بهي الدين حسن
ففي البحرين تعزّزت القبضة القمعية للأقلية الحاكمة من الطائفة السنية. وخضعت مصر لأكثر نظم الحكم العسكرية وحشية ونهبا لاقتصادها في تاريخها الحديث. وصار اليمن وليبيا نهبا لصراعاتٍ مسلحةٍ داخلية، وحروب بالوكالة لحساب أطراف إقليمية ودولية. بينما صارت سورية ساحة لحرب أهلية متعدّدة الأطراف، ولقمة سائغة لاحتلالات أجنبية. في تونس، التي تعتبر النموذج الوحيد لانتصار الربيع والديمقراطية، خرجت في الذكرى العاشرة مظاهرات احتجاج في ست مدن على تدهور الحالة الاقتصادية، وبؤس أداء النخبة السياسية الحاكمة المنتخبة ديمقراطيا، وأعلن أحد أبرز رموز المعارضة اعتذاره لزين العابدين بن علي الذي سجنه، عندما كان يحكم تونس بقبضة حديدية، بينما اتهم عياض بن عاشور (أحد أهم المسؤولين عن عملية الانتقال بعد الثورة) رئيس الجمهورية الحالي، قيس سعيد، بأن مواقفه مثيرة للانقسام وتتعارض مع مبادئ الثورة.
قضت محكمة مصرية اليوم الثلاثاء (25 آب/أغسطس 2020) بالسجن 15 عاماً بحق المدافع عن حقوق الإنسان بهي الدين حسن بتهمة نشر أخبار كاذبة والتحريض ضد الدولة. وصدر الحكم غيابياً ضد بهي الدين حسن، وهو مدير مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان. واتهمت النيابة بهي الدين حسن ببث ونشر أخبار كاذبة والتحريض على العنف وإهانة السلطة القضائية عبر حساب على مواقع التواصل الاجتماعي.
يعتبر الحكم أول درجة ويحق للمتهم استئنافه والطعن عليه.
"خطوة تصعيدية تهدف إلى الانتقام منه بسبب نشاطه الحقوقي وترهيبه بالتوقف عن الدفاع عن حقوق المصريين". وطالب المركز بإسقاط جميع التهم الموجهة ضد رئيسه ووقف ممارسات الانتقام ضد المدافعين عن حقوق الإنسان.
وصول المنطقة إلى هذا الوضع المأساوي بينما كانت تحاول أن تزيح أنماطا متنوعة من حكم القرون الوسطى، ومن فساد النخب الحاكمة، لم يكن متوقعا. أيضا لم يكن ممكنا لولا الشراسة اللامحدودة لهذه النخب الحاكمة، وتبلور تحالف إقليمي، بقيادة السعودية والإمارات، ينظر إلى الربيع العربي باعتباره خطرا يتهددها، ومن ثم عليها أن تحاربه، على الرغم من أن موجاته توقفت عند البحرين. لعب هذا التحالف دورا حيويا في مساندة الثورة المضادّة في المنطقة، من خلال توظيف فائض عائدات النفط لدعمها، وقام بتدخل عسكري مباشر في البحرين واليمن وليبيا، وضغط من أجل إقناع الاتحاد الأوروبي وأميركا بالتسامح إزاء أعمال القمع الوحشي لأعمال الاحتجاج والتدخل المسلح، والاكتفاء ببيانات إدانة روتينية.
البرادعي، أبرز الرموز العلمانية للربيع العربي في مصر؛ إن هذه النخب فشلت في التوافق على رؤيا وخريطة طريق والقيم الأساسية للدولة. لا ينحصر التقييمان بسورية ومصر، بل ينطبقان أيضا، وإن بدرجاتٍ متفاوتة على اليمن وليبيا. أفلتت تونس إلى حين، بفضل توافقها النسبي منذ الأسابيع الأولى على خريطة طريق وعلى القيم الأساسية. ساعد على ذلك أن جيشها ليس له طموح سياسي واقتصادي مثل الجيش المصري، وأن حركة النهضة (الإسلامية) تتميز بانفتاحها السياسي وبراغماتيتها، مقارنة بجماعات الإسلام السياسي في مصر وسورية. مع ذلك، تظل تونس مثالا إضافيا على الفشل في العمل الجماعي، ليس فقط بين الإسلاميين والعلمانيين، بل أيضا داخل كل تيار على حدة.
ففي حين أن مراكز التفكير في العالم تتهيأ "للقرن الصيني"، ولعالم تسوده الصين سياسيا واقتصاديا، فإن قطاعا من الإسلاميين ما زال مهموما بإعادة إحياء عالم يعود إلى أكثر من ألف عام مضى. من ناحية أخرى، لم تغادر بعد، روافد متعدّدة من النخب العلمانية مرحلة التحرّر الوطني والحرب الباردة في خمسينيات القرن الماضي وستينياته وشعاراتها، حين كانت جيوش الاحتلال البريطاني والفرنسي تتقاسم بلدان المنطقة، بينما تتأهب الإمبريالية الأميركية الصاعدة لوراثة دوره. رحل الاحتلال القديم، بينما تتقاسم الآن بعض بلدان المنطقة جيوش احتلال روسية وإيرانية وتركية وإماراتية، وفرق مرتزقة سودانية وتشادية وسورية وروسية، ومليشيات طائفية شيعية تتحرّك بأوامر إيران، إلى جانب استمرار الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين والجولان وبقايا قوات الغزو الأميركي للعراق.
لا بد من بناء اقتصاد ديناميكي قادر على تعزيز الموارد وإيجاد الثروة للمجتمع ككل، وبالتالي إيجاد فرص عمل جديدة بشكل دائم
عدم إدراك بعض النخب الإسلامية والعلمانية بدرجة كافية حجم التغيرات الهائلة التي لحقت بالعالم والمنطقة يحاصرها بعوالم متخيلة، تزكّي لها حلولا أيديولوجية ربما كانت تصلح للزمان الذي تبلورت خلاله هذه العوالم، لكنها لا تصلح لزمانها، ولا للتعامل مع التحدّيات المعاصرة. بل هي، في المقابل، تمنح أحجاما غير واقعية لمشكلات بعينها على حساب تحدّيات رئيسية، خصوصا الاقتصادي منها، فجوهر انتفاضات الربيع العربي هو السعي إلى انتزاع الكرامة المستلبة في الدولة والمجتمع والأسرة. أي التمتع بالعدالة الاقتصادية والاجتماعية والمساواة السياسية والحرية الفردية، بصرف النظر عن اعتبارات العرق والجنس والأصل الاجتماعي. إحقاق ذلك يتطلب أولا ترتيبات سياسية ودستورية وتشريعية وقضائية. وثانيا بناء اقتصاد ديناميكي قادر على تعزيز الموارد وإيجاد الثروة للمجتمع ككل، وبالتالي إيجاد فرص عمل جديدة بشكل دائم، وتطوير نظام تعليمي وصحي كفؤ. هذه مهمة لا تكفي للوفاء بها شعارات طيبة مهما كان سحرها "عيش .. حرية .. عدالة اجتماعية"، بل تحتاج خططا مدروسة، ترتكز لمعلومات حقيقية من أجل ترجمة هذه الشعارت لواقع على الأرض. الشق الأول كان دائما محل تركيز النخب المتمرّدة، وللأسف نادرا ما التفتت إلى الشق الثاني، إلا من خلال شعارات ووعود بالعدالة الاجتماعية، من دون أن تبين كيف سيمكنها ذلك؟ تونس مثال تطبيقي واضح، حيث وصلت نخب المعارضة إلى الحكم منذ عشر سنوات، ولكن بجعبةٍ خاليةٍ إلا من الشعارات.
الميل الجارف لدى بعض النخب العلمانية والإسلامية إلى اعتناق نمط "رأسمالية الدولة"، من دون تمحيص، هو عائق آخر. رأسمالية الدولة تعني ببساطة مركزة الثروة في أيدي بيرقراطيتها، وليس ملكية الشعب المخدوع. كل تركيز للثروة في أيدي بيرقراطية الدولة أو جيشها أو احتكارات رأسمالية خاصة يُحدث، بشكل أوتوماتيكي، مقاومة شرسة لكل مشروع سياسي، يطمح لنمط لامركزي، ولتمكين الناس والمجتمع، من خلال تأسيس نظام ديمقراطي حقيقي. أخشى أن تبنّي بعض النخب هذا النمط هو بمثابة الخطوة الأولى على طريق تأبيد النظام القديم السياسي المتسلط والاقتصادي الفاشل والفاسد.
عشية انطلاق الربيع العربي، كانت أغلبية المؤشّرات الدولية لقياس النمو الاقتصادي والتفاعلات السياسية معقولة
فاقمت أزمة كوفيد – 19 من أزمة العالم العربي، ليس فقط على الصعيد الصحي، بل تتوقع الأمم المتحدة والمؤسسات المالية الدولية أن تؤدّي الأزمة الصحية وانهيار أسعار النفط إلى مفاقمة الأزمة الاقتصادية والسياسية في المنطقة العربية، في الدول المصدرة والمستوردة للنفط على السواء. يرتكز هذا التوقع على تقييم تلك المؤسسات الدولية السلبي أنماط النمو الاقتصادي السائدة في المنطقة، والتفاعل المرجّح بين الآثار الاقتصادية وأزمة انعدام الثقة المزمن بين الشعوب وأغلبية الحكام في المنطقة. ولذا يحذر تقرير للأمم المتحدة من حدوث اضطراباتٍ سياسيةٍ، يتفاوت حجمها وتأثيرها من دولة إلى أخرى. جدير بالملاحظة، في هذا السياق، أنه حتى، عشية انطلاق الربيع العربي، كانت أغلبية المؤشّرات الدولية لقياس النمو الاقتصادي والتفاعلات السياسية معقولة. المؤشّر الوحيد الذي كان يبث إشارة سلبية محذّرة هو ذلك المتعلق بمستوى رضى الشعوب عن نمط حياتها في العالم العربي. بعد انطلاق الربيع العربي، عاد هذا المؤشّر إلى الارتفاع، لكنه منذ عام 2015 في حالة تراجع مستمر، على الرغم من أن القياس لا يشمل الدول الثلاث التي تشهد صراعات مسلحة وحروب أهلية (سورية واليمن وليبيا)، وعلى الرغم من أن المؤشر يرتفع في باقي مناطق العالم. قد تظن بعض عناصر نخب الربيع العربي أن ذلك "بشرة خير" لانتفاضات جديدة، لكني لا أظن أن ذلك يحمل خيرا في السياق المأزوم الحالي على صعيد الحكم ونخب المعارضة في العالم العربي.
وتطوير ثقافة سياسية جديدة، وطرق مختلفة في العمل، واقترابٍ ملموسٍ ومعمقٍ من الواقع وليس عوالم متخيلة، ودراسة هذا الواقع علميا، وتحويل الشعارات الجميلة بناء على ذلك إلى خطط عمل قصيرة وبعيدة المدى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق