أكاديمية من سلطنة عمان، متخصصة في سيميائيات اللغة، لها مجموعة من المؤلفات في التراث وسيميائيات النص، تنشر مقالات في مجلات ثقافية عربية متعددة
يخبرنا سيجموند فرويد في كتابه «مستقبل وهم»: أنه «حين يكون المرء قد عاش طويلاً في جو ثقافة بعينها، وحين يكون قد بذل قصارى جهده في أحيان كثيرة ليكتشف أصولها وطرق تطورها، فلا بد من أن يحس ذات يوم بإغراء يدعوه إلى أن يدير ناظريه في الاتجاه المعاكس»، وهو أمر يحيلنا إلى أهمية الانفتاح الإنساني على الثقافات الأخرى وخطورة التحولات الثقافية التي يمكن أن تؤثر في كينونة مجتمع ما.
وعلى الرغم من أن فرويد في مقولته تلك يحدثنا عن مستقبل الثقافة في ظل التحولات الشمولية والشكوك التي تثيرها تلك التحولات في ظل الميول والاستعدادات الذاتية للأفراد نحو إغواء المستقبل، والسيطرة على قوى الطبيعة وبناء العلاقات الإنسانية، إلا أن الأمر بالنسبة للثقافة لا يتوقف عند هذا الحد؛ ذلك لأن بناء ثقافة أي مجتمع يتأثر بتلك المتغيرات التي تنتجها الأنماط المعرفية المختلفة.
إن مستقبل الثقافة في ظل المتغيرات والتحديات التي يشهدها العالم يثير الكثير من التساؤلات المتعلقة بتلك المفارقات المتداخلة ما بين معطيات تقنية هائلة وصناعات فكرية وأيديولوجيات ثقافية متنامية، كلها تجعل قدرتنا على فهم التغيرات المتسارعة للثقافة وتحليل أبعادها أمراً في غاية الصعوبة؛ ذلك لأن الأمر هنا لا يتعلق بالقدرة التأويلية بل بالقدرة على إيجاد نظام من الأنماط المعرفية الواضحة، والتي يمكن من خلالها تعيين المسارات المستقبلية الواضحة للثقافة.
ولأن الثقافة هي: شبكة من أنظمة العلامات القابلة للتفسير والتأويل ـ بحسب غيرتز كليفورد ـ فإنه لا بد من أن يكون ضمن هذه الشبكة مجموعة من المعطيات التي تساعدنا على هذا التفسير وذلك التأويل، غير أننا في ظل هذه المتغيرات المتداخلة والمتسارعة سنجد أن ما أشار إليه فرويد يفسر لنا كيف تتداخل الثقافات وكيف تغوي الثقافات الأجنبية أبناء ثقافة أخرى بالولوج إلى عالمها، بهدف الاستكشاف.
إن العالَم الثقافي اليوم في ظل التطورات الهائلة للتقنية والتكنولوجيا الواسعة الانتشار سيجد نفسه أمام متغيرات هائلة، مسؤولة عن اجتياح الثقافة الجماهيرية التي أسقطت ثقافة النخبة أو جعلتها هامشية، وهو أمر يحيلنا إلى أهمية عمل الأنظمة الثقافية ومدى ترابطها من أجل ترتيب تلك الكيانات الثقافية المؤسسة للمجتمع، في محاولة للمحافظة على الهُوية الثقافية الوطنية في مقابل الهُويات العامة، ولا نقول ذلك دفاعاً عن ثقافة النخبة فهي أمر لا يعنينا بقدر ما تعنينا الثقافة المجتمعية التي تتأسس على مجموعة من الأنظمة المعرفية الراسخة في المجتمعات، ومستقبل تلك الثقافة.
د. عائشة الدرمكي من صحية الامارات رؤية
البيت.. وسحر الزوايا
يقدم يوري لوتمان في كتابه (سيمياء الكون) المسكن بوصفه (نقطة للتجذير بالنسبة لأفكاره المرتبطة بالتقاليد الثقافية، وبالتاريخ، وبالإنسانوية، وباستقلال الذات الإنسانية)، وهي ثيمة ترتبط بالقيمة المكانية والنفسية وبالتالي الثقافية للمسكن، فهو رمز ثقافي اجتماعي يحمل دلالات مرتبطة بالفضاء الداخلي (المغلق)، و(المحدد) ضمن زوايا معينة، ولذلك فإنه يمثل (الأمان)، و(الخصوصية)، و(فضاءات الحياة مع الآخر القريب).
إن المسكن/البيت أياً كان نوعه، يُعد فضاء له مدلولات مكانية لها قيم ثقافية تستمد قوتها من واقعها الاجتماعي، وقدرتها على التواصل مع الفضاءات المكانية الأخرى ضمن الفضاء الكلي للمجتمع، ولهذا فإن العلاقة التي يكوِّنها الإنسان مع فضاءات بيته تمثل خصوصية، وعلاقات عاطفية ذات أبعاد نفسية أكثر من كونها واقعية.. إنها علاقات قائمة على الإحساس، فالمسكن فضاء نأوي إليه بعد العمل للراحة والاسترخاء والنوم، للقاء من نحب من أفراد الأسرة، وهو فضاء ندعو إليه من نحب من الأصدقاء والمقربين لقضاء الأوقات السعيدة، هو نفسه قد يكون فضاء نفسياً مضجراً، أو تعيساً، عندما تتملكنا الوحدة أو الحزن.
إن المسكن بوصفه وحدة فضاء كلية يمكن أن تشكل تعقيدات من التفاصيل الدقيقة مهما كان حجمه، عبر أجزائه وزواياه، فهو ركننا في هذه العالم، والكون الحقيقي الذي يحمل بين جنباته تاريخ الأحاسيس والمشاعر (الفرح أو الحزن)، ولهذا قال غاستون باشلار في (جماليات المكان): «إن كل الأمكنة المأهولة تحمل جوهر البيت»، لأنها قادرة على حفظ تاريخ الإحساس بالأمان والدفء. ولأن البيت أصل هذا الإحساس فإنه يمثل في أيامنا هذه مصدر قوة الأمان، فالعالم كله يقول: «خليك في البيت»!
إن فكرة البقاء في البيت، والعمل من البيت، والدراسة في البيت، والتسوق من البيت وغير ذلك، كلها تدفع بقصديَّة إلى جعل البيت فضاء مستقلاً عن الفضاء الخارجي العام، الذي يمثل تهديداً من الأمراض ـ كما هي الحال الآن ـ لأنه ببساطة يجعل البيت يمارس قدرته العاطفية المبنية على الخصوصية والذاتية، ليصبح درع الحماية من خلال تلك العاطفة النفسية، التي نبدأ في ممارستها بالجلوس أو العمل في فضاءاتنا الخاصة في البيت (الغرف، أو المكاتب، أو الزوايا)، لأن لكل منا عالمه الصغير الخاص في منزله الذي يكوِّن منه طريقته في النظر إلى العالم، فلنستمتع بالبقاء في البيت ولننظر إليه بوصفه فرصه لتجديد العلاقة مع زوايانا الخاصة.
الجائحة.. وثقافة التدوين
تتأسس المجتمعات اليوم على مجموعة من القيم الحضارية والتقنية، التي تعدُّ إحدى الركائز التي تُصنف على أساسها الدول إن كانت حضارية متطورة أو غير حضارية، ولهذا فإن عبارة (المجتمع الشبكي) تطلق على تلك المجتمعات التي ـ كما يقول بارني دارن في كتابه (المجتمع الشبكي) ـ «توجد فيها تقانة معقدة (رقمية على وجه التحديد) من الاتصال وإدارة / توزيع المعلومات على نحو شبكي، تقانة تشكل البنية التحتية الأساس التي تتوسط عدداً متزايداً من الممارسات الاجتماعية السياسية والاقتصادية..»، الأمر الذي يجعل من تلك التقانة أساساً للعلاقات الإنسانية عبر نطاق واسع بين المؤسسات والهيئات السياسية والاقتصادية والثقافية، مما يسهم بشكل مباشر في صناعة تلك السياسات الوطنية والأنظمة المتعلقة بها.
ولعل أهم ما يميز (المجتمع الشبكي) هو تلك العلاقات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية التي تستوعب الهُوية الوطنية من ناحية والتطور المتسارع من ناحية أخرى، ولهذا فإن هذا المجتمع لا يحقق أهدافه سوى بتأسيس شبكة رقمية تضمن دينامية التواصل وتحقيق أهداف التنمية المستدامة التي ستجعل المنتج الثقافي الحضاري للمجتمع في مستوى عالمي ومستدام.
الدول التي أسست شبكة تقنية متماسكة كانت الأكثر قدرة على ممارسة حياتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية؛ ولهذا فإن الوضع من هذه الناحية يفرض طرح السؤال الآتي: هل اعتماد العالم على التقنية هو وضع استثنائي أم أنه بداية التحول الرقمي الذي ينتظره بحذر منذ سنوات عدة؟
هذا التطور التقني الهائل للألفية فإن ذاكرة الشبكة الإلكترونية عليها أن تحفظ لنا تاريخاً قاد العالم إلى مفترق طرق، وعلى المؤرخين والمختصين أن يتنبهوا لهذا، فالتاريخ نكتبه ليعبر عن واقعنا لا عن واقع الآخرين ورؤيتهم وما علينا سوى نقله!، الأمر الذي سيؤدي إلى إشكالات ثقافية تعيها الحكومات الرشيدة جيداً من حيث تأثيرها على الهُوية الوطنية واستدامتها؛ ذلك لأن اتكالنا على الآخر هو أيضاً جائحة!
المعتقد الشعبي.. فكر وقدرة
إذا كان التراث الثقافي يمثل الإرث الروحي والوجداني الذي تعكسه الآداب والممارسات الشعبية التي تقوم بها الجماهير، فإن أحد أشكال ذلك الإرث الروحي هي المعتقدات التي تتوارثها المجتمعات عبر حقبها التاريخية، والتي شكلت أحد أهم السمات الثقافية المميزة.
إن المعتقدات الشعبية بوصفها ممارسات تكشف العلاقات التي يؤسسها الإنسان مع محيطه الطبيعي، إنها كاشفة عن رؤيته ومطامحه التي تشكل انعكاسا عن الرؤية الاجتماعية وتطور الفكر الإنساني واختراقه للأمنة؛ ذلك لأن المعتقدات تُظهر ضمن فعلها الثقافي والاجتماعي تفسير الإنسان للطبيعة من حوله (الشمس، والقمر، والنجوم، والرياح، وغيرها)، ليبتكر من خلالها مجموعة من الطقوس والممارسات في شكل أنظمة خلاقة مبنية على المخيال من ناحية والارتباط بالفضاء وبناء علاقة معه من ناحية أخرى.
فكر الزراعة المجتمعية
في كتابه (الثقافة والمعرفة البشرية) يعرفنا ميشيل توماسيللو بذلك التطور النوعي الذي يتأسس عليه السلوك البشري والذي يفضي إلى المعرفة البشرية، وهي تلك المعرفة التي تنضوي تحتها معرفة الأشياء ومعرفة الأشخاص الآخرين، ومعرفة العدد، ومعرفة اللغة، ومعرفة البيولوجيا، الأمر الذي سيجعل هذه المعرفة وسيلة، ليست لاكتساب معارف عامة وحسب، بل أيضاً لتنظيم الحياة المعيشية، وإنتاج طرائق جديدة قادرة على بناء منظومة ثقافية مجتمعية، وبالتالي بناء حضارة بفعل ذلك التراكم المعرفي الثقافي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق