كما نرى انهيار لبنان، فإن الولايات المتحدة الأمريكية هي الأخرى محكوم عليها بالانهيار، لكنها مسألة وقت لا أكثر. يمكن أن تمحو هذه الكارثة الولايات المتحدة من على خريطة الكوكب، ما سيؤدي إلى حرب أهلية وتفكك البلاد إلى أجزاء.
لقد تم إنشاء الكثير من الصناعات الفائضة في العالم على مدار العقود الأربعة الماضية، بتحفيز الطلب من خلال زيادة الإقراض، وحان الوقت الآن لخفض الاستهلاك، ووفقا لبعض التقديرات فإن ما يصل إلى 40% من الإنتاج العالمي يجب أن يفلس خلال الأزمة العالمية الحالية.
إن 40% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي يبلغ تقريبا مجموع الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة الأمريكية والصين مجتمعتين. في عام 2019، بلغ الإنتاج المحلي الإجمالي العالمي 142 تريليون دولار، وحتى مع تخفيض الخسائر المقدّرة إلى الثلث بدلا من 40%، أي 47 تريليون دولار، فإن هذه القيمة أكبر من إجمالي الصادرات العالمية للسلع والخدمات في عام 2018، والتي بلغت 25.3 تريليون دولار.
أي أنه حتى بعد وقف استيراد السلع الأجنبية، ستضطر البلدان أيضا إلى خفض إنتاجها. وفي ظل هذه الظروف، ستكون الدول القادرة على خفض وارداتها والحفاظ على صادراتها أو حتى زيادته هي الدول الأقل تضررا . بالطبع، سوف يكون ذلك ممكنا فقط من خلال القضاء على الإنتاج في البلدان الأخرى، وفي المقام الأول في البلدان المصدرة.
لن تكون الولايات المتحدة الأمريكية قادرة على تحقيق ذلك بشكل سلمي، حيث يفقد الاقتصاد الأمريكي قدرته التنافسية في العقود الأخيرة، ولن يزداد الوضع إلا سوءا. ووفقا للمسار الطبيعي للأحداث، فمن المحتم أن تخسر الولايات المتحدة، وتتوقف صادراتها تقريبا، بينما يسيطر المنافسون الأكثر كفاءة من بين المصدرين، مثل ألمانيا والصين وكوريا الجنوبية وغيرها على السوق المحلية. يتبع ذلك بطبيعة الحال اضطرابات سياسية، وتضخم مفرط، وفوضى داخلية فيما تبقى من بقايا الصناعة، لتعاني الولايات المتحدة الأمريكية في نهاية المطاف من مصير الاتحاد السوفيتي.
لا تأتي الحروب التجارية التي يخوضها الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، من فراغ أو استنادا إلى نزوات شخصية أو انحراف عقلي، وليست حتى بداية حرب، وإنما هي مجرد خطوة أولى خجولة، لأن الأزمة قد اندلعت لتوها، وسوف تجد الولايات المتحدة الأمريكية نفسها أمام سؤال مصيري: فإما تدمير المنافسين أو الموت بمفردها.
ومع ذلك، فإن لدى الولايات المتحدة الأمريكية الفرصة لإصلاح كل شيء، والخروج منتصرة من تلك الحرب. وللقيام بذلك، تحتاج أمريكا إلى القيام بثلاثة أمور:
تدمير رأس المال الأجنبي والتخلص من الديون.
تدمير إمكانات الإنتاج لدى الخصوم.
إعادة تشغيل النظام المالي الخاص من جديد.
إن أبسط الطرق دائما هي التدمير المادي، فقد بدأت الحروب العالمية السابقة لهذا الهدف تحديدا، لكن ذلك لم يعد ممكنا في الوقت الراهن. ولن تكون التحالفات السابقة مهمة عندما تقاتل حليفك السابق من أجل البقاء، ومن أجل المكان الوحيد المتبقي تحت الشمس. لهذا الضحية الأولى لن تكون للحرب، وإنما للإملاءات الأمريكية، على الحلفاء الحاليين للولايات المتحدة الأمريكية. لكن الخصوم الرئيسيين للولايات المتحدة يمتلكون أسلحة نووية، وتدميرها بالطرق العسكرية هو أمر صعب للغاية.
فكيف يمكن تحقيق الهدف الأول إذن؟
من الضروري زعزعة استقرار العالم كله، وخلق حالة من الذعر بحيث يندفع رأس المال من جميع أنحاء العالم إلى “الأصول الأكثر موثوقية” ألا وهي سندات الخزانة الأمريكية والأسهم الأمريكية، ثم تخفيض قيمة الدولار ورأس المال من خلال التضخم المفرط.
كذلك من الضروري إجبار دول عديدة على بيع أو سداد أهم أصولها مقابل ديونها، وتنظيم حالات الإفلاس وإخراج رؤوس الأموال من أسواق دول ثالثة، وهو ما سيصبح سببا للانهيار في الدول الأكثر هشاشة، يلي ذلك شراء الأصول بأي مبالغ من الدولارات المطبوعة بلا غطاء
ثم في النهاية، بإمكان الولايات المتحدة الأمريكية رفض سداد ديونها. فماذا عسى المملكة العربية السعودية أن تفعل إذا تقاعست الولايات المتحدة عن سداد 159 مليار دولار تدين بها للمملكة؟ أو 40 مليار دولار للكويت و30 مليارا للعراق؟
الهدف الثاني هو كيفية تدمير صناعة الآخر؟ يجب حرمان هذه الصناعة من الأسواق والحصول على الموارد. وكيف يمكن حرمان الموارد من اقتصاد الصين والاتحاد الأوروبي، المنافسين التجاريين الرئيسيين للولايات المتحدة الأمريكية؟
تتضمن أي إجابة عن هذا السؤال قطع إمدادات النفط والغاز عنهما. ليس ذلك أمرا سهلا، ومن الصعب القيام به بشكل مباشر، فكل من الاتحاد الأوروبي والصين ليسا أعزلين من الناحية العسكرية، وقد يكونا قادرين على تحمل العقوبات الأمريكية والحصار العسكري. لكن الخيار الأكثر واقعية والأقل تكلفة هو زعزعة استقرارهما، أو تدمير مورّدي الطاقة الرئيسيين لهذه المناطق: روسيا وشمال إفريقيا وشبه الجزيرة العربية.
تفرض الولايات المتحدة الأمريكية عقوبات على مشاريع الطاقة الروسية، بما في ذلك “السيل الشمالي” و”السيل التركي”. كيف يمكن قطع الإمدادات من شمال إفريقيا؟ من خلال الحروب الأهلية في هذه البلدان. وعن شبه الجزيرة العربية؟ بإغلاق مضيق هرمز، أو بإثارة حرب مدمرة بين إيران وجيرانها العرب، أو إثارة جولة أخرى من “الربيع العربي” أو من خلال دعم الحركات الإسلامية. أو ببساطة يمكن منع العرب من تصدير النفط، كما كان الحال مع صفقة “أوبك+” الأخيرة. ووفقا لأي سيناريو، فإن روسيا ستتمكن من الاحتفاظ بجزء من صادراتها للاتحاد الأوروبي والصين، حيث تمتلك أسلحة نووية وحدودا برية معها، أما العرب فسيتعين عليهم دفع الفاتورة بالكامل.
ستكون إعادة تشغيل النظام المالي أكثر صعوبة. ومع ذلك، فلدى الولايات المتحدة الأمريكية احتياطي ضخم من الذهب. والطرف الأقوى ليس الطرف القادر على التنافس والتطور كي يصبح فوق الآخرين فحسب، وإنما أيضا الطرف القادر على خفض مستوى المحيطين ليصبح الأفضل فيما بينهم بصرف النظر عن مستواه ولو كان متدنيا. وإذا تمكنت الولايات المتحدة الأمريكية من زعزعة استقرار دول أخرى إلى مستوى أسوأ من مستوياتها، فإن الدولارات الجديدة، إذا كانت مدعومة بالذهب، ستصبح مرة أخرى العملة العالمية الأكثر موثوقية.
لقد تربعت الولايات المتحدة الأمريكية على عرش هيمنتها في أعقاب الحرب العالمية الثانية، بعد أن تم تدمير بقية العالم، ولم تتأثر هي إلى حد كبير، وهذا سيناريو يمكن تكراره.
فهل ستحاول الولايات المتحدة الأمريكية تنفيذ هذا السيناريو الراديكالي أم تفضل موتها؟
متى يحصل العرب في النهاية على قنبلة نووية؟
*
Jan 7, 2021
الطريق إلى الديكتاتورية
على غرار "الطريق إلى العبودية"، الكتاب الصغير الذي ألفه الفيلسوف والاقتصادي النمساوي الأميركي فان هايك (1899 - 1992) عام 1944، ويعاد إحياؤه منذ سنوات، كان عنوان هذه المقالة التي سوف تتأثر به كثيرا، لأنها تعتقد أن تدخل الدولة المباشر في الاقتصاد سوف يجعل منها دولة ديكتاتورية. وعلى الرغم من أن هايك كان يعتبر زعيم المدرسة النمساوية في الاقتصاد، وأصبح من أكبر المنظّرين الاجتماعيين والفلاسفة السياسيين طوال القرن العشرين، لم يلق الكتاب عند نشره الاهتمام اللائق، لأن أفكار كينز كانت المهيمنة على الفكر الاقتصادي في مرحلة ما بعد الأزمة العالمية الكبرى لعام 1929، وكانت تتلخص في تدخل الدولة، من دون تحديد دقيق له، تدخل من أجل معالجة مشكلة البطالة التي ضربت العالم، والتي خصص لها كينز جل كتابه "النظرية العامة في العمالة والفائدة والنقد"، والذي يبين فيه قصور النظرية البرجوازية التقليدية، ويقدّم عوضا عنها نظرية جديدة، اعتبرت تدخليةً في الاقتصاد، لمعالجة مشكلة التشغيل. وأثارت أفكار كينز التدخلية فزع هايك، وتوقع نتائجها الكارثية في هيمنة الفكر "الجماعي" على الاقتصاد، ما حمله على إصدار مؤلفه "الطريق إلى العبودية"، الذي يعتقد فيه أن النزعة الأيديولوجية التدخلية الجماعية الاشتراكية الديمقراطية هي التي قادت وتقود إلى الشيوعية والنازية والفاشية، وأنها الخطر القادم على مستقبل القيم الفردية التي تستند إليها الحضارة الغربية.
الفردية فطرة إنسانية معلنة ومقدرة في الحضارة الغربية، ولكنها مخفية ومنكرة ومدانة لدى الشعوب الأخرى التي تتستر "بالجماعية"
إن العدالة والمساواة انهزمت، وتنهزم أمام تدخل الدولة واستحواذها على الإنتاج والتوزيع، بمعية القطاع المسمّى "عاما"، وبالتالي تغوّل الأجهزة البيروقراطية والحزبية والأمنية على السوق، وبالتالي عرقلة تحقيق العدالة والمساواة بين المنتجين والمتدخلين في النشاط الاقتصادي. تعرف الدولة أن السوق وحدها، إذا ضبطت بشكل صحيح، تحقق العدالة للناس جميعا، والسوق وحدها هي التي لا تسمح للمتغولين بالسرقة والكسب الحرام والإثراء على حساب العمال والمنتجين. الإنسان يولد حرا ولكنه يُستعبد بالاقتصاد، أو بتدخل الدولة في الاقتصاد الذي يجعل منها دولة فاسدة، قوية أمنيا، وضعيفة إنتاجيا، وديكتاتورية سياسيا.
إذا كانت الأيديولوجيات والنظم الجماعية باسم "الحقوق الجماعية" هدّدت، كما يعتقد هايك، الحضارة الغربية، فإنها هدّدت حياة الناس بالعوز والفقر والمجاعات في المجتمعات الناشئة، لأن الفردية فطرة إنسانية معلنة ومقدرة في الحضارة الغربية، ولكنها مخفية ومنكرة ومدانة لدى الشعوب الأخرى التي تتستر "بالجماعية"، وتمارس في الواقع كل موبقات المصلحة الفردية.
تدخل الدولة الوحيد المدان هو التدخل المباشر في الاقتصاد، لأنه الذي يقوّي الاستبداد، ويسبب بالتالي كل الكوارث
هل كل تدخل للدولة في الاقتصاد مدان؟ يجيب هايك بأن تدخل الدولة الوحيد المقبول في الاقتصاد هو من أجل ضمان المنافسة التي هي ضمان الحرية، وبالتالي هي ضمان ما سمّاها الترجمة الاقتصادية للقيم "الفردية الليبرالية الصافية".
تدخل الدولة الوحيد المدان هو التدخل المباشر في الاقتصاد، لأنه الذي يقوّي الاستبداد، ويسبب بالتالي كل الكوارث التي نعرفها، بدءا من التفاوت في الدخل وانتهاءً بالسلال الغذائية وبطوابير الناس على أفران المخابز ومحطات الوقود.
ما يهمنا من هذا الحديث: كيف يتطور التدخل المباشر في الاقتصاد إلى ديكتاتورية في السياسة؟ هذا ما حدث في المشرق العربي بعد الاستقلال، تحت شعارات الاشتراكية والعدالة والقطاع العام والاقتصاد الموجّه، حيث بدأت الدول الفتية بتأميم وسائل الإنتاج وجعلها ملكية عامة، تتحكّم بها الدولة والحزب والحاكم الذي يتحول سريعا إلى واحد أوحد، ويسلم إدارة الإنتاج إلى الموالين والأتباع الذين يؤدّون له الولاء ويتقاسمون معه الغنائم. تدخل الدولة هو ببساطة من أجل فرض سلطتها على الإنتاج والمنتجين والسوق، والتخلص من الأحرار المنافسين. هكذا تقوى الدولة وتتغول، وتتحوّل تدريجيا إلى دولةٍ بوليسيةٍ، تتحكم بالسوق والثروة والبلاد والعباد.
لا شيء يحبط طاقات الناس أكثر من تدخل الدولة المباشر في الاقتصاد
إعادة الاعتبار للسوق والمنافسة واليد الخفية هي إعادة الاعتبار للإنسان وعقله وطاقاته ومبادراته الخلاقة. لا شيء يحبط طاقات الناس أكثر من تدخل الدولة المباشر في الاقتصاد، لأنها، بذريعة الحرص على الأمن الاقتصادي وعدالة توزيع الدخل وتوفير حاجات الناس، تنتزع حريتهم وتتركهم بلا أمن ولا حرية. ولا يعني هذا الكلام أن الدولة حيادية، ويعفيها من مهامها، المتمثلة أساسا في مراقبة السوق وضمان الشفافية والمنافسة والمساوة، ورسم السياسات الاقتصادية والمالية والنقدية، وتحقيق التنمية بإقامة المشروعات الكبرى، والقيام بمهامها الاجتماعية المتعلقة بتوفير العمل وحماية العمال وتوفير الصحة والتعليم والسكن.
هل يمكن دمج نظام السوق مع التدخل المباشر في الاقتصاد؟ أو بمعنى آخر، هل يمكن دمج نظام السوق مع الاقتصاد الموجّه؟ عودة مرة أخيرة إلى صديقنا هايك، لنجد أنه يرفض بقوة الدمج بينهما، لأن الدمج، في رأيه، سوف يقضي على مزايا كلا النظامين، إذ من المستحيل الدمج بين "الاستبداد الاقتصادي" و"الحرية السياسية". وهذه حقيقة، فكل الدول التي دمجت، خصوصا الصغيرة، تحولت إلى دول دكتاتورية وتلاشت، أو في طريقها إلى التلاشي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق