السبت، 8 فبراير 2020

الرأسمالية... الإصلاح مقدم على الثورة

02 أبريل 2019


عندما يبدأ كبار خبراء الاقتصاد في البحث في ماهية فكرة الرأسمالية، ندرك أن النظام أمسى في ورطة
 البروفسور أنغوس ديتون، الحائز «جائزة نوبل» في الاقتصاد، كتابين من تأليف اثنين من خبراء الاقتصاد المرموقين، راغورام راجان وبول كولير، يطرحان فيهما وجهة النظر القائلة بأن الرأسمالية نظام اقتصادي معيب. ويأسف السيد راجان على انهيار المجتمعات المحلية في مواجهة الحكومات القوية والأسواق الكبيرة، في حين يناقش السيد كولير مبدأ الجدارة في تركيز المواهب والأموال. وفي الأثناء ذاتها، يعتبر التفاوت الواضح في الدخل والثروة هو محور الانتقادات الكبيرة الموجهة نحو الرأسمالية من جانب خبير الاقتصاد توماس بيكيتي. ويزعم بعض نقاد الرأسمالية كذلك أن المشكلة تكمن في القوة الاحتكارية، بينما يقول خبراء آخرون إن الرأسمالية هي الجاني الحقيقي وراء التغيرات المناخية العالمية.

وهناك أحقية لدى بعض الانتقادات المطروحة ضد الاقتصاد الحديث. ولكن في خضم الاندفاع لسحق الرأسمالية - أو للتركيز على عدم الشعبية المفاجئة للاصطلاح ذاته - لم يفدنا خبراء الاقتصاد المعارضون للرأسمالية في شيء من حيث تعريف ما الذي تعنيه الرأسمالية على وجه التحديد؟ فهل هي تعني الملكية الخاصة؟ أم تعني الملكية الصناعية الخاصة؟ أم تعني اقتصاديات السوق؟ أم تعني أسواق الأصول العامة وملكية الأسهم المشتركة؟ في غالب الأحيان، يبدو أن مصطلح الرأسمالية يقف موقف البديل لكل ما تعنيه أو تشير إليه سمات الأسواق في الاقتصاديات الحديثة التي لا تعجب البعض من هنا أو هناك.

والسؤال الجدير بالطرح في هذا السياق ليس ما إذا كانت الرأسمالية قد انهارت، ولكن ما الذي ينبغي القيام به لإصلاح النظام الاقتصادي في الولايات المتحدة الأميركية؟ خلال أغلب سنوات القرن العشرين، كانت الفكرة الكبيرة السائدة تدعو إلى بناء نظام اقتصادي بديل - اشتراكي، أو شيوعي، أو حتى فوضوي - من البداية وحتى النهاية. غير أن هذا المنهج لاقى الفشل الذريع على كل المستويات لأي عدد ممكن من الأسباب. فالأنظمة الاقتصادية هي بنيات شديدة التعقيد تتطور مع مرور الزمن، وحتى أبرع الناس وألمعهم ذكاءً سوف يقعون في الأخطاء إن حاولوا الخوض في بناء نظام مختلف تماماً. وتنفيذ التغيير الاجتماعي الجذري ليس بالأمر اليسير؛ إذ إن السمة الغالبة على الثورات هي طبيعتها العنيفة والفوضوية، والناس الذين يصلون لمراتب السلطة هم في أغلب الأحيان أولئك المعنيون حتى النخاع بالحفاظ على سلطانهم وهيمنتهم على مقاليد الأمور بأكثر من اهتمامهم بتوفير الرعاية والرفاه للناس الخاضعين لحكمهم.

بدلاً من ذلك، يبدو أن المقاربة المرجح بشدة نجاحها هي محاولة تعديل النظام الاقتصادي الحالي؛ بمعنى الإصلاح المقدم على الثورة. وأياً كانت النتائج، فسوف يكون اقتصاداً مختلطاً، حيث تتغير فيه الأدوار بين الحكومة والقطاع الخاص إلى درجة ما بهدف حل المسائل الأكثر إلحاحاً.

أما بالنسبة إلى ما ينبغي أن تكون عليه هذه التعديلات، فإنني أميل إلى التفكير في إجراء تغييرين أساسيين تحتاج الولايات المتحدة إلى الاهتمام بهما، والتركيز عليهما؛ الأول هو الاستدامة: فما نظام اقتصادي، رأسمالي أو غير رأسمالي، إن كانت التغيرات المناخية سوف تُحيل كوكب الأرض إلى مكان غير صالح للسكن. والتحول إلى الاقتصاد منخفض الاعتماد على الكربون سوف يتطلب مدخلات كبيرة وأساسية من جانب القطاعين العام والخاص، سواءً بسواء.

والتحدي الرئيسي الثاني يكمن في نزع الشعور السائد بعدم الأمان المادي لدى المواطن الأميركي. فبدلاً من النظر إلى الأرقام الاقتصادية الإجمالية، مثل الناتج المحلي الإجمالي، أو حصة الثروات التي بحوزة نسبة الواحد في المائة من المجتمع، ينبغي علينا النظر إلى المحددات الأساسية لمسببات الارتياح والأمان المادي.

ويمكننا رؤية أن بعض البنود الباهظة التكلفة تلقي بأعباء هائلة على كاهل الأسر الأميركية. حتى مع ارتفاع أسعار المستهلكين بوتيرة بطيئة عن الدخل، فإن أسعار الرعاية الصحية، والمصروفات الدراسية، ورعاية الأطفال قد ارتفعت بوتيرة أسرع.

ومن الواضح أن الرعاية الصحية هي من أكبر المجالات الموجعة. فإن فاتورة التكلفة الطبية الباهظة هي من أسرع الطرق للخروج من الطبقة المتوسطة في المجتمع، وتشير التحليلات إلى أن نفقات الرعاية الصحية هي السبب الأول والرئيسي في دعاوى الإفلاس الشخصية في الولايات المتحدة. وتحولت الخصومات الكبيرة لتكاليف الرعاية الصحية من شركات التأمين الطبي إلى المرضى أنفسهم، وبأكثر من أي وقت مضى. ولا يزال هناك الملايين من المواطنين الأميركيين غير خاضعين لمظلة التأمين الصحي الأميركي، ومن شأن جهود الجمهوريين في القضاء على نظام «أوباما كير» للرعاية الصحية أن يفاقم الأزمة مما هي عليه. وفي الوقت نفسه، فإن تكاليف الرعاية الصحية آخذة في الارتفاع، وتستهلك حصة مزيدة وكبيرة من الاقتصاد الأميركي.

والطريقة الواضحة للتعامل مع هذه المشكلة هي أن تفعل الولايات المتحدة ما فعلته كل البلدان المتقدمة الأخرى، من حيث نشر مظلة التأمين الصحي الحكومي الشامل. ومن شأن ذلك أن يقلل من حالة عدم اليقين التي تعتري عدداً لا يحصى من المواطنين الأميركيين، كما أنها سوف تفرض الضوابط الصارمة والفعالة على التكاليف الفضفاضة للرعاية الصحية في البلاد.

والأمر الآخر الذي يحتاج إليه الشعب الأميركي هو التعليم الرخيص ورعاية الأطفال الرخيصة. ونظراً لأن الدخل المزدوج صار هو القاعدة المعمول بها لدى معظم الأسر، فإن أغلب الأسر ذات الوالدين معرضة لتكاليف باهظة للغاية من رعاية الأطفال. وبعد أن صار الحصول على الدرجة الجامعية أكثر إلحاحاً وأهميةً من أي وقت مضى للانتقال عبر طبقات المجتمع، فإن رفع المصروفات الدراسية قد تحول إلى عائق بين الأسر وبين التعليم العالي. ومن شأن خدمات رعاية الأطفال المدعومة، بالإضافة إلى زيادة الإعفاءات الضريبية المتعلقة بالأطفال، أن يساعد الآباء على الاحتفاظ بوظائفهم، في حين أن هناك الكثير من الخطوات التي يمكن اتخاذها لجعل التعليم العالي في متناول أيدي الفئات المنخفضة ومتوسطة الدخل من الشعب الأميركي.

وأخيراً، في حين أن تكاليف الإسكان لم تبلغ الحد الذي بلغته الرعاية الصحية، أو أسعار رعاية الأطفال حتى الآن، إلا أنها تجاوزت مستويات الدخل منذ «الكساد العظيم». وفي بعض المدن، باتت المشكلة عند مستوى الأزمة. والخطة الوطنية للإسكان بأسعار معقولة، مثل تلك التي طرحتها السيناتور إليزابيث وارين مؤخراً، من شأنها أن تساعد في الحيلولة دون انتقال أزمة الإسكان الأميركية من المستوى المحلي إلى المستوى الوطني.

++++++++++++

سبع طرق كي يعالج علم الاقتصاد ذاته

ديسمبر 2019


تغير علم الاقتصاد كثيراً في العقد الثاني من الألفية الثانية، وكان أكثر التغيرات جيداً ونحو الأفضل. مع ذلك لا يزال هناك الكثير من الأمور التي ينبغي القيام بها فيما يتعلق بالصورة العامة لهذا المجال الأكاديمي، وسلامة الطرق التي يتبناها، ونجاح توصياته المتعلقة بالسياسات. فيما يلي بعض الطرق التي ينبغي على علم الاقتصاد تجربتها لتغيير ذاته خلال العقد الثالث من الألفية الثانية.

أولاً: إصلاح تعليم الاقتصاد: لقد أصبح البحث الاقتصادي تجريبياً بدرجة أكبر، لكن لم يتوافق ما يتم تدريسه من مواد لطلبة التعليم العالي بعد مع هذا النهج. على سبيل المثال، أوضحت أدلة جديدة خاصة بالحد الأدنى للأجور، وغيرها من السياسات، أن النظرية الأساسية للعرض والطلب، التي يتم تدريسها ضمن المقررات الدراسية التمهيدية لعلم الاقتصاد، لا تمثل وصفاً جيداً لأسواق العمل. كذلك يمنح بعض الكتب الدراسية البارزة علم الاقتصاد فرصة الميل نحو التحرري على نحو كثيراً ما يتعارض مع الواقع.

العولمة تضيق فجوة الثروة

خلال الثمانينات، بدت ثمار الثورة الصناعية مقتصرة في الجزء الأكبر منها على حفنة من الدول في غرب أوروبا وشرق آسيا والولايات المتحدة وأستراليا وكندا. إلا أنه خلال العقود الثلاثة الماضية، حدثت تغييرات دراماتيكية على هذا الصعيد، وتمكنت دول نامية من تحقيق قفزات كبرى في اللحاق بركب الأخرى المتقدمة. ورغم تفاقم التفاوتات داخل بعض الدول، فإن هذه التفاوتات على المستوى العالمي في تراجع.
ويحدث جزء كبير من هذا اللحاق في دول لا تزال فقيرة في الجزء الأكبر منها، مثل الهند وإندونيسيا. وبالنسبة لخبير اقتصادي - أو شخص يهتم بالحد من معاناة الفئات الأكثر فقراً على مستوى العالم - فإن هذا الوضع يعتبر بمثابة معجزة. إلا أنه من وجهة نظر المتشككين في العولمة، فإنهم ربما يتساءلون حول ما إذا كان هذا التغيير يمثل نجاحاً بالفعل بالنظر إلى أن مستويات معيشة أبناء الطبقة الوسطى ما تزال فعلياً مزايا حصرية داخل حفنة من الدول، الكثير منها كانت قوى استعمارية في السابق.
ومع هذا، تثبت بعض الدول خارج مجموعة الدول المتقدمة القديمة المألوفة، خطأ هؤلاء المشككين. ومع أن هذه الدول المتحولة حديثاً نحو الصناعة لم تحقق مستويات المعيشة في الدول المتقدمة بعد، فإنها بالتأكيد في طريقها إلى هناك.
وربما لا يبدو دخل 20 ألف دولار في العام كبيراً مقارنة بأكثر من 45 ألف دولار موجودة بالمملكة المتحدة، والتي كانت أول دولة في العالم تتحول إلى الصناعة. إلا أن هذا المستوى من إجمالي الناتج الداخلي، يعني أن نسبة كبيرة من السكان تتمتع بمسكن مريح وسيارة للأسرة أو وسيلة نقل عامة مريحة، بجانب مستوى جيد من الرعاية الصحية. الأهم من ذلك أن هذا يعني الشعور بالأمن - إدراك أن الغد لن يحمل معه حرماناً مفاجئاً من الطعام أو الملاذ أو القدرة على الحركة أو الوصول إلى الخدمات الأساسية. وبطبيعة الحال، لا يزال داخل هذه الدولة أشخاص يعانون من الفقر، لكن مثلما الحال في دول غنية مثل الولايات المتحدة، لم يعد هذا يشكل العرف السائد.
علاوة على ذلك، لا يبدو أن النمو في هذه الدول بدأ في الثبات عند مستوى محدد. ورغم تحذير بعض الخبراء الاقتصاديين مما يدعى فخ الدخول المتوسطة، فإن معظم الدول المتحولة حديثاً إلى الصناعة تقترب بسرعة كبيرة على ما يبدو من اللحاق بركب العالم الغني بمعدل أسرع عن السنوات التي أعقبت الأزمة الاقتصادية.
وحتى الآن، هناك حفنة فقط من الدول المتحولة حديثاً إلى الصناعة، لكن بالنظر إلى وجود الصين بينها فإنها تشكل نسبة ضخمة من مجمل سكان العالم. إلا أنه عند إمعان النظر في تجارب هذه الدول، تتجلى لنا بعض الدروس المهمة ويزداد الأمل في مستقبل العولمة.
بادئ ذي بدء، من الواضح أن البلدان التي قاربت على الوصول إلى مصاف البلدان المتقدمة تمثل شريحة واسعة من العالم. فماليزيا من الدول ذات الغالبية المسلمة، وهو ما يكذب الادعاءات والأكاذيب الشوفينية الغربية التي ترى أن بعض الثقافات غير قادرة على التحديث. والمكسيك التي أصبحت الآن ذات دخل متوسط قوي، تتحدى الصور النمطية المتعارضة التي لا تزال عالقة في أذهان البعض في الولايات المتحدة. بولندا ورومانيا أيضاً تثبتان أن التعافي من الشيوعية أمر ممكن، والصين هي الأخرى بددت أي شكوك في أن الدول غير الغربية يمكن أن تصبح قوة تكنولوجية. لقد أصبحت هذه الدول مصادر ليس فقط للمنتجات الرخيصة للمستهلكين في العالم الغني، بل أيضاً للابتكارات التكنولوجية المهمة وللطلب المتزايد على السوق وحتى المنافسة.
ثانياً، قصص النجاح لدول مثل ماليزيا والمكسيك تعطي دروساً يمكن أن تساعد البلدان الأخرى على السير على خطاها. من الواضح، على سبيل المثال، أن القرب من السوق المتقدمة الكبيرة أمر مهم للغاية. فدول أوروبا الشرقية قريبة من قلب أوروبا الصناعي القديم، والمكسيك مجاورة للولايات المتحدة وما إلى ذلك.
لكن الصين تظهر أن الجغرافيا ليست مصيراً، فهي تمتلك أسواق تصدير في جميع أنحاء العالم. والدرس المستفاد هو أن الحفاظ على علاقات دبلوماسية جيدة مع البلدان ذات الأسواق الاستهلاكية الكبيرة أمر ضروري، وهو ما يتطلب أيضاً مستوى معيناً من المعاملة بالمثل. ومن المفارقات أن النمو السريع للصين مهدد بسبب حربها التجارية مع الولايات المتحدة، والتي ربما جاءت كرد فعل متأخر على تخفيض الصين لقيمة عملتها بدرجة كبيرة في الحقبة الأولى من الألفية الثانية لنقل الملكية الفكرية الأميركية القسري.
درس مهم آخر هو أن الصادرات المصنعة أمر مهم، حيث لا يمثل أي من البلدان المذكورة مصدراً رئيسياً للموارد الطبيعية؛ فالجميع يركز إما على صنع أجهزة كومبيوتر أو الأجهزة الإلكترونية أو كليهما.
من وسط الدول الصناعية الحديثة، نمت المكسيك بوتيرة أبطأ، وربما كان أحد العوامل المهمة هو صعوبة التحول من اقتصاد قائم على النفط إلى اقتصاد يرتكز على التصنيع. لا توفر الصادرات المصنّعة العمالة الجماعية فحسب، بل توفر فرصة للبلدان لزيادة معرفتها التكنولوجية. فمن خلال إجبار شركاتها على التنافس في الأسواق العالمية، يمكن للدول اكتشاف ما هو جيد فيها ومن ثم تشجع على تحسين إنتاجه، كما أن التحول عن الاقتصادات القائمة على الموارد يساعد على تجنب الخلل المؤسسي الذي يسميه الاقتصاديون لعنة الموارد.
لا شك أن هناك الكثير من الدروس التي يجب تعلمها من هذه البلدان. فالدول النامية الصاعدة مثل بنغلاديش وإندونيسيا وإثيوبيا وتنزانيا يمكنها أن تنجح في دراسة تجارب ماليزيا ورومانيا والمكسيك. وما تظهره قصص النجاح هذه هو أن التصنيع لا يقتصر على منطقة واحدة بعينها أو على البلدان التي كانت ذات يوم إمبراطوريات استعمارية كبيرة.
مع التركيز والمثابرة يمكن لأي دولة القيام بذلك.
* بالاتفاق مع «بلومبرغ»


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق