انحراف كيانات يسارية عن الخط التقدمي يقودها للالتقاء مع الإخوان
متجاهلا الاختلاف الفكري الذي يضع التيارين في دائرة العداء
الأيديولوجي وليس التحالف التكتيكي
بمراجعة مواقف وأطروحات أســـماء
يســـارية كبيرة مثل، حسن حنفي وعادل
حســـين ومحمـــد عمـــارة ومحمـــد جلال
كشـــك، نجد انخراطـــا ُمريبـــا دون ّ تعقل
ولا منطقية في لعبة الإســـلام السياسي،
وخلطا وتشوشـــا في الرؤية وجمعا بين
متناقضات
كيف يدعو أحدهم إلى الشورى والعدل
الاجتماعي وهو متحمس لمبدأ الحاكمية
ولمشـــروع الخلافة الدينية؟ وكيف ينادي
بالنهضة وهو يكرس للســـلفية التقليدية
الجامـــدة ويمجد التيار ّ المتطرف ويدافع
عـــن الإرهابيين؟ وكيف ّ يـــؤرخ آخر لرواد
التنويـــر مثل رفاعة الطهطـــاوي ومحمد
عبده، وهو ّ يتطفل على مقولات سيد قطب
وأبوالأعلى المودودي عارضا وســـاردا لا
محللا وناقدا؟
ترجـــع أســـباب ّ تحـــول هـــؤلاء إلى
صفوف الإسلام السياسي لرغبة البعض
منهـــم فـــي الحفاظ علـــى تواجـــده على
الســـاحة كمفكر ذائع الصيت مع صعود
أســـهم التيار الديني، وتحقيق طموحات
أخفق البعـــض منهم فـــي تحقيقها أيام
ماركســـيتهم الغابرة، علاوة على السعي
إلى تحقيق مكاســـب سياسية وانتخابية
عبـــر ّ تملـــق مشـــاعر الجماهيـــر الدينية
بنزع اللافتة الاشـــتراكية ورفع شعارات
إسلامية، ولم تكن خافية وقتها الإغراءات
المادية الضخمة مع تنامي الدعم الهائل
لعموم التيار اليميني
أثـــرت المحـــاولات الفكريـــة الجادة
والبعيدة عـــن النزعـــات البراغماتية في
هذه المســـألة، كتجربة سيد قطب المنظر
الإخواني الشهير قبل انقلابه على الثورة
ونظام الرئيس الراحل جمال عبدالناصر،
فالرجـــل حينمـــا عـــاد مـــن الولايـــات
المتحدة صار شـــديد العداء للرأســـمالية
والمجتمع الذي ّ يتبنى أفكارها، وشـــديد
الحماس والتأييد للاشـــتراكية والعدالة
الاجتماعية.
عاد قطب لا ليكتـــب في الأدب والنقد
بل في ”العدالة الاجتماعية في الإسلام“،
ثم ”معركة الإســـلام والرأسمالية“، وهو
من أخطـــر كتبه حيث يعقد فيه ً حلفا بين
الإســـلام والشيوعية، مســـتبعدا التلاقي
بين الإسلام والرأسمالية
واعتبر الشـــيوعية اجتهـــادا للبحث
عـــن العـــدل لكنهـــا أقحمت نفســـها في
الـــكلام عن الدين بغير ّ مبرر وعادته بغير
مقتضـــى، فـــي الوقت الـــذي وصلت فيه
إلى العدل الاجتماعي والاقتصادي الذي
هو أهم أهـــداف الدين، وخلـــص إلى أن
الشيوعية لو ّ تخلت عن فكر الإلحاد الذي
ليس من ضـــرورات المذهب، ولا يتطلبه
الفكر الاقتصادي لالتقت مع الإســـلام في
العدالة الاجتماعية
عندما فقد الرئيس عبدالناصر، سيد
قطـــب كمفكر للثـــورة لصالـــح الإخوان،
وفي حين هاجم ُ إخوان مصر اشـــتراكية
عبدالناصر ووصفوهـــا بالكفر والإلحاد،
ورأوا أن قوانيـــن الإصـــلاح الزراعـــي
عدوانـــا علـــى أمـــوال النـــاس وأكلا لها
بالباطـــل، لجأ إلى تقريب مرشـــد إخوان
سوريا مصطفى السباعي الذي وجد فيه
العوض عـــن قطب وإخـــوان مصر، فقام
بالتنظير الفكري لمشـــروعه ّ وألف كتابه
الشـــهير ”الاشتراكية والإســـلام“، ضمن
مقاربـــة مفادها أن الاشـــتراكية هي عين
الإسلام ولا تناقض بينهما فكلاهما قائم
على العدل الاجتماعي
هـــذه المقاربـــات وغيرهـــا، مثـــل
أطروحـــات روجيـــه غـــارودي وعلـــي
شـــريعتي، ربما لم تؤثر بشـــكل رئيســـي
في مســـار ّ تحـــولات وخيـــارات الأجنحة
اليســـارية المعاصرة، لكنهـــا لعبت دورا
وأعطـــت انطباعا بإمكانيـــة التلاقي على
مشـــتركات، في حيـــن ظلت مجـــرد غطاء
وذريعة لدى جماعات الإســـلام السياسي
لتســـويغ مغازلة القوى التقدمية والإدعاء
أمـــام قواعدهـــا بامتلاكها فكـــرا منفتحا
ولتحســـين صورتهـــا والاســـتفادة مـــن
طاقات الكيانات الاشـــتراكية وحماستها
الثورية
علـــى الرغم من الـــرأي المبدئي الذي
ّ تبناه غالبية اليســـار الاشـــتراكي بشـــأن
جماعة الإخوان في أربعينات وسبعينات
وثمانينـــات القرن العشـــرين، باعتبارها
جماعة رجعية ذات طبيعة فاشية ومعادية
للحقوق الاجتماعيـــة وللنضال العمالي،
ذهـــب البعض منهم إلـــى اعتبارها حركة
تقدمية في مواجهـــة الإمبريالية الغربية
ّ ونظروا لثـــورات دينيـــة وطائفية كثورة
الخميني في إيران، بوصفها فعلا تقدميا
نضاليا هدفه الانتصار للمستضعفين
الشـــعار الـــذي رفعه هارمـــن ّ وتبنته
بعـــض أجنحة اليســـار الاشـــتراكي في
مصر منذ العـــام 2005إلى اليوم هو ”مع
الإســـلاميين أحيانا ودائما ضد الدولة“،
وهو المبدأ الذي لم يحقق به اليساريون
ّ أي مكســـب مع تيار يســـعى إلى السلطة
دائما، مســـتعينا أحيانا بجهود كيانات
وأحزاب مدنية تعتنق قيما تقدمية.
كيف يتفق أن يكون اليسار الاشتراكي
مع الإســـلاميين ولو لفترات وهم أحيانا
مع القوى التقدمية والمدنية فقط في حال
أزمتهـــم وصدامهم مع الأنظمة، بينما هم
مع الدولـــة دائما حال التقـــاء المصالح،
كما جرى علـــى فترات ممتـــدة مع الملك
فاروق وحكومـــة إســـماعيل صدقي قبل
ثـــورة يوليـــو 1952فـــي مصـــر، ثـــم مع
نظام الرئيس الســـادات والرئيس مبارك
ضد المعارضـــة الديمقراطيـــة بما فيها
التيارات الاشتراكية؟
علـــى الرغم من عراقة وســـبق التيار
اليســـاري فـــي مصـــر وارتبـــاط رموزه
بقضايـــا الاســـتقلال والتنويـــر الفكري
والنضال الثوري وإقامة مجتمع العدالة
الاجتماعيـــة والانتصـــار لطبقـــة العمال
والفلاحين، غير أنه لم يتدرج في مســـار
ّ مستقل بشكل متماسك وباتجاه الصعود
والنمو والتطوير، وصولا إلى بناء كيان
مســـتقل يـــوازي أو يقتـــرب مـــن جماعة
الإخوان
يدفـــع اليســـار الاشـــتراكي ثمنـــا
باهظـــا ّ ويلوث ســـمعته النضالية وفكره
التقدمي الحـــر بالدخول في تحالفات مع
تيـــار رجعي تكفيـــري براغماتـــي، بينما
هناك مجـــالات للتعـــاون والشـــراكة مع
الليبرالييـــن أو القوميين أو الناصريين
فـــي قضايا مختلفة، وهـــو الطريق الآمن
لبناء اســـتقلالية لليسار الاشتراكي على
المســـتوى السياســـي والتنظيمـــي، بما
يؤهله لتطوير نضاله وتصحيح مساره
اليسار المصري.. لطفي الخولي نموذجًا
مصطفي الفقهي
16-10-2019
اليسار المصرى تعبير عام نطلقه على كل من كان رافضًا لآليات النظام الرأسمالى، متحمسًا لقضية العدالة الاجتماعية، وفى الغالب يكون أصحاب هذا التوجه على غير وفاق مع توجهات السياسة الغربية، وإن كان بعضها يتعاطف مع اليسار الفرنسى أحيانًا وبعض ملامح الأطر النظرية للحركة (الفابية) فى بريطانيا، فضلًا عن الإعجاب بمنظومة (دولة الرفاهية) فى السويد، وربما فى غيرها من دول إسكندنافيا، ولذلك فإن تعبير اليسار المصرى ليس قرينًا للحركة الشيوعية المصرية.. نعم إن لديهما جسور تواصل، ولكن يفرق بينهما أيضًا بعض الاختلافات التى قد تبدو جوهرية أحيانًا، ولقد كان لطفى الخولى نموذجًا شامخًا يجسد شخصية اليسار المصرى ويعبر عنها أصدق تعبير، لأن كل تصرفاته كانت تأتى فى إطار الوطنية المصرية قبل أن تأتى فى إطار الأممية الاشتراكية، ولقد أثار الرجل إعجابى منذ كنت طالبًا فى الجامعة، حيث كنا نتابع أخباره ونتلقف أعداد مجلة الطليعة- المجلة اليسارية الرسمية الوحيدة فى وقتها- والتى أسسها لطفى الخولى مع رفيقه ميشيل كامل، ولابد أن أعترف بأن لطفى الخولى كان مثار إعجاب جيلى كله، لأنه كان يجسد نموذجًا يدعو للاحترام مصريًا وعربيًا ودوليًا، كما كان يحظى بشبكة علاقات ضخمة لا تبدأ من الجزائر وحدها ولا تنتهى بفرنسا دون غيرها، كما أن موقف لطفى الخولى من العصر الناصرى يستحق الدراسة والتأمل، فهو يبدو لى مندوب اليسار المصرى فى إطار نظام عبد الناصر مثلما كان- مع الفارق- دور بطرس بطرس غالى، مندوبًا لليمين المصرى لدى ذلك النظام مع مصالحة دائمة برموز العصر الناصرى ومؤسساته السياسية والأمنية على حد سواء، ومن منا لا يتذكر هيئة لطفى الخولى ممسكًا بالسيجار ينفث دخانه فى أناقة وكبرياء؟ ومازلت أتذكر من سنوات عملى فى مؤسسة الرئاسة أنه كان يتلقى هدايا من علب السيجار التى يرسلها إليه أحيانًا الرئيس الأسبق مبارك، من خلال السفير الراحل أسامة الباز، ولقد نصحنى لطفى الخولى ذات يوم ألا أكتب فى أكثر من صحيفة فى وقت واحد، وقال لى بالحرف: إن ذلك يشتت قارئك، وقد ينال من تعلقه بآرائك، ولقد استقدمه لنا صديقه أسامة الباز ليحاضرنا فى معهد الدراسات الدبلوماسية التابع لوزارة الخارجية فى نهايات الستينيات من القرن الماضى، وكان يعجبنى كثيرًا فى لطفى الخولى فكره المتجدد ومبادراته خارج الصندوق تمامًا، وهو الذى تلقف بعض الآراء المعتدلة لليسار الإسرائيلى، محاولًا توظيفها لخدمة الأهداف الفلسطينية وحل الصراع المتأزم فى المنطقة، ولعلنا لانزال نتذكر (مجموعة كوبنهاجن)، التى كان يسانده فيها بعض المثقفين من شباب مصر، أتذكر منهم الآن الصديق د.عبد المنعم سعيد، وكان لطفى الخولى يتميز بالفصاحة وحسن الإلقاء والقدرة على إقناع سامعيه، فضلًا عن حيويته ومساحة الحرية التى ينتزعها انتزاعًا فى كل عهد بشخصيته المقبولة وثقافته الغزيرة واتصالاته الواسعة، كما كان إلى جانب أنه سياسى مرموق فهو يضرب بسهم فى عالم الرواية ودنيا القصة وتعاطى الأدب كاتبًا ومفكرًا ومحللًا للأحداث ومستقرئًا للمستقبل، تراه بين أصدقائه، بدءًا من هيكل وبهاء الدين وصولًا إلى أبناء الذوات ممن اختاروا اليسار طريقًا رغم انتمائهم لبيوت ثرية وعريقة، ولعل النموذج الواضح لذلك كان هو رفيقه الراحل محمد سيد أحمد، ولقد كان لطفى الخولى جريئًا فى رأيه، مقتحمًا بأفكاره لا ينافق مسؤولًا ولا يحمل المباخر لحاكم، ولكنه كان أيضًا معتدل الرأى صافى السريرة يؤمن بالإنسان ويتعاطف مع الطبقات الكادحة فى كل الظروف، ولم يَسْلم بالضرورة من بعض العقوبات الناصرية، والجدير بالذكر هنا أن اليسار المصرى الذى حبس معظم قياداته الزعيم الراحل عبدالناصر هم أنفسهم أكثر الناس ولاءً له وارتباطًا بأفكاره حتى الآن، ولقد اقترن لطفى الخولى بزوجة مصرية منفتحة على النوافذ الأجنبية، وأعنى بها السيدة ليليان- أطال الله فى عمرها- وابنته زوجة الدبلوماسى السابق، والذى كان مرموقًا فى جامعة الدول العربية، خصوصًا على ساحة العلاقات بين العرب وإفريقيا، تلك صفحة مطوية من تاريخ هذه الشخصية التى تستوجب الإكبار وتستحق الاحترام.. رحم الله لطفى الخولى، فقد كان شامخًا فى حياته، عزيزًا بعد مماته.
غياب اليسار يترك الساحة فارغة لجماعات الإسلام السياسي
الشعوب مدفوعة بالثقة والتفاؤل في التخلص من كل أنواع الظلم الاستعماري والطبقي، وكانت كتابات رموز اليسار في الصحافة العربية تتصدر الصحف في بيروت والقاهرة وبغداد ودمشق، وحتى دول المغرب العربي. تنافس فيها اليسار الشيوعي مع اليسار القومي، واتفقا حينا واختلفا أحيانا، لكن نقاش مستقبل الشعوب وتحررها كان محور الكتابات التي حظيت بشعبية كبيرة، من محمد حسنين هيكل كممثل للحقبة الناصرية بمصر في ذلك الحين إلى اليسار الماركسي مثل محمود أمين العالم وإسماعيل صبري عبدالله وسمير أمين وإبراهيم فتحي ومحمد عابد الجابري وإبراهيم نقد ومهدي عامل وحسين مروة وخليل كلفت ورفعت السعيد وعيدروس القصير وصلاح عيسى، وعشرات غيرهم من رموز اليسار في الدول العربية، والذين أثروا الصحافة.
ملأ هؤلاء السمع والبصر من المحيط إلى الخليج، وكان ينتظر كتاباتهم جمهور متعطش ومتحمس للقراءة والمتابعة في زخم فكري وإبداعي امتد إلى الفنون والأدب والسينما.
فالتجربة الناصرية التي أرسى قواعدها الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر تلقت ضربة موجعة إثر هزيمة 5 يونيو 1967، ثم وفاة رمزها في سبتمبر 1970.
تولى أنور السادات الحكم في مصر، وانقلب على نهج ورجال عبدالناصر فيما أسماه ثورة التصحيح في 15 مايو 1971، وبدأت حركات التحرر الوطني تفقد زخمها بعد أن تحولت من الثورة إلى الدولة، بما كانت له انعكاسات متعددة على كتّاب اليسار.
أخذت تخبو تدريجيا أصواتهم في الصحافة العربية وتظهر جماعات الإسلام السياسي، وكان أنور السادات قد أفرج عن قيادات جماعة الإخوان ودعمها لتواجه المنظمات الناصرية والماركسية المسيطرة على الجامعات المصرية، وأفسحت لها منابر صحافية للتعبير عن أفكارها.
شاركت أجهزة الأمن في ملاحقة اليسار ومنع أنشطته، وتتابعت موجات صعود الإسلام السياسي التي بدأت في السبعينات من القرن الماضي، ومع اتساع نفوذ الجماعات الإسلامية تعرض اليسار إلى استقطابين رئيسيين.
الجماعات قوة ثورة بمقدورها أن توحد الجماهير وتقوي مشاركتها، بل وتوحد دول المنطقة تحت راية الإسلام، وتجعل منها قطبا دوليا فاعلا يمكنه أن يواجه الغرب الاستعماري.
في المقابل كان هناك يساريون آخرون يرون فيها حركات رجعية مرتبطة بالاستعمار ومدعومة منه، وتجر الشعوب إلى الخلف والماضي، ووقفت مع صف الدولة لتشارك في حمايتها من جماعات الإسلام السياسي العنيفة والمتصلبة.
انتقل جزء كبير من كتاب اليسار إلى أحد القطبين البارزين على الساحة، ليزداد اليسار ضعفا وتشرذما وانقساما، وظهرت على السطح أعراض أمراضه المزمنة التي كانت متوارية في فترات الصعود والمد الجماهيري.
انهيار الاتحاد السوفييتي ليكون الصدمة الأكبر لكتاب اليسار، فقد سقطت المنارة والداعم الأكبر وفخر الثورات الاشتراكية، وزاد من الأسى تقوقع الثورة الصينية وانكفاؤها على نفسها، ثم اندماجها في السوق العالمية، لتنفرد الرأسمالية بالعالم وتفرض عليه هيمنة تفوق المرحلة الاستعمارية الكلاسيكية بأدوات جديدة. بعضها ناعم، يستغل التطور الكبير في الإعلام والاتصالات والمخابرات، وآخر خشن يستخدم القوة والغزو والحصار الاقتصادي. وظهرت قوى جديدة على الساحة تنافس جماعات الإسلام السياسي النفوذ وترفع رايات حقوق الإنسان وتمكين المرأة وإنصاف المثليين والمتحولين جنسيا والأقليات الاثنية والدينية.
اجتذبت تلك الجماعات قطاعا من كتاب اليسار القومي والشيوعي الذي كان يرزح تحت اليأس والعجز عن العمل العام، والمحاصر من الحكومات وجماعات الإسلام السياسي، وتفرق معظم الكتاب اليساريين بين الاحتماء بالدولة والعمل تحت مظلتها أو الانتقال إلى صفوف جماعات الإسلام السياسي ومراجعة ماضيهم اليساري.
ووجد كتاب آخرون في المنظمات الحقوقية وجمعيات المجتمع المدني ضالتهم، بوصفها ترفع شعارات تحرر إنساني وتقف في صف قطاعات تعاني من الظلم والاضطهاد، وتلقى الترحيب والدعم من الغرب الذي يرى أنها قريبة من منظومة قيم التحرر والحداثة، لكنها تجنبت وضع القضايا الوطنية والطبقية في صدارة برامجها واهتماماتها.
كان كتاب اليسار يحملون عبئا ثقيلا منذ النشأة التي قامت على أيدي جاليات أجنبية أو مثقفين ينتمون فكريا إلى الغرب، فاتسمت حركاتهم ومنظماتهم بالنخبوية، وتركز نفوذهم على أوساط المثقفين والطلاب دون أن يغرسوا جذورهم عميقا في الريف أو الطبقات العاملة، وهي الطبقات المستهدفة وصاحبة المصلحة في الاشتراكية.
بسبب تلك الطبيعة النخبوية كان الانقسام والتنافس من أبرز مظاهرهم، فمجتمع المثقفين والطلاب معروف بنزوعه نحو الفردية والرغبة في الظهور والزعامة، فكانت التصدعات والانشقاقات والخلافات والاتهامات المتبادلة من السمات التي لازمت مسيرة كتاب اليسار، والتي تعود إلى مطلع عشرينات القرن الماضي حيث اقتاتوا على الإنتاج الفكري الأجنبي عموما والأوروبي خصوصا، والذي انعكست مدارسه الفكرية والسياسية على حركة اليسار وكتابه وتوجهاتهم وأزماتهم، وزادتهم انقساما وتناحرا.
لا توجد سوى القليل من الدراسات عن الواقع العربي وسماته واختلافاته، كأن نخبة المثقفين التي قادت اليسار ألبست الواقع العربي أزياء الغرب وأسقطت عليه فكره وقضاياه، ولم تنبت من أعماق وتحديات الواقع العربي مثلما الحال في الكثير من التجارب الأخرى، وأبرزها تجارب دول أميركا اللاتينية التي سعى فيها كتاب اليسار إلى إنتاج النسخة الخاصة من الاشتراكية التي تلائم الواقع -وإن أخطأوا وتراجعوا حينا- وحاولوا التجديد والتجريب على أرض واقع وتربة بلدانها.
اعتمدت معظم التجارب العربية النسخ المستوردة، وأصيب كتاب اليسار القومي بانتكاسات ومشكلات لا تقل فداحة عن الجناح الشيوعي، وإذا كان الطرفان قد تراجعا بشدة وخفت صوتهما إلى حد التلاشي أحيانا فإن تجدد أزمات الرأسمالية وتوحش اليمين المتطرف وانتكاسات الإسلام السياسي بعد “الربيع العربي” يمكن أن تكون قبلة حياة لكتاب وأفكار اليسار العربي، خاصة مع ظهور ملامح تعددية قطبية وتراجع الهيمنة الأميركية وقرب انتهاء تأثيرات الحقبة النفطية.
أي صحوة جديدة لكتاب اليسار مرهونة بالقدرة على مد جذورهم في التربة العربية وإنتاج نسختهم الخاصة وتجاوز الأمراض المزمنة والوقوف على علاجها، ليكون هؤلاء رافدا لنهوض سياسي معرفي وفكري قادر على إنتاج رؤى تلتف حولها الجماهير وترى فيها مخرجا من أزمات المجتمعات العربية نحو أفق أوسع وأكثر عدالة وإنسانية.
تراجُع اليسار الماركسى
اكتسب اليسار العربى سماته النوعية من نشأته فى إطار التبعية الاستعمارية فى بلدان عربية كانت مستعمرات وأشباه مستعمرات. وجاءت تطورات سياسية متنوعة فى منطقتنا وفى العالم طوال أكثر من قرن بسمات مميزة جديدة.
فرض واقع التبعية الاستعمارية قضايا بعينها: فرضت البنية الاجتماعية-السياسية التابعة للاقتصاد الرأسمالى العالمى القضية الوطنية بجانبيها المترابطين: جانب التحرر من التبعية الاقتصادية وخلق مجتمع رأسمالى حديث، وجانب الاستقلال السياسى عن طريق جلاء الاحتلال العسكرى والتحرُّر من الإدارة الاستعمارية.
تصدَّت لقيادة هذه الرأسماليات العربية التابعة حركات وأحزاب استقلالية قومية/وطنية، وبرجوازية صغيرة، أثناء وفى أعقاب الحربين العالميتين الأولى والثانية، وفى فترة ما بين الحربين، كما وقعت انقلابات عسكرية فى سياق قضية الاستقلال الوطنى، بدت معادية للإمپريالية و"الإقطاع" والتبعية الاقتصادية. وفى فترة استقلال المستعمرات فى أعقاب الحرب العالمية الثانية، تحولت هذه الحركات والأحزاب والانقلابات تدريجيًّا إلى طبقات رأسمالية حاكمة: رأسمالية الدولة (من خلال التأميمات) أو الرأسمالية الخاصة أو الشراكة بينهما. وارتفعت شعارات الاستقلال والاشتراكية فضللت الشعوب باسم الاستقلال مرة، وباسم الاشتراكية مرة أخرى.
وكان من المنطقى أن تعجز الرأسماليات القومية/الوطنية التابعة عن تحقيق أىّ شعار أساسى من شعاراتها البراقة، وانتهت إلى التراجع التاريخى الشامل بعيدا عن كلِّ استقلال أو اشتراكية، وساد الاستغلال الفاحش بمعدلات قُصوَى، وتفاقم الفقر والإفقار رغم مكاسب "اشتراكية" ضئيلة سرعان ما تبخَّرت، وعمَّ الفساد الشامل الدولة والمجتمع والسكان، وتدهورت الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، لتؤدى إلى حدود قصوى للديكتاتوريات العسكرية. وتفاقمت مصادرة الحياة السياسية من خلال حظر الأحزاب السياسية اليسارية أو ترويضها وتقزيمها فقامت تعددية صورية متقلصة عدديا، ومنعزلة جماهيريا، وفقيرة فكريا، وانتهازية سياسيا، وذيلية إزاء السلطة الطبقية الحاكمة. ونشأت بيئة صارت مرتعا خصبا للتدهور الثقافى والرجعية الدينية وحركاتها الأصولية الإرهابية الواسعة الشعبية التى يتغذى انتشارها على بؤس الشعب اقتصاديا وفكريا وماديا وروحيا، من ناحية، ومن غياب الحرية، من ناحية أخرى.
وأدى كل هذا إلى تشكُّل رأسماليات تابعة وريعية وبقايا قبل-رأسمالية تسير على طريق التراجع التاريخى الشامل يمس بقاء هذه الشعوب، وليس إلى مجرد التهميش.
وحكمت حدود الثورات الشعبية وأوضاع التبعية القديمة والجديدة فى مصر، على ثورة 19، وعلى تداعيات انقلاب 52 العسكرى، وعلى ثورة يناير 2011، على سبيل المثال، بحدود قاسية وبعيدة عن إحداث تطور جذرى على طريق التصنيع والتحديث والاستقلال والخروج من التبعية. وتكررت هذه المسارات فى مختلف البلدان العربية، وفى مختلف مناطق وبلدان العالم الثالث.
كانت بداية نشأة اليسار العربى ومسار تطوره متزامنين إلى حد كبير مع قيام الاتحاد السوڤ---ييتى، وتعاظُم حركة التحرر الوطنى الاستقلالى فى المستعمرات وأشباه المستعمرات فى إطار التحرر من الاحتلال الاستعمارى والإدارة الاستعمارية، وكذلك فى إطار أوسع من الحركات الشعبية الاستقلالية والاجتماعية المسلحة وخاصة فى الصين تحت راية الماركسية. وكان للإطار الشيوعى واليسارى العالمى تأثيره المنطقى المتمثل فى التبعية اليسارية العربية والعالمية، باستثناءات مهمة، لمركز أو آخر من المراكز الشيوعية، خاصة الشيوعية السوڤ---ييتية، والشيوعية الصينية الماوية، والأورو-شيوعية. كما كان لانهيار ذلك المسار الشيوعى العالمى تأثيرٌ قاصم للظهر على تطور اليسار العربى، مع اتضاح طبيعة الصيرورة الرأسمالية للأنظمة االتى نتجت عن كلٍّ من الثورات "الاشتراكية" والثورات القومية الاستقلالية المسلحة والسلمية فى كل مكان، ومع اتضاح الطبيعة الرأسمالية التابعة للرأسمالية القومية، ومع كل جوانب الانكسارات القومية فى البلدان العربية، خاصة بحكم الانكسارات الأصلية للحركة الشيوعية العربية تحت الضربات القاصمة للظهر لديكتاتوريات رأسمالية تابعة معادية للشيوعية يدعمها تأثير الدعاية الغربية.
كما جلبت معارك الاستقلال الوطنى معها قضية الوحدة العربية التى صارت غاية كبرى دعائية للأنظمة القومية، ولفلول تلك الأنظمة التى عملت على إحياء مراحل استقلالية لتطور الرأسمالية القومية مع الدفاع عنها، وعن سياساتها التى قادت إلى النكسات والانكسارات والهزائم، وحتى عن مغامرات الأنظمة القومية التى جلبت التدخلات والاحتلالات الاستعمارية والصهيونية.
وأدى انهيار الاتحاد السوڤ---ييتى إلى انهيار الحركات الشيوعية واليسارية فى العالم كله. فقد سارت الأحزاب الشيوعية التحريفية السوڤ---ييتية الطراز فى طريق العزلة الجماهيرية المُطْبِقة، فى بيئة سادتها أنظمة الحزب الواحد، أو التعددية الصورية، وتبعية النقابات العمالية والمهنية للدولة، وتصفية الحياة السياسية، ومحاربة الثقافة، وترويض المثقفين واليساريِّين، ومع الزمن، وبفضل بيئة اجتماعية وسياسية وثقافية صارت جاهزة، تشكلت وتطورت جماعات الأصولية الإسلامية، التى هيأت جماهير واسعة لتبنِّى فكر الإسلام السياسى فى غياب يسارٍ أضعفته ضربات أمنية قاصمة، وتطورات اجتماعية وثقافية غير مواتية، جنبا إلى جنب مع التبعية الفكرية لليسار الماركسى بأغلبيته الساحقة إزاء التحريفية السوڤ---ييتية والأيديولوچيا القومية فى آنٍ معا.
وصار اليسار يعنى أحزابا شيوعية ضعيفة أيديولوچيًّا وعدديا وشعبيا، وتحريفية فكريا وسياسيا، باستثناءات قليلة وضعيفة، أىْ أن اليسار صار يعنى "فلولا" للشيوعية العربية، إلى جانب "فلول" أيديولوچيات الرأسمالية القومية التابعة، كالناصرية، والبعثية بجناحيها السورى والعراقى، وحركة القوميِّين العرب التى كانت لها على كل حال امتدادات أفضل فى فلسطين وعدن. وصار هدف اليسار القومى العربى هو الاستقلال من الطراز القومى الناصرى والبعثى، مع بعض الانتقادات المبعثرة. وعلى عكس الناصرية التى صارت ناصرية الشارع بعد رحيل عبد الناصر، ظلت الأنظمة القومية تمثل طموح بعث صدام حسين حتى إعدامه، وبعث حافظ الأسد وشبله بشار، إلى توسيع مناطق نفوذهما وخلق امتدادات مباشرة لحكمهما، الأمر الذى يجرِّد الكثير من هذه الأحزاب والحركات "اليسارية" من صفة اليسار، فهى شعبية إلى حد ما ولكنها قبل كل شيء امتدادات لنفوذ رأسماليات قومية تابعة للرأسمالية العالمية.
كانت النتائج السياسية للضعف العددى والجماهيرى والأيديولوچى لليسار العربى الشيوعى فادحا على رؤيته للحاضر والمستقبل وتجاهُله لمقتضيات كبح التراجع التاريخى، وعدم إدراكه لأبعاد الكارثة التى تعيشها شعوبنا وبلداننا، والعجز، بالتالى، عن الاستفادة بالثورات والانتفاضات والانفجارات الشعبية فى تحقيق مستويات من الديمقراطية الشعبية من أسفل رغم الدور الكبير لليسار الشيوعى والطليعة الشبابية الديمقراطية فى التمهيد لها وتفجيرها وتطويرها والسير بها إلى الأمام.
بدَّد افتقار اليسار العربى، وغير العربى، إلى رؤية علمية ناضجة للثورات العربية الراهنة، جنبا إلى جنب مع ضعف تأثيره الجماهيرى، وقوة الثورة المضادة المتمثلة فى الأنظمة الحاكمة والإسلام السياسى الأصولى، فرصة تاريخية لتحقيق مستويات من الديمقراطية الشعبية من أسفل، وساعد على هذا التقصير بقوة واقع أن أنظار الثوار ظلت شاخصة إلى أعلى نحو أحلام وأوهام استيلاء هذه الثورات على سلطة الدولة، ومع تبدُّد أوهام ثورة التوقعات والنكسات؛ طرأت على قطاعات كبيرة من اليسار حالة من الإحباط اقترنت فى كثير من الأحيان بمواقف يسارية طفولية وعدوانية.
ترتبط مصائر هذه الثورات بمقتضيات طبيعتها، وبغياب المفهوم النظرى للثورة الشعبية، وبالتالى لقوانين تطورها، بالتباسات مفهوم الثورة حتى فى النظرية الماركسية مع أنها قدمت مقدمات كافية لفهم الثورة دون نجاح فى مفصلتها، بل أحاطتها بنصوص ملتبسة حتى عند ماركس ذاته، رغم إنجازات الماركسية فى مجال الممارسة العملية الثورية فى كل مكان، وفى تطور التاريخ العالمى الحديث، وفى تطور العلوم الإنسانية والآداب والفكر طوال هذا التاريخ.
كانت كل رأسماليات اليسار القومى التابعة ديكتاتوريات عسكرية. وكانت الكتب الماركسية تؤكد لنا أن الديمقراطية البرچوازية شكل من أشكال الديكتاتورية الطبقية، ولكننا لم ندرك أبعاد هذه المقولة ولم نكتشف إلا فيما بعد الطابع المزدوج لهذه البلدان حيث توجد ديكتاتورية عسكرية من أعلى تفرضها الطبقة الرأسمالية الحاكمة، وديمقراطية شعبية من أسفل تتطور بالتدريج نتيجة لمقاومة وتضحيات الطبقة العاملة وباقى الطبقات الشعبية، بحيث تتمثل حالة الديمقراطية فى محصلة هذا الصراع. وكان لغياب مفاهيم الديكتاتورية العسكرية والحكم العسكرى والديمقراطية أثر كبير فى تشوُّش شعارات ومطالب صيغت بوهم الديمقراطية، بل حتى بوهم تحقيقها من خلال ما سُمِّى بإعادة بناء مؤسسات الدولة الديمقراطية.
وإذا أوجزنا ملامح بعض ما حققه اليسار الماركسى، طوال تاريخه الطويل، الذى يبدأ ﺑ--- ماركس نفسه، وبمؤسسى هذه النظرية وواضعى المبادئ العامة لإستراتيچيات وتاكتيكات الممارسة الثورية، سنجد ما يلى:
وضع ماركس والمؤسسون نظرية اقتصادية واجتماعية وفلسفية أحدثت قطيعة مع كل نظرية سابقة، وصارت أعمالهم، وبالأخص رأس مال ماركس، أساسا من أسس الفكر العالمى بكل أيديولوچياته فى الاقتصاد السياسى والفكر الاجتماعى ونظريات، وحتى ممارسات، الفكر الجمالى والنقد الأدبى والآداب والفنون فى كل مكان؛ وكان هذا هو الإنجاز الكبير الذى تحقق وتمَّ على أساسه بناء نظريات والقيام بممارسات كبرى منذ ذلك الحين. وبدون النظرية الماركسية ما كان من الممكن أن يكون الفكر الفلسفى والاجتماعى والجمالى فى العالم كله بالنضج الحالى.
وقد تطورت الحركة العمالية والنقابية ونضالاتها بفضل تأثير الفكر الثورى الماركسى، وكما يعرف الجميع فقد حققت تلك النضالات نجاحات وإنجازات كبرى، ولا يمكن أن نتصوَّر بدون الدور الذى لعبته الماركسية وامتداداتها فى الممارسات النضالية ما حققته الطبقات الشعبية فى كل مكان فى مجال الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والحريات النقابية والسياسية، كما يتجلى فى مستويات المعيشة والأجور والتأمين الصحى والاجتماعى والنقابات القوية والأحزاب السياسية العمالية وتحسين شروط العمل والتطور الحاسم فى قدرتها التفاوضية على برامجها المطلبية. وبهذا تمَّ إرساء وترسيخ أُسُس أرضية اجتماعية لكل النضالات الحالية والقادمة.
ثم قطعت نضالات الحركة الاشتراكية خطوة كبرى إلى الأمام بثورات القرن العشرين المسماة بالثورات الاشتراكية. وكانت لقيام الاتحاد السوڤ---ييتى والصين الشعبية ودول أخرى نتائج تاريخية منها إنقاذ معظم شعوب هذه البلدان وبالأخص روسيا والصين من المصير المأساوى لبلدان العالم الثالث، وذلك بفضل التطوير الجذرى لقوى الإنتاج فى هذين البلدين.
ورغم الإطار الذى تحققت فيه هذه الإنجازات: رأسمالية الدولة البيروقراطية والحكم الديكتاتورى الاستبدادى المتطرف (الحكم الستالينى على سبيل المثال الصارخ)، كان للدور الاقتصادى والسياسى الذى لعبته هذه البلدان أثر كبير على تطوُّر العالم. ذلك أن المساعدة الاقتصادية والتقنية والسياسية التى قدمها الاتحاد السوڤ---ييتى للصين الشعبية ولبلدان "اشتراكية" أخرى، وكذلك لبلدان العالم الثالث كانت حاسمة فى تحقيق مستويات متعاظمة من التقدم والصمود أمام عدوانية الغرب الإمپريالى.
وقام الاتحاد السوڤ---ييتى بدور حاسم فى نشأة وتطور الأحزاب الشيوعية فى الغرب الرأسمالى المتقدم كما فى العالم الثالث التابع؛ وكان لهذه الأحزاب رغم مختلف مشكلاتها البنيوية، ورغم تبعية أغلبها للخط السوڤ---ييتى، دور تاريخى فى التطور السياسى والاجتماعى والثقافى والجمالى لكل البلدان على ظهر الأرض، وباختصار ... تحددت حالة العالم الراهن بالدور اليسارى التاريخى للماركسية وامتداداتها فى الحركة العمالية والبلدان والأحزاب والحركات الاشتراكية.
على أنه كان لا مناص من أن تنفجر ذات يوم فقاعة الإطار التحريفى لهذه الماركسية. وكشف انهيار الاتحاد السوڤ---ييتى وتوابعه حقيقة رأسمالية الدولة التى كانت تختفى وراء شعارات الاشتراكية. ثم دخلت هذه البلدان فى نفق مظلم فتراجعت قدرتها على مساعدة بلدان العالم الثالث، وبالأخص انهارت معه الأحزاب الشيوعية فى كل مكان وكأنها قصور من ورق. على أنه لا يمكن اعتبار تحريفية الماركسية وتراجُعها السبب وراء التراجع التاريخى للعالم الثالث، وتراجع قدرة الماركسية على تغيير العالم، والتراجع النسبى والمؤقت لدور الماركسية فى الفكر العالمى، لأن التاريخ لا يسير إلى الأمام بفعل التطور الفكرى وحده، ولا بد من أن نأخذ فى الاعتبار البنية المادية الاجتماعية-الاقتصادية التى حكمت وما تزال تحكم عليه أعمق تناقضاته بالتراجع بين رأسمالية عالمية تعيش أزمة ركودها المزمن، وعالم تابع يهدِّده تراجعه التاريخى بالانهيار الشامل لأنه يخضع لنتائج قانون "ثورة سكانية بدون ثورة صناعية".
وتمثلت نتيجة ذات أهمية قصوى من نتائج تشخيص وممارسات الماركسية وبالأخص اللينينية لطبيعة عصرنا بوصفه عصر الإمپريالية والثورة الپروليتارية فى اتجاه اليسار الشيوعى العالمى نحو تأسيس نظرياته وممارساته على فرضية أن الثورة الپروليتارية على الأبواب. وصحيح أننا كنا وما نزال فى عصر الإمپريالية، ولكننا لم نكن مطلقا ولسنا الآن فى عصر الثورة الپروليتارية. خاصة إذا فهمنا الثورة الپروليتارية على أنها على الأبواب. والحقيقة أن نضالات سياسية وعمالية لليسار الشيوعى تأسست على هذا التشخيص طوال ما يزيد على قرن ونصف. وكان هذا يؤدى إلى ممارسة كل نضال طبقى على أنه فى سياق ثورة پروليتارية وشيكة. ويتمثل العيب الجوهرى لاتباع هذا التشخيص المضلل فى أن النضالات تركز إلى جانب حقائقها، على أوهام تُبدِّد التركيز الضرورى على برامج قابلة للتحقيق فى المدى المباشر إلى جانب النضال الفكرى الاشتراكى الطويل الأمد. وصحيح أن نضالات كبرى جرت فى سياق هذا التشخيص غير أن المحصلة كانت مختلفة دائما عنه. فقد ناضل كلٌّ من الحزبين الشيوعيين السوڤ---ييتى والصينى وغيرهما فى سياق تشخيص الثورات الاشتراكية الوشيكة، غير أن التطور الفعلى لهذه الأنظمة كان رأسماليا فى جوهره وغارقا فى الفساد، وديكتاتوريًّا وپوليسيًّا واستبداديًّا فى حكمه، وكان من المنطقى أن تكون المحصلة النهائية لتلك الثورات هى الرأسمالية المافياوية الصريحة السائدة فى هذه البلدان. ولولا هذا التشخيص ما كان من الممكن على سبيل المثال أن يتحول الصراع السياسى الصينى-السوڤ---ييتى إلى صراع أيديولوچى أدى إلى انقسام خطير فى الحركة الشيوعية العالمية. ويمكن القول إن الحيرة التى عذبت الثوار والمثقفين واليسار الشيوعى إزاء مسألة طبيعة الثورات العربية الراهنة ترجع إلى أوهام ترتبط بمقولة عصر الثورة الپروليتارية.
كانت ثورات ما يسمَّى بالربيع العربى اختبارًا حاسمًا لحالة اليسار المصرى والعربى فى واقعه الحالى. ورغم الدور الكبير لذى لعبه ثوار اليسار كشرارة ساعدت على انطلاق هذه الثورات الشعبية الكبرى والسير بها إلى الأمام، عجز اليسار، بحكم ضعفه العددى والسياسى والجماهيرى والفكرى، عن خلق ركائز باقية من الديمقراطية الشعبية من أسفل باعتبارها أدوات نضالات قادمة. غير أن النتائج الفعلية المأساوية لهذه الثورات تمثلت فى حروب أهلية مدمرة فى سوريا وليبيا واليمن، بنتائجها الكارثية التى ستمتد لأجيال قادمة، ليس فى المحل الأول بسبب غياب اليسار، أو فشله فى تنظيم حزب يسارى كبير موحَّد، أو لقوة الإسلام الإخوانى-السلفى، بل بحكم قانون حدود الثورات الشعبية، طوال التاريخ.
سؤال كيف ينهض اليسار فإنه مرتبط بالتطور الاجتماعى لعالمنا الثالث، والأمل معقود على أن ينمو ويتطور ويتوصَّل فى خضم صراعاته الطبقية وتطوره الفكرى إلى تصورات أكثر إدراكا لإطار النضال الطبقى، بحيث لا يسير وراء أوهام الثورات الپروليتارية الوشيكة. وعندما يتحرر الفكر اليسارى الشيوعى من أوهام الاشتراكية الوشيكة يغدو من المحتمل أيضا أن تتحرر الممارسة الثورية من قيودها الفكرية الثقيلة.
*
مقدمة عن اليسار العربي والثورات العربية
وقد نشأ اليسار في سياق الإطار الاقتصادي السياسي العام المتمثل في التبعية الاستعمارية في بلدان عربية كانت أغلبها مستعمرات وبعضها أشباه مستعمرات، سيطرت عليها جميعا الإمپرياليتان البريطانية والفرنسية، باستثناءات مثل إيطاليا في ليبيا. وكان من المنطقي أن يفرض واقع التبعية الاستعمارية المباشرة وغير المباشرة قضايا بعينها: فرضت البنية الاجتماعية الاقتصادية التابعة للاقتصاد الرأسمالي العالمي القضية الوطنية بجانبيها المترابطين: التحرر من التبعية الاقتصادية وخلق مجتمع رأسمالي حديث يقطع الطريق أمامه القفصُ الاستعماري الحديدي، والاستقلال السياسي عن طريق طرد الاحتلال العسكري والتخلص من الإدارة الاستعمارية لهذه البلدان العربية.
في هذا الإطار نشأت رأسماليات عربية تابعة، وانطلقت بقيادتها حركات وأحزاب استقلالية قومية، ونشأت حركات وأحزاب وطنية/قومية لشرائح طبقية برجوازية صغيرة وغيرها بدت متناقضة المصالح ليس فقط مع الاستعمار بل كذلك مع الرأسمالية القومية التابعة، كما وقعت انقلابات عسكرية في سياق قضية الاستقلال الوطني، بدت معادية للإقطاع والرأسمالية التابعة. وعندما جاء زمن استقلال المستعمرات في أعقاب الحرب العالمية الثانية في الأربعينات والخمسينات والستينات تحولت هذه الحركات والأحزاب والانقلابات تدريجيًّا إلى طبقات رأسمالية حاكمة كرأسماليات دولة أو رأسمالية خاصة أو كشراكة بينهما. وكان لا مناص من أن تبقى البلدان العربية في إطار التبعية الاقتصادية بحكم بنية اقتصادها رغم شعارات الاستقلال، وذلك بسبب العائق الاستعماري المباشر، وعقلية مدرسة التبعية االتي تربت فيها هذه الرأسماليات الجديدة التي تكونت من أنقاض الرأسماليات الكولونيالية السابقة، وارتفعت شعارات استقلالية وحتى اشتراكية ضللت الشعوب باسم الاستقلال مرة، وباسم الاشتراكية مرة أخرى.
كان من المنطقي والتاريخي أن تعجز الرأسماليات الوطنية/القومية التابعة عن تحقيق أيّ شعار كبير من شعاراتها البراقة، وانتهت هذه البلدان إلى التراجع التاريخي الشامل بعيدا عن الاستقلال والاشتراكية، بحكم طبيعتها الرأسمالية، وساد الاستغلال الفاحش بمعدلات بالغة الارتفاع، وعمَّ الفساد الشامل للدولة والمجتمع والسكان، وتدهورت الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، لتؤدي إلى حدود قصوى للديكتاتوريات العسكرية والبوليسية، وتفاقم الفقر والإفقار رغم مكاسب اشتراكية مزعومة، وتفاقمت مصادرة الحياة السياسية من خلال حظر الأحزاب السياسية اليسارية والليبرالية أو ترويضها وتقزيمها فقامت تعددية صورية متقلصة عدديا ومنعزلة جماهيريا وفقيرة فكريا وانتهازية سياسيا وذيلية للسلطة الطبقية الاستبدادية، وكل هذا باسم الديمقراطية السليمة أو الديمقراطية الاجتماعية، وبفضل متلازمة الفقر والجهل والمرض نشأت بيئة وخيمة صارت مرتعا خصبا للتدهور الثقافي والرجعية الدينية وحركاتها الأصولية الجهادية الإرهابية الواسعة الشعبية االتي يتغذى انتشارها على بؤس الشعب اقتصاديا وفكريا، ماديا وروحيا.
ويمكن إيجاز بعض الخصائص النوعية المميزة لليسار العربي ونضالاته في عدد من الجوانب الأساسية:
يتلخص تاريخ البلدان العربية في العصر الحديث في إخضاعها للإمبريالية البريطانية والفرنسية، ونشأة رأسماليات قومية تابعة فيها، وعجْز تطورها الاقتصادي بحكم تبعيته وكذلك عجْز ثوراتها بحكم طبيعتها كثورات شعبية خالصة استقلالية أو احتجاجية على الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للجماهير الشعبية، بعيدا عن أن تكون ثورات اجتماعية-سياسية، عن إخراج هذه البلدان من حظيرة التبعية، وعن كل تحديث اقتصادي أو ثقافي. وأدى كل هذا إلى تشكُّل ما يسمَّى بالعالم الثالث ببلدانه االتي تسود فيها رأسماليات تابعة وريعية وبقايا قبل-رأسمالية تسير على طريق التراجع التاريخي الشامل، مثل باقي بلدان ما يسمَّى بالعالم الثالث، ليس إلى مجرد التهميش بل إلى ما هو أخطر لأنه تراجع تاريخي يمس بقاء هذه الشعوب.
وحكمت أوضاع التبعية القديمة والجديدة في مصر، على سبيل المثال، على ثورة 19، وعلى تداعيات انقلاب 52 العسكري، وعلى ثورة يناير 2011، بحدود قاسية وبعيدة عن إحداث تطور جذري على طريق التصنيع والتحديث والاستقلال والخروج من التبعية. وتكررت هذه المسارات في مختلف البلدان العربية.
وكانت بداية نشأة اليسار العربي ومسار تطوره متزامنا إلى حد كبير مع قيام الاتحاد السوڤ---ييتي وقيام ما سُمِّيَ بالمعسكر الاشتراكي، واندلاع حركة تحرر وطني واستقلالي واجتماعي في المستعمرات وأشباه المستعمرات في إطار التحرر من الاحتلال الاستعماري والإدارة الاستعمارية، وكذلك في إطار أوسع من الحركات الشعبية الاستقلالية والاجتماعية المسلحة وخاصة في الصين تحت راية الماركسية. وكان للإطار الشيوعي واليساري العالمي تأثيره المنطقي المتمثل في التبعية اليسارية العربية والعالمية، باستثناءات مهمة، لمركز أو آخر من المراكز الشيوعية، خاصة الشيوعية السوڤ---ييتية، والشيوعية الصينية الماوية، والشيوعية الأوروپية، في فترات مختلفة. كما كان لانهيار ذلك المسار الشيوعي واليساري العالمي، على تطور اليسار العربي، مثل اليسار في كل العالم، تأثيرٌ قاصم للظهر، مع اتضاح طبيعة الصيرورة الرأسمالية للأنظمة االتي نتجت عن كلٍّ من الثورات "الاشتراكية" والتحررية المسلحة في كل مكان، وكذلك مع اتضاح الطبيعة الرأسمالية التابعة للرأسمالية القومية، ومع كل جوانب الانكسارات القومية في البلدان العربية، خاصة بحكم الانكسارات الأصلية للحركة الشيوعية العربية تحت الضربات القاصمة للظهر لديكتاتوريات رأسمالية تابعة معادية للشيوعية تحت التأثير الفكري والسياسي الغربي.
وأدى انهيار الاتحاد السوڤ---ييتي والمعسكر "الاشتراكي" وحركة التحرر الوطني إلى انهيار الحركات الشيوعية واليسارية، على طريقة الدومينو في كل العالم بشماله وجنوبه، بشرقه وغربه، وكان التأثير النوعي لذلك كارثيا على الأحزاب الشيوعية ذات التوجه السوڤ---ييتي التحريفي، فسارت في طريق العزلة الجماهيرية المُطْبِقة، في بيئة سادتها أنظمة الحزب الواحد، والرأي الواحد، والنقابات العمالية والمهنية التابعة للدولة، وتصفية الحياة السياسية بالوسائل البوليسية والإدارية، ومحاربة الثقافة، وترويض المثقفين واليساريِّين، وبالأخص، ومع الزمن، وبفضل بيئة اجتماعية وسياسية وثقافية صارت جاهزة، الصعود الصاروخي لجماعات الأصولية الإسلامية الإرهابية باستغلال النتائج السياسية والثقافية لأوضاع متلازمة الفقر والجهل والمرض التي هيأت جماهير واسعة لتبنِّي الفكر الرجعي للإسلام السياسي في غياب يسارٍ أضعفته ضربات أمنية قاصمة وتطورات اجتماعية وثقافية غير مواتية.
ومن خصائص اليسار العربي، واقع أن معارك الاستقلال الوطني بقيادة الرأسمالية القومية جلبت معها قضية الوحدة القومية العربية التي صارت هدفا مباشرا للأنظمة القومية الفاشية الطراز، ولفلول تلك الأنظمة التي عملت على إحياء مراحل استقلالية لتطور الرأسمالية القومية مع الدفاع عنها، وعن سياساتها التي قادت إلى الانكسارات والهزائم والنكسات وإحكام الخضوع للرأسمالية الاستعمارية، وتبرير الديكتاتوريات العسكرية-البوليسية االتي أقامتها بنفس الحجة القديمة المتمثلة في ما يُسَمَّى بالديمقراطية الاجتماعية، وحتى عن مغامرات الأنظمة القومية التي دمرت الأمة العربية، وجلبت التدخلات والاحتلالات الاستعمارية والصهيونية.
وصار اليسار يعني أحزابا شيوعية ضعيفة أيديولوچيًّا وعدديا وشعبيا، وتحريفية فكريا وسياسيا، باستثناءات قليلة وضعيفة، أيْ أن اليسار صار يعني "فلولا" للشيوعية العربية القديمة السوڤ---ييتية الطراز، إلى جانب "فلول" أيديولوچيات الرأسمالية القومية التابعة، كالناصرية، والبعثية بجناحيها السوري والعراقي، وحركة القوميِّين العرب التي كانت لها امتدادات أفضل في كثير من الأحيان. وبطبيعة الحال فإن هدف اليسار القومي العربي هو الاستقلال على طريق الناصرية والبعثية، مع بعض الانتقادات المبعثرة، وعلى عكس الناصرية التي صارت ناصرية الشارع ولم تَعُدْ ناصرية الحكم الرأسمالي التابع الشمولي بعد رحيل عبد الناصر ونظامه، امتدت أعمار الأنظمة القومية البعثية العراقية والسورية فظلت تمثل طموح عراق بعث صدام حسين حتى إعدامه، وسوريا بعث الأسديْن حافظ ونجله بشار إلى يومنا هذا، إلى توسيع مناطق نفوذهما وخلق امتدادات مباشرة لحكمهما، الأمر الذي يجرِّد الكثير من هذه الأحزاب والحركات من صفة اليسار.
وكانت النتائج السياسية للخصوصية النوعية للضعف العددي والجماهيري والأيديولوچي لليسار العربي الشيوعي فادحا على رؤيته للحاضر والمستقبل وتجاهله لضرورات إيقاف التراجع التاريخي، وعدم إدراك أبعاد الكارثة التي تعيشها شعوبنا وبلداننا، والعجز، بالتالي، عن الاستفادة بالثورات والانتفاضات والانفجارات الشعبية وعن تحقيق فاعلية يسارية قوية وممتدة خلالها في مجال الاستفادة منها لصالح الشعوب، رغم الدور الكبير لليسار الشيوعي والطليعة الشبابية الديمقراطية في التمهيد لها وتفجيرها وتطويرها.
وعندما جاء زمن الثورات العربية، منذ نهاية 2010 في تونس وبداية 2011 في باقي بلدان الثورة، أدى الافتقار إلى رؤية ثورية ناضجة لهذه الثورات لدى اليسار العربي، مضافا إلى ضعف تأثيره الجماهيري، إلى عدم إدراك أن الثورات تتجه إلى التراجع، بحكم عفوية الثورة والضعف الفكري والجماهيري لليسار، وقوة الثورة المضادة التي تمثلت في الأنظمة الحاكمة وجماعات الإسلام السياسي الأصولية، وضاعت فرصة كبرى لتحقيق مستويات من الديمقراطية من أسفل، بحكم الأنظار الشاخصة إلى أعلى بأحلام وأوهام استيلاء هذه الثورات بطبقاتها العمالية والشعبية على سلطة الدولة، ومع تبدد أوهام ثورة التوقعات سيطرت على قطاعات كبيرة من اليسار حالة من الإحباط اقترنت في كثير من الأحيان بمواقف يسارية طفولية زاعقة.
وترتبط مصائر الثورات العربية الراهنة مهما تنوعت أحوال هذه البلدان والثورات بطبيعة هذه الثورات وبالتالي بطريقة فهمنا لهذه الطبيعة. وفي غياب فهم عميق لطبيعة هذه الثورات، وفي غياب الوضوح النظري الكافي لمفهوم الثورة وطبيعتها، وبالتالي قوانين تطورها، حيث تكتنف الالتباسات مفهوم الثورة وطبيعتها حتى في النظرية الماركسية التي قدمت مقدمات كافية لفهم الثورة دون أن تنجح في مفصلتها تماما، بل أحاطتها بنصوص ملتبسة وبالغة التشوش عند ماركس ذاته وعند باقي مؤسسي الماركسية وكذلك عند باقي مفكري الماركسية، رغم إنجازات الماركسية في مجال الممارسة العملية الثورية في كل مكان، وفي تطور التاريخ العالمي الحديث، وفي تطور العلوم الإنسانية والآداب والفكر طوال هذا التاريخ.
وبالطبع فإنه لا يمكن القول بأن عدم فهمنا لطبيعة هذه الثورات هو ما حدد مصائرها المتمثلة في اتجاهها إلى التراجع والانحسار. بل يتمثل ما حدد كل شيء في "الطبيعة الموضوعية للثورة" وليس في فهمنا لمسألة طبيعة الثورة. غير أن غياب نظرية واضحة ومتمفصلة عن مسألة طبيعة الثورة وبالتالي عن طبيعة ثوراتنا الراهنة كان له أثره العميق على قدرتنا على الاستفادة من هذه الثورات.
ولهذا بالذات فإنه لا مناص من وقفة متأنية تحاول إعادة النظر في مفهوم الثورة وطبيعتها ومصائرها، دون جمود عقائدي أو تعصب مذهبي. ولا أحد ينكر أن الثورات العربية حيّرت كل العقول المفكرة بشأن طبيعتها، وتراوحت الآراء بشأن كونها ثورات اجتماعية أو سياسية بل حتى بشأن كونها ثورات أو انتفاضات أو هبَّات أو احتجاجات أو تمردات أو هوجات، كما سمعنا وقرأنا جميعا. وعلينا أن نخلع على باب هذا الجحيم النظري كل رأي مسبّق، مدركين أننا لا يمكن أن نتناول هذه المسألة بقدر كافٍ من النجاح في مثل هذه العجالة المكتوبة للتنبيه، لا أكثر ولا أقلّ، إلى مسألة محورية من مسائل الثورات.
والثورة ببساطة تغيير، أو بالأحرى تغيُّر، جذري ينقل مجتمعا في بلد أو بلدان من نظام/نمط اقتصادي اجتماعي إلى نظام/نمط اقتصادي اجتماعي. وهذه هي الثورة الاجتماعية أو الثورة الاجتماعية-السياسية. ففي فترة هبوط نمط/نظام اجتماعي قائم يبدأ في التكوين والصعود نمط/نظام اجتماعي جديد. وبالتالي فإن الثورة الاجتماعية-السياسية ليست عاصفة عاتية تنقضّ فجأة تحت سماء صافية، وليست ضربتها العنيفة المفاجئة، لأنها تغيير/تغيُّر تدريجي بطيء يحدث في الاقتصاد، في الصناعة والزراعة والسوق والعلم والفكر والأدب؛ إلخ.. بصورة مترابطة ومتمفصلة للغاية وتكون نتيجتها في التاريخ الحديث والمعاصر تشكُّل واكتمال نظام/نمط إنتاج رأسمالي بصناعته وثمار صناعته في كل فروع الاقتصاد، وبطبقاته الاجتماعية الجديدة التي لم تكن موجودة من قبل؛ كالطبقة الرأسمالية وطبقة البروليتاريا، بالعلاقات بين هذه الطبقات، وهذه العلاقات هي التي نقصدها بتعبير السياسة.
وهذه العمليات الاقتصادية-الاجتماعية-السياسية البطيئة التدريجية التراكمية هي االتي ينبغي أن نسميها ثورة لأنها تؤدي إلى ثورة كاملة في المجتمع من حيث كونه مجتمعا. والنتيجة الاجتماعية-الاقتصادية لاكتمال هذه العملية هي المجتمع الجديد، الرأسمالي في التاريخ الحديث. والثورة هي كل هذه العملية التراكمية ولا سبيل إلى اختزالها في نتيجتها المتمثلة في المجتمع الجديد، الرأسمالي، وكل خطوة في هذه العملية جزء لا يتجزأ من الثورة. فالثورة هي الطريق، أيْ العملية التراكمية، فلا تقتصر على النتيجة التي تتوِّجها. إننا هنا إزاء التراكمات الكمية التي تؤدي إلى تغيُّر كيفي، حسب قول شهير لهيجل.
ويعترضنا هنا نصٌّ شهير لماركس في معرض حديثه، في رأس المال، عن "عملية تحوُّل أسلوب الإنتاج الإقطاعيّ إلى أسلوب إنتاج رأسماليّ": "العنف قابلة كل مجتمع قديم حامل بمجتمع جديد". فما المقصود بالعنف؟ إننا نفهمه عادة على أنه يتمثل في ثورة الجماهير الشعبية، ولكنْ هل يمكن أن يكون ماركس قد قصد به شيئا آخر؛ وأعني به اكتمال العملية التاريخية كما يمكن أن نفهم من عبارة هيجل؟
غير أنه يوجد نص آخر شهير لماركس يوحي بأن المقصود بالعنف هنا هو الثورة "السياسية"، أيْ ثورة جماهير الطبقات الشعبية من ناحية وانتقال سلطة الدولة من الطبقة الحاكمة في نمط الإنتاج القديم إلى الطبقة التي ستغدو حاكمة في نمط الإنتاج الجديد. ذلك أن ماركس يؤكد في نص آخر أن "كل ثورة تلغي المجتمع القديم [...] ثورة اجتماعية، وكل ثورة تلغي السلطة القديمة [...] ثورة سياسية".
ويصف ماركس ثورة 1789 الفرنسية العظمى بأنها ثورة اجتماعية، وإذا أخذنا بهذا فإن الثورة الفرنسية تكون قد جمعت بين الثورة الاجتماعية والثورة السياسية. ومعنى هذا أن ماركس يصف العملية التراكمية ونتيجتها بالثورة. وهنا يبدو أن الثورة الاجتماعية (في لحظة اكتمال تحوُّل المجتمع) تقترن بالثورة السياسية (في لحظة انتقال السلطة من الطبقة الإقطاعية إلى الطبقة الرأسمالية).
وهنا تتشابك وتتباعد مفاهيم أساسية. فإذا افترضنا أن الثورة الاجتماعية عند ماركس لا تتمثل في العملية التراكمية بل في نتيجتها الاجتماعية، وأن الثورة السياسية تتمثل في انتقال السلطة، نكون قد سلَّمنا بأن المقصود بالثورة الاجتماعية يتمثل في تلك اللحظة التاريخية الوجيزة التي لا تتجاوز سنوات معدودة والتي يتحول فيها المجتمع والاقتصاد وتنتقل فيها سلطة الدولة. وبهذا سيكون المقصود هو أن حدث 1789 هو الثورة الشعبية في فرنسا في تلك السنة وفي جانب من تطوراتها في سنوات تالية. وهنا تتشابك مفاهيم الثورة الاجتماعية والثورة السياسية والثورة الشعبية، ويغدو السؤال: إلى أيّ مدًى تتلاقى مضامين هذه المفاهيم مع وجودها المادي وتطوراتها الفعلية على الأرض؟ وبعبارة أخرى يغدو السؤال: هل تنفصل هذه الوقائع المادية على الأرض أم تأتي كلها مجتمعة معًا؟
وإذا أنعمنا النظر في ثورات التاريخ الحديث فإننا سنجد أن هذه التطورات الأرضية تنفصل ولا تجتمع في نفس اللحظة. فهناك ثورات رأسمالية عديدة (أيْ ثورات اجتماعية) حدثت بدون ثورات شعبية على النمط الفرنسى، وهناك "ثورات شعبية" لا تُحصى ولا تُعَدّ لم ترتبط بانتقال المجتمع إلى الرأسمالية، ولا بانتقال سلطة الدولة من طبقة تنتمي إلى نمط إنتاج قديم إلى طبقة تنتمي إلى نمط إنتاج جديد (أيْ ما يُسمَّى بالثورة السياسية).
ومن الجليّ أن هذه "الثورات" لم تجتمع في اللحظة التاريخية لحدث 1789، كما بدا الأمر لماركس. بل الحقيقة أن اجتماعها وانفصالها يحدثان بطريقة مختلفة تماما. فالعملية التراكمية لتطور الرأسمالية تجمع بصورة تراكمية تدريجية بين الجانبين الاجتماعي والسياسي للثورة الرأسمالية. فالسياسة هي العلاقات بين الطبقات الاجتماعية. وتولد هذه الطبقات مع التطور الاقتصادي التراكمي للرأسمالية وتنتقل سلطة الدولة أيضا خطوة خطوة وبالتدريج البطيء من الطبقة الحاكمة الإقطاعية إلى الطبقة الرأسمالية. ولم يكن انتقال السلطة في الثورة الفرنسية انتقالا من طبقة إقطاعية، رغم وجود بقايا إقطاعية ومنها سلطة الملك، ورغم أن سلطة الدولة بالمعنى الحقيقي كانت قد انتقلت بالتدريج إلى الطبقة الرأسمالية الصاعدة التي انتقلت إليها السلطة في اللحظة التاريخية للثورة الشعبية. وهنا درس تاريخي مهم من الثورة الفرنسية: الثورات الشعبية لا تنقل سلطة الدولة إلى الثورة، بل إلى قيادتها إذا كانت هذه القيادة طبقة رأسمالية، في سياق ثورة رأسمالية.
فماذا بقي للثورة الشعبية؛ أيْ ثورة الغضب والاحتجاجات على الأوضاع المادية والسياسية لحياة الطبقات الشعبية؟ وكنتُ قد دأبت في السنوات الماضية على وصف الثورة المصرية الراهنة بأنها ثورات "سياسية" بعيدة كل البعد عن سياق الثورة الاجتماعية وكنت مخطئا تماما. والآن أصف الثورة المصرية والثورات العربية الأخرى بأنها ثورات شعبية وليست ثورات اجتماعية أو بالأحرى ثورات اجتماعية-سياسة تتجسد في العملية التاريخية التراكمية البطيئة. وتتنوع الثورات الشعبية ولكنها لا تأتي حاملة معها ثورات اجتماعية أو سياسية؛ أو بالأحرى ثورات اجتماعية-سياسة.
فما هي إذن قصة انتقال سلطة الدولة في فرنسا من طبقة إلى طبقة في سياق ثورة شعبية خالصة؟ والقصة بسيطة وقد يكون جانب منها مفاجئا لنا للغاية. فهي بسيطة للغاية لأن السلطة لم تنتقل في سياقها لأنها كانت قد انتقلت من خلال الثورة الاجتماعية-السياسية التراكمية الطويلة من الإقطاع إلى الرأسمالية، ولم يكن انتقال السلطة من الملك إلى البرجوازية إلا إجراءً جزئيا، ولم يكن بفعل ضرورة ثورية لأن الملك يمكن أن ينسجم مع النظام الرأسمالي كما انسجم معه الإمبراطور نابوليون بونابرت والبوربون والأورليان.
أما الجانب الذى يمكن أن يفاجئنا والذي ينبغي أن نفكر فيه جيدا فهو أن الثورة الفرنسية لم تكن ثورة ضد الإقطاع بل كانت ثورة داخل نطاق الطبقات الاجتماعية التي خلقتها العملية التاريخية للثورة الاجتماعية-السياسية التي كانت قد قضت على الإقطاع الذي كان قد زال منذ وقت طويل. بل كانت ثورة شعبية/احتجاجية للطبقات العاملة والشعبية والفقيرة ضد الطبقة الرأسمالية التي استغلتها زمنا طويلا. وككل ثورة شعبية عاشت الجماهير الشعبية أوهام الحرية والإخاء والمساواة وبثورة توقعات هائلة؛ وإذا بنظام رأسمالي على طريق الاكتمال يسيطر على السلطة والاقتصاد، فصارت فرنسا مجتمع استبداد واستغلال وفساد، بل تحولت فرنسا إلى إمبراطورية استعمارية بدأت بالجزائر. ولكن الشعب الفرنسي كسب ليس من الثورة بل من نضاله قبلها وأثناءها وبعدها في سبيل ديمقراطية شعبية من أسفل. وعلى من يزعم الآن أن فرنسا بلد ديمقراطي أن يدرك أنها بلد مزدوج تحققت فيه فاعلية الطبقة الرأسمالية؛ أيْ الديكتاتورية العسكرية الرأسمالية الاستغلالية الاستبدادية من أعلى، وفاعلية الطبقة العاملة والطبقات الشعبية، أيْ الديمقراطية الشعبية، من أسفل. ونفس الشيء في كل البلدان الرأسمالية المتقدمة.
وعندما نتقدم أكثر في تأملنا سنجد أن الثورة الرأسمالية هي على وجه التحديد ما يتحدث عنه ماركس بوصفه ما يُسَمَّى بالتراكم الرأسمالي البدائي، ففي هذا على وجه التحديد تتجسد العملية الرأسمالية التراكمية.
وكانت حيرتنا الكاملة أمام الثورة ترجع إلى غياب مفهوم نظري واضح عن طبيعة ثوراتنا الراهنة، بحكم غياب مفهوم نظري واضح متمفصل عن الثورة عند ماركس، وبحكم تقديس الجمود العقائدي عند أفضل المفكرين الماركسيين في العالم للنصوص، في هذا المجال بالذات، رغم إنجازاتهم الكبرى في مجالات أخرى، بدلا من إعمال الفكر بحرية، وذلك خوفا من كابوس الزلل.
16 سبتمبر 2014
*
Feb 23, 2021
*
Apr 21, 2021
Jul 23, 2021
قطب ثالث
تآكل دور اليسار ونفوذه، بعد أن ملأ الأرض والفضاء ذات مرحلة، وباعتباره الجهة المطالبة أكثر من غيرها، بتولي مهمة تكوين هذا "القطب"، والسهر على ضمان استقلاليته سواء عن "الإسلام السياسي" أو "الدولة العميقة" بمختلف تجلياتها وتمظهراتها.
الاستقطاب واضحاً بين "دولة عميقة" وإسلام سياسي مازال حاضراً بقوة على الرغم مما لحق به من ضربات وهزائم في السنوات السبع الفائتة...أما في دول الأقوام والطوائف والمذاهب، كما هو الحال في لبنان والعراق، فإن الحاجة لهذا القطب تتولد من الحاجة لشق مجرى عابر لهذه الهويات الفرعية وما يترتب عليها من محاصصات قاتلة...وفي الدول التي تتغلب فيها البنى العشائرية والقبلية السابقة للدولة، فإن فكرة القطب الثالث، تبدو تأسيسية لجهة خلق بنية تحتية لدولة مدنية، تقوم على المواطنة المتساوية والفاعلة، تحترم قيم الحرية والديمقراطية ومنظومة حقوق الانسان وتكرس مبدأ سيادة القانون.
مقابل مفهوم "الدولة العميقة"، يصح الحديث عن "مجتمع عميق" كذلك، وهو مصطلح أخذ يتسلل إلى الأدبيات العربية، وإن على نحو خجول، ويُقصد به المجتمعات التي ترتد إلى مكوناتها الأولية، من عرقية وطائفة ومذهبية وعشائرية، أو تلك التي تتشكل من رحمها، بيئات حاضنة للتخلف والتطرف والغلو، وتقف حجر عثرة في وجه التحديث والتمدين، وتغلق نوافذها في وجه رياح التغيير والدمقرطة، وتنبري للدفاع عن "مصالح متخيّلة" ليست في واقع الحال، سوى منافع لفئة محدودة من زعاماتها المحلية وممثليها المفروضين بقوة العادات وروابط الدم والتسلسل الهرمي المتوارث.
في جميع هذه البيئات المتفارقة، ينجح القطبان السائدان في مجتمعاتنا: "الدولة العميقة" و"الإسلام السياسي" في التكيف والتماهي، بل ونرى نجاحات هامة يسجلانها في توظيف كيانات ما قبل الحداثة وروابطها، في خدمة أهدافهما وتجديد بقائهما...وحدها القوى الرافعة للواء التحديث والتمدين والانتقال الديمقراطي، تجد نفسها في أضيق الزوايا، تتعرض لموجات متعاقبة من الاستهداف، من دون أن تقوى على شق مجرى عريض، تصب فيه مختلف روافدها وقواها.
اليسار العربي على حين غرة، بسقوط الاتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي...وطوال عشريتين لاحقتين لـ"الانهيار الكبير"، لم تتمكن فصائله من مراجعة أدبياتها وخطابها، ومن أجرى منها بعض المراجعات، خلص بالغالب إلى ما يمكن وصفه بـ"سلفية ماركسية"، فالأخطاء المقترفة لا تتصل بالماركسية بل بالماركسيين، والعودة إلى "صحيح النصوص" في مواجهة "تحريفية" ماوية أو ستالينية، تذكر بعودة السلفيين إلى الأدبيات المؤسسة للإسلام الأول كما يرونه،* فكرني باماني فؤاد فيما ينظر إلى "الحقبة اللينينية" في التجربة السوفيتية والثورية العالمية، بذات المنظار الذي يعاين منه "السلفي" مرحلة "صدر الإسلام" والتجربة الراشدة في المدينة المنورة.
لم نر كثيراً من المراجعات الجادة لمفهومي "الدولة والثورة"، ولا وقفات أمام نمط الإنتاج الاشتراكي و"ديكتاتورية البروليتارية المتحالفة مع جموع الفلاحين"...ظلت الدولة على حالها: أداة لتنظيم سيطرة الطبقة البرجوازية، وليس أداة لاستحداث التوازن في علاقات القوى الاجتماعية، وإعادة ترميم هذا التوازن عند اختلاله...وظلت الديمقراطية والانتخابات، وسيلة البرجوازية الحاكمة لاختيار من سيُخضع الطبقة العاملة لسطوته لأربع أو خمس سنوات قادمة...وظلت "الثورات قاطرات تجر التاريخ"، تنهض على القطع والقطيعة مع الماضي، بما فيه من بنى تحتية وفوقية، فيما صيغ الحزب السياسي ظلت على جمودها "الستاليني" بوصفه "هيئة أركان الطبقة العاملة والحزب الحديدي"، من دون أن تنفتح على رياح التغيير العاصفة.
*
توفي 2018
محيي الدين في بيان رسمي جاء فيه أن الفقيد كان "رمزا من رموز العمل الوطني في البلاد" منذ اشتراكه في ثورة يوليو وتأسيسه لحزب التجمع اليساري.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق