تلتقي مصالح عدد من مكونات الدولة كالجيش والمؤسسات البيروقراطية المدنية والأمنية والأحزاب أو القوى الحاكمة بحيث تتكاتف جهودها أو بعضها في مرحلة ما ويتألف منها ما يمكن تسميته بالدولة العميقة بهدف الحفاظ على مصالح الدولة كنظام حكم.
تركيا كانت أول دولة تكوَّن فيها تحالف الدولة العميقة حين تكاتفت مجموعات من الشرطة وضباط القوات المسلحة وبعض رجال القضاء والبيروقراطيين ومصالح أخرى أطلق عليها حينها مسمى تركي بمعنى الدولة العميقة هدفها حماية علمانية الدولة التركية بعد قيامها على يد مصطفى كمال أتاتورك (عام 1923). وتولت الشبكة أعمالاً سرية هدفت إلى المحافظة على الدولة كما أقامها أتاتورك. وقد قام رجب طيب أردوغان بتفكيك جزء لا يستهان به من هذه الشبكة في عمليات تسريح واعتقال واغتيال شملت مئات الآلاف في القوات المسلحة والدولة والقضاء والإعلام والجامعات خلال السنوات الأخيرة. وظهرت في مصر الدولة العميقة بشكل بارز خلال حكم الرئيس المصري محمد مرسي وساعدها قيام ثورة شعبية ضد حكمه..
تسعى «الدولة العميقة» حيث تكون للمحافظة على كيان الدولة كما تراه والمحافظة على المصالح المتشابكة فيها. ومن الصعب جداً إحداث تغيير بوجود هذه الدولة، كما أنه من الصعب الخلاص منها بدون تفكيك وإضعاف الدولة نفسها.
من مركز روابط العراق
دول قوية ودول ضعيفة، هناك دول بنظام جمهوري وآخرى بأنظمة ملكية برلمانية.
حكومات الظل، الدولة الموازية، ولعل من أهم تلك التعريفات هي الدولة العميقة.
الدولة العميقة تتمثل في شبكات السلطة السياسية في واشنطن والسلطة الاقتصادية والمالية في وول ستريت والتي تعمل على حماية مجموعة من شبكات المصالح المختلفة.
تمثل المؤسسات العسكرية والأمنية والقضائية والإعلامية التي تجتمع على هدف الحفاظ على مصالحها ضد أي تهديد والعمل على إبقاء الوضع على ما هو عليه بما يحفظ تلك المصالح المتشابكة، كما تقوم بذلك بدعوى الحفاظ على الأمن القومي ضد التهديدات الخارجية.
إضافة جزء متعلق بالبيروقراطية (الجهاز الاداري)، تلك المتعلقة بأسلوب الادارة الذي يحافظ بقدر كبير على الوضع القائم دون تغيير والحفاظ على المصالح المتشابكة ضد أي تهديد من قبل أي جهة بما في ذلك المواطن نفسه.
نشأت الدولة القومية الحديثة بعد معاهدة ويستفاليا للصلح عام 1648، وكان هدف قيام هذا النموذج هو الحفاظ على القوميات والحدود ووضع أطر واضحة للعلاقات بين الدول وشعوبها، وإنهاء حالة الصراع التي كان أحد أسبابها وفق نظرة من أبرموا هذه المعاهدة هو وجود الامبراطوريات وعدم وجود ترسيم واضح للحدود مما يؤدي إلى زيادة الصراعات بين الشعوب وأنظمة الحكم المختلفة في ذلك الوقت. إن الدولة القومية الحديثة ترتكز على مبادئ ومن أهمها مبدأ “السيادة”، وهذا المبدأ يعد من المبادئ المشكلة والرئيسية لفهم دور الدولة القومية، ففي إطار السيادة تمنح الدولة السلطة والحق المشروع في استخدام العنف والقوة وما في وسعها للحفاظ على النظام العام، إذا فهي لا تتحكم بالمؤسسات فقط ولكنها أيضا تتحكم في المواطنين، مما يستتبع أن الدولة هي المشرعة للقوانين وهي التي ترى تنفيذ القانون في إطار ما تراه مناسبا للحفاظ على النظام العام، فهي تحتفظ بحقها في خرق القانون متى تتطلب ذلك. ساعد هذا النموذج على نشأة شبكات معقدة من العلاقات والمصالح التي على مر الزمان تتجذر في مفاصل وأجهزة الدولة المختلفة والتي -وفي لحظة تاريخية معينة- لا يمكن أن يحدث تغيير دون اقتلاع هذه الدولة من جذورها، فهي تدافع عن مصالحها بشراسة من خلال العديد من الوسائل والأدوات التي تمتلكها بفعل مفهوم السيادة الذي من خلاله تقوم بتبرير وشرعنة أفعالها.
أدوات عمل الدولة العميقة كي تحافظ على شبكات المصالح بداخلها هو استخدام العنف في إطار حالات استثنائية خارج إطار القانون وهو ما يعرف بحالة الاستثناء، والتي يتم فيها اتخاذ العديد من الاجراءات الأمنية بدعوى الحفاظ على الأمن القومي من الخطر الخارجي وأنه هناك دائما عدو مترصد لابد من التأهب دائما لصده عن ما يشكله للدولة من تهديد، وفي إطار ذلك تقوم الدولة بقمع المعارضين وكل من هم لا يشعرون بالرضا عن أداء الدولة بشكل عام والسياسي بشكل خاص، ويكون الهدف هو إضفاء طابع قانوني على حالة الاستثناء. وليس بعيدا أن يتم استغلال المؤسسات الدينية التي تسيطر عليها الدولة لتبرير تلك الاجراءات من الناحية الدينية حتى يتم إضاء طابع “شرعي – ديني” على ممارسات الدولة الأمر الذي يدفع المواطنين بالتزام الصمت.
تقوم الدولة العميقة أحيانا بانتهاج الحيل والخداع على المواطنين من أجل الحفاظ على النظام العام ومنظومة القيم والمعتقدات المتعلقة بشكل مباشر أو غير مباشر للدولة. استخدام الجهاز الاداري “البيرقراطية” يعد أحد أدوات الدولة العميقة، وهو فرع عن القانون من أجل تطويل العمليات الادارية على المواطنين والتي من خلال يعمل الموظف على الحفاظ على النظام العام وعدم إعطاء للمواطن الفرصة بالاعتراض أو احداث خلل في تلك المنظومة. أيضا تقوم الدولة بامتلاك أدوات الاقتصاد والتحكم في الاسواق من أجل الحفاظ على شبكات المصالح الاقتصادية التي تستفيد بشكل ما أو بآخر ببقاء النظام العام على ما هو عليه وفي سبيل ذلك تقوم بافتعال الأساطير والحكايات التي من خلالها تتحكم في مسألة العرض والطلب واتجاهات السوق.
تقوم الجهات السيادية “العسكرية مثلا” بامتلاك العديد من الشركات الاستثمارية التي تعود عليها بالربح وتكون جزءا من العمليات الاقتصادية. كما تقوم الجهات السيادية بالتوغل داخل الأجهزة الادارية والتنفيذية داخل الدولة مثل الحكم المحلي والمحافظات “تعيين ممثلين الدولة العميقة -عسكريين بصفة خاصة- في تلك الأماكن” حتى تضمن أن جميع مفاصل الدولة تعمل بنفس للوتيرة. إلى جانب تعيين الضباط المتقاعدين من الخدمة العسكرية في مجالس ادارات الهيئات والشركات المتعلقة بالبنية التحتية والخدمات الأساسية. وكي تستكمل هذه المعزوفة فإننا نرى الحملات الدعائية في الإعلام والتحريض وتوصيل رسائل الدولة بشكل مباشر وغير مباشر، والمساهمة في خلق الحيل والخداع وتضخيم العديد من القضايا الفرعية على حساب القضايا الكبرى لتحريك الرأي في اتجاه يحافظ على الدولة والنظام العام، ولن يكون هناك مجالات للشك في خضوع وسائل الإعلام المختلفة لأجهزة الدولة العميقة التي ترعى وتمول مثل ذلك الدور.
تكتل وشكبة معقدة من العلاقات والتداخل بين أجهزة ومجموعات عسكرية وأمنية واقتصادية وسياسية ومدنية ودينية لمقاومة أي تغيير يطرأ من شأنه أن يهدد المصالح الحيوية التي يتوقف عليها وجود الدولة العميقة والقائمين عليها، ونستطيع أن نرى ذلك في أمثلة واقعية مثل في تركيا “الحفاظ على علمانية الدولة عن طريق الاغتيالات السياسية واحداث اضطرابات”، الولايات المتحدة الأمريكية ” الحفاظ على المصالح الاقتصادية والأمن القومي من خلال السيطرة على السوق داخليا، والحروب وقلب الأنظمة السياسية في دول بعينها خارجيا” ومصر ” الحفاظ على المصالح المختلفة المنتفعة من النظام العسكري مثل السيطرة على الخدمات الحيوية مثل الكهرباء والطاقة”، وغير ذلك من الأمثلة الكثير والكثير الذي يوضح تلك الحقيقة بشكل جلي. إنها ليست دولة داخل الدولة إنما هي الدولة نفسها. وهذا يفسر عدم حدوث التغيير المنشود في الدول التي قامت بها الثورات مثل يناير 2011.
*
بعدما فشلت تجربة ما يسمى بالتيار الإسلامي (المعتدل) في الحكم، بدأ الحديث يكثر عن الدولة العميقة، ودورها في إفشال هذه التجربة،
الذي أسقط (الحكم الإسلامي المعتدل) في مصر ليس هو الدولة العميقة، بل هي الدولة نفسها التي لم تزلها ثورة 25 يناير وبقيت موجودة وظاهرة لا تخطئها العين، فلقد أزيل رأس النظام المتمثل في شخص الرئيس لامتصاص الغضب الشعبي، وبقي النظام بكل مؤسساته ومفاصله قائماً، وهذا النظام هو الذي أفشل تجربة ما يسمى بـ(الإسلام المعتدل) وأسقط أنصاره من الحكم، وهذه حقيقة يريد الكثيرون القفز عليها وتجاهلها عن قصد.
بعد إقصاء هذا التيار في مصر بانقلاب عسكري، تم استدعاء فكرة الدولة العميقة، ليعلق الجميع عليها فشله، ويهرب من الأسئلة المهمة؛ ألا وهي: ما الطريقة الصحيحة لإزالة هذا النظام الظاهر أي الدولة العلمانية العلنية القائمة منذ هدم الخلافة وإزالة حكم الإسلام في مصر؟ وما هو السبيل الناجح للتغيير الحقيقي الذي يمكِّن من تطبيق المشروع الإسلامي في مصر؟ أو بكلمات أخرى ما هي الطريقة التي يتم بها إيصال الإسلام إلى الحكم؟
الدولة لا يمكن أن تتحمل هويتين، فإما دولة إسلامية تقوم على أساس الإسلام، وإما دولة علمانية تقوم على فكرة فصل الدين عن الدولة. والخطيئة الكبرى التي ارتكبها الإسلاميون هي تصورهم أن هناك هوية ما بين الهويتين وهي التي أطلقوا عليها (دولة مدنية بمرجعية إسلامية)، فمثل هذه الفكرة تعتبر فكرة خيالية لا يمكن أن توجد.
فالدولة بطبيعتها لا تقبل أن يكون لها رأسان، وإذا وجد مثل هذا فلا يمكن أن يكون الأصل
يحطم الرأس الأصيل الرأس الغريب الذي ليس هو من جنس الجسم وطبيعته،
بل دُحرج رأس مبارك بعد أن تم تثبيت رأس المؤسسة العسكرية مكانه في الحين واللحظة، ولم يبق له إلا اختيار القناع المناسب للمرحلة؛ وقد كان القناع المقبول في مصر هو (الإسلاميون المعتدلون)،
أزاح العسكر العلماني في قيادته الإسلاميين وما تصوروه حكما
اردوغان
(بأنه مسلم يرأس نظاماً علمانياً تحت دستور علماني)، فكان بذلك منسجماً مع نفسه أولاً، ثم مع الدولة التي يحكمها، أي أنه كان رأسا أصيلة لجسد النظام العلماني التركي وليس مجرد قناع. أما صراعه مع الجيش فلم يكن صراعاً عقديا بل صراعاً على النفوذ داخل المنظومة العلمانية بسبب اختلاف الولاءات والتبعيات السياسية لا أكثر.
أما تجربة الإسلاميين في مصر فإنهم لم يستطيعوا حل مشكلة التناقض بين الجماهير العريضة التي تؤيدهم، لا لشيء إلا حباً في الإسلام، وبين النظام الدولي الذي أخضعوا أنفسهم له
أصحاب مشروع الدولة المدنية بمرجعية إسلامية لم يمتلكوا أي مشروع للدولة لا إسلامياً ولا علمانياً! ناهيك أنهم لم يكونوا ليوم أو بعض يوم رأسا للدولة المصرية رغم تنازلاتهم الخطيرة في حق أنفسهم ومشروعهم.
بناء دولة، وليس مجرد استلام حكم، وهذه لا يمكن أن تتم إلا ببناء الأساس الفكري لهذه الدولة. والبناء الطبيعي لهذه الدولة يتم بحمل مشروع فكري سياسي منبثق عن عقيدة الأمة تتم الدعوة له بين الناس، حتى يصبح الرأي العام له. ليس هذا فحسب بل يتم تشكيل الرأي العام لهذا المشروع بوصفه واجباً شرعياً يجب على الناس العمل من أجل وضعه موضع التنفيذ، أو بكلمات أخرى يتشكل هذا الرأي العام عن وعي وإدراك، وليس مجرد انجرار خلف مصلحة، حتى لو تعلقت بتحسين سبل الحياة. إن الرأي العام المنبثق عن وعي، يجعل الناس يهبون للتغيير ويضحون بالغالي والنفيس من أجله لأنه قربة إلى الله تعالى.
*
الدولة العميقة .. المجتمع العميق
أجهزة الدولة الراسخة كالجيش والقضاء والإعلام والأمن والأجهزة الإدارية وسواها،
الاخوان استعجلوا محاولة السطو عليها، متجاهلين ما لها من نفوذ في بلد مثل مصر قائم على تقاليد إدارية موروثة منذ القدم،
استخدم مصطلح الدولة العميقة أول مرة في تركيا في عشرينات القرن العشرين، حين استعان كمال أتاتورك بأجهزة الدولة، كما بالجيش، لتمكين مشروعه التحديثي، في تحقيق الفصل بين الدين والدولة، وعزز من نفوذهما إزاء البنى التقليدية التي سعى للحد من تأثيرها وتضييق نطاقها
لكن ما نحن بصدده هنا ليس الدولة العميقة وانما المجتمع العميق، كمصطلح موازٍ للدولة العميقة،
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق