عندما يتجه العالم نحو الفردانية
بعد أن كان الإنسان اجتماعيا بطبعه، وبسبب التطور الذي يلاحق وعيه، أصبح هذا الإنسان يفقد طابعه ذاك، وفي المقابل اتجه نحو الانغلاق على ذاته، ولم يعد بوسعه تحمل قيود الجماعة، والانصهار فيها إلا عند الضرورة فقط، وفي أحيان كثيرة يجد ضالته في عزلته، ويرتاح مع ذاته أكثر من راحته مع الآخرين، وهكذا بدأ يشعر بالنفور من علاقاته الاجتماعية، ولم يعد في وسعه امتلاك المزيد من الصبر لتقويه هذه العلاقات، كما أن الوقت لم يعد يسمح له بإعطاء العلاقات الاجتماعية ما يكفي من الاهتمام، وكل هذه الأمور تكسر طبيعة الإنسان، وتجعله هشا.
لعل هذه العبودية الحديثة المتمثلة في العمل لحساب مؤسسات معينة جعلت الإنسان الحديث خاضع لهذه المؤسسات، فلم يعد بوسعه الاستجابة لمتطلبات العلاقات الاجتماعية، وفي المقابل يعطي الوقت الكافي لالتزاماته، وهذا الوقت يفرض عليه توقيتا معينا يجب احترامه بالضرورة، ومن خلال ذلك لن يتبقى له من الوقت ما يكفي لممارسة طبعه الاجتماعي، وحتى في أوقات فراغه لا يجد متنفسا لذلك، بل يحاول أن يستغل هذا الفراغ لراحته وانشغالاته الفردية، وهكذا لن يقدر على إنعاش جانبه الاجتماعي، ومع الوقت يتلاشى هذا الجانب، إلى أن يصير غير ذي أهمية، كل ذلك بسبب الظروف الذي أجبرت هذا الإنسان على الخوض في الأمور التي ستضمن له قوت حياته، ومن أجل ذلك ينسلخ من طابعه الأصلي.
لقد ساهمت التكنولوجيا بشكل كبير في جعل الإنسان الحديث ينغلق على ذاته أكثر، فقد أضحى الإنسان تكنولوجيا بالضرورة، أكثر من أي وقت مضى، وباتت حياته مرتبطة بالهاتف والحاسوب، وأصبح اهتمامه بالعالم الواقعي أقل من العالم الافتراضي، فباتت حياته منحصرة على جهازه، وبما أن العالم أصبح قرية صغيرة جدا بين يدي الإنسان المعاصر، فقد وجد نفسه وسط كم هائل من المعلومات والأحداث التي تحيط بهذا العالم، مما يدفع فضوله لاستكشاف مستجدات العالم حسب اهتماماته، ومن أجل ذلك يعطي أغلب وقته لجهازه، أما علاقاته الإنسانية لم تعد تأخذ منه أدنى اهتمام، إلا عند الضرورة، وحتى في الحالة التي يضطر فيها إلى مجالسة جماعته، فهو لا يعطيها كامل تركيزه، ذلك أن تركيزه منصب على جهازه، وفي هذه النقطة يذوب الطابع الاجتماعي، ولم يعد الإنسان يجد ضالته إلا في ما يعمق من عزلته، وينسيه كيف يدرك ذلك.
بقدر ما ينطوي هذا التطور على إيجابيات، إلا أنه يخفي بين طياته تأثيرا سلبيا، خصوصا على العلاقات الإنسانية، لأن هذه العلاقات وُجدت لكي توطد وتقوي الروابط بين الأشخاص، لكنها باتت تسير نحو المجهول في ظل الغموض الذي يلاحقها، وفي ظل الانهيار الذي يطالها، وفي ظل اللامبالاة التي تبنى عيها، وفي ظل الأسباب التي أدت إلى هذه المرحلة، ولعلها مرحلة تتجه أكثر نحو الفردانية، وبنفس القدر تبتعد عن الجماعة، وليست الجماعة هنا بمفهومها الأيديولوجي، ولكن في إطار العلاقات الإنسانية التي تؤسس لهذه الجماعة، ولهذا السبب أصبحت العلاقات الإنسانية غير ذي معنى في ظل اللامبالاة التي يتعامل بها الإنسان من خلالها، وفي ظل ميولها المتزايد نحو الفردانية، والانغلاق على الذات.
بعد أن اعتاد العالم على العيش وسط الجماعة والاندماج فيها والتأطير ضمنها، تغير هذا الوضع، فبات كل فرد يؤطر نفسه ويحدد ذاته دون الحاجة للجماعة، وبدأ يرتاح أكثر كلما ابتعد عن الجماعة، لأنه لم يقدر على مسايرة الجماعة في متطلباتها، ثم إن هذه الجماعة باتت تشكل حاجزا أمام حريته، فهو الذي طالما أمن بالحرية، حيث لا معنى لهذه الحرية وسط الجماعة، ومن أجل ذلك يحاول الانسحاب منها، في مقابل الاندماج مع الذات أكثر، لكي يستشعر القدر الأكبر من الحرية، وهكذا يتمادى في اختياره، حتى يجد نفسه فردا وسط جماعة، ومن ثم تذوب هذه الجماعة في أحضان الأفراد، ليصبح لكل فرد طريقته وأسلوبه ومبادئه، بعيدا عن تلك التي تعارفت عليها هذه الجماعة التي يندرجون ضمنها، وبغض النظر عن إيجابيات هذا الأمر إلا أن العلاقات الإنسانية مطلب ضروري لكي يستشعر الإنسان وجوده.
Dec 21, 2019
جيل ليبوفتسكي في كتابه “عصر الفردانية” (ترجمة عاطف إدوخراز، مركز نماء للبحوث والدراسات، لبنان)، بالإنسان الذري، هذا الإنسان الذي باتت غايته الأسمى تتمثل في البحث عن مصلحته الشخصية والتطلع الدائم لاكتساب المال والرفاهية والخصوصية والكثير من المتع، وهذا التنامي في النزعة المادية التي غذتها مواقع التواصل الاجتماعي، أدت إلى انقلاب في علاقات الإنسان بالجماعة التي تؤطره وانقلاب النظام الاجتماعي التقليدي برمته، فالإنسان حسب ليبوفتسكي أصبح ينظر إلى نفسه في استقلال عن الآخرين ويغرق نفسه في البعد الخصوصي ضمن فردية جديدة، ويرفض الخضوع للقواعد المتوارثة عن الأجداد الخارجة عن إرادته الخاصة، ولا يعترف إلا ببقائه ومصلحته الخاصة كقانون أساسي.
الافتراضية مع فقر في التواصل وأسلوب متراخ وسطحي تنعدم فيه لياقات الحديث وصيغ وآداب الحوار واللمسة الإنسانية،
ميلاد فرد فائق يتحرك ضد نفسه وضد المجموع ضمن ممكنات واقع فائق أيضا، فهذا الإنسان أصبح مزيدا ومدعما بالافتراضي والبدائل الاصطناعية، مُفرغا من الداخل في ظل فقدان ثقل المعنى، مجردا من عيش اللحظة بكل مشاعره، وأضحى يكتفي بتقييدها وتصويرها وتأريخها تأريخا مفرطا دون أي إحساس بها، فتواصلنا الاجتماعي كما يراه باومان أضحى يأخذ صورة “المونولوج” على أن يكون حوارا فعالا مثمرا،
إلغاء صريح للحياة الخاصة لأن كل شيء معروض، حتى ما تعلق بالحياة الحميمية بإظهارها بشكل غير مضبوط وغير أخلاقي، ولا مجال فيها للحياة الشخصية العميقة ولا للخصوصية، فقد قادت إغراءات مواقع التواصل الاجتماعي إلى بزوغ إنسان غير متسامح وغير صبور يريد تلبية حاجاته بسرعة في عالم دون انتظارات ولا صبر، فهو بحسب رؤية لارشيه منهك على الدوام ومنطو على ذاته وجهازه في شكل عبادة لهذا النظام التواصلي المتواصل،
فالجميع موجودون في مكان واحد لكنهم في نفس الوقت يعيشون في عوالم مختلفة، محبوسون في فقاعات متعددة لها خصوصياتها ومجالاتها واهتماماتها المختلفة، أي في شكل جديد ربما من التوحد، مع ما يرافق هذا الاستعمال المفرط من أمراض نفسية واجتماعية كثيرة باتت تقض حياتنا العامة وتهددها من أساساتها بشكل غير مسبوق، أثبتها العديد من الدراسات التي أجريت حول الموضوع.
الفارق في عدد المشاهدات والمتابعات لصفحات علماء ومفكرين ومثقفين وخبراء، يقدمون محتوى ثقافي نخبوي أو أفكارا جادة بعيدة عن الابتذال، التي لا تبلغ مقدار ما تبلغه صفحات أخرى لأشخاص يقدمون محتوى سطحيا وتافها لا يحمل أيّ قيمة، فالناس اليوم، وخاصة الشباب منهم، كما ترى إلزا غودار في كتابها “أنا أسيلفي أنا موجود” (ترجمة سعيد بن كراد، المركز الثقافي للكتاب، المغرب) يبحثون عن أنماط للتواصل تكون سريعة وبسيطة، وهذا ما يفسر الاستعمال المفرط للصور والفيديوهات، فلقد أصبحت الصورة كما تقول، استعجالا إلى درجة أن مضمونها أصبح ثانويا، ضمن لغة جديدة يطلق عليها الخطاب عن طريق الصورة، ومضمون هذه اللغة، للأسف، يتميز بالهشاشة وتعتبر مصدرا للتشويش، فهي بسيطة ولا يمكن أن تقيم حوارا عميقا وفضلا عن ذلك لا غاية منها، وبهذا المنطق الذي فرضه الواقع الافتراضي على مستوى مواقع التواصل الاجتماعي، فقد انقلبت النماذج والقدوات رأسا على عقب، فلم تعد النخبة هي ما يشكل المرجعية والمثال الذي يحتذى به، بل انتقل ذلك إلى الحمقى وأراذل القوم.
إننا اليوم نواجه هجوما ممنهجا على منظومتنا الاجتماعية والثقافية، بفعل استخدامنا اللاعقلاني للتقنية من جهة، وبفعل مقصود أيضا وخفي، من طرف الملاك الكبار لهذه التقنية وحراس السرديات الكبرى في العالم،
*
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق