شنّ المخابرات العامة والأمانة العامة لوزارة الدفاع، حملة مراجعة دقيقة لجميع حسابات المشاريع الاستثمارية التي أقيمت بأموال المخابرات والجيش خلال العامين الماضيين، خلف واجهات مدنية، كان قوامها ضباطا سابقين في الجيش والمخابرات والشرطة، أو أفراد أسرهم.
مخالفات بالجملة في عدد كبير من المشروعات التي أقيمت أخيراً على هامش مشروعات كبرى ينفذها الجيش ممثلاً في الهيئة الهندسية وجهاز مشروعات الخدمة الوطنية.
الرقابة الإدارية التي يرأسها حالياً اللواء حسن عبد الشافي، القائد بسلاح المهندسين العسكريين سابقاً، اكتشفت أكثر من ستين حالة إثراء غير مبرر في صفوف الشخصيات التي اعتمد عليها النظام كواجهة لمشاريع عديدة في مجالات اقتصادية مختلفة أخيراً. كما رصدت تضخماً في ثروة أسر أكثر من ثلاثين ضابطاً كبيراً ما زال بعضهم في الخدمة، من الجيش والمخابرات العامة، نتيجة تلك المشروعات التي تستثمر فيها الجهتان أموالهما بصورة غير مباشرة. وهي الطريقة المتبعة منذ بدء التوسع الكبير في اقتصاد الجيش والأجهزة السيادية مع بداية عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي، وإطلاق أذرع الأجهزة في قيادة الاقتصاد الوطني، عبر تنفيذ المشروعات الضخمة مقابل الاستفادة منها مالياً واستثمارياً بعيداً عن الموازنة العامة للدولة، وبمعزل عن أي رقابة على طبيعة الأعمال من جهات مستقلة.
اكتشاف أكثر من ستين حالة إثراء غير مبرر في صفوف شخصيات اعتمد عليها النظام كواجهة لمشروعات عديدة
النمط الأول هو استغلال الضباط المتهمين ومعاونين لهم من المدنيين، وجودهم كواجهة أو مديرين للمشروعات، للاستيلاء على أموالها والتلاعب بدفاترها وتحقيق مصالح للغير مقابل رشوة واستفادات مالية وعينية تعود لهم أو لذويهم، وذلك في قطاعات مختلفة، منها عقود استغلال محطات الوقود والمحال التجارية المقامة بها والتي زادت بشكل هائل خلال العام الماضي، وشركات التعدين والمحاجر، والمزارع السمكية. وهي أنشطة أصبح الجيش يديرها في الآونة الأخيرة بصورة شبه مطلقة، ويستثمر أموالها هو والجهات السيادية الأخرى، التي تستعين بالضباط السابقين وأفراد من أسر الضباط الحاليين كواجهات إدارية وأصحاب أسهم عند قيد تلك المشروعات، صغيرة كانت أو كبيرة، في السجلات الرسمية.
النمط الثاني من وقائع الفساد المضبوطة، فيتمثل في المشروعات التي يشارك فيها المدنيون وتسند إدارتها لضباط سابقين أو أفراد من أسر الضباط الحاليين ومعارفهم، كشرط عرفي غير رسمي لتسريع تنفيذ المشروع وتسهيل إجراءاته وحصوله على مزايا تفضيلية، وهذا النمط شائع في القطاعات السابق ذكرها، وكذلك في المشروعات الاستثمارية بالمدن الجديدة والمنطقة الاقتصادية لقناة السويس.
للنمط الثالث، وهو الأكثر شيوعاً، فيتمثّل بشركات المقاولات من الباطن (بعد أن يتم إسناد الأعمال إلى شركة ما تقوم بدورها بإسناد بعض الأعمال المتخصصة إلى مقاولين آخرين) التي تنشأ بشراكات بين القطاع الخاص والجهات السيادية ممثلة في ضباط سابقين أو أقارب ضباط حاليين، على أن يتحمل المدنيون تكاليف التشغيل والإدارة الفعلية. وهذه الشركات تمثل قسماً كبيراً من قطاع المقاولات المدنية التي يعتمد عليها الجيش في مشروعاته المختلفة، واكتُشفت في حملة التفتيش الأخيرة مخالفات صارخة بشأنها بتحصيل فواتير مقابل أعمال وهمية وتلاعب في الأسعار، خصوصاً في مشروعات العاصمة الإدارية الجديدة.
التحقيقات ترتب عليها استرداد مبالغ مالية تصل قيمتها إلى ملياري جنيه
(127.2 مليون دولار)، فيما اعتقل عدد من الضباط المتهمين وأودعوا سجناً عسكرياً، بينما اكتفت السلطات مع البعض بتجريدهم من معظم ثرواتهم وثروات ذويهم.
المصادر إنه على الرغم من فداحة المخالفات المضبوطة في حالات عديدة، إلا أنها لا تمثل إلا نسبة صغيرة من إجمالي النشاط الاقتصادي الذي تتعدد فيه الأنماط الثلاثة المذكورة، ولذلك استبعدت المصادر أن تكون هذه الحملة بداية لطريقة إدارة مختلفة لأموال الجهات السيادية في الفترة المقبلة، بحيث سيتم فقط الدفع بعناصر أخرى جديدة محل العناصر القديمة التي اكتشف فسادها.
بحسب المصادر، فإنّ هذه الحملة هي الأكبر والأهم داخل اقتصاد الجيش والأجهزة السيادية على الإطلاق، موضحةً أن ما تم في نوفمبر 2019، عندما تم القبض على رجل الأعمال وضابط المخابرات السابق ياسر سليم، الذي كان من الشخصيات الفاعلة في عملية سيطرة المخابرات العامة على الصحف والقنوات الفضائية في مصر، تتضاءل تداعياته بشدة أمام حجم المبالغ المالية والمخالفات المكتشفة في الحملة الأخيرة.
تعتبر قضية اقتصاد الجيش الاحتكاري والمحصن من الرقابة وغير الشفاف، من الملفات المهمة والمثيرة للحساسية بين النظام المصري والولايات المتحدة والدول الغربية، وربما ينعكس تأثيرها بشكل مباشر على المعونة الأميركية لمصر. فهذه القضية تشغل بشدة عشرات الأعضاء الديمقراطيين بمجلسي النواب والشيوخ الأميركيين، ولبعضهم نفوذ لدى دائرة الرئيس الجديد جو بايدن. مع الأخذ في الاعتبار أن بعض هؤلاء النواب تحدثوا في جلسة استماع أجريت في الكونغرس حول هذا الموضوع عام 2017، بشأن ملفي حقوق الإنسان والدور الاقتصادي للجيش، ونتج عنها تعليق جزء من المعونة الأميركية لمصر، بعدما طرحوا تساؤلات عن مدى حاجة الجيش المصري لهذه المعونة ذات القيمة المالية التي تضاءلت بمرور الزمن، وبين كون هذا الجيش قادراً على تحقيق أرباح ضخمة من أنشطة تشهد تضييقاً مستمراً على المستثمرين الأجانب، ومنهم الأميركيون.
المعونة الأميركية لمصر هي مبلغ تتلقاه الأخيرة سنوياً من الولايات المتحدة، منذ توقيع اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية عام 1978، وتحصل بموجبها على مبلغ 2.1 مليار دولار، منها 815 مليون دولار كمعونة اقتصادية، و1.3 مليار دولار كمعونة عسكرية. لكن القيمة السياسية للمعونة أكبر بكثير من قيمتها المالية، فهي من ناحية تعبّر عن اعتراف واشنطن بشرعية الرئيس المصري وبمساعدتها له وبدعمها لسياساته، ومن ناحية أخرى تحافظ ضمنياً على العلاقات العسكرية القائمة بين البلدين. وكانت مقترحات بعض نواب الحزبين الديمقراطي والجمهوري بين عامي 2013 و2014 لإعادة صياغة المساعدات والعلاقات مع مصر بعد انقلاب 3 يوليو/تموز 2013، أحد أسباب اندفاع السيسي لتنويع مصادر استيراد الأسلحة، وإن حافظ أيضاً على ضرورة إخطار واشنطن بصفقاته والحفاظ على التنسيق الأمني والاستخباراتي بين البلدين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق