فالمال المجلوب من الخارج من إنتاج علم ومعرفة وعمل وعرق الأجانب، أما تداوله بعد ذلك في مصر فمتصل في مجمله بالمحسوبية والسمسرة؛ المال المجلوب يتطلب وجود كفاءات بشرية عالية القدرات العلمية والتقنية وانتشار أخلاقيات العمل المثابر المنضبط، أما طريقة تداوله في مصر فتحتاج نوعا آخر من المهارات والأخلاقيات.. فالواقع الذي يبسطه اقتصاد السمسرة لا يعطى قيمة كبيرة للإبداع أو الإنتاج التقنى أو المعرفى، الناتج عن تأمل وتحليل ومجهود ذهنى شاق، لأن نمط الحياة خلاله يفرض نظرة نفعية بحتة، قصيرة الأمد والنظر، وأحيانا حتى «فهلوية» في تركيزها على جلب العائد السريع المباشر.
هذه النظرة التي تفرضها أوضاع اقتصادية واجتماعية لا يمكن تغييرها بسهولة، تماما مثل صعوبة انتشال المدمن ليتخيل العالم خارج دائرته المفرغة- لأنه منغمس في عملية جلب المال لشراء المخدر، ومنهمك اجتماعيا مع أصدقاء يشاركونه نفس الواقع. الحل في حالات إدمان كثيرة يكمن في مساعدة المدمن على بناء حياة بديلة.
وفى حالة اقتصادنا المدمن لعرق الآخر «الخواجة»، ذلك يترجم لضرورة بناء اقتصاد مستند فعلا على إنتاج المعرفة وواقع اجتماعى يسمو بمقام من يحملها يعطيها.. الطريق طويل بالطبع، والتطرق لبعض الخطوات المطلوبة يتطلب مقالات أخرى، لكن البداية لا شك يجب أن تتضمن الكف الرسمى عن الشعارات والزيف، وأخذ مسائل مثل بناء «اقتصاد المعرفة» بقدر كاف من الاحترام (للموضوع وللذات) والجدية.
أما في ظل الأوضاع الحالية، فحتى الشباب الذي لديه قدر من المعرفة والنبوغ وأخلاقيات العمل المنضبط- الصفات التي قد تمكنه من الاندماج في اقتصاد صناعى منتج- هذا الشباب «يطفش» بالجملة، ليهاجر في أول فرصة.. لأن في ظل اقتصاد السمسرة وشعارات الفهلوة، تظل الكفاءات مخنوقة ومهمشة وباحثة عن مخرج.
لنأخذ خريجى مدينة زويل للعلوم والتكنولوجيا كمثال («مشروع مصر القومى»).. حسب خريطة أعدها أحد الطلاب هناك فعدد كبير من خريجى الدفعة الأولى منهم يقوم حاليا بإجراء دراسات عليا (ماجيستير/ دكتوراه) في جامعات عالمية: 23 في الولايات المتحدةْ، 12 في كندا، 9 في ألمانيا، 7 في إيطاليا، 2 في اليابان، واحد في جنوب إفريقيا.. إلخ، ترى كم من هؤلاء سيعود؟ لا أعتقد الكثير منهم سيعود، وليس فقط لأنه يدرس مجالات علمية يعتبرها الكثيرون هنا- من بينهم مسؤولون عن البحث العلمى- من «الكماليات» التي لا تعنينا، إنما لأنه ليس لهم أي مكان ملائم في سياق اقتصاد المقاولات والسمسرة أصلا.
في الغرب أيضا لن يعمل معظمهم في مجال العلوم الأساسية، أو في المجال الأكاديمى عامة، حتى إذا كان ذلك حلمه، لأن فقط واحد من كل عشرة من حاملى الدكتوراه هناك يجد مكانا كأستاذ جامعى. مع ذلك، في النهاية، سيستوعبهم اقتصاد المعرفة الحق، في قطاعاته الصناعية التي تحتاج للمهارات الإبداعية والتحليلية.. بعيدا عن عقلية السمسرة وأخلاقيات الشعارات والفهلوة.
+++++++++++++++++++++++++++
اقتصادنا.. أعرج
(التمويل، التشغيل، الإنتاج، الاستهلاك)، مدعومين بقانون قوى، ولو نقص ركن من هذه الأركان فقد الاقتصاد حلقة مهمة ضرورية لبقائه كاقتصاد سليم قابل للحياة بمفرده وبدون تدخل حتى من حكومته.