأنبوب على موشور، فإننا سنرى مجموعة منفصلة من الألوان وهو ما يخالف السائد آنذاك بأن الطاقات المنبعثة من الأجسام تخرج باستمرار وتواصل. جاء العالم الألماني الفذ ماكس بلانك ليثبت أن تلك الطاقات تنبعث من الأجسام في شكل وحدات أو «كم» معين يمكن قياسه بمعادلة أنيقة: الطاقة تساوي ثابت بلانك في التردد.
ترتكز النظرية الكمومية على مفهومين أساسيين: الأول هو مفهوم التراكب، والذي يعني أن الجُسيم يمكن أن يأخذ حالتين أو أكثر في نفس الوقت، وأن عملية القياس أو الرصد هي التي تدفعه لأن يأخذ حالة واحدة لا غير، فالإلكترون مثلًا يمكن أن يتواجد في أكثر من مكان في نفس الوقت، وعندما نقوم برصده ستختفي كل الاحتمالات، وسيتعيّن الإلكترون في مكان واحد. بالنسبة لنيلز بور فالقياس يغير كل شيء، فهو الذي يجبر الجسيم على التخلي عن كل الأماكن المحتمل أن يكون فيها، وأن يختار مكانًا محددًا حيث ستجده.
لكن ألبرت أينشتاين لم يقتنع بهذه المقاربة ورفضها بشدة، وقال جملته الشهيرة: ألا يتواجد القمر في مكانه عندما لا أنظر إليه؟ حاول العالم النمساوي إرفين شرودنجر شرح ما توصل إليه بور عن طريق تجربة ذهنية شهيرة تدعى قطة شرودنجر. تخيل أنه قد تم وضع قطة داخل صندوق، ومعها جهاز يصل بين مادة مشعة وغاز السيانيد السام، عندما تتحلل المادة المشعة فسوف ينطلق الغاز السام ويقتل القطة. الآن سنغلق الصندوق، وسنتساءل قبل فتحه هل القطة حية أم ميتة؟ في مجال الحس المشترك والمنطق السليم، فإن القطة إما أن تكون حية، وإما أن تكون ميتة، أما في عالم الكم فإن القطة ستكون في حالة تراكب أي أنها حية وميتة في نفس الوقت من خلال تراكب بين دالتين موجتين: الأولى (الذرة لا تتحلل/ القطة حية)، والدالة الموجية للحالة الأخرى (الذرة تتحلل/ القطة ميتة). وعندما نفتح الصندوق ونشاهد ونرصد داخله، فإن الدالة الموجية ستنهار وستأخذ حالة واحدة إما حية وإما ميتة.
لقد قال أينشتاين في إحدى المناظرات في إطار رفضه لقوانين الاحتمالية التي تحكم ميكانيكا الكم: إن الله لا يلعب النرد، فأجابه نيلز بور: لا تقل لله ماذا يجب أن يعمل. لا ريب أن ميكانيكا الكم علم مليء بالغرائب والعجائب، وهو يدل بما لا يدعو للشك إلى عظمة الخالق المكون المبدع، سبحانه من قال: «سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ».
المصادر:
براين غرين – الكون الأنيق
الفيزياء الكمية – راي ألاستير
نظرية الكم تهزم تفكير آينشتاين
إثبات أن نظرية الكم ناقصة أو متناقضة مع نفسها.
الفيزيائي نيلز بور نقاشات حامية وطويلة خلال النصف الأول من ثلاثينيات القرن الماضي لفهم نظرية الكم وما تنطوي عليه، وقد عُرفت هذه المناظرة بحوارات آينشتاين-بور.
كان آينشتاين يرفض الطبيعة الاحتمالية للحوادث، مصرا على حتمية الحوادث الفيزيائية، في حين كان نيلز بور يقول إن "الله تعالى فعّال لما يريد".
حاول آينشتاين البرهنة على أن اللاحتم الكمي يقودنا إلى نتائج غريبة جدا، ظنا منه أنها غير قابلة للتحقق عمليا، وبالتالي فإن هذا يعني أن نظرية ميكانيكا الكم غير كاملة على الأقل إن لم تكن خاطئة
لكن الرياح تجري بما لا تشتهي السفن أحيانا حتى مع أعظم العلماء وأكثرهم ذكاء وعبقرية، فقد أجرى الفيزيائي الفرنسي ألين أسبكت تجربة شهيرة عام 1982 مستخدما أشعة الليزر لفحص ما تنبأ به ألبرت آينشتاين وجماعته فجاءت النتيجة موافقة للتنبؤ رغم استنكارهم لمثل هذه الظاهرة في حينها، وبالتالي فقد اعتبرت هذه النتيجة هزيمة لتفكير ألبرت آينشتاين واعتراضاته على نظرية الكم، إذ حصل ما كان يتوقع أن يكون حصوله مستحيلا وأمراً غير قابل للتحقيق.
اليوم وبعد أن تكررت تجربة ألين أسبكت مئات المرات وبأساليب مختلفة تتأكد ظاهرة التشابك الكمي بين الجسيمات الدقيقة، لا بل لقد وفرت هذه الظاهرة أرضية لفكرة تقول إن الكون كله مترابط كميا على نحو يجعله كيانا واحدا تتعاضد أجزاؤه صغيرها وكبيرها بآلية لم نفهمها بعد لكن الزمن كفيل بالكشف عنها تباعا، ومن الجدير بالذكر أن لظاهرة التشابك الكمي تطبيقات عملية في الحوسبة الكمية.
_____________ *أستاذ الفيزياء الكونية بجامعة اليرموك
نظرية جديدة قد توحد أخيرا كبرى نظريات الفيزياء
لعل واحدة من أكثر المشاكل تعنتا في الفيزياء حاليا هي حقيقة أن أفضل نظريتين تفسران الكون -وهما نظرية النسبية العامة وميكانيكا الكم- تؤديان بشكل جيد منفردتين، لكن بمجرد محاولة التوحيد بينهما فإن الرياضيات تفشل بشدة.
لكن عالم فيزياء نظرية من جامعة ستانفورد جاء بمعادلة جديدة تقترح أن وسيلة الربط أخيرا بين النظريتين ربما تكمن في أنفاق غريبة في الزمكان (الزمان والمكان) تدعى "الثقوب الدودية".
*
هذه قصة ميكانيكا الكم التي زعزعت الصورة القديمة للكون
حتى نهاية القرن التاسع عشر، كان علم الفيزياء يسير بشكل عام على نهج وفلسفة إسحاق نيوتن. فقد كانت آلية عمل قوانين الفيزياء مفهومة جيداً، ولا شيء فيها يدعو إلى القلق. فالسببية والحتمية منسوجتان في صُلب قوانين الطبيعة.
الكون أشبه بآلة عملاقة تعمل بدقة الساعة، لا يصيبها الخلل ولا الملل منذ أن أُطلقت للعمل.
يضم في عبارة رياضية واحدة حركات أكبر الأجسام في الكون وحركات أصغر الذرات وأدقها، ولا شيء يكون بالنسبة إلى هذا العقل موضع شك. إن الماضي والمستقبل سيكونان حاضرين أمام عينيه".
قوانين عالم الذرات لا تتوافق مع قوانين نيوتن العظيمة، ولا حتى مع بديهيات وأبجديات العقل البشري! إذ اتضح في النهاية أن الكون المنطقي المبني على قوانين نيوتن هو أشبه بقناع وضعه الكون. وبعد أن استجوبنا الطبيعة، ونزعنا هذا القناع تغيَّر كل شيء فجأة!
قصة نظرية الكم عام 1900م، حين قدَّم عالِم الفيرياء الألماني ماكس بلانك لأول مرَّة، أمام الجمعية الفيزيائية الألمانية في برلين، تفسيراً راديكالياً حول طبيعة الضوء الصادر من الذرات التي تُشكِّل كل شيء في عالمنا الكبير بما فيه أنفسنا. لقد أدرك، بطريقة ما، أن الطبيعة في أعمق أعماقها تصنع قفزات ليس بينها شيء! فالذرات لا تتحرَّك بشكل متصل، بل تتحرَّك بكميات منفصلة فقط، مثل المصعد الذي يتوقف عند أدوار معيَّنة. فلا يمكنك مثلاً التوقف عند الطابق الثالث والنصف أو الخامس والربع. هناك فقط أرقام محدَّدة يمكنك الوقوف عندها.
على الرغم من أن نظرية بلانك كانت متسقة مع التجارب، إلا أنها كانت فكرة غريبة جداً في ذاك الوقت. بل إنها ثورة تمرُّد على الفيزياء التقليدية المعروفة! فكيف يمكن أن تتحرَّك الذرات بكميات منفصلة فقط! إنه شيء ينافي فكرة الحركة المتصلة التي نشاهدها في حياتنا اليومية، والتي نظّر لها كل منظري الفيزياء عبر العصور. لذلك، حتى بلانك نفسه لم يكن مقتنعا بأفكاره. وراح يبرهن على أنها خاطئة!
لكن في عام 1905م أعاد آينشتاين الثقة بقوة في أفكار بلانك. ففي ذلك العام، نشر آينشتاين نظريته النسبية الخاصة، وورقة بحثية أُخرى فيها إثبات منطقي لوجود الذرات، وورقة ثالثة برهن فيها على أن الطبيعة الذرية تتحرك بشكل قفزات فعلاً كما ادعى بلانك. ثم في عام 1913م، حسم نيلز بور الأمر ونشر ورقة علمية، اعتمد فيها على أفكار كل من بلانك وآينشتاين، طرح فيها نموذجاً متكاملاً للذرة تتخذ فيه الإلكترونات التي تدور حول النواة مدارات معيَّنة، بحيث لا يمكن أن يتواجد أي إلكترون بين أي مدارين. وإذا قفز أحد الإلكترونات من مدار إلى آخر فإنه يقفز بشكل كمي دون أن يمر في المنطقة التي تقع بين المدارين أثناء قفزه. إنه شيء غريب فعلاً! تخيل مثلاً أن يغير كوكب زحل مداره بأن يختفي فجأة ويظهر في مدار آخر! ورغم ذلك، كانت كل الدلائل التجريبية تتجه ناحية تلك الفكرة بالفعل!
المؤكد يصبح احتمالاً
ثم تحقق اكتشاف مهم بعد تلك الاكتشافات. فقد أدرك لويس دي بروي أن الذرات لها طبيعة موجية مثلما لها طبيعة نقطية أو مادية. أي إن الإلكترون ليس صلباً تماماً مثل حبة رمل، بل يتخذ شكل غيمة إلكترونية لها خصائص موجية. وبالفعل تمَّت البرهنة تجريبياً على هذه الفرضية بعد فترة قصيرة. لكن إذا كانت المكوّنات الذرية مثل الإلكترون والبروتون والنيوترون ذات طابع موجي فنحن بحاجة إلى معادلة فيزيائية لتصف لنا تطوُّر تلك الموجة مع الزمن. أي كيف تتحرَّك الموجة؟ وهذا ما تصدَّى له إرفين شرودينغر.
المعادلة تخبرك فقط عن احتمال وجود الإلكترون على اليمين أو على اليسار أو على القمر أو في أي مكان في حال رصدك له بالتجربة. لكنها لا تخبرك بأي شيء عن طبيعة هذا الإلكترون نفسه! إذن هي نظرية احتمالات فقط! وهذا شيء مزعج تماماً.
ميكانيكا نيوتن أو بشكل أشمل ما يسمى الميكانيكا الكلاسيكية لا تعطيك احتمال وجود الأرض حول الشمس بعد أسبوع من الآن، بل تعطيك العلم اليقين أين ستكون الأرض بعد هذه الفترة بالضبط. فماذا يحدث مع عالم الذرات هذا؟ لقد استخدم شرودينغر أكثر فروع الرياضيات المألوف في الفيزياء، وهي المعادلات التفاضلية والتكاملية، التي استخدمها كل من نيوتن وماكسويل وغيرهما من قبل. إنها أداة قوية جداً وفعالة لوصف العالم الفيزيائي من حولنا. لكنها تعطي نتائج احتمالية الآن!
في عام 1925م، قبل أن يضع شرودينغر معادلته، اكتشف العبقري الألماني فيرنر هايزنبيرغ ما نسميه اليوم بشكل مألوف ميكانيكا الكم
مشكلة المصفوفات، كما لاحظ ماكس بورن لاحقاً، أنها غير قابلة للتبادل. فلو ضربنا رقمين عاديين فإن ناتج الضرب لا يعتمد على أماكن الرقمين. أي إن 6x2 يساوي 2x6. لكن لو ضربت مصفوفتين بدلاً من رقمين، فإن هذه الخاصية لا تعمل! إن ضرب المصفوفة أ بالمصفوفة ب يعطي ناتجاً مختلفاً تماماً عن ضرب المصفوفة ب بالمصفوفة أ. وأدَّى استخدام هذه الأداة الرياضية إلى ما نسميه اليوم مبدأ هايزنبيرغ أو مبدأ عدم اليقين.
هذا مبدأ في الطبيعة وليس له أي علاقة بتطوُّر التكنولوجيا. في التجربة، عليك أن تضحي بإحدى الكميات الفيزيائية لقياس الأخرى بدقة. لا يمكنك قياس كل شيء في الوقت نفسه. وهذه طبيعة متأصلة في عالم الذرات الغريب هذا! وإلى اليوم لا توجد تجربة تتنافى مع هذا المبدأ.
حقيقة الذرّة
رغم أن بور لم يسهم في بناء رياضيات ميكانيكا الكم إلا أنه هو بالفعل عرّاب النظرية والمسؤول عن تلك التفسيرات الجديدة لوصف العالم الذري. وقد صمد طوال حياته في وجه آينشتاين الذي حاول أن ينال عدة مرات من ميكانيكا الكم، إلا أنه اتضح في النهاية أن نظرة بور هي الأقرب للصواب.
+*/-
لفهم هذا المبدأ دعنا نضرب مثلاً بسيطاً: لنفترض أن هناك كرة تتدحرج بسرعة معيَّنة، وقد طُلب منك أن تقيس تلك السرعة بدقة. ستقيسها بطريقة ما، ولنفترض أنك وجدتها تتدحرج بسرعة 40 كيلومتراً في الساعة. وإذا طلبنا من زميل لك أن يقيس السرعة أيضاً بدقة، فلا بد من أن يكون قياسه مطابقاً لقياسك أو قريباً جداً منه. ولو كررتما القياس ألف مرَّة فستتفق نتائجكما في كل مرَّة تقريباً طالما أنكما تتحريا الدقة. الآن، لو صغرنا كرة الغولف إلى حجم ذرة وطُلب منك أنت وزميلك أن تعيدا القياسات نفسها فهل ستتطابق النتائج؟ الجواب: لا، سيحصل كل منكما على نتيجة مختلفة! ولو ظللتما تكرران تلك القياسات مئات المرات فلربما تتفق نتائجكما مرَّة أو مرَّتين فقط! والسبب غريب: إن الذرة لا تملك أصلاً سرعة معيَّنة قبل أن تجري قياسك عليها! هل تعلم مدى لامعقولية هذا الكلام؟
خلاصة كل ما تقدَّم هو أنه لا يكون للذرة موقع ولا سرعة ولا أي كمية فيزيائية أُخرى معيَّنة قبل أن نجري تجربة لقياس تلك الكميات! إنها تمتلك كل المواقع وكل الحركات وكل الكميات الفيزيائية الأخرى في الوقت نفسه، بشكل كامن، قبل أن نجري القياسات. وهذا هو جوهر مبدأ التراكب الكمي. وبمجرد أن تقيس فإنك تجعل تلك الحالة المتراكبة للذرة تنهار جميعها، ولا تظهر لك سوى حالة واحدة أو سرعة واحدة وهي التي تراها. هذا الانهيار لكل القيم الفيزيائية وبقاء قيمة واحدة فقط يسمى "انهيار الدالة الموجية". ويشبه الوضع قطعة نرد تتقلب باستمرار على طاولة، علينا أن نوقفها عن الدوران لتعطينا أحد الاحتمالات. فقبل وقوفها لا توجد حالة معيَّنة لقطعة النرد، إنها في حالة تراكب بين الكتابة والصورة حتى تقف.
لكن عليك ألا تأخذ هذا المثال حرفياً. لأنه من الممكن أن تقول حسناً، لنضع إذن كاميرا تصوِّر حالة النرد وهو يدور ومن ثم نبطئ الصورة لنرى التراكب. الكاميرا أو المجهر، بحد ذاته، مبني بحدوده القصوى على مبدأ اللايقين. وبالتالي لا يمكن رؤية الذرات به رؤية كلاسيكية. إن الذرات لا تشبه أي شيء نعرفه في الحياة! لا يوجد شيء اسمه يقين في عالم الذرات الصغير. كل ما يمكنك الحديث عنه هو "الاحتمالات". فحتى لو عرفت أين توجد ذرة معينة الآن، فهذا لا يعني أنك تستطيع التنبؤ بموقعها التالي مهما استخدمت من رياضيات أو أدوات مخبرية. وهذا يخالف بشكل صريح فيزياء وفلسفة نيوتن اليقينية. إن المشكلة الأساسية هي أن هذا العالم الكبير غير الغريب في سلوكه مصنوع من هذا العالم الصغير الغريب جداً في سلوكه!
خلق هذا المبدأ التراكبي لحالات الذرة قبل القياس جدلاً واسعاً لا يزال مستمراً حتى يومنا هذا، رغم اقترابنا من مرور مئة عام منذ أن تنبأ بور وزملاؤه بتلك الظاهرة الغريبة للطبيعة في مستواها الذري. وقد أتت فكرة الأكوان المتوازية كنتيجة لمحاولة تفسير التراكب الكمي في الذرات! إن المبدأ غريب بحق إلى درجة أن إرفين شرودينغر، وهو من وضع معادلة الحركة الأساسية لميكانيكا الكم ندم على إسهامه في النظرية.
*
تُعلمنا النسبية عن الثقوب السوداء، وموجات الجاذبية، وانحناء الزمكان، واختلافات وجهات نظر الراصدين، وتُعلمنا الميكانيكا الكمية عن الجسيمات دون الذرية؛ تركيبها الدقيق، وقوانين عالمها المحكوم بالارتياب، لكن رغم ذلك، لا تتوافق النظريتان معًا بشكل يسمح لنا أن نفهم الطبيعة بنظرية واحدة تضم كلا من الكم والنسبية معا، هناك عدد من أسباب ذلك التناقض، لكن قبل البدء في ذلك دعونا في البداية نتعرف على موقع كل من النسبية والكوانتم في خريطة الفيزياء، وسوف يساعدنا ذلك كثيرا في فهم ما سيلي.
خريطة الفيزياء الحديثة
فيزياء الحياة اليومية تحكمها ميكانيكا نيوتن، فأنت تذهب إلى عملك بسيارة تجري بسرعة متوسطة 60 كم/ساعة، وتتزايد تلك السرعة وتتناقص بعجلة غير منتظمة، تضغط مكابح السيارة فتتسبب في احتكاك يدعوها للتوقف، تستخدم مصعد العمل، وتضع هاتفك على الطاولة فلا يطفو؛ لأنه مُنجذب للأرض بقوة تتناسب طرديا مع كتلتيهما، وعكسيا مع مربع المسافة بينه وبين مركز الأرض.. إلخ، كل شيء ينضم لنطاق الحياة العادية التي نعرفها، كل نوع من الحركة أو السكون، يمكن أن نفسره بقوانين نيوتن، لكن هناك 3 حالات قصوى1 في الفيزياء لا نعرفها في حياتنا اليومية:
1- حالات السرعات العالية جدا: الاقتراب من سرعة الضوء مثلا.
2- حالات الكتل الكبيرة جدا: النجوم والمجرات.
3- حالات الجسيمات الدقيقة جدا: الإلكترونات وباقي جسيمات النموذج المعياري لفيزياء الجسيمات.
نحتاج لفيزياء جديدة مختلفة تشرح تلك الظواهر والتي لا تتمكن ميكانيكا نيوتن من تفسيرها بدقة
1- في حالة السرعات العالية تتدخل النسبية الخاصة لتتحدث عن انكماش طولي، وتمدد زمني، وكتلة تساوي مربع سرعة الضوء.
2- في حالات الكتل المهولة تتدخل النسبية العامة لشرح انحناء الزمكان، وظهور الثقوب السوداء.
3- في حالات الجسيمات الصغيرة للغاية تتدخل ميكانيكا الكم لتتحدث عن طبيعة مزدوجة، وعدم تأكد وتشابك كمّي، ومعادلات موجية.
مراكز الثقوب السوداء، مفردة الانفجار العظيم: هي حالات تتحد فيها الكتل العالية جدا + الحجم الدقيق جدا، هنا لا تزال محاولات الجاذبية الكمية للتوفيق بين عالمي النسبية العامة والكوانتم قائمة بالفعل.
هذا التكميم على كل شيء يقرر أن يمر عبر وجهة نظر الميكانيكا الكمية، حينما نود -مثلا- النظر لمجالات كهرومغناطيسية عبر ميكانيكا الكم فيجب علينا تكميم تلك المجالات، وتظهر المشكلة حينما نريد النظر لظاهرة ما تتداخل فيها الحالات النسبية العامة مع الكمومية؛ فالنسبية تتعامل مع الزمكان كنسيج ناعم، ممتد ومتصل كخط أعداد، دعنا نتأمل تلك النقطة قليلا.
لقد تمكن "ديراك" بالفعل من دمج النسبية الخاصة بالكوانتم في العشرينيات، وتطورت تلك الفكرة لتصبح نظرية المجال الكمّي، لكن تبين أن دمج النسبية العامة بالكوانتم هو أمر بالغ الصعوبة، إلى الآن لم نحصل على معادلة ثابتة واحدة يمكن لها أن تتخلص من القيم اللانهائية التي نحصل عليها حينما تصبح المسافة بين جسيمين "صفرا"، ظهرت الجاذبية الكمية الحلقية والأوتار كحلول لتلك المشكلات لكنها غير مكتملة بعد.
كأن نتوصل إلى نظريتي النسبية والكم لكي نستطيع تحقيق وصف أفضل للكون على المستويات الكبيرة جدا والصغيرة جدا، تظهر تلك التناقضات لتفتح بابا لمشكلات جديدة تحتاج لحلول جديدة، ورغم أن الإجابات الجديدة تعطينا فرصة مختلفة للتعرف على الكون بشكل أعمق؛ لكن ذلك يطرح في المقابل تناقضات جديدة تحتاج أن نتأملها ونبذل في سبيلها بعض الوقت والجهد. العلم إذن -ربما- هو حالة بحث مستمر يعلمنا في كل مرة أن ما نعرفه بشكل أفضل إلى الآن.. هو مدى جهلنا.
*
تفسيرات بديلة لميكانيكا الكم تحافظ على الواقع. يلتزم ساندرز بتفسير "العوالم المتعددة"، الذي يقضي على تناقض القياس من خلال استبدال انهيار الدالة الموجية في تفسير كوبنهاغن بعملية يقوم فيها الكون بإنتاج أفرع تتكاثر باستمرار لاستيعاب كل الاحتمالات التي تجسدها الدالة الموجية. في هذا التصور، تعيش قطة شرودنغر في بعض العوالم وتموت في غيرها. أما غولدشتاين، فهو من دعاة الميكانيكا البوهيمية. تضيف هذه النظرية بعض التعبيرات الرياضية لتقول بأن التراكبية أمر ظاهري فقط، بمعنى أن للجسيمات دائما مواقع وسرعات محددة، ولا يمكن أبدا أن تفرخ حيوانات نصف حية أو نصف ميتة من أي نوع.
قوانين الفيزياء لها مجال محدد ونحن لا نعرف حدوده. عندما تتجاوز تلك الحدود، تجد فيزياء جديدة".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق