المدن الحديثة تعرّف بأنها منارات حماية حقوق الإنسان، ولا سيما الحق في الحياة، عبر آليات إعمال القوانين وسبل العدالة الجنائية إزاء المعتقدات والقيم التقليدية التي تهدر الحق في الحياة على خلفيات قيمية/ دينية مختلفة، والحق في الخصوصية، باعتبار الأفراد هم وحدات العمل والتنقل والكسب وأساس العلاقات داخل المجتمع وبين المجتمع والدولة على السواء، بعكس الأوضاع في مجتمعات أقل "تمدّنًا" تعتبر الأسرة أو القبيلة أو العائلة الممتدة أساس العلائق المجتمعية والسياسية، والحق في التعبير عن الرأي، باعتبار المدينة مساحةً يخلق فيها الأفراد "أركانًا" خاصة بهم، تخالف أو توافق التوجهات العامة للآخرين، والحق في التنقل، باعتبار كل من يقطن بالمدينة مقرًا ومسلمًا بمنطق التنقل (الترانزيت) بحسب وجهة العمل والتعليم، بينما تبقى الجذور والمساحات الأصيلة في الضواحي والأرياف البعيدة عن مركز العمل والمال والتنقل.
لكن هذه الرؤية المثالية، أو ربما النظرية، للمدينة لم تعد سارية الأثر في بلدان عديدة، فعمليات التحول إلى الرأسمالية عبر خصخصة مشروعات القطاع الخاص ودعمها في المجالات التي سبق أن تولتها "دولة الرفاه"، بحسب العقد الاجتماعي المفترض بينها وبين المواطنين، أدت إلى تسليع الإنسان من جهة، وتسليع الأرض والإسكان من جهة أخرى
لإعادة توزيع فرص "الإسكان"، بحسب أولويات الربح، ومن ثم إعادة توزيع الثروات لصالح النخب الرأسمالية في المدينة والمراكز الحضرية. وبالتالي، إعادة توزيع الحقوق في المدينة لصالح قلة من الأغنياء، وضد غالبية الموظفين والعاملين من أبناء الطبقة الوسطى والدنيا الذين لا يندرج تصنيفهم الاجتماعي/ المالي ضمن معايير "النخب"، على الرغم من إصرار منظومة السوق على ضمّهم في مسارات العمل والكسب في المدينة، بحكم التوزيع غير العادل لفرص العمل والكسب بين المراكز الحضرية والمناطق التابعة لها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق