Jun 21, 2021 Jul 26, 2021 Dec 2, 2021 Aug 1, 2022 Aug 10, 2022
مجتمعًا إنسانيًَا من دون تراتبية اجتماعية. المجتمع هو، بالتعريف، بُنيان معقد ومركب، ومن سماته الأساسية التخصص وتقسيم العمل، ومن ثَمَّ التمايز بين البشر فى المكانة. التراتبية جاءت كنتيجة طبيعية للاجتماع البشرى منذ عصر الزراعة، ومنذ اضطر الناس للعيش معًا فى جماعات كبيرة العدد. يُمكن القول بأن الفارق الرئيسى بين المجتمعات القديمة والحديثة يكمن فى مدى جمود هذه التراتبية أو مرونتها. هذا ما ينصب عليه مفهوم «الحراك الاجتماعى». المجتمعات ذات التراتبية الجامدة يكون فيها الحراك الاجتماعى صعبًا أو مستحيلًا. المجتمعات ذات التراتبية المرنة والمتغيرة توفر إمكانيات أكبر للانتقال من مرتبة إلى أخرى على السلم الاجتماعى.
ثمة مجتمعاتٌ عُرفت بجمود التراتبية فيها على نحو حديدى، بحيث يستحيل على المرء الانتقال من مرتبة إلى أخرى. المثال الأشهر هنا هو نظام الطبقات الهندى
لا مجال فى هذا النظام للصعود من طبقة إلى أخرى. أبناء الكهنة يصبحون كهنة. أبناء المنبوذين- الطبقة الأدنى التى تُعرف بـ«الداليت»- محكومٌ عليهم بهذه المكانة، جيلًا بعد جيل. هذا النظام تشكل قبل الميلاد بنحو 1500 عام. ورغم تعاقب الإمبراطوريات على الهند، مازالت بقايا هذا النظام الطبقى الجامد تُلقى بظلالها على العلاقات الاجتماعية إلى اليوم فى شبه القارة الهندية.
وقد عرفت الحضارات الإنسانية مؤسسات كثيرة مُصمَّمة للحفاظ على التراتبية الاجتماعية السائدة. المؤسسة الأشهر على الإطلاق هى العبودية.
لم تكن العبودية، فى أى مجتمع، شأنًا مستهجنًا أو ممجوجًا، بل طالما اعتُبرت واحدةً من حقائق الحياة وطبائع الأمور. آيةُ ذلك أن عقلًا خارقًا، مثل أرسطو، لم يرَ غضاضة فى تبرير العبودية، بل اعتبرها أمرًا نافعًا للعبيد أنفسهم!.فكرني بلقط في مسلسل صراع العروش
من المؤسسات التى ابتدعتها المجتمعات كذلك لتجميد الحراك الاجتماعى النظام المعروف فى العصور الوسطى بـ«طوائف الحرف» أو النقابات. وكان هذا النظامُ سائدًا فى البلدان الأوروبية، وكذا فى الدولة العثمانية. الغرض من النظام كان بناء أسوار عالية تحُول دون دخول الوافدين الجُدد إلى المهن والصناعات المختلفة. لم يكن سهلًا أن يُصبح المرء حلاقًا أو نساجًا أو صائغًا فى مجتمعات العصور الوسطى. أغلب الظن أن ابن الحلاق هو مَن يرث والده فى المهنة. لا يُمكن أن يحترف المرء صنعة جديدة من دون أن يُقره شيخ الطائفة. يتطلب الأمر أن يعمل المرءُ صبيًا لسنوات لدى صاحب محل (المعلم)، ثم يُسعده الحظ بوراثته عبر الزواج من ابنته مثلًا، أو أن يدخر مالًا يشترى به مكانه فى الطائفة. لم يكن الانتماء إلى حرفة بالأمر الهين. نظام الحرف لم يكن سوى مؤسسة أخرى مُصمَّمة لكبت الحراك الاجتماعى.
النخب المستقرة على القمة صممت «قواعد اللعبة» بحيث تضمن بقاءها وبقاء ذريتها فى هذه المكانة العالية. المجتمعات ذات التراتبية الجامدة غالبًا ما تكون أكثر استقرارًا، خاصة إن كانت التراتبية مقبولة من أبناء المجتمع أنفسهم باعتبارها أمرًا طبيعيًا وانعكاسًا للنظام الكونى. لذلك نجد أن الكثير من هذه التراتبيات اكتسب شرعيته على أساس دينى. من ذلك مثلًا ارتباط نظام الطبقات فى الهند بالديانة الهندوسية، والتصاق النظام الصينى بفلسفة كونفوشيوس، وجوهرها شعار «اعرف مكانك» كأساس لانسجام النظام الاجتماعى. وكذلك ارتباط النظام الإقطاعى السائد فى العصور الوسطى بهيمنة الكنيسة.
ومن الملاحظ أن التجار كانوا دائمًا مصدر قلق للهيكل الاجتماعى السائد. أغلب الحضارات لم تُعطِ التجار مكانة عالية فى التراتبية الاجتماعية. غالبًا ما سبقهم رجالُ الدين والعسكريون، إذ نُظر إلى نشاط التجار باعتباره غير منتج، ومحل ريبة. وربما تُمثل الحضارة الإسلامية استثناء مهمًا من حيث المكانة الكبيرة التى منحتها للتاجر فى المجتمع، كون الرسول (ص) نفسه مارس التجارة وحضّ عليها. وقد ارتبط عصر النهضة ببزوغ مجتمعات لعب التجار فيها دورًا أساسيًا، واحتلوا قمة الهرم الاجتماعى، بل صاروا أساس النخبة الحاكمة. البندقية وفلورنسا وهولندا كانت تحكمها نخبٌ تجارية. وربما مثّل ذلك بداية اختراق التراتبيات الاجتماعية الجامدة وشق طريق- ضيق وصعب فى البداية- أمام الناس لصعود السلم الاجتماعى على أساس الشطارة والجدارة فى الكسب وتكوين الثروة عبر التجارة.
كما احتاج كبت الحراك الاجتماعى عبر التاريخ إلى تكوين مؤسسات مانعة تحافظ على التراتبية وتضمن استمرارها، فإن توفير هذا الحراك اقتضى بدوره نوعًا مختلفًا من المؤسسات يضمن انفتاح مسارات الصعود الاجتماعى وعدم انسدادها. كلما توفرت هذه المسارات أمام البشر فى مجتمع من المجتمعات، كان هذا المجتمع أقرب إلى الحداثة.
جمال ابو الحسن كاتب مصري اليوم والوفد
* 2016
مفهوم «التراتب الاجتماعي»، ووصفوه بأنه يعبر عن اوضاع اللامساواة القائمة بين الافراد والجماعات في المجتمعات البشرية، فهو كمفهوم يشير الى تراتب وترتيب وتدرج الناس داخل المجتمع على اساس المكانة والحظوة والتملك والسلطة وغيرها من «المكتسبات» المرتبطة بطبيعة كل مجتمع.
نتمتع بمكتسبات بالولادة أو بالهوية المجتمعية، بمعنى آخر ان مساهمتنا الذاتية في ما نتمتع به من مكانة اجتماعية، هي مساهمة غالباً ما تكون هامشية! وقد تكون هنالك بعض الحالات الشاذة التي استطاعت ان تخترق قانون التراتب الاجتماعي، وتشق طريقاً مفتوحاً بالجهد الذاتي.. لكن القاعدة هي ان اغلبنا قد ورث مكانته الاجتماعية ولم يجتهد فيها!
مفهوم التراتب الاجتماعي في التنمية، التي هدفها في النهاية الانسان، ايا كانت مرتبته، وليس «الانسان الخاص» الذي يملك، و«الانسان العام» المعدم الذي لا يملك!
اساس الصراع البشري هو هذا «التراتب الاجتماعي» الخالي من العدالة، والمشكلة ان لكل تبريراته الخاصة، فالدين يبرر بطريقته، والسلطة كذلك، بل وحتى الاعلام الذي يبرره من خلال صياغة الخبر وبثه، فغالبا ما يحظى «الانسان الخاص» بتعاطف وتغطية اعلامية اكثر بكثير من «الانسان العام»!
*