فالقراءة تنقصها حاسة البصر والسمع والشم وغيرها لتكتمل صورتها. لذلك يتدخل بمعلومات أخرى (معلومات مشابهة للحدث المقروء) من الخيال ليُكمِل الصورة. أما الافلام، فلا تنقصها حواس كثيرة، لا يقوم الدماغ فيها بمحاولات لترسيم الصورة المكتملة. هذه الخاصية في أدمغتنا البشرية تعمل أوتوماتيكياً بمجرد الكشف عن نقص في المعلومات المُستقبلة من المحيط.
عندما أقول لك الكهرباء، ربما ستبدأ بتخيل الأعمدة التي تخرج منها الأسلاك، أو إن كنت داخل المكتب بعملك، تتخيل الأضواء المشتغلة، أو قوانين أوم والتوازي والتوالي إن كنت فيزيائياً. كل كلمة ترسم في عقولنا صورا مختلفة مأخوذة من دوائرنا العصبية التي تشكلت مع طفولتنا الخاصة وتجاربنا السابقة.
الذين يقرأون الكتب هم مميزون أكثر من الذين يشاهدون الأفلام مستوحاة من كتاب معين، لأنهم يستعينون بمخيلتهم الخاصة وتجاربهم السابقة لملء أحاسيس تكون مجردة في الكتب بينما متبينة في الأفلام ومشتركة عند المشاهدين. وهو الأمر نفسه عند الطلاب، فالطلاب الذين يقرأون الكتب المصدرية ويخرجون خارج ما يشرحه الأستاذ وما يبينه، يكونون أكثر إبداعًا من نظرائهم الذين يستعينون بمعلومات الأستاذ وشرحه.
في البداية، شرعت بقراءة الكتيب، ولاحظت أن خيالي بالفعل قد توسع، كل جملة رسمت صورة معينة في خيالي، صورة عن الحياة القديمة، الحياة التي عاشها القدماء، التي عاشها القديس أوغسطنيوس، تأملت الناس الذين تحدث عنهم القديس، أحسست بأنني على اتصال مباشر مع هذا الكاتب دون حائل يحول بيننا وأنا مُسَلمٌ تفكيري إلى حروفه ليرشدني إلى الصورة الصحيحة مستعيناً بتجاربي السابقة الخاصة والمعلومات المميزة المنقوشة في دماغي.
ثم بعدها استمعت إلى الكورس، هنا تغير الأمر، فقد كنت أسمع صوت تشارلز ماثيوز وهو يقرأ الكتيب، أحسست بغرابة لأول وهلة لأني لم أتوقع صوته أن يكون هكذا. لاحظت أنني أركز أيضاً على حال الأستاذ القارئ بدلاً من التركيز كثيراً على النص، راودتني أسئلة كثيرة عمّا يفكر فيه عندما يقرأ هذا الكتاب أو كيف استطاع انتقاء معلومات مهمة وترك الآخر، أو من أي مكان أتى قبل الدخول إلى الأستوديو وتسجيل صوته. لكنني ما زلت متخيلاً للسيناريوهات من خيالي الخاص.
وأخيراً، شاهدت النسخة المصورة من الكورس، ابتعدَت أفكاري وتخيلاتي عن العملية أكثر، حيث كنت مركزاً على الأستاذ وطريقة تحركه من مكان إلى آخر وطريقة كلامه وملابسه وشكله عامةً. كنت أعيش اللحظة مع الأستاذ بدلاً من التفكير في الأحداث التي عاشها القديس أوغسطينوس وعما يتحدث عنه في الكتاب. وكانت هناك بعض صور مرسومة لكنها لم تكن كما أتخيلها من محض تجاربي المميزة.
هكذا اتضح لي في النهاية أن قراءة الكتاب كانت أفضل بكثير من مشاهدة الفيديو عنه، لأنه أعطاني تجربة مميزة من خيالي أنا، وربطت المعلومات الموجودة بالفعل في دماغي مع بعضها، وحفزت عندي مشاعر مألوفة بنكهة جديدة في حدث جديد. ولم يحصل هذا مع الفيديو، في تلك النسخة شاركت الرؤية والأحاسيس مع كل من شاهدها.
علينا أن نختار ما هو مناسب لنا بين الأقسام العديدة للتخيلات لكي نقتطف أحسن المعلومات وأنفعها، فليس هناك قسم معين مفيد في شتى الحالات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق