منْ لمْ يقرأ كتاب "رحلتي الفكريّة" للدكتور عبد الوهّاب المسيري، لنْ يستطيع أنْ يُحيط تماماً بالمشروع المسيري، فهذا الكتاب ضروريٌّ وحتميّ لكلّ من أراد التعرّف على الرجل، ولكلّ من أراد النظر في فلسفة المسيري، وسيَعتَبِرْ هذا الكتاب بشكلٍ أو بآخر نقطةَ انطلاقٍ للإجابة على السؤال الذي في العنوان: هل المسيري فيلسوف فقط أمْ مُجدّد؟ أو بمعنى آخر هل هو فيلسوف مِلّي أو مذهبي، أمْ أنّه قلبَ موجة التفكير السائد؟ وخلقَ الأسس لعالم إسلامي جديد؟
تأثّر المسيري أيضاً بالفيلسوف والمُجاهد علي عزّت بيجوفيتش، وقدْ قالَ معلّقاً على كتابه اللامع (الإسلام بين الشرق والغرب): "لو قرأتُ هذا الكتاب مُبكّراً لوصلتُ إلى نتائجٍ كثيرة، كنتُ قدْ وصلتُ إليها مُتأخّراً".
الجانب الإبداعي في فلسفة المسيري هو توظيف وتحليل كلِّ ما يعترضه من أحداثٍ بسيطة قامَ بها أُناس بسطاء أيضاً، فهو ذو عقليّة تحليليّة مركبّة، ولا يأخذ الأمور والقضايا التي تواجهه ببساطة وسطحيّة، ويرى أنَّ كل تصرّف يبدر منّا كأمّة مسلمة أو من غيرنا، سيكون له أبعاد وماضِ قام بتشكيله وجعلِه على ما هوعليه الآن، بمعنىً آخر؛ أنَّ الحضارة تمرّ بمراحل عبر التاريخ، ولفهم المجتمع علينا النظر إلى هذا التاريخ، وإلى التعقيد الحاصل أيضاً، لهذا وكما أسلفتُ قائلاً: المسيري لا ينظر إلى الأمور والأشياء ببساطة، فهي ليست بسيطة البتّة، ولعلَّ هذا التصوّر هو ناجم عن ماركسيّة الرجل في بداياته.
للمسيري ملكة معرفيّة نقديّة جعلتْ منه إنساناً فذّ في التحليل والتفكيك، ولعلّه تأثّر بجاك دريدا فيما يخصّ تفكيك النص!
يتحدّث المسيري عن ابتعاد النّاس عن الدين بمعناه الحقيقي الجوهري، ويضربُ مثالاً لتوضيح الفكرة، إذ يقول: أنَّ اجتماع النّاس في صلاة الجمعة هو خير مثال على اتّحاد المسلمين وتعاضدهم، ولكن هذا التعاضد يتلاشى بمجرّد خروجهم من المسجد، فكما نعرفْ، العدد المهول "للبسطات" الموجودة خارج المساجد والتي بدورها تعمل على انتشار فوضى عارمة في الشوارع، فهذا الانضباط في المسجد فقط، ولا يتعدّاه أصلاً، ويُسهب في الحديث عن هذا الخلل، فمن المفروض وجود مثل هذا الانضباط في جميع مناحي الحياة كبيرها وصغيرها، ناهيك عن تحليله للعلمانية وتأثير السوق عليها، وكيف أنَّ السوق سفّه اللغة والأفكار واختزلها في قالب من التفاهة الماديّة المرعبة، ولنْ يسعنا المقام للحديث عن العلمانية هنا وسأكتفي ببعض المواقف في حياته والتي رسخت في ذاكرتي.
يروي المسيري نضاله في تعلّم اللغة الإنجليزية، وكيف أنّها كانت أساساً للبقاء في دراساته العليا! وقدْ كان اختصاصه في الشعر الرومانتيكي أو الرومانسي كما هو معروف. من اللحظات الفارقة في حياة المسيري هو مولودته الأولى، ففي هذه الفترة كان المسيري ماركسيّاً ماديّاً مُلحداً، وقبل هذا دعوني أتحدّث عن أوّل موقف هزَّ أركان التصوّر المادي لدى المسيري، يقول عبد الوهّاب: عندما تعرّف على زوجته في الجامعة وأحسَّ اتجاهها بمشاعر، لذلك ذهبَ لوالدته لأخذ مشورتها في هذه القضية، فقالت له: هل تبتسم عندما تراها؟ وهل تُحسّ بالفرح في قلبك؟ فكانت الإجابة: نعم، ويقول مُعلّقاً: وكان هذا الموقف الغير ماديّ-بلا شكّ- أوّل موقف يهزُّ أركان التصوّر الماركسي المادي عندي.
فكرني بقيل انور الشريف من مجلة اكتور عن مقال الالحاد في السينما المصرية
وتلا هذا الموقف -بعد زواجه- مولودته الأولى والتي نسفت هذا التصوّر لاحقاً، فقدْ بدأ إيمان المسيري، وبدأ إيمانه يعلو، وتخلّى عن إلحاده شيئاً فشيئاً وصار من مفكري الإسلام الأفذاذ، فبعدَ رؤية ابنته، تأمّل ووقف وقفة الفيلسوف الوجودي، وقال لنفسه: كيفَ لهذا المخلوق أنْ يُفسّر تفسير مادي محض! وبالطبع ستكون الإجابة: لا! فظهر العجزُ واضحاً جليّاً في هذا التصوّر المادي. بعد هذا التحوّل أصبح المسيري من الناقدين الشرسين لكلّ شيء مادي وغربي على وجه الخصوص، فقد كرّس حياته لهذا النقد بشكلٍ أو بآخر، ولعلَّ إقامته في الولايات المتحدّة الأمريكية فتحَ أمامه مجالاً لهذا النقد وفتحَ آفاقاً للتعمّق في الحياة الغربية ما كانَ ليعرفها لو عاشَ بعيداً عنها.
حاولتُ قدر الإمكان أنْ أذكرُ كل ما هو فارق في حياة هذا العبقري الموسوعي
ناظرَ عبد الوهاب المسيري نعوم تشومسكي، وكما أسلفت ومن دون سفسطة فقدْ غادر تشومسكي المناظرة لضعفِ حجتّه، وكفى المسيري هذا الموقف للدلالة على قوته وموسوعيته، فمن يقف أمام تشومكسي الآن! المسيري من هؤلاء الذين صدقوا الله! رحمه الله وغفرَ له..
لماذا لم يستفد الإسلاميون من مدرسة المسيري؟
وانتهت المناظرة بتوافق بين الدكتور المسيري والقمني!، المسيري يطالب بعلمانية جزئية والقمني يطالب بعلمانية شاملة
اخترت مادة صوتية من أطروحات الدكتور المسيري (رحلتي الفكرية في البذور والجذور والثمر)، وما كدت أبدأ حتى جلست ولم أرحل، أكملت الكتاب وتحركت في جوانبها بحثًا عن ما يخص الدكتور المسيري، فرحًا مسرورًا كأني وقعت على كنز، أجاب على أسئلة كثيرة تتعلق بالمنهجية العلمية ونقد المادية الملحدة وفتح الله به أفاقًا جديدة، وتعمقت أفكار تتكون بداخلي، وثار سؤال: لمَ لمْ تستفد الصحوة الإسلامية من الدكتور المسيري بشخصه أو من التيار الفكري الذي يمثله (التيار الناقد للغرب)؟
لمَ لمْ يستفد الصحويون (إخوان وسلفيون) من تيار الإسلام الحضاري؟!، لم لا يتم تجسير الفجورة بينهما؟! أحاول تقديم إجابة من ثلاثة زوايا: مرة بالنظر من ناحية الصحويين، ومرة بالنظر من ناحية الدكتور المسيري والإسلام الحضاري، ومرة من أعلى.. بالنظر إلى المشهد ككل
أولًا: من ناحية الصحوة:لم تُعنَ الصحوة الإسلامية بدراسة المخالفين لها والرد عليهم،في مطلع هذا القرن والحالة الصحوية في أزهى حالاتها: مساجد في كل مكان، وفضائيات، ومواقع انترنت، وجماهير تسمع وتردد، وأحداث تقدمها للناس، والحال هكذا تجمَّع النصارى وجاءوا ينشرون الشبهات حول الدين ومقام سيد المرسلين-صلى الله عليه وسلم- بكل الوسائل المتاحة وبأحط وأقذر الألفاظ؛ كانت أطروحاتهم في غاية الاستفزاز؛لم تعن بإنتاج مادة علمية للرد على شبهات النصارى من المستشرقين والمنصرين، واقتصر الأمر على مراسلات ومقالات من حالات فردية، اضطر إليها من كتبها كمحمد عبده ورشيد رضا، وتعليق من الشيخ محمد الغزالي على محاضرة مسربة لشنودة الثالث (نشر التعليق في كتابٍ بعنوان الوعد الحق).
وكذلك أهملوا التعامل مع الفكر القادم من الشرق (الشيوعية) والفكر القادم من الغرب (الإمبريالية الرأسمالية الليبرالية)، لم يعنوا بها رغم قوتها ورغم أنها عركتهم في جميع المجالات؛ فلم ينتج الصحويون في هذا المجال إلا جهد قليل من أفراد، مثل: كتاب العلمانية للشيخ سفر الحوالي والليبرالية للشيخ عبد الرحيم السلمي، ولم تنجح هذه الجهود في أكثر من صياغة جمل كلية تفيد الرفض المجمل للمخالف، ثم اندثرت ولم تتطور كتيار فكري.
والسبب –كما يبدو لي- أن الصحوة عنيت بترسيخ قيم الوحي ولم تعن بالمخالف، تتكئ على فكرة كلية مفادها أن تحقيق الإيمان في النفوس نظريًا يكفي لتحويل القيم واقعًا عمليًا؛ وهو ملخص ما دندن حوله الأستاذ السيد قطب –رحمه الله- في الظلال والمعالم، وهي قراءة للنموذج الإسلامي الأول، فالدعوة الإسلامية أجابت إجابة خاصة جدًا على أسئلة الفلسفة الكبرى دون أن تعنى بمناقشة تفاصيل المخالف، فعرَّفت الناس: من أين جاءوا (من خالقهم؟)، ولماذا جاءوا لهذه الحياة؟، وماذا ينتظرهم بعد الموت؟ بإجابات مصدرها الوحي ومناقشة عامة للمخالفين في سياق بيان الحق، وحين تعرضت لتاريخ البشرية سردته في قالب صراع بين الإيمان والكفر، بين أتباع الأنبياء وأتباع الشيطان، بين من آمنوا ومن كفروا.
ولم يهتم النص الشرعي بالسرد التاريخي وإنما راح يكرر القصص وبذات الألفاظ والجمل أحيانًا لترسيخ أنماط محددة من القيم والمفاهيم يشكل بها السلوك. وشخص النبي-صلى الله عليه وسلم- لم يعن بالمخالفين أيضًا إلا بشكلٍ مجمل. لذا أعرضت الصحوة الإسلامية عن المنتوج الفكري لكل من يتحدث عن الخارج بالتفصيل وإن نقدًا كالدكتور المسيري والإسلام الحضاري، وحافظت عل احترام الأشخاص لمواقفهم لا لأطروحاتهم.
وفي التفاصيل أسباب أخرى فرعية تفرعت عن هذا السبب الرئيسي وغيره، مثل: بعد الصحوة عن العلوم الاجتماعية، وغلبة الطابع الذكوري عليها بخلاف مدرسة الإسلام الحضاري
ثانيًا: من ناحية الدكتور المسيري: لسه ***************
May 10, 2019*
رحلة المسيري الفكرية
المسيري المسكون بتفسير الظواهر الاجتماعية وتأويلها
تحدى بجهد ذاتي جوهر أفكار الحداثة الغربية وتجلياتها الفلسفية المادية. وبذل جهداً دؤوباً في دراسة الحركة الصهيونية
من الشك للإيمان المسيري
حسب السعادة كامنة في التحصيل العلمي واللقب الأكاديمي، وهو الأمر الذي كذّبته الحياة بالفعل، إذ كان يتجاوز سعادة تطوره العلمي إلى حزن فراغه الداخلي، فيقول: "ما نحن سوى أحد الحيوانات التي تحاول أن تعيش سعيدة. هل هذا كل ما في الحياة؛ نجاح يفتر يليه آخر، وهكذا؟
يصف "جيفري" انعزالية الملحد المترجمة لفراغ قلبه من المعنى والهدف الذي تدور لأجله الحياة، فيقول إنه سرعان ما تعلم "أن أحدا لا يعرف الوحدة كالملحد، فالمؤمن عندما يشعر بالوحشة فإنه يناجي، من أعماق روحه، الواحد الأحد الذي يعرفه ويكون بمقدوره الشعور بالاستجابة، لكن الملحد محروم من هذه النعمة؛ لأن عليه أن يسحق هذا الدافع ويذكِّر نفسه بسخفه"، فالملحد "هو إله عالمه الخاص، وهو عالم صغير جدا يحدده مجال إدراكاته، وهذه الحدود دوما في تناقض مستمر
"لماذا نحن هنا؟" هو ما قاد الباحثين نحو الإيمان بالإله، إلا أن تعطّش "جيفري" للتواصل مع الله لم يكن ليدعه واقفا عند حدود العقل المقتنع، فأخذه الشوق إليه عن طريق طالب عربي كان يدرّسه في "سان فرانسيسكو"، والذي أهداه نسخة مترجمة من القرآن، ليعلق: "فلما قرأته لأول مرة شعرت كأن القرآن هو الذي يقرأني!
فالقرآن يدفع قارئه إلى اللحظة القصوى، حين يتبدّى للقارئ أنه يقف بمفرده أمام خالقه"
"لقد كان القرآن يسبقني دوما في تفكيري، وكان يخاطب تساؤلاتي.. وفي كل ليلة كنت أضع أسئلتي واعتراضاتي، ولكنني كنت أكتـشف الإجابــة في اليوم التالي.. لقد قابلت نفسي وجها لوجه في صفحات القرآن
فإذا كانت الرحلة السابقة لـ"أنتوني فلو" -كما وصفها- رحلة عقل لا مكان للإيمان القلبي بها، ووقفت به عند القول بالألوهية دون الإيمان بدين، فإن رحلة "لانج" -حسب "عمرو شريف"- يمتلك فيها الإيمان القلبي نصيبا كبيرا، فيقول: "كما وصل به، لا أقول إلى شاطئ الدين الحق، بل خاض به بحر الإسلام الممتد"[1]، وهو ما عبّر عنه "جيفري" في غمار تعليقه على سؤال ابنته: "أبتِ لماذا أسلمت؟" بقوله: "لقد هويت في الرحمة النابعة من الحب الأسمى. لقد عدت إلى ملاذي ثانية
لتسأله هي بدورها سؤالا بسيطا ومباشرا حول شعوره العاطفي تجاه تلك الفتاة، وهو السؤال الذي استوقفه بشدة ليكتشف حينها أنه كان مكبلا بأفكار مادية تحسب الأمر بشكل جامد وتغفل جانبا محوريا في الارتباط كالمشاعر والعاطفة،
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق