Mar 23, 2019
للدّين تأثير كبير في بلاد الإسلام فهو راسخ في وجدان الملة وموسوم بالقداسة وأبعد عن يكون مجرد طقوس ومعتقدات ومعاملات لا يرقى إليها الشّك ولا يشملها النّقد، إذ يتعدّى ذلك إلى تحديد ردود أفعال النّاس، بما له من سلطة آسرة عليهم لثقتهم المطلقة في قدسيته، وتلك السّلطة تمارس نفوذها في شتّى مجالات الحياة ومن بينها السّياسة.
فالدّين منسوب إلى الله والملّة إلى الرّسول، والمذهب إلى المجتهد. ومن هنا فإنّ الشّريعة تقوم على بيان الأوامر الإلهيّة الملزمة والنّواهي المطلوب الابتعاد عنها بما يعنية ذلك من ضوابط تتحكّم بحياة الملّة وهذا هو المعنى الأساسي للدّين الّذى إهتمّ به ابن رشد، فقد ركّز نظره على ما تزخر به المدوّنة المقدّسة من أحكام تنظمّ علاقة المؤمنين بعضهم ببعض.
وقد كان الدّين الاسلامي على مرّ الأزمنة موضع توظيف من قبل الفقهاء والمتكلمين والأدباء وأصحاب السّلطان والثّائرين إلخ
الجرجانى قد عرفه بقوله: “الدّين وضع إلهي يدعو أصحاب العقول إلى قبول ما هو عند الرّسول” أي التّسليم بصّحة الرّسالة الّتي يدعو النّبي النّاس إلى قبولها، والطّاعة مطلوبة هنا طالما يتّصل الأمر بعلاقة بين ربّ ومربُوب، أي بوضع، فيه سلطة عليا يأتمر من هو تحتها بأوامرها ونواهيها، وذلك غير منفصل عن التّرهيب والتّرغيب، في صلة بمصير الأفعال الإنسانيّة وفق ثنائيات مثل الجنّة والنّار الثّواب والعقاب، الحلال والحرام، المؤمنون والكفّار.
التّوافق بين الشّريعة والفلسفة، أي بين الحكمة والدّين، منظورا إليه باعتباره قوانين تسير المجتمع
يحتفظ للفلسفة بخصوصيتها عندما يتعلّق الأمر بالحديث في البرهان، حتّى لو كان ذلك مُخالفا لما جاء به ظاهر الشّرع
لقد أدرك ابن رشد ما للدّين من قيمة في التّدبير المدني، فكان سعيه لتوظيف ذاك المتخيّل الموسوم بالقداسة في إصلاح شأن المدينة
++++++++++++++++
فى ذكرى رحيله الـ820.. ابن رشد تنويرى أم رجعى؟
مراد وهبة أن «فكر ابن رشد هو المطلوب حالياً وعلينا تغيير الثقافة بداية كى نصبح قوة عظمى"،
أمثال محمد المصباحي، وهو الأمر الذى نتلمسه عند عدد من الباحثين المصريين مثل نصر أبو زيد وعلى مبروك.
ابن رشد بالفعل يعمل على إقامة حدود فاصلة حاسمة بين العامة والخاصة ويقصر الفلسفة على الخاصة، ويعزل العامة تماماً عن الاطلاع على علوم الحكمة، وذلك بسبب أن هذه العلوم يستتبعها تأويل عقلى للنص الدينى لا تقدر العامة على استيعابه، وكان ابن رشد دائم التحذير من التصريح بالتأويل للعامة.
"فصل المقال فى تقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال" و"الكشف عن مناهج الأدلة فى عقائد الملة"، وهذان الكتابان لا يكشفان عن حقيقة فلسفة ابن رشد ولا يحتويان على أفكاره التى يمكن أن تؤخذ على أنها تنويرية وعقلانية، لأنهما موجهان للجمهور وللفقهاء، أما فكر ابن رشد الحقيقى فيمكن تلمسه فى "تهافت التهافت" وفى رسائله الفلسفية وفى شروحه على أرسطو.
ولفت صاحب كتاب "ابن رشد فى مرايا الفلسفة الغربية الحديثة"
لجأ ابن رشد إلى إخفاء أفكاره الفلسفية فى كتب البرهان غير المتاحة للجمهور نظراً لصعوبتها وتخصصها،
إذا أردنا إحياء فكر ابن رشد والاستفادة منه فى الدفاع عن قضايا العقل والتنوير فيجب علينا تجاوز القيود والحدود التى أقامها أمام العامة لمنعهم من الاطلاع على التأويل العقلى للنص الديني، والانفتاح على مضمون فكره، لكن الخطأ هو أن نضحى بفلسفة ابن رشد كلها بحجة تلك الحدود والقيود التى أراد أن يحمى بها الفيلسوف من تعصب العامة وفقهاء العامة وتكفيرهم للفلاسفة، والهدف هو نقل المعرفة الخاصة التى قصرها ابن رشد على الفلاسفة إلى العامة أو الجمهور، أى إلى المجال العام. لكن السؤال هنا هو: هل المجال العام العربى الإسلامى الحالى مستعد لتقبل التأويل العقلى للنص الديني؟ أم أن سيطرة التيارات الدينية السلفية على هذا المجال العام وتوجيهها للعقل الجمعى سوف يقف عقبة فى طريق تنوير المفكرين للجمهور؟ وهل يأمن الفيلسوف حالياً من التهديدات ودعوات التكفير؟ وهل ستكف التيارات الدينية عن الوصاية على عقل الأمة لتتاح للفيلسوف مهمة تنوير الجمهور؟ هذه هى قضية الحرية وسقف الحرية. يجب على المفكرين أن يتمتعوا بالأمان والحماية والحرية كى يستطيعوا تنوير الجمهور.
ابن رشد بمقاييس العصر الراهن «رجعى»
من جانب ثانى، قال الدكتور أحمد سالم، أستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة طنطا،
كهنوتية فيلسوف قرطبة
وأضاف "سالم"، أن مراجعة كتاب "فصل المقال" على سبيل، نجد فيه كهنوتية لابن رشد فى تميزه للخاصة على العامة، وإعطائه سلطة لأهل الفسلفة، ويعلى من شأنهم، بل يعطى ملكية الحقيقة لأهل البرهان فقط، ويقصد بهم الفلاسفة فهم المخولون وحدهم للتعامل مع النص تأويليًا.
*
ابن رشد: فيلسوف الفصل
لم يكن ابن رشد ينظر إلى هذا الجمع بين الفقه والفلسفة على أنَّه "توفيق"، على نحو ما دعا إليه المتقدِّمون عليه. إلا أنَّه لم يكن يرى فيه كذلك ما يمكن أن ننعته بالفصام. إذ إنَّ المقصد في نظره واحد سواء في الدين أو في الفلسفة. فـ«الحقّ لا يضاد الحقّ» والحقيقة واحدة. الاختلاف فقط في من يتوجَّه إليه كلا الخطابين؛ الديني والفلسفي: الشريعة خطاب للناس كافة، أمَّا الفلسفة فهي علم يختصُّ بعقول متميزة هي عقول «الراسخين في العلم»، «أهل الفطر الفائقة».
رغم ذلك فليس هناك تعارض حقيقي بين المجالين، بل هو مجرَّد تعارض ظاهري. ومهمَّة الفيلسوف هي رفع هذا التعارض عن طريق التأويل: و«نحن نقطع قطعاً أنَّ كلَّ ما أدَّى إليه البرهان وخالفه ظاهر الشرع، أنَّ ذلك الظاهر يقبل التأويل على قانون التأويل العربي، وهذه قضيَّة لا يشكُّ فيها مسلم»
فيلسوفنا يتشبَّث بـ"الفصل" بين الشَّريعة والفلسفة. فما للفلسفة للفلسفة، وما للشَّرع للشَّرع. الفلسفة لها نظامها المعرفي، لها منطقها. وعيب أصحاب الكلام أنَّهم لم يحترموا هذا "الفصل"، ولم يبقوا على التعارض القائم بين المنطق البرهاني الذي تعتمده الفلسفة والخطاب الجدلي السفسطائي الذي اعتمدوه هم، حيث لم يكن هدفهم بناء الحقيقة وإنَّما التأثير في الخصم وهدم آرائه، «أوقعوا الناس في شنآن وتباغض وحروب، ومزَّقوا الشَّرع وفرَّقوا الناس».
هجوم فيلسوفنا على الغزالي في هذه النقطة بالذات ونحن نعلم أنَّ "حجَّة الإسلام" كان قد دعا، هو كذلك، إلى «إلجام العوام عن علم الكلام»، ورأى أنَّه ينبغي أن يترك العامَّة «على سلامة عقائدهم التي اعتقدوها، وتعليمهم الكلام ضرر محض في حقهم، إذ ربَّما يثير لهم شكَّاً، ويزلزل عليهم الاعتقاد»؟
خلاصة القول إذاً إنَّ صاحب "فصل المقال" كان يتشبث بأنَّ طريق الحقيقة هي الفلسفة بمنطقها البرهاني، وأنَّها تتجسَّد في الخطاب المتماسك الذي يراعي قواعد المنطق ويتولد بفعل آلياته. هذه الحقيقة قيلت واكتملت مع أرسطو.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق