السبت، 22 أكتوبر 2022

الاحتياج الوجودي.. حاجة الإنسان الحديث إلى الحب

Jan 21, 2021 Sep 10, 2021 Mar 1, 2022 Apr 1, 2022 Apr 19, 2022

  الحلقة الرابعة من الموسم الرابع من مسلسل "المرآة السوداء" (Black Mirror) تحت عنوان "Hang the DJ"، وتدور الحلقة حول تحول عادات العلاقات بين البشر واختيار الشريك والزوج المثالي إلى نظام من الخوارزميات التي تمنح كل شخص مجموعة مستمرة من النصائح والاستشارات حول ما يجب أن يفعل بالضبط في كل خطوة من حياته لاختيار الشريك المثالي، 

تتشابه فكرة حلقة "Hang the DJ" مع فكرة فيلم "جراد البحر" (The Lobster) للمخرج اليوناني يورجوس لانثيموس (Yorgos Lanthimos) والذي يدور حول النظام الجديد للزواج في المجتمع الحديث الذي يقوم بترحيل كل العزاب من المدينة التي يعيش فيها المتزوجون فقط إلى فندق ويمنحهم فرصة لاختيار شريك/شريكة حياتهم، هذه الفرصة موقوتة بمدة محددة يمكن لكل شخص تمديدها عبر اصطياد بشر من الغابة خلال رحلات الصيد التي تنظمها إدارة الفندق للنزلاء، وهكذا ينقسم العالم في الفيلم إلى جزأين: المدينة التي يعيش فيها المتزوجون وتُحرّم الحب أو أي علاقة غير قانونية لا يعترف بها النظام، والبرية التي يعيش فيها المتوحدون والعزاب والحيوانات وتقع تحت سيطرة امرأة تدير تنظيم حديدي يُحرّم على أي شخص يعيش في منطقتهم أن يقيم أي علاقة حب أو جنس أو حتى صداقة، وبين العالمين يقع الفندق وهو أشبه بمركز حوكمة العلاقات بمفهوم ميشيل فوكو، فالفندق هو البوابة الوحيدة التي يستطيع عبرها الشخص المتمدن التحول من أعزب إلى متزوج.

وهذه هي نقطة التلاقي بين حلقة "Hang the DJ" وبين فيلم "جراد البحر" (The Lobster)، ففي القصتين هناك نظام يحدد للإنسان ما يجب أن يفعله بشأن علاقته بالجنس الآخر، هذا النظام قد قام على أنقاض الدين الذي ينظّم للإنسان علاقاته بالجنس الآخر، لكن بينما يحدد الإسلام للبشر القواعد وينهاهم عن المحرمات ويضع عقدا للزواج ملزما للطرفين، تلعب هذه الأنظمة اللا إنسانية بالإنسان لعبة وحشية، فتارة تعامله كحيوان مُدرب أليف وإلا تُلقي به في البراري، وتارة أخرى تضعه في قفص تجارب حسب تقديرات رياضية بحتة لا تفهم الجوهر الإنساني، ويظهر هنا السؤال: إذا كانت تلك الأنظمة لا إنسانية فلماذا نشأت في مجتمعاتنا أو لماذا قد يحكي عنها الإنسان في عمل فني؟

الإنسان الحديث لا يريد أن ينشغل بكل تلك الهموم ولا يضطر لإقامة علاقات طويلة الأمد بمواثيق غليظة تُلقي على كاهله المسؤولية وتمنعه الحرية، إنه الخوف من المسؤولية كما وصفه إيريك فروم، بل هو الخوف من فقدان الأمن والسعادة كما وصفه زيجمونت باومان ، لكن ماذا يتبقى من الحب إذا لم تكن علاقة بين طرفين يتنازل كل منهما عن شيء من حريته، ويصارع كل طرف لبناء بيت آمن سعيد، لكن قبل ذلك ما الحب أصلا؟ هل هو مجرد علاقة أم لذة جنسية؟ هل هو قدرة كامنة في الإنسان أم مجرد مصادفة سعيدة؟

 في العالم الحديث قد اعتدنا على تعريف الحب بأنه "شعور عميق بالانجذاب والإعجاب والتعلق الشديد"، بيد أنه من خلال الحديث مع عديد من الأزواج والزوجات اتضح أن هذا المفهوم مغلوط تماما عن الحب، فكلمة "الحب" التي تعبر عن شعور لحظي أو تعلق أو نشوة شعور مضلل يُخفي حقيقة وجوهر الحب بأنه حياة داخلية فعالة، فأن تحب هو أن تشعر من داخلك بالحب وتحيا وفقا لهذا الشعور العميق.

إن أصدق حب وأول حب يتعرف عليه الإنسان هو حب الوالدين، عندما يمنحانه الحب غير المشروط ليس لأي ميزة تخصه، بل لأنه هو فقط، وعندما يشعر الطفل بعدم وجود ذلك الحب فهو يقول بشكل صادق: "لا يبدو أنكم تحبونني"، فنحن نعلم من داخلنا أن الحب ليس مجرد شعور، بل هو شعور يلقي بظله في عالم الأفعال كي يبدو جليا . لكنه أيضا ليس مجرد كلمة أو قصة علاقة عابرة، فالإنسان يستطيع أن يقول إنه يحب كلبه أو يحب الجبال أو يحب لعبته المفضلة أو ملابسه المفضلة، كل ذلك علاقات ينشئها الإنسان، لكن ليس هذا هو الحب، فالحب علاقة بين شخصين وليس تفضيلا شخصيا، وأن تحب أن تكون محبوبا، هو إيمان بشخص آخر، وهذه هي المشكلة.

وتقع المشكلة تحديدا في أن الحضارة الغربية الحديثة قد وعدت الإنسان بأن تنتهي جميع آلامه ويحقق أقصى تقدم وأقصى سعادة، بيد أن هذا الوعد قد أخفق، لكن لا يزال الإنسان الحديث يرى أن الهدف من الحياة هو السعادة، أي تحقيق أقصى متعة وإشباع أي رغبة او حاجة ذاتية، فالحياة حسب مذهب اللذة الراديكالي هي مجموع اللذات التي تحقق أقصى إشباع للإنسان. ولا يزال الإنسان الحديث يرى أن الأنانية والسعي لتحقيق المصلحة الشخصية والجشع -وهي الصفات التي يولدها النظام من أجل تسيير أموره- تفضي دائما إلى الانسجام والسلام.

 ففي مجتمعنا هذا ولأول مرة في التاريخ، لم يعد إشباع دافع اللذة امتيازا تتمتع به الأقلية، وإنما أصبح متاحا لأكثر من نصف السكان، وقد أجابت تجربة البلاد الصناعية عن هذا السؤال بالنفي، كذلك أثبت الفكر النظري كما أثبتت المعلومات الملموسة خطأ المقدمة السيكولوجية الثانية للعصر الصناعي، والتي تذهب إلى أن السعي لتحقيق المنفعة الفردية يؤدي إلى تحقيق الانسجام والسلام والرفاهية المتعاظمة للجميع".

فالأنانية ليست متعلقة بالسلوك فحسب، بل هي في لب الشخصية، "فهي تعني أنني أريد كل شيء لنفسي، وأنني أجد المتعة في الاقتناء وليس في المشاركة، كما تعني أنني يجب أن أكون جشعا، لأنه إذا كان هدفي هو التملك فإنني أكون أكبر بقدر ما تزيد ملكيتي، ويجب أن أشعر أنني خصم للآخرين جميعا، لزبائني الذين أريد أن أخدعهم، ولمنافسي الذين أريد أن أقضي عليهم، ولعمالي الذين أريد أن أستغلهم، وأنني لا يمكن أن أشبع لأنه لا حد لرغباتي، وأنني لا بد من أن أحسد من يملك أكثر مما أملك، وعليّ أن أخاف ممن يملك أقل.. ولكن عليّ أن أكبت كل هذه المشاعر لكي أقدم نفسي للآخرين كما لنفسي كشخص مبتسم وودود" .

في ظل تلك المقدمات التي يرى الإنسان فيها الحياة كمجموع لملذّاته التي ليس لها حد وكعربة تسوق يجمع فيها مقتنياته، يرى الإنسان "الحب" ومشكلته أنه "موضوع" خارج عنه وليس بداخله، فيظن الناس أن الحب مشكلة بسيطة أو آلية غريزية مثلما شرح آرثر شوبنهاور، لكن أن تجد الإنسان الصحيح الذي تحبه أو الذي يحبك أو الصحيح جسمانيا لعملية التكاثر في نظر شوبنهاور فهي المسألة الصعبة.

أصبح الناس يبحثون عن الحب الرومانسي والتجربة الشخصية للحب التي تفضي إلى الزواج، وهذا المفهوم الجديد للحرية في الحب قد أعلى من "موضوع" الحب على "وظيفة" الحب.

لكن الحرية في الحب قد أفضت إلى فوضى عارمة وخوف رهيب

إيريك فروم أن مشكلة "الحب" ليست مشكلة خارجية، بل هي مشكلة تنبع من الداخل، من داخل الإنسان وقدرته على الحب، فالحب في مفهومه "فن" ومَلَكة، أي بذل وجهد، وليس إحساسا باعثا على اللذة يقع بالمصادفة في لحظة خلاص نهائي وفردوس أرضي تكلل تراكم حظوظ الإنسان الوافرة، بل إن الحب هو ما يُشكّل حلًّا لمعضلة الوجود الإنساني التي أخطأت الحضارة الغربية في الإجابة عنها، فكيف نفهم الحب مفارقا اللذة المادية؟

تحتاج الرأسمالية كنظام اقتصادي واجتماعي قائم إلى تغذية مستمرة من الناس، يحتاج النظام الرأسمالي إلى الناس الذين يتعاونون بشكل هادئ وبأعداد كبيرة، الذين تحركهم غرائز لا محدودة وطموحات لا نهائية، يريدون أن ينفقوا أكثر وأكثر، والذين تصبح أذواقهم متساوية وفق الموضة فيسهل توجيههم بسهولة، "إنها تحتاج إلى أناس يشعرون بأنهم أحرار ومستقلون، وليسوا خاضعين لأية سلطة أو أي مبدأ أو أي ضمير، ومع ذلك يكونون راغبين في أن يأتمروا وأن يفعلوا ما هو متوقع منهم وأن يتلاءموا في الآلة الاجتماعية دون خلاف، والذين يمكن توجيههم بدون قوة، ويمكن أن يقادوا بدون قادة وأن ينتشروا بدون هدف، فيما عدا هدف واحد هو عمل الخير وأن يكونوا في التيار ويعملوا وتستمر الحياة".

والنتيجة هي اغتراب الإنسان عن نفسه، أن يعيش بعدّة وجوه وينافق ويراوغ ويكبت مشاعره كي يحيا يومه، "إنه يعيش قوى حياته على أنها مستثمرة يجب أن تحمل له أقصى ربح ممكن بشروط السوق القائمة"، ويشرح فروم أن العلاقات الإنسانية هي في الأساس تلك العلاقات الخاصة بالأجهزة الآلية المغتربة، فيطبّق الإنسان ما يُفرض عليه داخل المصنع أو المؤسسة أو السوق من أشكال العلاقات على علاقاته الإنسانية، فيقيم أمنه على البقاء قرب القطيع، "وعلى ألا يكون مختلفا في الفكر أو المشاعر أو السلوك. وفي حين أن كل فرد يحاول أن يكون قريبا جدا من البقية بقدر الممكن يظل كل فرد وحده تماما، محاصرا بالشعور العميق بالقلق والزعزعة والإثم… إن حضارتنا تقدم عددا من المسكنات التي تساعد الناس على ألا يكونوا واعين شعوريا بهذه الوحدة: أولها وقبل كل شيء الروتين الصارم للعمل الآلي البيروقراطي الذي يساعد الناس على أن يظلوا لا يعون أشد رغباتهم الإنسانية أساسية والاشتياق إلى التجاوز والاتحاد. وبقدر ما أن الروتين لا ينجح وحده في هذا، يقهر الإنسان قهره بروتين التسلية، الاستهلاك السلبي للأصوات والأضواء التي تقدمها صناعة التسلية".

 إن الإنسان الحديث قريب جدا من الصورة التي رسمها هكسلي في "عالم جديد شجاع": يتغذى جيدا، يكتسي جيدا، يشبع رغباته الجنسية، ومع ذلك فهو بلا نفس" وبلا جوهر، يردد شعار هكسلي "كل إنسان سعيد اليوم"، فشخصياتنا أصبحت جاهزة للمقايضة والتلقي، والمسامرة والاستهلاك، وكل شيء مادي أو روحي على السواء هو موضوع للبيع والاستهلاك والمقايضة.

كذلك الحب، أصابه العطن نفسه الذي في أرواحنا، "فالآلات لا تستطيع أن تحب"، لكنها تستطيع أن تتعاون وأن تُشكّل فريقا رائعا لأداء رقصة ميكانيكية رائعة يصفق لها الجمهور، هكذا أصبح الزواج السعيد يتمحور حول فكرة "الفريق"، فكثير من الأزواج اليوم يعبرون عن زواجهم بجملة "نحن نُشكّل فريقا رائعا"، وهذه الفكرة أتت من المصنع، من صفات العامل الناجح: المستقل بقدر ما، العقلاني، المتعاون، المتسامح، وفي الوقت نفسه طموح وعدواني .

لكن مفهوم "الفريق"، كما يشرح فروم، ما هو إلا تطور حديث لمفهوم الحب القديم الذي يفترض أن "الإشباع الجنسي المتبادل هو أساس علاقات الحب المرضية وخاصة الزواج السعيد. لقد جرى الاعتقاد بأن أسباب التعاسة الكثيرة في الزواج قائمة في أن شريكي الزواج لا يقومان بتكيف جنسي سليم، والسبب في هذا الخطأ قائم في الجهل بالسلوك الجنسي السليم ومن ثم في التكنيك الجنسي الخاطئ لأحد شريكي الزواج أو لكليهما.. والفكرة المتضمنة هنا هي أن الحب هو وليد اللذة الجنسية، وأنه إذا تعلم شخصان كيف يشبعان بعضهما بعضا جنسيا فسوف يحبان بعضهما" 

هكذا يروج الوهم العام لثقافة العصر الحديث أن حل كل شيء داخل التقنية، وأن التقنية الصحيحة ستجلب الحل السحري، لكن فروم يعود ليجادل بأن ذلك غير صحيح، فيقول: "ليس الحب نتيجة الإشباع الجنسي السديد، بل إن السعادة الجنسية -حتى معرفة ما يسمى بالتكنيك الجنسي- هي نتيجة الحب، فإذا احتاجت هذه الأطروحة إلى دليل غير دليل الملاحظة اليومية فإن مثل هذا الدليل يمكن أن نجده في المادة الوافرة لمعطيات التحليل النفسي. إن دراسة معظم المشكلات الجنسية تكرارا -البرود الجنسي عند النساء والأشكال الحادة للعقم النفسي عند الرجال- يبين أن السبب لا يكمن في نقص المعرفة بالتكنيك الجنسي، بل في أشكال الكبت التي تجعل الحب مستحيلا، الخوف أو كراهية الجنس الآخر".

كي نفهم الحب ليس كنزوع جنسي جامح، بل كحياة داخلية فعالة تمكن الإنسان من الشعور بالحب والقدرة على الحب وفعل الحب، علينا أن نترك مفهوم الحب كظاهرة "جنسية" والذي طرحه شوبنهاور ونيتشه وفرويد من بعدهم جانبا، خاصة فرويد الذي كان له تأثير كبير على مفهوم الحب في العصر الحديث، فالحب عند فرويد أساسا ظاهرة جنسية كما يقول: "لقد وجد الإنسان بالتجربة أن الحب الجنسي التناسلي يزوده بأعظم الإمكانيات، حتى لقد أصبح في الواقع نمط جميع السعادة بالنسبة له، ولا بد لهذا أن يدفعه للبحث عن السعادة أكثر عبر درب العلاقات الجنسية، لكي يجعل من الشبق التناسلي النقطة المحورية لحياته".

كما أن فرويد قد فسر الشعور بالاندماج والوحدة الذي هو جوهر التجربة الصوفية وشعور التوحد مع شخص آخر أو مع رفيق على أنه ظاهرة مرضية وترجع إلى حالة "نرجسية لا محدودة" (5)، بل يذهب فرويد بعيدا بأن الحب في ذاته ظاهرة لا عقلانية، ويعلق فروم قائلا: "إن الفرق بين الحب اللا عقلاني والحب كتعبير عن الشخصية الناضجة لا وجود بالنسبة له، لقد أشار فرويد في بحث حول الحب إلى أن تحوّل الحب لا يختلف في جوهره عن الظاهرة "السوية" للحب. الوقوع في الحب هو دائما منحدر على شفا الشذوذ عن السواء، هو مصاحب دائما بالعمى عن رؤية الحقيقة، أما الحب كظاهرة عقلانية، كتحقق يتوج النضج، فقد كان عند فرويد مسألة لا تستدعي البحث حيث إنه لا وجود له" . فإذا كان الحب في عين فرويد مؤسس علم النفس الحديث هو "ظاهرة لا عقلانية" لا تنتمي للمجتمع ولا عالمه المادي ولا هو غريزة جنسية تحصل باللذة، فمن أين يأتي الإنسان بالحب؟

الإنسان يملك روحا، ولكن علم النفس ليس علما معنيا بالروح"، هكذا فهم علي عزت بيغوفيتش الإنسان، كمخلوق مفارق للوجود، فهو لا ينتمي لعالم الحيوان كما قال داروين، ولا ينتمي لعالم الماديات، ولا يمكن كشف أسراره وحياته الداخلية بالكامل كما حاول فرويد ، فيقول بيغوفيتش: "يتعامل علم النفس مع بعض الأشكال الخارجية التي تبدو على أنها حياة جوانية.. إن علم النفس علم "نفس" وليس علم "روح" بمعنى أنه علم على المستوى الحيوي وليس على المستوى الشخصي الجواني، فهناك ثلاث دوائر مختلفة "الآلي، والبيولوجي، والشخصي"، وهي تتطابق مع مستويات ثلاث للواقع "الطبيعة، والحياة، والشخصية الجوانية"… وبدون الدين وبدون فكرة الجهاد الروحي المتصل للإنسان لا يوجد إيمان حقيقي بالإنسان باعتباره قيمة عليا، بدون ذلك ينتفي الإيمان بإمكانية إنسانية الإنسان، أو بأنه موجود على الحقيقة".

في نظر بيغوفيتش هناك عالمان يتقاسمان الإنسان: عالم الآلة، وعالم الفن، لا يمكنهما أن يكونا من أصل مشترك، "إن وجود عالم آخر إلى جانب عالم الطبيعة، هو المصدر الأساسي لكل دين وفن، فإذا لم يكن هنالك سوى عالم واحد لكان الفن مستحيلا.. فإن الفن في صدام طبيعي مع هذا العالم ومع جميع علومه، علم نفسه، وعلم أحيائه، وفي صدام مع صاحبه داروين، وهذه المعارضة في الحقيقة هي معارضة دينية، فالدين والأخلاق والفن فرع سلالة واحدة انبثقت بفعل الخلق الإلهي" (7).

 "طوق الحمامة" حين قال: "فالظاهر أن النفس تولع بكل شيء حسن، وتميل إلى التصاوير المتقنة، فهي إذا رأت بعضها تثبّتت فيه، فإن ميزت وراءها شيئا من أشكالها اتصلت وصحت المحبة الحقيقية، وإن لم تميز وراءها شيئا من أشكالها لم يتجاوز حبها الصورة، وذلك الشهوة" .

 من هنا يمكننا تتبع ماهية ذلك الحب الذي لا ينتمي للعالم المادي، بل هو ينتمي لحياة الإنسان الجوانية والروحية لعالم الفن والجمال،

وقد قسّم ابن حزم الحب لضروب عديدة فقال: "إننا علمنا أن المحبة ضروب، فأفضلها محبة المتحابين في الله عز وجل، إما لاجتهاد في العمل، وإما لاتفاق في أصل النحلة والمذاهب، وإما لفضل علم يُمنحه الإنسان، ومحبة القرابة، ومحبة الألفة والاشتراك في المطالب، ومحبة التصاحب والمعرفة، ومحبة البر يضعه المرء عند أخيه، ومحبة الطمع في جاه المحبوب، ومحبة المتحابين لسر يجتمعان عليه يلزمهما ستره، ومحبة بلوغ اللذة وقضاء الوطر، ومحبة العشق التي لا علة لها إلا ما ذكرنا من اتصال النفوس، فكل هذه الأجناس منقضية مع انقضاء عللها، وزائدة بزيادتها، وناقصة بنقصانها، متأكدة بدنوها، فاترة ببعدها، حاشا محبة العشق الصحيح المُمكن من النفس، فهي التي لا فناء لها إلا بالموت، وإنك لتجد الإنسان السالي برغمه، وذا السن المتناهية إذا ذكّرته تذكر وارتاح وصبا، واعتاده الطرب، واهتاج له الحنين" (8).

"الحب -أعزك الله- أوله هزل وآخره جد، دقّت معانيه لجلالتها عن أن توصف، فلا تُدرك حقيقتها إلا بالمعاناة، وليس بمنكر في الديانة، ولا بمحظور في الشريعة، إذ القلوب بيد الله عز وجل"، ولأن القلوب بيد الله فذلك الحب هو فعل الروح وإيمانها مثلما تؤمن القلوب وتشتعل حماسة لإيمانها، ويصف ابن حزم ذلك قائلا: "وقد اختلف الناس في ماهيته وقالوا وأطالوا، والذي أذهب إليه أنه اتصال بين أجزاء النفوس المقسومة في هذه الخليقة في أصل عنصرها الرفيع..

 حب الله هو منبع شعور الحب، 

يشرح إيريك فروم ذلك قائلا: "وكما أن الآلات لا تحب بعضها فإنها كذلك لا تستطيع أن تحب الله، إن تفكك حب الله قد وصل إلى القضايا عينها التي وصل إليها تفكك حب الإنسان. هذه الحقيقة هي في تناقض صارخ مع فكرة أننا شهود مقاومة دينية في هذه الحقبة، إن ما نشهده بالرغم من وجود بعض الاستثناءات هو ردة إلى مفهوم صنمي أعمى عن الله، وتحول حب الله إلى علاقة تلائم بناء شخصية مغتربة، إن الردة إلى مفهوم صنمي أعمى عن الله سهل أن نراها، إن الناس قلقون بدون مبادئ أو إيمان، إنهم يجدون أنفسهم بدون هدف فيما عدا هدف التحرك قدما، ومن ثم يواصلون في أن يظلوا أطفالا، ليأملوا في أب أو أم لمساعدتهم عندما يكونون في حاجة إلى العون" (9)، فإذا كان حب الله هو منبع شعور الحب، فبأي معنى نفهم ذلك؟

 ابن تيمية في عمقها فيقول: "وكل حركة في العالم العلوي والسفلي فأصلها المحبة" 

 الإنسان يتعاطى بعض المكروهات لأجل المحبة، فمثلا يشرب الدواء المر، لأجل محبة الصحة والعافية، وكذلك المؤمن يُحب رحمة الله ونجاته فيترك الهوى، وترك الهوى شيء ثقيل على النفس، لكن لأجل النجاة ومحبة الجنة"، وقال: "ولهذا كان رأس الإيمان الحب في الله والبغض في الله، وكان من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله؛ فقد استكمل الإيمان

وهذا الحب عند ابن تيمية هو منبع عقيدة الروح

 الإنسان كي يستطيع أن يتوحد مع الناس بشكل يحفظ شخصيته وإنسانيته فهو يجب أن ينفصل أولا عن نفسه، أن يتعالى على غرائزه، وهذا الانفصال هو مصدر كل قلق كما يقول فروم، لأنه يجعله مسؤولا مسؤولية كاملة عن أفعاله وأخلاقه، وأن يجعل ضميره مسلطا عليه بشكل دائم، فيشعر الإنسان بالإثم والعار والندم، وهو شعور مؤلم، يقول فروم: "جرى التعبير عن تجربة الإثم والعار هذه في قصة آدم وحواء، فبعد أن أكل آدم وحواء من شجرة المعرفة في القصة الإنجيلية، وبعد أن عصيا عرفا الخير والشر فلا يوجد خير وشر إن لم توجد حرية المعصية، وبعد أن صارا إنسانيين عن طريق تحررهما من التناغم الحيواني الأصل مع الطبيعة.. فرأيا أنهما عاريان فشعرا بالخجل" (12)، وهذا أول شعور مركب من شعور الإثم والعار والندم يشعره الإنسان.

وبعد أن أصبح الرجل والمرأة واعيين بنفسيهما وبكل منهما الآخر "أصبحا واعيين بانفصالهما وباختلافهما بقدر أنهما ينتميان إلى جنسين مختلفين.. إن إدراك الانفصال الإنساني بدون الاتحاد من جديد عن طريق الحب هو مصدر العار، وهذا الوعي هو في الوقت نفسه مصدر الإثم والقلق".

مشكلة قهر الإنسان لذاته المهيمنة عليه ولفرديته المطلقة التي تريد أن تتناغم مع الطبيعة ومع المجموع، وتريد أن تحبس الإنسان في سجن عزلته الداخلية لتنمو الغرائز وتسيطر. هي مشكلة الإنسان الحديث وهي مشكلة الإنسان في كل عصر، لأنها تنبع من الأصل نفسه، من روح الإنسان واحتياجها وموقفها الغريب في عالم لا تنتمي له، فينفجر قلق الإنسان وينزع لتسكين آلامه الداخلية بعدة إجابات عن سؤال الوجود، "وتتنوع الإجابة بين عبادة الحيوان أو التضحية الإنسانية أو بالغلبة العسكرية أو الانغماس في الترف، أو الانعتاق الصوفي، أو بالعمل المفرط، أو بالخلق الفني"، وأخيرا بحب الله ومن ثم حب الإنسان.

فحب الله هو مكمن وجوهر إرادة الإنسان، لأنه يقدم إجابة تخص روح الإنسان وتشفي عليل قلقها الناتج من وجودها في عالم لا تنتمي له، وهو يحفظ اختلاف الإنسان ويقاوم أقدم أشكال الاتحاد الروحي الذي عرفته البشرية وهو الاتحاد في المجموع، "الاتحاد القائم على التطابق مع الجماعة وعاداتها ومعتقداتها.. إنها وحدة خضوع تختفي فيها النفس الفردية إلى حد كبير، ويكون الهدف فيها أن تمت هذه النفس إلى القطيع، فإذا كنت أشبه كل شخص آخر، إذا كنت بلا مشاعر أو أفكار تجعلني مختلفا، إذا كنت ممتثلا في العادات والزي والأفكار لأنموذج الجماعة، فإنني أكون قد أُنقذت، أُنقذت من التجربة المرعبة للوحدة، وتلجأ الأنظمة الديكتاتورية إلى التهديد والتخويف لفرض هذا الامتثال والانسحاق، وتلجأ الدول الديمقراطية إلى الدعاية والبروباغندا" (12) لتنميط الناس وتوحيدهم ومقابل ذلك توفر لهم الاندماج في الملذات والعربدة

وفي المجتمع الرأسمالي الحديث يسير تيار استئصال الفروق، ومن هنا ظهرت دعاوى مساواة الرجل بالمرأة، "فالرجال والنساء يصبحون سواء ولا يصبحون متساوين كأقطاب متقابلة، والمجتمع المعاصر يروج لتلك المساواة لأنه يحتاج إلى ذرات إنسانية تعمل في نعومة هائلة دون انقسام ولا تمييز، وكلها تطيع الأوامر نفسها، ومع ذلك فإن كل شخص مقتنع بأنه إنما يتبع رغباته"

من الأشكال التي قدمتها الحضارة الغربية الحديثة عن سؤال الوجود ولتقليل آلام الروح وإشغالها هو روتين العمل وروتين اللذة، "إن الإنسان يصبح غارقا في العمل، ولا يكون له بادرة من تلقاء نفسه إلا بشكل واهن، وإن مهماته إنما يرتبها تنظيم العمل، بل حتى مشاعره تكون مرتبة: الاحتفاء، التسامح، التعويل، الطموح، وقدرة على التمشي مع كل إنسان بدون صدع ولا خلاف". وهناك طريق ثالث للحصول على الوحدة من خلال النشاط الإبداعي، "ففي أي نوع من العمل الخلاق يوحد الشخص المبدع نفسه مع خامته التي تُمثّل العالم خارج نفسه، وسواء كان النجار يعمل منضدة أو الصائغ قطعة من الجواهر، وسواء كان الفلاح يزرع قمحه أو الرسام يطلي صورة، فإننا نجد أن في جميع أنماط العمل الإبداعي أن العامل وموضوعه يصبحان شيئا واحدا، فالإنسان يوحّد نفسه مع العالم في عملية الخلق" 

ينتهي فروم إلى أن "الوحدة المتحققة في العمل الإنتاجي ليست وحدة بين أشخاص، والوحدة المتحققة في الاندماج العربيدي وحدة مؤقتة، والوحدة المتحققة في طريق الامتثال ليست سوى وحدة زائفة، ومن ثم فهي ليست إلا حلولا جزئية لمشكلة الوجود، ويكمن الحل الكامل في تحقيق الوحدة بين الأشخاص، تحقيق الاندماج مع شخص آخر في الحب".

هذه الرغبة في الاندماج مع روح أخرى هي أكبر توقان لدى الإنسان، فهي أشد عواطفه جوهرية، وهي القوة التي تُبقي الجنس البشري متماسكا وكذلك القبيلة والأسرة والمجتمع، "وبدون حب لا يمكن للإنسانية أن تبقى يوما واحدا"، لكن الحب ليس فقط جوهر الإنسان بوصف الحب فعل روحه كما شرح ابن حزم، بل هو القوة المحركة للوجود كما قال ابن تيمية، وهي دافعه لتحقيق إنسانيته ومقاومتها للأشكال التي تفرضها الحضارة الغربية والأنظمة الشمولية والديكتاتورية، من هنا نعيد النظر لنهاية حلقة "Hang the Dj" عندما قام فرانك وإيمي بعصيان نظام الاستشارات والقفز خارج أسوار النظام كله، هكذا الحب هو تمرد الروح على أي شكل مادي يريد قمعها.

*Jun 12, 2021

تفاعلات كيميائية وراء مشاعر الحب الجياشة

Apr 15, 2021

الأوكسيتوسين يعتبر الهرمون المسؤول عن الشعور بالحب والرضا والثقة والنشاط الجنسي ويحمل اسم هرمون الحب.

أثبت العلم المعاصر أن هذه المشاعر الجياشة ما هي إلا تفاعلات كيميائية داخل الجسد يحركها هرمون يطلق عليه اسم أوكسيتوسين، والذي يكون في أعلى مستوياته عند وقوع الإنسان في الغرام. وتساءل الخبراء عن إمكانية تخليق هذا الهرمون مخبرياً وتحويل إكسير الحب الأسطوري إلى منتج يباع في الأسواق.



حسب موقع “سايكولوجي توداي” يعد الأوكسيتوسين الهرمون المسؤول عن الشعور بالحب والرضا والثقة والنشاط الجنسي، وهو يحمل اسم “هرمون الحب”، وذلك لأن مستوياته تزيد أثناء المعانقة والعلاقات الحميمة.

يشير الأطباء إلى أن الأوكسيتوسين ناقل عصبي يساهم في الناحية الصحية بشكل عام ويلعب دوراً هاماً في الولادة والرضاعة الطبيعية، وهو أيضاً مسؤول عن تقلصات الرحم أثناء المخاض. ويرتبط الأوكسيتوسين أيضاً بالتعاطف والثقة والنشاط الجنسي وبناء العلاقات.

يشير الأطباء إلى أن الأوكسيتوسين قد تكون له فوائد علاجية لعدد من الحالات المرضية، بما في ذلك الاكتئاب والقلق والمشاكل المعوية، وفق موقع “ميديكال نيوز توداي” الطبي.

الخبراء أن المشاعر الرومانسية تعتمد على توليفة معقدة من المواد الكيميائية.

عندما يكون التقدم مؤلما.. والرجوع مؤلما… والوقوف أشد ألما. فماذا نفعل؟ تتقبل الالم 

عندما تكون بقرب شخص تحبه، ستجد نفسك لا إراديا تقلد طريقة تحركاته وحديثه وتستعير عباراته المميزة.

*

المهارات الاجتماعية

الأوكسيتوسين

يجعلنا الترابط الزوجي "مكرسين تماما" لشركائنا، وهو ما يقلل من سلوكيات البحث عن شريك جديد 
هرمون الحب

*



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق