السبت، 3 يوليو 2021

عبد الوهاب المسيري ********

يقوم المجاز بتحرير النص القرآنى من فضائه الزمانى والمكانى «شأنه فى هذا شأن المقاصد»، فتصبح الآية ذات دلالة إنسانية عالمية تتجاوز المناسبة المباشرة، وتابع أن الحديث عن عبادة الأوثان مجازية، والمقصود منها ليس التماثيل «الأصنام»، وتابع أن الاستهلاك فى عصرنا الحالى هو الأوثان التى نعبدها، ويتابع أن المجاز يؤدى إلى التجاوز، أما الحرفية فهى تطابق بين النص القرآنى ووقائع محددة داخل الزمان والمكان وتربطه بهما.


يؤكد فكرة تحرير النص القرآنى من الفضاء الزمانى والمكان ىالمفسرون الحرفيون ينسون أن القرآن لا يتطابق مع التاريخ أو مع القوانين العلمية، إذ لا يجوز المطابقة بين المطلق الإلهى والنسبى البشرى.التاريخ الذى جاء فى القرآن هو تاريخ مقدس، وليس تاريخا زمنيا.
هنا المسيرى أكثر وضوحا: القرآن لا يتطابق مع التاريخ


هنا يسخر المسيرى بشكل واضح من عدد كبير من الأحاديث التى تتحدث عن فضل السور، وحسنات القرآن العشر لكل حرف، التى كثر سماعها على المنابر، حتى أصبحت جزءا من الوجدان الدينى لدى قطاعات كبيرة من الأمة الإسلامية، هنا المسيرى يقول إنها محض خزعبلات وسحر وربما يصطدم بهذا الوجدان الدينى.فأنا أطالب بتعديل القاعدة الفقهية المعروفة (لا اجتهاد مع النص) لتصبح (لا اجتهاد مع النص فى كليته)، وأعتقد أن هذا التعديل سيضع حدا للتفسيرات الحرفية ولتطويع النص».

هنا يصطدم المسيرى مع قاعدة فى أصول الفقه، ربما راسخة فى الوجدان الدينى أيضا وكأنها جزء من الدين ذاته وهى «لا اجتهاد مع النص».هنا المسيرى مباشر وصريح فى سخريته من فكرة أن القرآن يتطابق مع التاريخ الزمنى، وهذا لا يخرج عما قاله طه حسين فى كتابه الشعر الجاهلى، والتى قامت الدنيا ولم تقعد وقتها، واضطر طه حسين للتراجع لاحقا، كما يروى محمد عمارة

*

ليست "فصل الدين عن الدولة".. كيف نظر المسيري

 للعلمانية؟

 مناظرة جمعت بين عبد الوهاب المسيري وبين سيد القمني ببرنامج "الاتجاه المعاكس"، وجه مقدم البرنامج فيصل القاسم سؤالا للمسيري قائلا: "دكتور المسيري، أنت علماني باعتبار ما؟!".

ليعلق القمني: "أنا أعترض، فالحل في علمانية شاملة، لأن العلمانية الجزئية التي يتحدث عنها الدكتور يُحددها في السياسة وجزء من الاقتصاد، طيب والتشريع نعمل إيه فيه؟!"

 "فصل الدين عن الدولة، أو أن يدع الناس ما لقيصر لقيصر وما لله لله"، فإن المسيري يختلف مع هذه الرؤية، حين طرح العلمانية باعتبارها أكثر تركيبا وتداخلا. رؤية نتجت عند المسيري من كونه مفكرا تفكيكيا ذا رؤية تحليلية بطبيعة حاله، وباحثا "مغرما" بإعادة تشكيل الصور على نحو أكثر كُلية وشمولية على الدوام، ولا يكتفي بإعادة تركيب الصور، بل ويصك لها مصطلحاته الخاصة. هذا المنهج، هو ما اتبعه المسيري في تعامله مع العلمانية، إذ كان موقفه منها مستندا على إعادة تعريفاتها وتقسيماتها، ومن ثم دوائر تداخلها بالموقف الجديد في حيز النقاش بين العلمانيين أو الإسلاميين على حد سواء.

من هذا الباب، يصعب تصنيف المسيري وفق التصنيفات التقليدية من العلمنة، إما إسلاميا وإما علمانيا، ويلوح سؤال التصنيف: أين يقف المسيري؟! هل هو إسلامي؟ أم علماني؟! وهل العلمانية درجات أو دوائر متعددة كما قال؟! وكيف يُسخّر المسيري قلمه لينتقد العلمانية، وهو لا يوافق موقف الإسلاميين في تعاطيهم مع العلمانية، وفي الوقت ذاته يُعرف المسيري نفسه بأنه إسلامي، ويقر لمن يعتبرونه علمانيا بأن علمانيته جزئية؟


الهوس بالتصنيف
"كل ما أعرفه هو أنني لا أعرف شيئا"

(سقراط)
 تصنيف الظواهر التي يقابلها إلى حِزم ويردها إلى دوائر مُعَرفَة مُستقرة لديه سلفا، "فنحن نبحث دائما عن آخرين يشبهوننا كي نقارن معاييرنا معهم، وفي النهاية يقوم الفرد منا -مستخدما الآخرين- بضبط قيمه وأفكاره"، لا تتوقف عملية التصنيف عند هذا الحد، "فالأمر يمتد بتلك الفكرة إلى ما هو أبعد، فنحن لا نستخدم الآخرين فقط لتقييم ذواتنا، بل نستخدمهم كمصدر للمعلومات من أجل تعريف الواقع الاجتماعي كاملا، فيما يُعرف بالتأثير الاجتماعي المعلوماتي"(1).
العقل إذا مهووس بالتصنيف، ليتمكن من التعامل مع الظواهر الجديدة، ولا يستطيع العقل أن يحكم على الظواهر في الفراغ، وإنما عليه أن يُقرب المفاهيم الجديدة لمثال سابق قدر على التعامل معه سلفا. لا يتوقف عمل العقل عند هذا الحد أيضا، فالعقل يتخطى ذلك ليُضفي الموضوعية الكاملة في رأيه ورؤيته للعالم والمفاهيم المختلفة حوله، ويرى في رأي الآخرين تحيزا غير موضوعي، فتنشأ دوما متلازمة "نحن" و"هم" في النقد(2). من هنا، يميل العقل عند الحكم على الأمور إلى استدعاء النماذج المُخزنة سلفا للقياس عليها أو يقف عاجزا عن المواصلة، ويطّرد هذا المفهوم في العلوم الاجتماعية كذلك، يقول د. طه جابر العلواني في مقدمة كتاب "إشكالية التحيز" والذي حرره عبد الوهاب المسيري: "إذ إن كل باحث يرى الحقائق من منظوره ومن واقع تجربته الشخصية، ومن خلال خبراته الذاتية ورؤيته الكليّة والنماذج المنبثقة عنها"(3).
هذه العملية، هي ما تجعل عملية التصنيف شاقة فيما يتصل بالمفكر الراحل عبد الوهاب المسيري، إذ إن المسيري -تأثرا بمدرسة فرانكفورت- يعيد تفكيك الظواهر وتركيبها من جديد ويصك لها مصطلحات جديدة، وبالتالي تفشل عمليات التصنيف الاختزالية التي يُطلقها البعض على المشروعات المُركبة مثل مشروع المسيري، وتبقى خير إجابة عن سؤال هُوية المسيري ألا يُحاكم إلى النماذج المُعدة سلفا وإنما أن يتم تتبع كتاباته وما خطه عن الظواهر المختلفة.
العلمانية وإعادة التعريففالعلمانية (Secularism) والتي تعني في معناها اللغوي "الزماني أو الدنيوي" في مقابل "الكنسي أو الديني" تطورت دلالتها مثل سائر مصطلحات الفكر، وكلما تطور المصطلح تطورت الدلالة، وهو ما أدى إلى اعتبار التعريفات الكلاسيكية للعلمنة غير كافية بالضرورة (4). فالعلمانية بمعناها التقليدي والتي تعني "الفصل بين الدين/الكنيسة وبين الدنيا/الدولة" أصبحت فاقدة للقدرة التفسيرية في عصر الحداثة وما بعدها وفوضى المفاهيم. لذا يتجه المسيري إلى "حيلة" أخرى ليعيد تعريف العلمنة بمنأى عن التعريفات الجامدة، ويتوسل المسيري بهذه الحيلة إلى الوصول لنموذج إدراكي كامل يفسر العلمنة بدلا من التعريفات المعجمية المُصمتة. يبدأ المسيري في تتبع متتالية العلمنة والتي بدأت من فصل الدين عن الدولة، بيد أن هذه المتتالية لم تتوقف عند هذا الحد، إذ اتسعت حتى شملت فصل الدين عن سائر نطاقات الحياة العامة (5).بذلك، فإنه يتتبع تعريف العلمنة بتتبع منتجاتها والمفاهيم التي أنتجتها، فعلى الرغم من نشأة العلمنة في أجواء الاستنارة الأوروبية حيث التفاؤل بقدرة العقل الإنساني، فإن علم الاجتماع المعاصر ينسب إلى هذه الاستنارة كُتلة من المفاهيم السلبية بحسب المسيري، والتي تبين معاناة الإنسان الحديث في ظل عملية العلمنة، فمن أزمة الإنسان الحديث، إلى ثمن التقدم وهيمنة المادة حتى القيم النفعية واللامعيارية والحتميات المطلقة؛ كل ذلك يبين قلق الإنسان الوجودي والذي ازداد مع تزايد متتاليات العلمنة.وهو ما دفع المسيري إلى أن يُعيد التساؤل حول جدوى الاستنارة الأوروبية ذاتها ومدى قدرتها على تحقيق دعواها، إذ يعتبر أن هذه الاستنارة حولت حياة الإنسان إلى حياة مظلمة بلا ضوء. وهو ذات الأمر الذي انتقده ماكس هوركهايمر في كتاب "جدل التنوير"(6) حين اعتبر أن التنوير ذاته تحول إلى أيديولوجيا أكثر من منه حالة معرفية، أيديولوجيا تمثلت في الصناعات الثقافية والتي رسختها السينما والإذاعة ومواد الإنتاج الثقافي. وهذا ما يدعو المسيري ثانية إلى الريبة في تعريفات العلمنة نفسها والتي تُعرف العلمانية بأنها عملية فصل بين الديني والسياسي، ولينظر إليها في ضوء منتجاتها بعيدا عن التعريفات الجامدة (7).
العلمانية بين الجزئية والشاملةويرى المسيري أن مجالات فصل الديني عن السياسي والتمايز بين الاقتصاد والدين[أ] يدخل في دائرة العلمنة الأولى، أي العلمانية الجزئية.والعلمانية الشاملة في طبيعتها ذات موقف مناقض للمقدس سواء كان دينيّا أو أخلاقيّا، فلا تعني العلمانية الشاملة فصل الدين عن الحياة الاجتماعية والسياسية وحسب، وإنما تعني حلول مُقدس وضعي محل الدين عن طريق الإجابة الشاملة والنهائية لمناحي الحياة عوضا عن الإجابات التي يُمليها الدين. "فإن هذا الأمر ليس مقصورا على النظم الدينية، فبعض النُظم تدور في إطار فلسفي مادي صرف، ومن ثم يمكن تسميتها إلحادية، مثل النظام النازي في ألمانيا، والفاشي في إيطاليا، والستاليني في روسيا،فعلى الرغم من الإشارة الدائمة والمتكررة في المعجم الغربي للعلمانية باعتبارها موقفا كُليا أو نهائيا من الحياة، فإن هذا المعنى هو ما يُغفل دوما في سجالات الإسلاميين والعلمانيين على حد سواء. ويرى المسيري أن الإسلاميين والعلمانيين يشتركون في نظرتهم للعلمانية، إذ يُقصرونها على التعريفات الإجرائية والتي لا تُشير صراحة إلى المضمون الشامل، الذي يُجرد الإنسان من معاني الإنسانية.ففي الوقت الذي ينظر فيه الإسلاميون إلى العلمنة بوصفها ردة عن الإسلام، يعتبرها العلمانيون سبيل الديمقراطية والتقدم والرفاه. لكن المسيري له نظرة أخرى، فهو يرى في العلمنة بنية كامنة خلف هذه التفاصيل الصغيرة والجزئية، وتبدو هذه البنية الكامنة في أدق شؤون الحياة حتى وإن ابتعدت عن السياسة والاقتصاد، فالإعلانات الإباحية وإن لم تدخل في صلب السياسة فهي نوع من العلمنة عند المسيري بما تنزعه من القداسة عن الإنسان وتحوله إلى إنسان اقتصادي أو جسماني أو إنسان ذي بُعد واحد على حد تعبير هربرت ماركوز.علمنة الإنسان بعيدا
"فالعلمانية قد تظهر في نموذج بسيط مثل رجل الشارع البسيط، محدود الثقافة، ذي البُعد الواحد، محدود الطموح، الذي يشاهد متحف اللوفر وأهرامات مصر، ولا صبر له على معرفة تاريخهما أو التعمق فيهما، الذي يفرح بالسيارة الكبيرة كما يفرح الأطفال، ويقبل ما يتلقاه عن طريق التلفزيون والجرائد اليومية دون أي شك في صحة ما يسمع ويقرأ"
(عبد الوهاب المسيري)
لا تقف العلمنة في نموذج المسيري عند حدود والسياسة والاقتصاد فحسب، وإنما تتجلى بنيتها في تضاعيف الحياة البسيطة (Life Style)، فإن "أولئك الذين يرتدون التِّيشيرت، ويشاهدون الأفلام الأميركية إباحية كانت أم غير إباحية، ويسمعون أخبار وفضائح النجوم ويتلقفونها، ويشاهدون كمًّا هائلا من الإعلانات التي تغويهم بمزيد من الاستهلاك، ويهرعون بسياراتهم من عملهم لمحلات الطعام الجاهز وأماكن الشراء الشاسعة يجدون أنفسهم يسلكون سلوكا ذا توجُّه علماني شامل ويستبطنون عن غير وعي مجموعة من الأحلام والأوهام والرغبات هي في جوهرها علمانية شاملة دون أية دعاية صريحة أو واضحة. وربما كان بعضهم لا يزال يقيم الصلاة في مواقيتها ويؤدي الزكاة".
وعليه، فإن بنية العلمنة الكامنة في هذا النمط الخفي من الممارسات هي الخطر الحقيقي وليست الممارسات السياسية أو الاقتصادية، والتي يتنازع الإسلاميون والعلمانيون على وصفها بالعلمنة أو الأسلمة. فيرد السجالات في هذا الباب إلى "عدم الإدراك من الإسلاميين والعلمانيين لأشكال العلمنة الكامنة، وبالتالي إغفالهم عن رصدها. وهو ما يؤدي إلى الإخفاق في تحديد مستويات العلمنة الحقيقية للمجتمعات".
العلمانية بين الإسلاميين والعلمانيينيرى فريق من الناس أن "العلمانية كفر وإلحاد وغزو ثقافي"، بينما يُزعم آخرون "أن العلمانية هي أن يكون الإنسان إنسانا، وأن يُحكم ضميره، ويدافع عن حرية الفكر والإبداع، وبالتالي من يقف ضد العلمانية فهو ظلامي يبغي العودة إلى العصور الوسطى ويقف ضد الحتمية التاريخية". هذه التعريفات لا تحاول وصف الواقع وتفسيره على ما هو عليه، وإنما هي مجرد انعكاس لأحكام سابقة نابعة من موقف أصحابها النفسي أو الأخلاقي (11). فقد تم حصر خطر العلمنة عند الإسلاميين في نطاق التشريع، مع إغفال ظواهر العلمنة المجتمعية والتي تتبدى في أبسط أنماط المعيشة وظواهر المجتمع التي تبدو بريئة من خلفيات معلمنة، مثل ظواهر الهجرة والانتقال من القرية إلى المدينة أو الدعوة إلى التقدم التقني فوق العالم الإنساني أو تحرير اقتصاديات السوق فوق ما عداه وتوسع الإنتاج والسوق الحرّ.بذلك، فإن الرصد والتحرير لتداخلات العلمنة في المجتمع هو ما يغيب عن أذهان الإسلاميين والعلمانيين في سجالهم حول العلمنة، والذي غالبا ما يدور حول خطر العلمنة في نطاق التشريع، على الرغم من تفطن علماء غربيين لأهمية الرصد لجسور الوصل بين العلمانية والمتغيرات الاجتماعية مثل دراسة ماكس فيبر الشهيرة: "البروتستانتية وعلاقتها بالرأسمالية". فينتقد المسيري في الوقت ذاته رؤية الإسلاميين للعلمنة باعتبارها مُخططا مُحكما أو مؤامرة عالمية صليبية أو يهودية أو غربية وليست نتاجا اجتماعيا طبيعيا، فإن هذا بتعبير المسيري "تصور ساذج اختزالي وتبسيطي لظاهرة العلمانية وتاريخها". الإسلام لا يعرف كنيسة ولا رجال دين، ويشجع الكافة على النظر في علومه والانشغال بها. ومن هذا يقع العلمانيون العرب في خلل الاستدعاء غير الناضج من ثقافة لأخرى، ومن فضاء لآخر.
*

عبد الوهاب المسيري.. فيلسوف نمطي أمْ مُجدّد؟


منْ لمْ يقرأ كتاب "رحلتي الفكريّة" للدكتور عبد الوهّاب المسيري، لنْ يستطيع أنْ يُحيط تماماً بالمشروع المسيري، فهذا الكتاب ضروريٌّ وحتميّ لكلّ من أراد التعرّف على الرجل، ولكلّ من أراد النظر في فلسفة المسيري، وسيَعتَبِرْ هذا الكتاب بشكلٍ أو بآخر نقطةَ انطلاقٍ للإجابة على السؤال الذي في العنوان: هل المسيري فيلسوف فقط أمْ مُجدّد؟ أو بمعنى آخر هل هو فيلسوف مِلّي أو مذهبي، أمْ أنّه قلبَ موجة التفكير السائد؟ وخلقَ الأسس لعالم إسلامي جديد؟

تأثّر المسيري أيضاً بالفيلسوف والمُجاهد علي عزّت بيجوفيتش، وقدْ قالَ معلّقاً على كتابه اللامع (الإسلام بين الشرق والغرب): "لو قرأتُ هذا الكتاب مُبكّراً لوصلتُ إلى نتائجٍ كثيرة، كنتُ قدْ وصلتُ إليها مُتأخّراً".

الجانب الإبداعي في فلسفة المسيري هو توظيف وتحليل كلِّ ما يعترضه من أحداثٍ بسيطة قامَ بها أُناس بسطاء أيضاً، فهو ذو عقليّة تحليليّة مركبّة، ولا يأخذ الأمور والقضايا التي تواجهه ببساطة وسطحيّة، ويرى أنَّ كل تصرّف يبدر منّا كأمّة مسلمة أو من غيرنا، سيكون له أبعاد وماضِ قام بتشكيله وجعلِه على ما هوعليه الآن، بمعنىً آخر؛ أنَّ الحضارة تمرّ بمراحل عبر التاريخ، ولفهم المجتمع علينا النظر إلى هذا التاريخ، وإلى التعقيد الحاصل أيضاً، لهذا وكما أسلفتُ قائلاً: المسيري لا ينظر إلى الأمور والأشياء ببساطة، فهي ليست بسيطة البتّة، ولعلَّ هذا التصوّر هو ناجم عن ماركسيّة الرجل في بداياته.

للمسيري ملكة معرفيّة نقديّة جعلتْ منه إنساناً فذّ في التحليل والتفكيك، ولعلّه تأثّر بجاك دريدا فيما يخصّ تفكيك النص!
يتحدّث المسيري عن ابتعاد النّاس عن الدين بمعناه الحقيقي الجوهري، ويضربُ مثالاً لتوضيح الفكرة، إذ يقول: أنَّ اجتماع النّاس في صلاة الجمعة هو خير مثال على اتّحاد المسلمين وتعاضدهم، ولكن هذا التعاضد يتلاشى بمجرّد خروجهم من المسجد، فكما نعرفْ، العدد المهول "للبسطات" الموجودة خارج المساجد والتي بدورها تعمل على انتشار فوضى عارمة في الشوارع، فهذا الانضباط في المسجد فقط، ولا يتعدّاه أصلاً، ويُسهب في الحديث عن هذا الخلل، فمن المفروض وجود مثل هذا الانضباط في جميع مناحي الحياة كبيرها وصغيرها، ناهيك عن تحليله للعلمانية وتأثير السوق عليها، وكيف أنَّ السوق سفّه اللغة والأفكار واختزلها في قالب من التفاهة الماديّة المرعبة، ولنْ يسعنا المقام للحديث عن العلمانية هنا وسأكتفي ببعض المواقف في حياته والتي رسخت في ذاكرتي.

يروي المسيري نضاله في تعلّم اللغة الإنجليزية، وكيف أنّها كانت أساساً للبقاء في دراساته العليا! وقدْ كان اختصاصه في الشعر الرومانتيكي أو الرومانسي كما هو معروف. من اللحظات الفارقة في حياة المسيري هو مولودته الأولى، ففي هذه الفترة كان المسيري ماركسيّاً ماديّاً مُلحداً، وقبل هذا دعوني أتحدّث عن أوّل موقف هزَّ أركان التصوّر المادي لدى المسيري، يقول عبد الوهّاب: عندما تعرّف على زوجته في الجامعة وأحسَّ اتجاهها بمشاعر، لذلك ذهبَ لوالدته لأخذ مشورتها في هذه القضية، فقالت له: هل تبتسم عندما تراها؟ وهل تُحسّ بالفرح في قلبك؟ فكانت الإجابة: نعم، ويقول مُعلّقاً: وكان هذا الموقف الغير ماديّ-بلا شكّ- أوّل موقف يهزُّ أركان التصوّر الماركسي المادي عندي.
فكرني بقيل انور الشريف من مجلة اكتور عن مقال الالحاد في السينما المصرية 

وتلا هذا الموقف -بعد زواجه- مولودته الأولى والتي نسفت هذا التصوّر لاحقاً، فقدْ بدأ إيمان المسيري، وبدأ إيمانه يعلو، وتخلّى عن إلحاده شيئاً فشيئاً وصار من مفكري الإسلام الأفذاذ، فبعدَ رؤية ابنته، تأمّل ووقف وقفة الفيلسوف الوجودي، وقال لنفسه: كيفَ لهذا المخلوق أنْ يُفسّر تفسير مادي محض! وبالطبع ستكون الإجابة: لا! فظهر العجزُ واضحاً جليّاً في هذا التصوّر المادي. بعد هذا التحوّل أصبح المسيري من الناقدين الشرسين لكلّ شيء مادي وغربي على وجه الخصوص، فقد كرّس حياته لهذا النقد بشكلٍ أو بآخر، ولعلَّ إقامته في الولايات المتحدّة الأمريكية فتحَ أمامه مجالاً لهذا النقد وفتحَ آفاقاً للتعمّق في الحياة الغربية ما كانَ ليعرفها لو عاشَ بعيداً عنها.

حاولتُ قدر الإمكان أنْ أذكرُ كل ما هو فارق في حياة هذا العبقري الموسوعي
 ناظرَ عبد الوهاب المسيري نعوم تشومسكي، وكما أسلفت ومن دون سفسطة فقدْ غادر تشومسكي المناظرة لضعفِ حجتّه، وكفى المسيري هذا الموقف للدلالة على قوته وموسوعيته، فمن يقف أمام تشومكسي الآن! المسيري من هؤلاء الذين صدقوا الله! رحمه الله وغفرَ له..

لماذا لم يستفد الإسلاميون من مدرسة المسيري؟


وانتهت المناظرة بتوافق بين الدكتور المسيري والقمني!، المسيري يطالب بعلمانية جزئية والقمني يطالب بعلمانية شاملة
اخترت مادة صوتية من أطروحات الدكتور المسيري (رحلتي الفكرية في البذور والجذور والثمر)، وما كدت أبدأ حتى جلست ولم أرحل، أكملت الكتاب وتحركت في جوانبها بحثًا عن ما يخص الدكتور المسيري، فرحًا مسرورًا كأني وقعت على كنز، أجاب على أسئلة كثيرة تتعلق بالمنهجية العلمية ونقد المادية الملحدة وفتح الله به أفاقًا جديدة، وتعمقت أفكار تتكون بداخلي، وثار سؤال: لمَ لمْ تستفد الصحوة الإسلامية من الدكتور المسيري بشخصه أو من التيار الفكري الذي يمثله (التيار الناقد للغرب)؟

لمَ لمْ يستفد الصحويون (إخوان وسلفيون) من تيار الإسلام الحضاري؟!، لم لا يتم تجسير الفجورة بينهما؟! أحاول تقديم إجابة من ثلاثة زوايا: مرة بالنظر من ناحية الصحويين، ومرة بالنظر من ناحية الدكتور المسيري والإسلام الحضاري، ومرة من أعلى.. بالنظر إلى المشهد ككل

أولًا: من ناحية الصحوة:لم تُعنَ الصحوة الإسلامية بدراسة المخالفين لها والرد عليهم،في مطلع هذا القرن والحالة الصحوية في أزهى حالاتها: مساجد في كل مكان، وفضائيات، ومواقع انترنت، وجماهير تسمع وتردد، وأحداث تقدمها للناس، والحال هكذا تجمَّع النصارى وجاءوا ينشرون الشبهات حول الدين ومقام سيد المرسلين-صلى الله عليه وسلم- بكل الوسائل المتاحة وبأحط وأقذر الألفاظ؛ كانت أطروحاتهم في غاية الاستفزاز؛
لم تعن بإنتاج مادة علمية للرد على شبهات النصارى من المستشرقين والمنصرين، واقتصر الأمر على مراسلات ومقالات من حالات فردية، اضطر إليها من كتبها كمحمد عبده ورشيد رضا، وتعليق من الشيخ محمد الغزالي على محاضرة مسربة لشنودة الثالث (نشر التعليق في كتابٍ بعنوان الوعد الحق).
وكذلك أهملوا التعامل مع الفكر القادم من الشرق (الشيوعية) والفكر القادم من الغرب (الإمبريالية الرأسمالية الليبرالية)، لم يعنوا بها رغم قوتها ورغم أنها عركتهم في جميع المجالات؛ فلم ينتج الصحويون في هذا المجال إلا جهد قليل من أفراد، مثل: كتاب العلمانية للشيخ سفر الحوالي والليبرالية للشيخ عبد الرحيم السلمي، ولم تنجح هذه الجهود في أكثر من صياغة جمل كلية تفيد الرفض المجمل للمخالف، ثم اندثرت ولم تتطور كتيار فكري.

والسبب –كما يبدو لي- أن الصحوة عنيت بترسيخ قيم الوحي ولم تعن بالمخالف، تتكئ على فكرة كلية مفادها أن تحقيق الإيمان في النفوس نظريًا يكفي لتحويل القيم واقعًا عمليًا؛ وهو ملخص ما دندن حوله الأستاذ السيد قطب –رحمه الله- في الظلال والمعالم، وهي قراءة للنموذج الإسلامي الأول، فالدعوة الإسلامية أجابت إجابة خاصة جدًا على أسئلة الفلسفة الكبرى دون أن تعنى بمناقشة تفاصيل المخالف، فعرَّفت الناس: من أين جاءوا (من خالقهم؟)، ولماذا جاءوا لهذه الحياة؟، وماذا ينتظرهم بعد الموت؟ بإجابات مصدرها الوحي ومناقشة عامة للمخالفين في سياق بيان الحق، وحين تعرضت لتاريخ البشرية سردته في قالب صراع بين الإيمان والكفر، بين أتباع الأنبياء وأتباع الشيطان، بين من آمنوا ومن كفروا.

ولم يهتم النص الشرعي بالسرد التاريخي وإنما راح يكرر القصص وبذات الألفاظ والجمل أحيانًا لترسيخ أنماط محددة من القيم والمفاهيم يشكل بها السلوك. وشخص النبي-صلى الله عليه وسلم- لم يعن بالمخالفين أيضًا إلا بشكلٍ مجمل. لذا أعرضت الصحوة الإسلامية عن المنتوج الفكري لكل من يتحدث عن الخارج بالتفصيل وإن نقدًا كالدكتور المسيري والإسلام الحضاري، وحافظت عل احترام الأشخاص لمواقفهم لا لأطروحاتهم.

وفي التفاصيل أسباب أخرى فرعية تفرعت عن هذا السبب الرئيسي وغيره، مثل: بعد الصحوة عن العلوم الاجتماعية، وغلبة الطابع الذكوري عليها بخلاف مدرسة الإسلام الحضاري

ثانيًا: من ناحية الدكتور المسيري: لسه ***************
 May 10, 2019*

 رحلة المسيري الفكرية

المسيري المسكون بتفسير الظواهر الاجتماعية وتأويلها 
 تحدى بجهد ذاتي جوهر أفكار الحداثة الغربية وتجلياتها الفلسفية المادية. وبذل جهداً دؤوباً في دراسة الحركة الصهيونية

من الشك للإيمان المسيري

 حسب السعادة كامنة في التحصيل العلمي واللقب الأكاديمي، وهو الأمر الذي كذّبته الحياة بالفعل، إذ كان يتجاوز سعادة تطوره العلمي إلى حزن فراغه الداخلي، فيقول: "ما نحن سوى أحد الحيوانات التي تحاول أن تعيش سعيدة. هل هذا كل ما في الحياة؛ نجاح يفتر يليه آخر، وهكذا؟

يصف "جيفري" انعزالية الملحد المترجمة لفراغ قلبه من المعنى والهدف الذي تدور لأجله الحياة، فيقول إنه سرعان ما تعلم "أن أحدا لا يعرف الوحدة كالملحد، فالمؤمن عندما يشعر بالوحشة فإنه يناجي، من أعماق روحه، الواحد الأحد الذي يعرفه ويكون بمقدوره الشعور بالاستجابة، لكن الملحد محروم من هذه النعمة؛ لأن عليه أن يسحق هذا الدافع ويذكِّر نفسه بسخفه"، فالملحد "هو إله عالمه الخاص، وهو عالم صغير جدا يحدده مجال إدراكاته، وهذه الحدود دوما في تناقض مستمر

"لماذا نحن هنا؟" هو ما قاد الباحثين نحو الإيمان بالإله، إلا أن تعطّش "جيفري" للتواصل مع الله لم يكن ليدعه واقفا عند حدود العقل المقتنع، فأخذه الشوق إليه عن طريق طالب عربي كان يدرّسه في "سان فرانسيسكو"، والذي أهداه نسخة مترجمة من القرآن، ليعلق: "فلما قرأته لأول مرة شعرت كأن القرآن هو الذي يقرأني!

فالقرآن يدفع قارئه إلى اللحظة القصوى، حين يتبدّى للقارئ أنه يقف بمفرده أمام خالقه"

"لقد كان القرآن يسبقني دوما في تفكيري، وكان يخاطب تساؤلاتي.. وفي كل ليلة كنت أضع أسئلتي واعتراضاتي، ولكنني كنت أكتـشف الإجابــة في اليوم التالي.. لقد قابلت نفسي وجها لوجه في صفحات القرآن

فإذا كانت الرحلة السابقة لـ"أنتوني فلو" -كما وصفها- رحلة عقل لا مكان للإيمان القلبي بها، ووقفت به عند القول بالألوهية دون الإيمان بدين، فإن رحلة "لانج" -حسب "عمرو شريف"- يمتلك فيها الإيمان القلبي نصيبا كبيرا، فيقول: "كما وصل به، لا أقول إلى شاطئ الدين الحق، بل خاض به بحر الإسلام الممتد"[1]، وهو ما عبّر عنه "جيفري" في غمار تعليقه على سؤال ابنته: "أبتِ لماذا أسلمت؟" بقوله: "لقد هويت في الرحمة النابعة من الحب الأسمى. لقد عدت إلى ملاذي ثانية

لتسأله هي بدورها سؤالا بسيطا ومباشرا حول شعوره العاطفي تجاه تلك الفتاة، وهو السؤال الذي استوقفه بشدة ليكتشف حينها أنه كان مكبلا بأفكار مادية تحسب الأمر بشكل جامد وتغفل جانبا محوريا في الارتباط كالمشاعر والعاطفة،
























ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق