جدلية الهوية والعلاقة مع السلطة لا يخلو منهما خطاب الأزهر وقت الأزمات
Jun 3, 2020
الباحثة بسمة عبدالعزيز في كتابها “سطوة النص.. خطاب الأزهر وأزمة الحكم” خطاب المؤسّسات الدينية الرسميّة ووظائفه في وقت الأزمات السياسية العاصفة. ويُعالج – تحديدا – خطاب مؤسسة الأزهر وثيق الصلة بالأزمة العاصفة التي اجتازتها مصر في الفترة من يونيو إلى أغسطس 2013.
*
الهوية الثقافية في ظل العولمة
نحن نشاهد عبر الأقمار الصناعية الصور عبر العالم
نتعلم أنماط الحياة المختلفة الأخرى , من الضروري أن يحصل التلاقح الفكري والعلمي في كوكبنا الجميل ،
بشرط الحفاظ على الهوية الوطنية والقومية والنمط السلوكي والفكري والثقافي لخصوصية الامة والهوية الثقافية على المستوى الفكري والعقيدة.أصبحت مجتمعات العالم المختلفة تعتمد أكثر فأكثر على بعضها البعض تطور نتحدث عنه عادة من حيث عملية العولمة العولمة هي عملية معقدة وغامضة تتضمن مجموعة متنوعة من الأبعاد الثقافية والسياسية والتكنولوجية والاقتصادية والبيئية.
ثورة المعلومات التكنولوجية وإعادة هيكلة الرأسمالية وضعت شكلا جديدا من أشكال المجتمع ، مجتمع الشبكة. العولمة والمعلوماتية ،نفذت من خلال شبكات المال والتكنولوجيا والطاقة ، وتحول العالم ونحن نعيش في عالم متزايد الترابط ، الأمر المثير للاهتمام هو أن هذه التغييرات التي حدثت في عصرنا يمكن أن تكون كبيرة وسريعة لدرجة أنها خلقت مشاكل اجتماعية ، ليس فقط داخل المجتمع المحلي ولكن أيضًا على المستوى العالمي وقواعد لعبة الحياة
*
Feb 6, 2019
الهوية هي الشخص ذاته فهي الشخص بكُل كيانهُ، التربية، الأهل، التعليم، الدين، وسائل إعلام، التوجُهات والسلوك ويتفاعل الفرد مع تلك العوامل حسبما يري هو العالم. فتأثُر الشخص بالأفكار الدينية لا يحدث بمعزل عن الأفكار المجتمعية السائدة، المسيحي البروتستانتي المصري قد لا تكون له نفس الهوية الدينية للمسيحي البروتستانتي الألماني، الثقافة المجتمعية تلعب دوراً في تشكيل الهوية، والمسلم السني المصري قد يختلف عن مثيله في تايلاند. الهوية مفهوم مُتغير ومتفاعل مع الواقع ولا توجد به ثوابت جامدة غير قابلة للتغيير.
لا تُحدد الهوية سلفاً من الآخرين، الشخص له مُطلق الحرية أن يُحدد هويتهُ دون قيود، ولكن العوامل المحيطة وهي كثيرة ومتعددة تحدد الكثير من معالم الهوية الشخصية
تكوين هوية حقيقية للفرد يرتبط بمدي تمتع الفرد بحرية كافية. فبدون الحرية تتكون هوية مُشوهه، حيثُ إنها تكونت بُناء على قناعات الآخرين من ناحية والضغوط المجتمعية والصور النمطية من جهة أخرى
فنحنُ نسلُك بطريقة ما نتيجة التعوُد على سلوكِ ما، ثُم يُدعم هذا السلوك بقُبول الآخرين له، وهؤلاء الآخرون غالباً ما يُكونوا القوة المؤثرة في ذاك المُجتمع المعني. وهذا لا يعني بالضرورة أن ذاك السلوك إيجابي أو سلبي ولكنهُ يعني إنهُ السلوك المقبول. فقبول سلوكِ ما في مُجتمعِ ما في وقتِ ما يظل دائماً وأبداً أمراً نسبياً.
وبُناء على هذا نجد الكثير من السلوكيات المقبولة أو غير المقبولة في كُل المُجتمعات. ففي المملكة المتحدة من غير المقبول بأي حالِ من الأحوال أن يصدُر عنك صوتاً خلال تناول الحساء والعكس مقبول تماماً في كوريا. في هذه الحالة تتوقف الإجابة عن سؤال ما هو السلوك المُحبب والأكثر قبولاً اجتماعيا على ثقافتك أنت، ومدى قُربها أو بُعدها عن إحدى الثقافتين وليس بالضرورة عن السلوك في حد ذاته.
وهذا لا يعني أساساً تفضيل سلوكِ عن سلوك آخر، لكن ذاك يعني أن على كُل شخص مُراجعة كافة السلوكيات التي يقوم بها. وتتم هذه المراجعة في إطار الوعي بالمنطق وليس ما تم استلامه من الأجداد. وهذا الأمر ليس باليسير ولكنهُ يتطلب جِهودِ مضنية وصراع مع القوى المُحافِظة وتلك القوى المُحافظة غالباً ما تُحاول أن تُحافظ على مُعظم الأشياء دون تغيير.
وهُنا تكمُن قيمة وصلابة فكرة الحرية. حيثُ إن الحرية هي المحك الأساسي لكُل سلوك إنساني يتم عن قناعة تامة وليس عن عادة أو قُدسية وهمية.
والإنسان هو المسؤول الأول عن تكوين هويتهُ وكينونتهُ. وليس من حق كائنِ ما كان أن يُحدد لهُ سلفاً الطريق الذي سوف يسلُكه. فلو قرر شخص مصري يعيش في إحدى قُرى صعيد مصر أن يُطيل شعرهُ فسوف يجد الكثير من المُضايقات والتحرُشات من كُل الآخرين بدءا من أقرب الأهل إلى أي عابر سبيل. سيكون لديهم الحق في وصفهُ بأبشع الصفات. والمسألة تكمُن في اختفاء أي شكل من أشكال الدعم، ولا أقصُد هُنا دعماً للشعر الطويل، فهذا ليس بيت القصيد، المعنيِ هُنا بالمناقشة هو دعم الحرية الشخصية تحت أي ظروف.
و كُلما ذاد دعم الحُريات، تحددت الهوية الحقيقية للأفراد. فالقهر يمحي الهوية. فلن نستطيع تبيُن حقيقة هوية الأفراد إلا في وجود الحرية المطلقة.
فالإنسان يعيش حياة طبيعية بقدر ما يتمتع بحُرية في اتخاذ كُل قراراته المصيرية
وغير المصيرية.
++++++++++++
د. منصور الجنادى يكتب: من أنا؟
رئيس تحرير جريدة كورير النمساوية، ذات يوم: «من أنا؟ وإلى أى مجتمع أنتمى؟ هذه أسئلة تُخِيفنى». مسألة الهوية تُقلقه، ككثير من الأوروبيين.
على العكس من ذلك، حدث فى مناقشة لباحثة تسويقية أن سألت مجموعة سيدات من الطبقات الهندية الفقيرة عن هويتهن، فانفجرن جميعًا فى ضحك لا ينتهى، رغم محاولة الباحثة اليائسة شرح ما تقصده من سؤالها.
تسألنى من أنا؟ ألا ترانى أمامك؟ أنا عب باسط اللى إنت عارفه يا أستاذ». هذا إن لم يبدأ فى الشك فى قواك العقلية.
بين «الباحث» عن هُويَّته، و«الجاهل» الذى لا يفهم سؤال الهوية، هناك أنواع أخرى من البشر. مثلًا «الرافض»: فى أحد المؤتمرات الأوروبية عن تعايش الثقافات، نهض أستاذ جامعى من الشرق الأوسط وقال «أيها السادة، يُسعدنى أن أناقش معكم أى موضوعات ترونها، إلّا هُويتى». هذا البروفيسور يرفض إذن أن تكون هويته موضوعًا للنقاش أو محل تساؤل.
وبجانب «الباحث» و«الجاهل» و«الرافض»، نكتفى بنوع أخير، هو «المُراوغ»، الذى يسمح لك بالنقاش والسؤال والشك فيما تريدـ حتى هويته ـ ولكنه فى قرارة نفسه على يقين من أنه يعرف الإجابة التى لا تقبل الشك، ولن يتزحزح عنها قيد أُنملة، ولكنه يتظاهر فقط بالثقافة والليبرالية وحق الجميع فى السؤال والنقاش، بينما ينوى فى النهاية سحبك من رقبتك عنوة إلى النتيجة التى وصل إليها هو، وليس أنتما معًا.
الجاهل لا يُلام، وعلاجه التعليم. الرافض والمراوغ «واثقان»، وعلى قناعة ورضا بهويتهما، ولا يرغبان فى تغييرها، بعكس الباحث الذى يقرأ ويتعلم ويناقش بحثًا عن هُوية. جميع المواقف تُحتَرم، فللجميع الحق فى اختيار ما يرونه صوابًا. الثقة والقناعة والرضا أهداف يسعى إليها الكثير من البشر، ولكن المسألة تختلف بعض الشىء عندما يتعلق الأمر بالنظر أبعد قليلاً من موضع أقدامنا، وعندما نُفكِّر بعض الشىء فى أولادنا وأحفادنا. فى أى عالم سيعيشون وبأى هوية ينجحون؟
الواقع هو العكس تمامًا. الناجحون هم من يعيدون البحث عن هويتهم مرارًا وتكرارًا، أما الأقل حظًا من النجاح فهم من يتمسكون بهويتهم. فى أوج الحضارة الإسلامية رحب العرب بمزج هويتهم بالهويتين الفارسية والأندلسية وغيرهما، وجنوا ثمار التعددية وتعانق الحضارات. أما اليوم ـ فى زمن المحن العربية- فهناك من أساتذة الجامعات من هم مستعدون لمناقشة أى موضوع، إلَّا هُويَّتهم.
الأوروبى الذى يُقلقه مسألة هُويَّته هو من استطاع التقدم، بترسيخ مجموعة من القيم المتحضرة كالعدل والحرية والديمقراطية فى دستوره، وإلزام الجميع بحكم القانون. هُم لا يبحثون عن الهوية نجاة من الضياع، ولكن عن قناعة بأن الهوية كائن حى يتغيَّر مع تطور الحياة. أما «الواثقون» فيفضلون هُويَّة ثابتة، بصرف النظر عن تغيُّرات الحياة (إن رأوا فى الحياة تَغييرًا).
الباحثون يبحثون عن التعَلُّم من الآخرين، والواثقون همُّهم الوحيد هو تَعليم الآخرين.
الباحثون يرون أنفسهم «جزءًا من» البشر، والواثقون يرون أنفسهم «فوق» البشر.
لذلك ينجح الباحث، ويُنتج ويَزداد ثراء، بينما يفشل الواثق ويستهلك ويزداد فقرًا.
ولتفادى سوء الفهم: ليس لهذا علاقة من بعيد أو قريب بالعقائد. فالعقائد، أيًا كانت، ليست فقط حاجة إنسانية، ولكنها ضرورة سيكوـ عصبية أيضًا، أى شرط لسلامة وظائف المُخ، وأساس للصحة النفسية والسلوكية.
ولكن العقائد كثيرة وحمالة أوجه، وتختلف من ثقافة لأخرى. العقيدة فى حد ذاتها لا تعنى بالضرورة التحجر والانفصال عن الواقع، أو التعالى عليه.
سؤال «من أنا؟» هو الطريق الوحيد والفعَّال لفهم «من هو». صديقًا كان أم عدوًا.
البحث الدائم عن الهوية لا يعنى رفض الجسم، ولكنه تجديد للدماء.
والانتماء إلى أى شىء كان يجب ألا يكون نقيضًا للانتماء إلى البشر.
++++++++++++++
الهوية في زمن العولمة 2020
الهوية هي وجود وماهية غير أنها لا تمثل جوهرًا ثابتًا ومتعاليًا على الزمان والمكان، بل حال متحركة ومتداخلة، إنها «صيرورة» بالمعنى المجازي والتاريخي الذي يتيح تضمينها إشكاليات وأزمات هي لازمة لها، والهوية من حيث هي كذلك، هو ذلك الكل من العلاقات والصلات (الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأخلاقية والثقافية) وهي ترتبط باللغة والتاريخ والمصير الواحد والمصالح المشتركة، والمحددة بأبعادها وعلاقاتها التي تتمثل في علاقة الأنا (الذات) بالأنا، وعلاقة الأنا بالواقع (العمل، المعرفة، الأفكار) في سيرورته، وعلاقة الأنا بالآخر، غير أن هذه الأبعاد ليست انشطارات منعزلة بل تحكمها علاقة جدلية مترابطة ومتحركة.
الاحتكاك الأول أو الصدمة الحضارية التي مثلها الغرب (في عصوره الحديثة) إزاء الهوية العربية المنكسرة تمثل في احتلال نابليون لمصر في أواخر القرن الثامن عشر، وبداية الاتصال بالغرب عن طريق البعثات التعليمية والإرساليات التبشيرية المسيحية، ثم السيطرة الاستعمارية (الكولينيالية) الغربية على تركة الرجل المريض المتمثل في الخلافة العثمانية، بعد إفشال وإجهاض إقامة الدولة العربية الكبرى، وهو ما شكل عامل تحدٍّ خطير، وحفز الهوية العربية– الإسلامية المنهكة والسقيمة والمتوترة بفعل قرون من الجمود والتخلف الذي ساد المجتمعات العربية– الإسلامية، في ذات الوقت الذي استيقظت فيه أوربا من سباتها، وولجت عصر النهضة (القرن السادس عشر) وفكر الأنوار والثورات وخصوصًا الثورة الفرنسية (القرن الثامن عشر) والثورة الصناعية في بريطانيا (القرن التاسع عشر) وما أعقبها من تحولات اجتماعية وسياسية عميقة، إزاء هذا الوفد الجديد والقوي والمتحكم الذي هو الغرب فإن الهوية العربية– الإسلامية المرتبكة والحائرة اتخذت ثلاثة توجهات وَسَمَتْ ما سُمِّيَ بعصر النهضة العربية.
الاتجاه الأول هو الممانعة والرفض عبر الانكفاء على مفهوم محدد وثابت لهوية (القومية والدين) قائمة تستحضر الماضي التليد باعتباره المستقبل المنشود حيث يكون الحاضر هو المستقبل الماضي كردِّ فِعلٍ استيهاميٍّ دفاعيٍّ وارتكاسيٍّ إزاء الانتهاكات والسيطرة والاستلاب الذي مارسه الآخر المتمثل في الأجنبي، المستعمر الأوربي، المسيحي الملحد، المنتصر، المتفوق، المتعالي، المدنِّس، هذه الصور المتداخلة والمتناقضة للآخر تمثلت في أعمال وكتابات وأطروحات العديد من رجالات عصر النهضة. وقد عبر جمال الدين الأفغاني رغم كتاباته التنويرية عن هذه الهواجس حيث نادى بضرورة قيام «الجامعة الإسلامية» كردٍّ على محاولات السيطرة والهيمنة الاستعمارية الغربية التي عَدَّها الخطر الرئيس والمباشر.
الاتجاه الثاني تمثل في السعي للمواءمة ما بين الأنا والآخر وقد عبر عنها رفاعة الطهطاوي ومحمد عبده وذلك من خلال المصالحة بين الدين (الأنا- نحن) والعلم (الآخر) ونادى محمد عبده بالدولة المدنية في كتابه «الإسلام بين العلم والمدنية»، في حين رفض علي عبدالرازق الدعوة إلى إحياء الخلافة وأكَّدَ على مدنية الدولة في الإسلام وذلك في كتابه «أصول الحكم في الإسلام»، وناهض عبدالرحمن الكواكبي انطلاقًا من «الأنا» العروبية «أي عمومية إسلامية» استبدادية، والجدير بالذكر أن من ذكرت كلهم رجال دين (أزهريون) كبار.
الاندماج في الآخر
الاتجاه الثالث دعا إلى الاندماج الكلي أو الجزئي في الآخر وتمثل ثقافته وحضارته باعتبارها ظاهرة إنسانية شاملة (فرح أنطوان وسلامة موسى) أو من خلال الاحتكام إلى العقل والعقلانية وتوطينها ضمن مكونات الهوية الوطنية باعتبارها ظاهرة محايدة توجد في الحضارات والمجتمعات الحية كافة (طه حسين). إذًا إزاء الآخر نشطت هويات مفترضة مشرقية وعربية وإسلامية ووطنية تعايشت وتساكنت مع هويات فرعية (ثاوية) قوية تمثلت في الهويات الإثنية والقبلية والدينية والطائفية والمذهبية، وتصدرت ثنائية العروبة والإسلام في تحديد هوية السكان العرب، حيث أخذ القوميون العرب والإسلاميون يسبغون مواصفات ثابتة هي أصل وجوهر مثل العروبة أولًا، وأن العرب مادة الإسلام، أو الإسلام أولًا وأن الإسلام روح العروبة، وفي الواقع إن الصراع حول الماضي في حقيقته هو صراع حول الحاضر والمستقبل، أي حاضر ومستقبل نريد؟
وأخذت تتصدر الثنائيات والمقابلات المصطنعة ما بين الأصالة والمعاصرة، القديم والجديد، الخصوصية والكونية، النقل والعقل، وبين هذا وذاك عُدَّ الغرب (الاستعماري) مصدرَ كل الشرور التي عاينها الشرق والعرب والمسلمون، وهذا صحيح جزئيًّا، غير أنه لم يجر في المقابل الالتفات إلى الواقع المزري (التخلف والجهل والأمية والفقر والاستبداد) الذي ساد المجتمعات العربية– الإسلامية قرونًا عدة، كما غاب أو غُيِّبَ الجوهري والأساسي في الحضارة الغربية وهو تقديمها للهوية السياسية على ما عداها من هويات فرعية، حيث أقامت رابطة وهوية جديدة على أساس مفهوم الدولة – الأمة المستند إلى المبادئ الدستورية والقانونية (العقد الاجتماعي) والتميز والفصل بين المجالين الديني والمدني، والتأكيد على مفهوم المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات، وترسيخ منظمات ومؤسسات المجتمع المدني التي تستوعب وتحترم المكونات (الهويات) الفرعية الأُخَر كافة.
إننا في سياق زمن يتسم بكونية الثقافة وعالميتها، ومع أن هذه العملية منجز إنساني حقيقي لا يمكن تجاهله فضلًا عن العجز عن مواجهته، فلا بد هنا من الإشارة إلى الجوانب المتناقضة لهذه العملية خصوصًا في عصر العولمة حيث يتم ذلك على حساب تهجين وتطويع واستتباع الهويات والثقافات الوطنية الأخرى، وتمييع خصائصها ومقوماتها لصالح ثقافة استهلاكية سائدة يجري استنباتها عن طريق استخدام معطيات الثورة العلمية- التكنولوجية خصوصًا في مجال الاتصال والتوصيل، وتجري عملية تجنيس وإعادة صياغة للتفكير والسلوك والمفاهيم والذائقة ونمط الحياة والمعيشة بما يتناسب مع مصالح مراكز التحكم والسيطرة الاقتصادية والسياسية والعسكرية والثقافية بكل ما يتضمن تلك الثقافة الاستهلاكية من استلاب وتغريب وتهميش للهويات المختلفة.
تشظي الهوية
واجه المشروع النهضوي العربي (منذ بداياته في منتصف القرن التاسع عشر) بتياراته وروافده المختلفة رغم الجهود والإسهامات المميزة لرجال النهضة وفكر التنوير طريقًا مسدودًا، وأُجْهِضَ، وبالتالي لم يتسنَّ لمشاريع الإصلاح (الفكري– السياسي) ولقيم الحرية والعقلانية والتنوير والتقدم أن ترسخ وجودها، في ظل عوائق وعقبات موضوعية وذاتية تمثلت في بنية اجتماعية أبوية (بطريركية) متخلفة، وفي الهيمنة الاستعمارية، وطبيعة الأنظمة العربية التابعة لها، ومحدودية مستوى التطور الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، وهو ما وسم تلك المشاريع بالعجز عن توليد نسق من المفاهيم والمقولات الجديدة التي تستجيب لخصائص وظروف تشكل وتطور المجتمعات العربية.
موقف العرب من الغرب كان ملتبسًا ومتناقضًا منذ البداية فهو من جهة الغرب القوي والمتطور صناعيًّا وعلميًّا وحضاريًّا وتسود مجتمعاته قيم الحرية والديمقراطية ومن جهة أخرى فهو الغرب الاستعماري المتعالي الذي مارس سيطرته واستبداده بحق الشعوب العربية ونهب واستباح خيراتها وحدَّ وعرقل من تطورها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي، كما أجهض تطلعاتها في التوحد القومي في إطار دولة عربية واحدة في أعقاب تفكك السلطة العثمانية، ووقوع معظم البلدان العربية تحت السيطرة والهيمنة (الغربية) الاستعمارية، وهو الأمر الذي حفز المزاج الشعبي الرافض لا للحالة الاستعمارية فحسب بل لنظمه وقيمه، وبخاصة أن الظروف التاريخية والاجتماعية والاقتصادية التي تشكلت من خلالها البرجوازية والفئات الوسطى في المجتمعات العربية طبعتها بطابع المحافظة والازدواجية والانتقائية، أضف إلى ذلك مستوى وعي وإدراك الناس ونفسيتهم الاجتماعية وتراثهم والأسطورة والترميز المتحكم في وجودهم وذاكرتهم التاريخية الممتدة إلى تفاصيل حياتهم وتفكيرهم وسلوكهم.
مما تقدم تبين لنا كيف أن المشروع النهضوي واجَهَ منذ بداياته أزمته البنيوية التي هي جزءًا من أزمة الواقع العربي بمستوياته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فقد أدى كفاح الشعوب وحركة التحرر في البلدان العربية لنيل استقلالها وتحقيق سيادتها الوطنية إلى بروز ومن ثم ترسيخ الدولة (القطرية) الوطنية، ومع موضوعية وضرورة هذه العملية تاريخيًّا فإنها شكلت بداية الانتكاس للمشروع القومي العربي؛ إذ أصبحت العلاقة الملتبسة ما بين الهويات الوطنية المتشكلة والهوية القومية (العروبة) المحور الرئيسي الذي تتمفصل حوله مشاريع العمل العربي المشترك كافة، والصراعات والتناقضات أيضًا كافة، وبذا تحققت عملية قطع تاريخي منعت وعاقت قيام وتبلور الهوية (الأمة) العربية في أطار دولة واحدة خلافًا لما تم في مناطق عديدة من العالم قديمًا وحديثًا، فالأمة العربية هي من الأمم القليلة التي لم تحقق وحدتها القومية بعد، غير أن هناك تجربة تاريخية متميزة وناجحة تمثلت في عملية توحيد معظم شبه الجزيرة العربية (منبع العرب والعروبة والإسلام) التي قادها الملك المؤسس عبدالعزيز آل سعود.
لقد توطدت وترسخت مواقع الدولة الوطنية في موازاة ضمور المشروع القومي، وبخاصة بعد إخفاق المحاولات الوحدوية لأسباب عديدة أبرزها إغفال وتجاهل التمايزات والتباينات القطرية والقفز عليها، وفرض وتحقيق المشاريع الوحدوية بأساليب فوقية (تسلطية) واستعراضية، وتجاهل المبادئ الديمقراطية والعدالة وحقوق الإنسان، بما في ذلك حقوق الأقليات الإثنية والدينية والمذهبية، ولا ننسى بالطبع تدخلات الاستعمار والقوى الغربية والصهيونية وإسرائيل لإجهاض وإفشال تلك التجارب. كما أن التجمعات القومية (الجامعة العربية) والإقليمية للتعاون العربي فشلت هي الأخرى في تحقيق الحد الأدنى من التنسيق والتكامل وهو ما أصاب مجمل النظام العربي بالترهل والوهن والعطب، وليس أدل على ذلك من إقدام النظام العراقي السابق على احتلال دولة الكويت (2 أغسطس 1990م) وإرهاب وتشريد شعبها تحت شعار عودة الفرع إلى الأصل وتطبيقًا لمفهوم الإقليم– القاعدة، إلى جانب تهديد دول الخليج العربي الأخرى، وهو ما شكل حالة فريدة وشاذة ضمن معطيات العصر الراهن من حيث التوسل بالعامل القومي للتغطية على سياسات قطرية بل ممارسات (ذات منحى عشائري– طائفي) متطرفة تتسم بالفردية والتسلط والاستبداد وانتهاك حقوق الإنسان والإرهاب إزاء شعبه وجيرانه في آنٍ واحد.
مثل هذه المواقف والسياسات المتهورة وجهت ضربة قاصمة لمفهوم الأمة العربية وللنظام العربي، وعمَّقت ظاهرة الاستقطاب والانقسام ليس بين الأنظمة العربية فقط، بل على مستوى الشعوب ونخبها وتياراتها المختلفة، وهو ما أخلّ وأضرّ بالعلاقة الجدلية المفترضة ما بين الوطني والقومي، وأضعف الموقف العربي برمته إزاء التحديات الإقليمية والدولية، وتعمق الارتهان والتبعية للخارج وعلى جميع المستويات، وانعكس ذلك في ضمور وتآكل شرعية الدولة العربية التي فاقمها الفشل في تحقيق أي من الشعارات والأهداف الوطنية والقومية الكبرى التي رفعتها.
كل ذلك أدى إلى تشظي الهوية الوطنية والقومية، وتصدر الهويات (الإثنية والمناطقية والقبلية والدينية والمذهبية) الثانوية القاتلة، في حرب الجميع ضد الجميع، أو المأكلة الكبرى وفقًا للفيلسوف البريطاني توماس هوبز.
*
أزمة الهوية والصراع عليها
لماذا لم تتجه البرجوازية في منطقتنا مثل البرجوازية في أوروبا إلى إقصاء الدين من حياة المجتمع، وتفصل الدين عن الدولة وتعامل البشر على أساس الهوية الإنسانية والمواطنة بغض النظر عن عرقه وجنسه ودينه وطائفته؟ وكان الجواب دائما خاصة من قبل مثقفي نفس الطبقة بأن البرجوازية العربية متخلفة، وعلينا ألّا نجابه الدين بالنقد السياسي والفكري كي لا نجرح مشاعر المسلمين. إلا أن الحقيقة التي تكمن خلف كل تلك المبررات هي أن الدين في منطقتنا هو أكثر الأسلحة الأيديولوجية فتكا سواء في تخدير الجماهير وخداعهم وتسكين آلام فقرهم وعوزهم، وقد عبرت جماهير العراق في تظاهرات يوليو 2015 عن الدين بشعارها المشهور “باسم الدين باكونا الحرامية”!
في نفس الوقت استخدم الدين، وهنا أتحدث تحديدا عن الإسلام في مواجهة الحركات الثورية والتحررية في مجتمعاتنا وتصفية كل معارض للنظام السياسي إذا ما طالب بالحرية والمساواة.
تبين لنا التجربة أن الطبقة البرجوازية العربية كأنظمة سياسية حاكمة بخبرات مراكز الدراسات الفكرية والسياسية الغربية وأجهزة مخابراتها بأن الدين لعب دوراً وعاملا مهما وحيويا في معركتها الفكرية والسياسية والاجتماعية خلال أكثر من قرن لمواجهة الحركة الشيوعية الثورية والتحررية في المجتمع إبان الحرب الباردة.
الحفاظ على “الإسلام” بتفسير البخاري وابن تيمية وابن العثيمين والباز والحرس القديم في الأزهر والخميني ومحسن الحكيم بات يصارع رأس المال في منطقتنا ويتناقض مع وجوده ومستلزمات استثماره، وبات يرعبه ويجرده من أي مأوى.
في زمن بحاجة إلى الاستثمار في الطاقة النظيفة للحفاظ على العالم، وفي مستقبل أصبح ينذر بنفاد النفط، فالطبقة البرجوازية بحاجة إلى تجديد أدواتها لتوفير الحماية لرأس المال وتأمين مستلزمات استثماره، وإن أحد ميادين الاستثمار هو السياحة وجذب رؤوس الأموال إلى مساحات يستمتع أصحابها بالحريات الفردية. أي أن العلمانية وتجديد تفسيرات أولي الألباب الأولين باتت حاجة ملحة وضرورة لاستمرار وجود الطبقة البرجوازية. فالإسلام السياسي الذي يستند على تفسيرات أولي الألباب تحول إلى عائق جدي أمام تطور واستثمار رأس المال. ولذلك نجد لغة جديدة ولهجة حديثة وخطابا سياسيا متمدنا يخاطب مجتمعاتنا.
القومية العربية والإسلام كانا دائما في صراع مع بعضهما، صراع بين الأجنحة البرجوازية على السلطة. وحاول المثقفون والمنظرون البرجوازيون المزاوجة بين الاثنين وحل التناقضات بينهما. وفي خضم التحولات التي جاءت بعد احتلال العراق وبعد ذلك اندلاع الثورتين التونسية والمصرية، وإدخال الطائفية كهوية جديدة في الصراع بين الأجنحة المتصارعة على السلطة والنفوذ في المنطقة، إلا أنه سرعان ما سقطت الطائفية، وسقطت أيضا الأيديولوجية الإسلامية بالرغم من الدعم المالي والسياسي والعسكري لكل الجماعات الإسلامية الإرهابية في المنطقة من قبل الغرب قبل الشرق. وهكذا تبحث الأنظمة التي رفعت يوما راية الإسلام في مواجهة الشيوعية ثم الطائفية في مواجهة بعضهما، تبحث اليوم عن هوية جديدة، وها هي تتشبث من جديد بالعلمانية التي قالت يوما عنها كفرا.
الثقافة السائدة هي ثقافة الطبقة الحاكمة. وإن المبررات بأن غالبية المجتمع هي من المسلمين ولا يجوز المساس بها لم تكن أكثر من ترهات، وبينتها التجربة السعودية؛ فقيادة المرأة للسيارة وإنهاء دور مؤسسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتحجيم تدخل رجال الدين في تطاولاتهم واستهتارهم بالحياة الشخصية للأفراد في المجتمع، وحق السفر للمرأة بدون محرم وحق سكن المرأة لوحدها وإقامة الحفلات الغنائية، والعمل على تغيير المناهج التعليمية التي تستند على نشر الكراهية لغير المسلمين والنساء ووضع تفسيرات البخاري وابن تيمية في الرفوف وتقصير أكثر عدد من الأيادي للوصول إليها وتناولها..الخ، جاءت بقرار من الطبقة الحاكمة في السعودية.
أحدثت هذه التغييرات الكبيرة هزة عنيفة في المجتمع. ويبين التأييد الواسع والكبير في صفوف الشعب السعودي لسياسات ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان على الصعيد الفكري والاجتماعي على أن الغالبية المطلقة لجماهير السعودية متمدنة ومتحضرة وتريد وتطمح إلى الاندماج في المجتمع الإنساني المتحضر المتمدن والعاشق للحرية. وثانيا، إن ما يحدث في المنطقة العربية هو بحث عن هوية جديدة تستطيع أن تأتي بالمجتمع إلى التحولات والتطورات وحاجات النظام الرأسمالي كما أشرنا. ثالثا، مع كل هذه التغييرات في الخطاب السياسي والدعائي والإعلامي لن تتجرأ هذه الطبقة على إقصاء الدين عن الدولة وحياة المجتمع.
فالسوق الرأسمالية اليوم هي سوق عالمية ولا يمكن الفصل بين السوق العراقية والسوق السعودية أو الإماراتية أو الصينية أو الأميركية. وهذه السوق بحاجة إلى إزالة كل المعوقات التي أمامها، ومنها تقنين الإسلام وترويضه بما لا يتعارض مع التطورات الجديدة.
ما يميز السلطة السياسية في العراق أنها سلطة ميليشياوية، تعتاش وتمول نفسها من سرقة النفط والمحاصصة. إنها لا تفكر كطبقة برجوازية منسجمة تمثل نفسها وتسوق نفسها على أنها تمثل كل الطبقات الاجتماعية وتشكل حكومة على أساسها.
المجتمع العراقي ليس مثل المجتمع السعودي أو الإماراتي وأن التغييرات الحاصلة على صعيد رفع العلمانية والمدنية والتحضر بقامتها في المجتمع ليس بسبب الإصلاحات من الأعلى، كما جاءت في قرارات الطبقة الحاكمة في السعودية أو كما جاءت في مناهج الأزهر في مصر، بل إن الجذر الاجتماعي المتمدن والمتحضر والتحرري يضرب في عمق تاريخ العراق الحديث.
الدعوة والصدر ورجال الدين من الصف الثاني العنصريين الذين فشلوا في إقناع مريديهم بهويتهم الإسلامية، فتحولوا إلى عنصريين بامتياز عندما وجهوا الإهانات إلى لون محمد رمضان، يبغون من وراء كل هذه الضجة احتكار حلم وأماني وتطلعات الإنسان في العراق عبر فرض هوية إسلامية هم أنفسهم متورطون فيها. ولكن والحق يقال إن مدن العراق تعلم بأن حمل هوية تالفة وممزقة أفضل من ألّا تحمل أية هوية وأنت تعبر المفارز والسيطرات الأمنية.
Dec 24, 2021
*
مفهوم "هوية الأمة" لم يعد مفهوماً ثقافياً أو دينياً فقط، بل أصبح يعتمد على ثلاثة أركان رئيسة هي "الثقافة" و"الاقتصاد" و"القوة العسكرية"
اللغة والدين حاضرين في كل حوار حول الهوية العربية والإسلامية
من أمِن العقاب أساء الأدب
الدولة الليبرالية تخدم نفسها حرية التعبير البرجوازية لا حرية الفعل
نعيد حساباتنا ونعمل على بناء قوتنا الذاتية وإلا سنظل هكذا نُظلم ونُهان دون أن نستطيع أن نفعل شيئاً.
من يهن يسهل الهوان عليه
"جامعة الدول العربية" أو "منظمة التعاون الإسلامي"، فهذان الكيانان لم يتطورا كي يحققا أركان الهوية (الثقافة والاقتصاد والقوة العسكرية)
السيف أصدق أنباء من الكتب..... في حده الحد بين الجد واللعب
الأخلاق والسلطة"، فلا يوجد أخلاق دون وجود قوة تحميها، كذلك لا يوجد هوية دون وجود قوة تؤكد وجودها وتحميها. ومأزق الهوية العربية والإسلامية المعاصرة ناتج عن ضعفنا وليس لعدم وجود مخزون ثقافي يمكن أن نقدمه للعالم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق