الأحد، 28 نوفمبر 2021

ما الذي سيحل محل الدولة القومية؟ *********************

May 18, 2020
بعد انتشار فيروس كورونا بدأ الحديث عن تعاظم دور الدولة وأهميتها مقارنة بالكيانات السياسية الأخرى لأنها هي الوحيدة القادرة على القيام بالكثير من المهام غير قابلة للتفويض مثل الصحة والتعليم والأمن. وفي أثناء ذلك ظهر نقاشًا واسعًا طرحه الفيروس حول قوة الدولة وفعالية دورها في مواجهة الأزمة. ويقصد بقوة الدولة هنا القدرة على تنفيذ مهامها مثل توفير السلامة والصحة والتعليم بفعالية كما ورد في كتاب فرانسيس فوكوياما 

. ويجدر الإشارة إلى أن قوة الدولة ربما تكون أكثر أهمية من النطاق لتحقيق مستويات عالية من التقدم والرفاهة وأفضل مواجهة للأزمات؛ فدول مثل الدنمارك وهولندا مرتفعة القوة بينما أفغانستان ونيجيريا منخفضتا القوة.

ولكي تصبح الدولة قوية –وفق التعريف السابق- هي بحاجة إلى عدة مقومات من بينها: بيروقراطية حديثة، سيادة القانون، آليات رقابة فعالة. ويقصد بالبيروقراطية الحديثة أنها تلك التي يتم فيها انتخاب الموظفين الحكوميين وترقيتهم على أساس الجدارة وليس الوساطة، والتي تعمل بقواعد وإجراءات واضحة وشفافة، مع توافر موارد كافية واستقلال ذاتي عن السلطة السياسية. وسيادة القانون لا تعني فقط تنفيذه أو تطبيقه في المعاملات بين الأفراد، ولكن أيضًا أن القانون متساو، أي لا يميز أو يطبق على فئات دون غيرها. وتفهم آليات الرقابة الفعالة على أنها الإجراءات التي تجعل الحكومة مسؤولة أمام المجتمع عن أفعالها. ولتحقيق هذه الغاية من الضروري ليس فقط إجراء انتخابات نزيهة ولكن أيضًا وجود قضاء مستقل وأساليب مراقبة إضافية مثل الصحافة الحرة. هذه المقومات أظهر الفيروس غيابها في بعض الدول، ضعفها في الأخرى

ومع تفاقم أزمة كورونا وعجز أغلب الدول عن السيطرة عليها ومواجهتها بفعالية بدأت يظهر اتجاه آخر من الكتابات ينتقد الاتجاه القائل بأن الأزمة ستقوض العولمة وتعزز دور وأهمية الدولة القومية، ومن تلك الكتابات مقال دافيد براي الذي يرى أن وباء كورونا يمكن أن يتسبب في استبدال الدولة بتنظيمات أخرى، وفيما يلي عرض لأبرز الأفكار التي تناولها في مقاله.
قبل أزمة كورونا كانت هناك ثلاثة تحديات في العالم تتحدى المفهوم الوستفالي للدولة القومية ذات السيادة الكاملة على مواطنيها داخل حدودها، التي تمخضت عن حرب الثلاثين عامًا في أوروبا حيث تم استبدال الولاءات المتعددة التحتية في العصور الوسطى مع كتلة وحدوية تحت حكم سيادي. وتمثلت تلك التحديات المتسارعة التي تحدت الفكرة الوستفالية للدولة القومية في: الإنترنت وزيادة الرقمنة عبر العالم، زيادة التجارة العالمية، التدفق العالمي للسلع، الناس، الأمراض المعدية.  ويرى براي أنه في حقبة كورونا المضطربة يتم تحدي هذه التحديات ومن غير الواضح ما إذا كانت حقبة ما بعد كوروا ستعزز الدولة الوستفالية أم سيؤدي إلى ظهور تنظيمات أخرى جديدة تمامًا
التحدي الأول: الإنترنت وزيادة الرقمنة عبر القومية. في ديسمبر 2019 تجاوز الاعتماد على الإنترنت نسبة الـ 50% حيث أصبح أكثر من نصف البشر على الأرض لديهم إمكانية الوصول إليه. إدراك هذه الحقيقة يعني أن عددًا كبيرًا من البشر لا يمكنهم الوصول إلى الإترنت، بل إن العديد من البشر لا يمتلكون هواتف محمولة، هذا المعوق يحول دون تحدي الإنترنت لفكرة الدولة القومية الوستفالية التي تعمل الآن على توسيع سيادتها خارج حدودها من خلال عرقلة الوصول إلى مكان وجود حزمة من المعلومات على شبكة الإنترنت للتصدي لتحدي الإنترنت لها. ربما تكون لائحة حماية البيانات العالمية (GDPR) في أوروبا هي أوضح مثال على محاولة توسيع سيادة أعضاء الاتحاد الأوروبي خارج الحدود المادية له، حيث تتوقع اللائحة العامة لحماية البيانات أن تلتزم الشركات الموجودة فعليًا خارج الاتحاد الأوروبي ببنودها إذا شاركت في أعمال مع أي فرد من الاتحاد الأوروبي. علاوة على ذلك، إذا كان أي فرد من الاتحاد الأوروبي يسافر في دولة أجنبية، فمن المتوقع أيضًا أن تلتزم تلك الدولة والعمل باللائحة العامة لحماية البيانات عند إشراك فرد من الاتحاد الأوروبي في الخارج.

التحدي الثاني: زيادة التجارة العالمية. أصبحت الشركات عبر القومية الآن تتمتع بالسلطة نفسها، إن لم يكن أكثر، من الدول القومية. ففي منتصف عام 2019، بلغ إجمالي القيمة السوقية لخمسة شركات(Facebook وApple و Amazon و Netflix و Google) حوالي 3.2 تريليون دولار، وذلك كان أكثر من إجمالي الاقتصاد العالمي لجميع البلدان باستثناء أربعة: الولايات المتحدة والصين واليابان وألمانيا في نفس الفترة. ومن ثم أصبحت الشركات عبر  القومية تمتلك قوة جيوسياسية أكبر من الدولة.
التحدي الثالث: التدافق العالمي للإنسان والسلع والأمراض المعدية. تسببت الحدود المفتوحة أو المغلية بفعل العولمة في عجز الدولة عن السيطرة على الأوبئة على سبيل المثال، وكذلك عن القيام بمهامها بفعالية. افنتقال الأمراض المعدية جعل الحفاظ على الصحة العامة في دولة معينة غير مقتصر على حدودها الجغرافية. ولتفادي تلك الأمراض مثل فيروس كورونا قامت الدول بإغلاق حدودها تمامًا حتى يمكنها التحكم في انتقال العدوى إلى البشر.

تحدي وباء كورونا للتحديات العالمية
قبل الوباء، بدا العقد التالي وكأنه سيواصل التحديات التي تواجه المفهوم التقليدي للدول القومية الويستفالية حيث أصبح العالم مرتبطًا بشكل متزايد عبر الإنترنت والتجارة العالمية وتدفق البشر والنباتات والحيوانات وغيرها من المواد. الآن تحدى وباء كورونا بمفرده هذه الاتجاهات الثلاثة. فبدأت الحكومات في إغلاق حدودها بسبب الوباء وأصبح قادة الدول يتحدثون عن قوة الحدود الجغرافية التي تفرضها الحكومات وأهمية عودتها مرة أخرى. كما تواجه التجارة العالمية عدة تحديات، فقد توقفت العديد من الخدمات والسلع بسبب الوباء. وإعادت الدول التفكير في سلاسل التوريد عبر القومية نظرًا للمخاطر التي تطرحها على الصحة العامة بما قد يجعلها تتجه في المستقبل للإنتاج المحلي بدلًا من الإنتاج العالمي الموزع في أكثر من دولة. رغم أن هذا قد يكون جيدًا للاقتصادات المحلية وقد يقلل نسب الكربون والتلوث إلا أنه يضر بالاقتصاد العالمي.
ويتم تحدي الاتجاه الأول-الإنترنت- خاصة في الأنظمة الاستبدادية التي وضعت قيودًا على الإنترنت للرغبة في السيطرة. وتعد الصين وكوريا الشمالية مثالان بارزان على ذلك بجانب بعض الدول الشرق الأوسطية والتي أظهرت قدرتها على منع وصول سكانها إلى الإنترنت. حتى في أوروبا، يجد بعض المسؤولين السياسيين الآن أن اللائحة العامة لحماية البيانات تطرح تحديات تتعلق بتتبع انتشار الوباء ، ويرجع ذلك جزئيًا إلى عدم الوضوح بشأن البيانات الصحية التي يمكن جمعها متى وتحت أي ظروف خلال الوباء
بدائل الدولة القومية في حقبة مابعد كورونا
قبل COVID-19، كانت إدارة البيانات العالمية بالنسبة للشركات عبر الوطنية التي تقدم خدمات رقمية، مجزأة بشكل متزايد بما حد نسبيًا من انتشار الرقمنة في جميع المجالات. ولكن بعد الوباء يبدو أن الرقمنة هي المستقبل. فالعديد من المنشأت الصناعية التي تتطلب وجودًا فيزيائيًا للعمالة أصبحت تتحمل مسؤولية أثناء انتشار الوباء، بما تسبب في ازدهار الخدمات الرقمية. كما أثبت العالم مقدرته على الانتقال إلى العمل عن بعد من المنزل وتلقي الخدمات في المنزل بدلًا من التعامل مباشرة مع المنتج، بما يدفع القطاعين العام والخاص نحو تقديم السلع والخدمات الرقمية بشكل متزايد. وهذا يشمل الأتمتة واستخدام الروبوتات لإنتاج السلع المادية. ففي الصين أضحى 37% من قطاع التجزئة لديها رقمي
ويرى براي أن هذه الاتجاهات التكنولوجية والاقتصادية المترتبطة بفيروس كورونا هي القشة التي قصمت ظهر البعير، بما يضع بقاء الدول القومية موضع تساؤل، وإذا كانت ستختفي فما الذي سيحل محلها؟ وهنا طرح عدة احتمالات أو بدائل للدولة القومية أحدها المدن الضخمة (mega-cities) والتي يمكن إعادة تصميمها بشكل كبير في المستقبل لتقوم بتقديم الخدمات الأساسية بطريقة أكثر مرونة وأكثر قدرة على التصددي للأوبئة المستقبلية والكوارث الطبيعية الأخرى، ويتم تحديد هذه المدن بدرجة أقل من خلال الهوية الوطنية وبدرجة أكبر من خلال ما تقدمه للأفراد الذين يعيشون داخلها. وتمكن التكنولوجيا المدن الضخمة من الاستجابة بشكل أسرع من الدولة للمواطنين. ويتوقع براي أن هذه المدن هي التي ستقوم بصياغة الاتفاقيات التجارية وترتيبات الصحة العامة واتفاقيات تغير المناخ مع المدن الأخرى حول العالم عبر العلاقات الدبلوماسية.
الاحتمال الآخر هو المجموعات عبر القومية المنظمة على أساس الأيديولوجية أو الهوية المؤسسية لتحل محل الدولة القومية الوستفالية التي تحددها الجغرافيا. ففي عالم ما بعد كورونا ستكون هناك حاجة للتأكد من أن الأفراد غير معديين ولا يشكلون خطرًا على الآخرين وغير معرضين للعدوى أيضًا، وهو ما يحفز إنشاء حلول تكنولوجية مرتبطة بجواز سفر الشخص أو بعمله أو بعض الآليات العالمية الأخرى المشابهة والتي قد تمكن شخصًا من أن يصبح مقيمًا إلكترونيًا في إستونيا دون الإقامة الفعلية فيها. فيرى براي أن تحديات ضمان أن الأفراد آمنون في السفر والسلع آمنة لعبور الحدود قد تجهد نموذج الدولة القومية بما يؤدي إل انهيارها واستبدالها بشئ آخر قائم بدرجة أكبر على الشبكة

 نموذج الدولة القومية التقليدي المحدد فقط من خلال الجغرافيا انتهى في أوروبا ، ليحل محله شيء أكثر تركيزًا على الشبكة، وهو مجتمع من هويات ولغات وتاريخات مختلفة ملزمة بالمبادئ المشتركة. وإذا فشل الاتحاد الأوروبي، فإن الأمل في مستقبل نموذجي عالمي قد يتضاءل أيضًا في مناطق أخرى حول العالم. المؤشر الثاني هو انهيار إيطاليا، والتي تحتفظ بوحدة هشة ومجزأة يهددها بالفناء فيروس كورونا بما قد يقسمها إلى إمارات كما كانت خلال فترة مكيافيلي وبالتالي سينهار المثل الأعلى الويستفالي للدول القومية –إيطاليا-، وقد يحدث في باقى الدول وفقًا لـ "تأثير الدومينو". ويجدر التنويه أن هذا السيناريو سيحدث فقط إذا فشل الاتحاد الأوروبي في إيجاد حلول تفيد جميع الأعضاء في مواجهة الأزمة
الأمر الثالث هو  قدرة الشركات عبر القومية على العودة مرة أخرى للعمل، فرغم أن القيمة السوقية الإجمالية للخمس شركات المذكورة أعلاه تجاوز إجمالي الاقتصاد العالمي مطروحًا منه اقتصاد الولايات المتحدة والصين واليابان وألمانيا، إلا أن أسهمها تأثرت سلبًا بفيروس كورونا. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو هل سترتد هذه الشركات بقوة أكبر من الاقتصادات الوطنية على مستوى العالم؟ وهل ستقوم بدعم الدول أم سيظهر ترتيب جيوسياسي جديد تمارس فيه الشركات وتشكل القوة والنفوذ الاقتصاديين؟ 
مسلسل النهاية 
وفي الختام، يمكن القول إن السؤال الرئيسي المطروح للدول هو ما إذا كان عام 2020 هو العام الذي أعاد تمكين السيادة الوطينة لها أم أنه العام الذي أثبتت فيه الدول القومية عدم فعاليتها في الاستجابة للوباء بما يدفع المواطنين من جميع أنحاء العالم لاختيار بديلًا مختلفًا لها؟

*Jun 7, 2021

لماذا تنجح القومية في كل شعوب العالم؟

عاطفة الفرد الحميدة تجاه وطنه، لكنهم في الوقت ذاته يرون أن القومية ذات أفق ضيق ولا أخلاقية، كما أنها تعزز الولاء الأعمى للدولة أكثر من الالتزام الأعمق بالعدالة والإنسانية.

الفصل بين القومية الخبيثة والوطنية النبيلة

 يمايزون بين القومية "المدنية"، التي يعتبر كافة المواطنين بموجبها وبصرف النظر عن خلفياتهم الثقافية أعضاء في الأمة، وبين القومية "الإثنية"، التي تتحدد فيها الهوية الوطنية تبعا للسلالة واللغة. إلا أن الجهود المبذولة لوضع حد فاصل بين الوطنية المدنية الحميدة والقومية الإثنية السيئة تتجاهل الجذور المشتركة لكل منهما. فالوطنية شكل من أشكال القومية؛ إنهما شقيقتان أيديولوجيتان لا بنات عمومة متباعدتان.

 القومية ترفض الحكم الأجنبي لمن هم أعضاء في أمم أخرى، كما هو الحال في الإمبراطوريات الاستعمارية والعديد من الممالك الأسرية، وكذلك الحكام الذين يتجاهلون وجهات نظر واحتياجات الأغلبية.

 ازدهرت القومية الليبرالية في أوروبا وأميركا اللاتينية في القرن التاسع عشر، وانتصرت القومية الفاشية في إيطاليا وألمانيا خلال فترة ما بين الحربين، وحفزت القومية الماركسية الحركات المعادية للاستعمار التي انتشرت في الجنوب العالمي بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. واليوم، يقبل الجميع تقريبا، من اليسار واليمين، شرعية المبدأين الرئيسين للقومية. وهو ما يتضح أكثر عند المقارنة بين القومية والمذاهب الأخرى لشرعية الدولة. ففي الأنظمة الثيوقراطية[1]، تحكم الدولة باسم الله، كما في الفاتيكان أو تنظيم الدولة الإسلامية ( داعش). وفي ممالك الأسر الحاكمة، تملك عائلة ما الدولة وتحكمها، كما هو الحال في المملكة العربية السعودية. وفي الاتحاد السوفيتي، حكمت الدولة باسم فئة البروليتاريا[2] الدولية.

منذ تفتت الاتحاد السوفيتي، أصبح العالم مكونا من الدول الأمم التي تحكمها المبادئ القومية. إن تعريف القومية باعتبارها حكرا على اليمين السياسي يعني إساءة فهم طبيعة القومية وتجاهل مدى عمق تشكيلها لكل الأيديولوجيات السياسية الحديثة تقريبا، بما في ذلك الأيديولوجيات الليبرالية والتقدمية[3]. كما أنها وفرت أساسا أيديولوجيا لمؤسسات مثل الديمقراطية ودولة الرفاه[4] والتعليم العام، وكلها كانت مسوغة تحت اسم شعب موحد يتقاسم شعورا بوجود هدف واحد والتزام مشترك. كانت القومية واحدة من أكبر القوى المحركة التي ساعدت في هزيمة ألمانيا النازية واليابان الإمبراطورية. وقد حرر القوميون الغالبية العظمى من الإنسانية من براثن السيطرة الاستعمارية الأوروبية.

ولادة الأمة

تعد القومية اختراعا حديثا نسبيا. في عام 1750، كانت الإمبراطوريات الواسعة التي تضم العديد من الجنسيات، كالنمساوية والبريطانية والصينية والفرنسية والعثمانية والروسية والإسبانية، تتولى حكم معظم أنحاء العالم. ولكن بعد ذلك، اشتعلت الثورة الأميركية عام 1775، والثورة الفرنسية عام 1789، وانتشر مذهب القومية، الحكم باسم شعب معين، تدريجيا في جميع أنحاء العالم. على مدار القرنين التاليين، تفككت الإمبراطوريات واحدة تلو أخرى إلى عدد من الدول الأمم (الدول القومية). في عام 1900، كان قرابة 35% من سكان الكرة الأرضية محكوما من قِبل دولة قومية؛ وبحلول عام 1950، بلغت النسبة 70%. واليوم، لم يتبق سوى عدد قليل من ممالك الأسر الحاكمة والأنظمة الثيوقراطية.

سرعان ما أصبحت الدول القومية الأوائل، فرنسا وهولندا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة، أقوى من الممالك والإمبراطوريات القديمة. سمحت القومية للحكام بجباية المزيد من الضرائب من المحكومين ووفرت لهم الثقة في الولاء السياسي. ولعل الأهم من ذلك أن الدول القومية أثبتت قدرتها على هزيمة الإمبراطوريات في ساحات المعارك. حيث مكّن التجنيد العسكري الإجباري العالمي، الذي ابتدعته حكومة فرنسا الثورية، الدول القومية من تجنيد جيوش غفيرة كان جنودها مدفوعين بالرغبة في الذود عن أوطانهم الأم. ونجد أنه من عام 1816 إلى 2001، انتصرت الدول القومية في ما بين 70-90% من حروبها مع الإمبراطوريات أو ممالك الأسر الحاكمة.

مع سيطرة الدول القومية في أوروبا الغربية والولايات المتحدة على النظام الدولي، سعت النخبة الطموحة في كافة أنحاء العالم إلى مضاهاة قوة الغرب الاقتصادية والعسكرية من خلال محاكاة نموذجها السياسي القومي. ولعل المثال الأكثر شهرة هو اليابان، حيث أطاحت مجموعة من النبلاء اليابانيين الشباب في عام 1868 بالأرستقراطية الإقطاعية، وهي القوة المركزية في عهد الإمبراطور، واستهلت برنامجا طموحا لتحويل اليابان إلى دولة قومية صناعية حديثة، وهو تطور يعرف باسم نهضة ميجي[6]. وبعد جيل واحد فقط، تمكن اليابان من التصدي للقوة العسكرية الغربية في شرق آسيا.

لم تنتشر القومية بسبب جاذبيتها في أعين النخب السياسية الطموحة فحسب، بل كانت جذابة في نظر عامة الشعب كذلك، لأن الدولة القومية عرضت علاقة تبادلية مع الحكومة باعتبارها أفضل من أي نموذج سابق؛ فبدلا من ترتيب الحقوق تدريجيا بناء على الوضع الاجتماعي، تعهدت القومية بالمساواة بين كل المواطنين أمام القانون. وعوضا عن جعل القيادة السياسية حكرا على طبقة النبلاء، فتحت باب المهن السياسية للموهوبين من عامة الشعب، كما أنها لم تترك توفير المرافق العامة للنقابات والقرى والمؤسسات الدينية، بل جلبت سلطة الدولة الحديثة لتعزيز الصالح العام. كما أنهت القومية ازدراء النخبة للعامة غير المثقفة، ورفعت مكانة عامة الناس بجعلهم مصدرا جديدا للسيادة وبنقل الثقافة الشعبية إلى مركز الكون الرمزي[7].

حدها كان الديمقراطية، التي ازدهرت حيث استطاعت الهوية القومية أن تحل محل الهويات الأخرى، مثل تلك التي تركز على المجتمعات الدينية أو الإثنية أو القبلية. لقد قدمت القومية إجابة للسؤال الكلاسيكي المفصلي عن الديمقراطية: من هم الذين يجب أن تحكم الدولة باسمهم؟ عبر جعل الامتياز حصرا على أعضاء الأمة واستبعاد الأجانب من التصويت، دخلت الديمقراطية والقومية في زيجة دائمة.

في الوقت ذاته الذي وضعت فيه القومية أسسا تراتبية جديدة للحقوق بين الأعضاء (المواطنين) وغير الأعضاء (الأجانب)، مالت إلى تعزيز المساواة داخل الأمة نفسها. ولأن الأيديولوجية القومية ترى أن الناس يمثلون هيئة موحدة دون اختلافات في المكانة، فإنها قد وطدت القيمة المثلى لعصر التنوير وهي أن جميع المواطنين سواسية في نظر القانون. وبكلمات أخرى، دخلت القومية في علاقة تكافلية مع مبدأ المساواة. ففي أوروبا على وجه الخصوص غالبا ما كان الانتقال من حكم الأسرة إلى الدولة القومية يتم بالترافق مع الانتقال إلى شكل تمثيلي من الحكومة وسيادة القانون. وحصرت هذه الديمقراطيات الأولى في البداية الحقوق القانونية والتصويتية الكاملة على مالكي العقارات من الذكور، ولكن بمضي الوقت، امتدت تلك الحقوق لتشمل جميع مواطني الأمة، ففي الولايات المتحدة، كان الحق أولا للرجال البيض الفقراء، ثم للنساء البيضاوات فأصحاب البشرة الملونة.

ساعدت القومية أيضا على تأسيس دول الرفاه الحديثة؛ فقد أدى الشعور بالالتزام المتبادل والمصير السياسي المشترك إلى نشر فكرة أن أعضاء الأمة، حتى الغرباء تماما عن بعضهم بعضا، يجب أن يدعموا بعضهم في أحلك الأوقات. تم تأسيس أول دولة رفاه حديثة في ألمانيا خلال أواخر القرن التاسع عشر بإيعاز من المستشار المحافظ أوتو فون بسمارك، الذي اعتبرها وسيلة لضمان ولاء الطبقة العاملة للأمة الألمانية بدلا من البروليتاريا الدولية. لكن غالبية دول الرفاه في أوروبا كانت قد أُسست بعد فترات من الحماس القومي، معظمها بعد الحرب العالمية الثانية استجابة لنداءات التضامن الوطني في أعقاب المعاناة والتضحية المشتركة.

في كل من العالم المتقدم والنامي، ستبقى القومية قائمة. فلا يوجد حاليا أي مبدأ آخر يقوم عليه نظام الدولة العالمية. (الكوزموبوليتانية لا وجود لها خارج أقسام الفلسفة بالجامعات الغربية). وليس من الواضح ما إذا كانت المؤسسات عبر الوطنية مثل الاتحاد الأوروبي ستتمكن من تولي المهام الأساسية للحكومات القومية، بما في ذلك الرفاهية والدفاع، والتي ستتيح لهم باكتساب الشرعية الشعبية.

يكمن التحدي القائم أمام الدول القومية القديمة والحديثة في تجديد العقد القومي بين الحكام والمحكومين ببناء أو إعادة بناء الائتلافات الشاملة التي تربط الاثنين. تنبع الأشكال الحميدة من القومية الشعبية من الإدماج السياسي؛ وهو ما لا يمكن فرضه من خلال المراقبة الأيديولوجية من الأعلى، ولا من خلال محاولة تثقيف المواطنين حول ما ينبغي اعتباره مصالحهم الحقيقية. ليتم تعزيز أشكال أفضل من القومية، يتعين على القادة أن يصبحوا هم أنفسهم قوميين أفضل، وأن يتعلموا رعاية مصالح جميع مواطنيهم.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق