Jul 12, 2021
Sep 2, 2019
الأمة العربية المرتكز على وحدة اللغة والدين السائد
تعبير «أمة» فى العلوم السياسية، لأن مفهوم«الأمة» يفترض أيضا وحدة الثقافة والتاريخ المشترك، وهو ما لا يتوافر غالبا بين دول «جامعة الدول العربية» حيث تتباين الثقافات وتختلف، ليس بين الدول البعيدة جغرافيا مثل مصر وعمان
يجمع بين دول «جامعة الدول العربية» تواريخ مشتركة إلا فى جنسية المحتل، سواء كانت الإمبراطورية الفارسية أو الرومانية، ثم تناوب عليها الاحتلال العربى على مدى العصور، سواء كان أمويا أو عباسيا أو فاطميا، ثم تبدل على هذه الدول الجراكسة والمماليك ثم الأتراك العثمانيون، الذين اخترقهم الإنجليز والفرنسيون الذين نسقوا المنطقة بالحدود السياسية الحالية.
الاستناد إلى مسألة وحدة اللغة، فقد كتبت سابقا موضحا الكذبة الكبرى بأن اللغة العربية هى لغتنا الأم، لأن اللغة الأم هى ما يتكلمها ويفهمها ويستطيع التعبير عن نفسه بها طفل ما دون الخامسة، وهو ما لا يتوافر فى أى دولة عربية، حيث لدى كل منهم لهجته المحلية بمفردات أغلبها عربى ولكن بتركيبة لغوية ونطق خاص، بينما تعد اللغة العربية الفصيحة التى نتعلمها فى فصول اللغة العربية بالمدارس، مثل أى لغة أجنبية أخرى تحتاج دومًا إلى ترجمة وشرح لمعانى الكلمات، وصارت اللغة التى يتقنها المتعلمون العرب لغة الأدب والعلوم الإنسانية، أو التى ينقلونها من الأعمال الأدبية والشعرية والتاريخية، ولم تكن ولن تكون لغة المواطن فى حياته اليومية.
والحقيقة أن مرجعية وحدة اللغة والدين كمحدد لتكوين كيان سياسى حقيقى- موضوع مثير للشفقة والسخرية، حيث يتكون الاتحاد الأوروبى من 28 دولة، تتحدث بـ24 لغة، وبمرجعيات تاريخية شديدة التباين، بل بعد حروب ضارية على خلفيات سياسية ودينية دموية، ولكنهم اتفقوا أخيرا على وحدة الهدف والمصلحة المشتركة، وقد قام الاتحاد الأوروبى على أسس ديمقراطية من مكونات ديمقراطية، وليس على أسس من رومانسيات الأخوة المتخيلة والحنين الماضوى، ودفء دمج اللغة بالدين فى كذبة كبرى، ليتكون على أثرها كيان سياسى مراسمى، وتشكيل تيارعروبى ساذج على أساس غير مفهوم، إلا من خيالات السلطة ووهم الزعامة،
واستمراء ممارسة فنون الصياح وآليات الرفض والشجب بسبب وبدون سبب، دون أى أطروحات لمستقبل مشترك لهذه البلدان، ولا حتى لمواطنيهم على أقل التقديرات، فى منطقة يدعون فيها وحدة الأرض والمصير، بينما ينتقل فيها 90% من مواطنى هذه الدول بين دولة وأخرى مكبلين بكل أنواع القيود الأمنية والسياسية.
فكرني ببرنامج الشقيري
تضخم الذات وكراهية الآخرين، وندعو للكف عن تسول هوية لدولة بحجم مصر الحضارى لننتهى من نعرات الفخر القبلى، ونجتاز أوهام التعالى باللغة والدين، مع أن الأولى وسيلة للتفاهم بين البشر، والثانى وسيلة لتواصل البشر مع الله
*
إشكالية "الثقافي" في فكرنا القومي
كرم الحلو
هل العرب يشكلون أمة واحدة؟ وإذا كانوا كذلك فما الذي يجمعهم ويشكل المقوم المركزي والأساسي لوحدتهم؟ هل هي اللغة والثقافة أم الدين أم الجغرافيا أم التاريخ أم الاقتصاد أم تضافر عامل أو أكثر من كل هذه العوامل؟
أسئلة إشكالية أربكت الفكر العربي منذ منتصف القرن التاسع عشر ولا تزال تتفاعل إلى الآن في الكتابات القومية المعاصرة. في حوار مع مجلة "المستقبل العربي" تموز (يوليو) 2019، يقول جورج قرم: "مهما فعلت القوى الإستعمارية الجديدة والقديمة لتفتيت العالم العربي فلن تتمكن من ذلك. فاللغة العربية لا تزال تربط العرب بعضهم ببعض، ولن تتمكن القوى الصهيونية وقوى الإستعمار من تفكيكها
فقد شدد عروبيو القرن التاسع عشر (الشدياق، البستاني، المراش) على اللغة والثقافة العربيتين كجامع حضاري بين العرب.وفيما اعتبر ساطع الحصري اللغة "روح الأمة وحياتها ومن أهم مقوماتها"، مستبعداً الدين والدولة والإقتصاد والجغرافيا من هذه المقومات، وحذا ابن باديس وكمال الحاج حذوه في هذا الطرح، رفض نديم البيطار اعتبار اللغة مقوماً للأمة، ورأى في الدولة العامل الحاسم في تكوين الأمة. كذلك، رفض أنطون سعادة تحديد الأمة باللغة على رغم كونها عاملاً تكميلياً في نشؤ الأمم، كما رفض أن تكون العوامل الثقافية هي الحاسمة في وجود الأمة وتوحيدها على رغم دورها الذي لا يمكن التقليل من أهميته. بعيداً من هذه الإيديولوجيات، ربط سيد قطب الوطن والأمة بالدين لا باللغة، إذ رأى أن "لا وطن للمسلم إلا الذي تقام فيه شريعة الله" كما ركز جمال حمدان على الفاعلية الجغرافية في تشكيل الشعوب والأمم.
وبامتداد إشكالية "الثقافي" في فكرنا القومي إلى نهايات القرن الماضي ومطلع القرن الراهن، ذهب المفكر القومي محمد عابد الجابري في "الخطاب العربي المعاصر" (1982) إلى أن اللغة العربية هي "العنصر الرئيس، ولربما الوحيد الذي يجمع بين الشعوب العربية التي لا تتمتع أقطارها بوحدة طبيعية كافية". ثم عاد واعتبر في "المسألة الثقافية" (1994) أن الثقافة العربية هي الجامع القومي المؤكد، وأن الدين مقوم أساسي من مقوماتها. ولم يلبث أن أسقط دور الدين في "مسألة الهوية" (1995)، إذ رأى أن سكان المنطقة من المحيط إلى الخليج هم عرب، لا بالنسب ولا بالدين بل باللغة والثقافة
قال الجابري بأولوية "نقد العقل العربي" وقال أركون بأولوية "نقد العقل الإسلامي"، وقال أدونيس بأولوية "نقد الرؤية الدينية المؤسسة للجسم الإجتماعي العربي"، وقال صالح بأولوية "نقد يقينيات القرون الوسطى التي تتخذ صفة الحقيقة الإلهية". وثالثاً، الإعتقاد بوحدة الثقافة العربية ووحدة منطلقاتها التراثية والفكرية وتصوراتها للكون والوجود والمجتمع الإنساني.
إلا أن كل هذه الاعتقادات لا تعبر عن حقيقة توجهات التاريخ الحقيقية، أفضت إلى رهانات خاطئة ، فالعامل الثقافي لم يكن وليس هو العامل الحاسم والوحيد في النهضة العربية، ولم يكن وليس أول العوامل الفاعلة في الحراك النهضوي. كما أن الثقافة العربية لم تكن واحدة وهي ليست كذلك، بل إن هناك ثقافات عربية متناقضة التوجهات والرؤى والتطلعات. ولعل إغفال هذا الواقع هو ما قاد قرم إلى استئناف الرهان على اللغة والثقافة العربية في توحيد العرب ومقاومة التفتت. آن للأيديولوجيا القومية العربية تجاوز البحث عن أسانيد في الماضي باتت فائتة في رأينا، والبحث تالياً عن سبل للوحدة العربية من خلال الإسهام في الحداثة المعاصرة ومواجهة أسئلتها والانخراط في إبداعاتها، ما يحقق للعرب مكانة ووجوداً في عالم لا يعترف إلا بالأمم القادرة على استيعاب متغيرات العصر وامتلاك ناصية الحداثة.
*
سوق عربية مشتركة وجيش عربى موحد، حتى إن جامعة الدول العربية على مدى خمسة وسبعين عاما منذ إنشائها لم تستطع توحيد العرب فى كيان موحد حقيقى بعيدًا عن صنع الخلافات التى هى سمة من سمات المنطقة العربية، وبعيدًا عن الأيديولوجيات التى تمسك بها بعض القادة العرب، سبع دول عربية انفرط عقدها. وبعضها جعل من أرضها ملاذًا ومرتعًا لقواعد عسكرية أمريكية وروسية وتركية وإيرانية، فكيف السبيل إلى نوبة صحيان؟!.
متى صحونا؟ السوق العربية المشتركة.. القوة الرادعة الواحدة.. العملة الموحدة.
«القومية العربية»
كما استخدمت بريطانيا مفهوم الإسلام السياسي (الإخوان المسلمين) للولوج في النسيج الوطني لكل دول المنطقة وتقسيم الوطن وبث الفرقة بين الطوائف التي كانت تعيش في بيت واحد، ويجمعها الحرص على الوطن والحياة والمصير المشترك.
لقد وُظفت واُستعملت هذه المفاهيم لكي لا نواكب العصر الذي نعيشه. ونجح الغرب بأن يجعلنا نضرب العقل العربي بواسطة الإسلام السياسي وتوظيف المشاعر الدينية. وكذلك ضرب الفن والأدب والطب والمال، وانتشار طغيان التسلط والاستبداد. وكان العالم المتقدم هو المستفيد من هذا التخلف.
*Jun 27, 2021
عن مفهوم "الأمة" و"الدولة"
يصارع جيل الألفية الثانية بين مفاهيم ورثناها له جيلاً بعد جيل مفادها العلاقة بين رابط "الأمة" الأمة العربية أو الأمة الإسلامية، مع رابط الوطن، ولطالما مررنا بهذا المفهوم من دون حساسية على أن الأمة تكتل بشري لا يتعارض مع رابط "الوطن" التكتل الأصغر، ولا يتعارض استحقاق "الأمة" مع استحقاقات "الدولة القُطرية".
فأن تدين بالولاء للأمة وأن تفزع وتساعد أبناء الأمة لا يعني أنك ألحقت الضرر بالوطن أو بالدولة، ولطالما علمونا أن وحدة الأمة هي المنتهى والمطلب الذي نسعى له، ولتحقيقه نبذل الغالي والنفيس، وأن ذلك لا يتعارض مع حبنا للوطن وانتمائنا له؛ فأوطاننا جزء من الأمة في نهاية المطاف.
الحلم الجميل بوحدة الأمة الإسلامية.. كل ذلك كان يتم بسلام حين لم يكن هناك اصطدام أو صراع أو معارك بين دولة عربية وأخرى عربية أو بين دولة عربية وأخرى أجنبية كما هو الحال اليوم.
الأجيال التي حفظت تلك المعادلات وجدت نفسها اليوم ممزقة بين الأمة من جهة والوطن من جهة أخرى بعد أن تقطعت السبل بين هوية وهوية، بين دول ودول، عربية وعربية، وعربية وأجنبية مسلمة، وجد هذا الجيل نفسه مجبراً على الاختيار بين أمته أو وطنه، ومن اختار أحدهما اعتبر خائناً للآخر.
معضلة تأجل تفكيكها منطقياً لعقود طويلة من دون أن تحسم جدلياً، لأننا اعتقدنا أنه لن يأتي اليوم الذي تتعارض فيها مصالح الاثنتين "الدولة" و"الأمة"، وقد تناول هذه المعضلة الفكرية وصراع الهويات الكثير من المفكرين العرب مثل عابد الجابري ومحمد جابر الأنصاري، كما تناولها أمين معلوف وغيرهم،
بعض شبابنا يتحمس لنصرة الجماعات الدينية باعتبارها تعمل على خدمة الأمة الإسلامية، وهناك آخر يخوَن هذه الفئة لأنها تضع يدها في يد من يعادي دولها وتعتبره أقرب لها من أنظمة وطنه التي في نظره تخدم الدولة لا تخدم الأمة، ونحن بتجاهلنا هذه المعضلة الفكرية وعدم عنايتنا بمعالجتها فكرياً وعدم حسمنا لها سنظل تحت رحمة دول أجنبية تتبنى مفهوم "الأمة" وتنصب به فخاخ التجنيد لشبابنا العربي.
*
حسن إسميك
القومية العربية.. عندما يستحيلُ "الحلُّ" مشكلةً جديدة
يقدّس الإنسان ما يرى فيه خلاصه، هذه حقيقة أثبتها التاريخ، تنطبق أيضاً على الجماعات التي تعمل – بوعي أو دون وعي – على توسيع هالة التقديس،
المصطلح قد تبلور بشكله الأولي بداية في الثورتين الأميركية والفرنسية.
لكن، لم تُغرِ نتائج هاتين الثورتين العربَ إلا بعد نحو قرن من الزمن، أي أواخر القرن التاسع عشر، حيث ظهرت النزعة لإحياء أواصر الرابط العروبي فيما بينهم، ومحاولة نسج مستقبل بلادهم من خيوطه المتينة، فما الذي حصل؟ ولماذا اهترأت هذه الخيوط وتقطّع الكثير منها؟ أسئلة مشروعة في حاضر الشرذمة والتفرقة والتطرف الذي نعيشه، وفي زمنِ تصاعدِ الولاءات الضيقة والارتهان إلى الخارج، وما ينجم عنها من خراب نحصد نحن العرب ثماره منذ عقود.
خلال العشريات الأولى من القرن الماضي وما تلاها، كان للفظ “القومية العربية” ثقله ووقعه الكفيل بدغدغة مشاعر جماهير تمتد من المحيط إلى الخليج، كأنها روحٌ مشتركة تجمعهم، أو الروح المطلق بلغة الفيلسوف الألماني هيغل، روحٌ حلّت في جسد مكلوم رزح تحت عقود طويلة من الاستبداد والاحتلال.
بدأت الحركة القومية العربية تتبلور أول الأمر في بلاد الشام على يد أدباء مثل ناصيف اليازجي وبطرس البستاني اللَذين اعتمدا على اللغة العربية لإنعاش الروح القومية وبعثها، فتأسست عدة جمعيات ذات نزعة قومية صريحة، كان أهمها الجمعية العلمية السورية (1857)، وجمعية بيروت السرية (1875) والتي دعت إلى إقامة دولة مستقلة موحدة في سوريا ولبنان على أسس قومية، وتبعها جمعية “عصبة الوطن العربي” التي أسسها نجيب عازوري في باريس (1904)، ثم جاء المفكر عبدالرحمن الكواكبي ليحمل راية الدعوة القومية ويطالب بعودة الخلافة إلى يد العرب الذين يشكلون قلب الإسلام.
جاءت اتفاقية سايكس بيكو لتغرز النصل الأول في المشروع العربي الوليد، فقُسّمت البلاد بعد أن وقعت ضحية تلاعب القوى الكبرى، ولم تكن القومية العربية حتى تلك اللحظة قد بنت أيديولوجية واضحة، ولم يتحقق لها ذلك حتى مجيء ساطع الحصري، الذي يمكن اعتباره المنظر الأول للقومية العربية في شكلها الذي تبنته الأحزاب والتيارات السياسية فيما بعد، وعبر جهوده انتقلت القومية من نزعة سياسية إلى فكر حداثي علماني يقوم على رابطة اللغة والتاريخ والأرض بعيداً عن الانتماء الديني. حرص الحصري من خلال المناصب التي تقلّدها كوزير للتعليم ثم وزير المعارف في المملكة العراقية على نشر القومية في صفوف السلطة، وكله إيمان بأنه يجترح الحل النهائي لمشاكل العرب، دون أن يخطر في باله أن أطرافاً ستستثمر أفكاره في غير مكانها وتحولها إلى ما وصفه البروفيسور عدي الهواري في كتابه “القومية العربية الراديكالية والإسلام السياسي” بـ”فلسفة سياسية مبسطة يمكن اختزالها إلى مذهب أخلاقي لا يعرف شيئاً عن الأسس الثقافية للحداثة أو التعقيد الاجتماعي للمجتمعات العربية وتناقضاتها”.
تسرّبت أفكار الحُصري إلى أستاذ الفلسفة السوري زكي الأرسوزي، الذي وظف الأيديولوجيا القومية في الدعوة إلى تأسيس حزب “يبعث الأمة العربية لتؤدي رسالتها إلى العالم”، وتولى كلٌّ من ميشيل عفلق وصلاح بيطار المهمة، فتأسس حزب البعث في سورية عام 1947 وفي العراق عام 1953، وقد مثّل وصول هذين التنظيمين إلى السلطة في البلدين المذكورين بداية استخدام القومية العربية بعيداً عن الأهداف الوردية بتحقيق الوحدة، شعار القوميين الطوباوي.
أما شكل الأزمة الأكثر وضوحاً فقد ظهر في مصر، حين تبنى “تنظيم الضباط الأحرار” قومية متطرفة، عمد جمال عبدالناصر إلى استثمارها والاتكاء على قيمتها لدى الشعوب العربية، لإطلاق مشروعه الخاص بلبوس عروبي، جاعلاً الشعوب العربية تسير خلفه، حالمة بالتحديث والوحدة، وبتحرير فلسطين، وهي القضية العربية التي كثيراً ما جعلها قادة عرب شماعة يعلقون عليها أخطاءهم الكارثية ومصادرتهم للرأي العام في بلادهم، وإخفاقاتهم الاقتصادية المتكررة، وفساد حكوماتهم وهدر موارد بلادهم بحجة التسلح في مواجهة “العدو”، مع تجاهل الأوضاع المتردية لشعوبهم الداخلية.
التوجه القومي الذي عرفته الأنظمة في الجزائر أو ليبيا (معمر القذافي) أو السودان (جعفر النميري)ولم يكن بأحسن حالاً، فقد كانت جميعها من الأنظمة التي ركبت الموجة فلم تحسن قيادتها، أو استغلتها بعد حين لمصالحها الفردية
لم تحقق الأحزاب القومية أياً من شعارات القومية العربية، بل صار الوصول إلى السلطة أو البقاء فيها، هو الهدف النهائي والتطلع الأبعد، وسقط مشروع النهضة العربية سقوطاً مدوياً دفع بالكثير من العرب إلى النكوص نحو دوامة الروابط اللاوطنية؛ كالعشيرة والقبيلة والمذهب، بعد أن فشلت في تحقيق الوحدة التي نشدتها، ووجدت نفسها تعيش في دول فاشلة – أحزابها في أفضل الأحوال مرآة للسلطة– ويتفشى فيها الاستبداد والركود والصراعات البينية.
لقد كان ذريعاً فشل الأحزاب والتيارات التي تبنّت الفكر العروبي في صنع قومية ذات طابع إنساني مرادف للحرية مشابه لنظيرتها الفرنسية، أو قومية تؤكد على الحقوق الفردية ووضع المجتمع البشري فوق كل الانقسامات كما حصل في إنجلترا، أو حتى تبنيّ ليبرالية قوامها الطبقة الوسطى كتلك التي عرفتها أميركا، فتحولت القومية العربية إلى خطاب ممجوج لا تملّ أحزابها من ترديده على مسامع أنصارها مع كل استحقاق إنساني يصادفها، وذلك حين وضعت شعار الوحدة الكاملة بين الدول العربية شرطاً لبناء بلدانها، والسير بها في طريق التنمية والتطوير.
تحملت القومية العربية، دون ذنب، وزر أخطاء الأحزاب والقيادات العربية التي انتسبت لها، فبقيت صور هؤلاء لامعة، في حين شُوِّهت هذه الرابطة الإنسانية وتعرضت حتى للتكفير، حين حاول البعض إظهارها وكأنها تتعارض مع الإسلام وتناصبه العداء. إن معاداة القومية العربية، أو إظهارها كشيطان يتسبب بجميع مصائبنا، ليس إلا محاولة للهروب من تحملّ المسؤولية، هذا الهروب الذي نحن أحوج ما نكون إلى الابتعاد عنه، وعلينا أن نميز جيداً بين القومية كفكرة أو نظرية وبين أدلجة القومية التي ظهرت في سلوك وسياسات الأحزاب والتيارات العربية التي تسلمت مقاليد الحكم (عبر الانقلابات) لفترات طويلة بعد استقلال بلدانها، هذه الأدلجة التي لم تؤمن يوماً بالليبرالية أو إقامة مجتمع مدني، لكنها مكنت الأنظمة من ممارسة الدكتاتورية (بمباركة وصمت الشعوب الحالمة).
يتطلب الأمر جرأة وشجاعة في التجديد وعزماً مشتركاً على كسر الولاءات الأضيق، على اعتبار أن القومية عموماً تشكلّ المعنى للإنسان الحديث، وتستطيع أن تشكلّ حاملاً مهماً للحضارات إذا ما ساوت بين مختلف العناصر الفاعلة في التغيير، ونحن كعرب تحمل قوميتنا من المقومات ما لم يتوفر لقوميات أخرى ناجحة ومثمرة، نستطيع من خلالها توليد قوى جديدة تضاف إلى جهودنا في بناء بلداننا كل على حدة. إنَّ عروبتنا جزء أساسي في وجودنا، وركن ركين من هويتنا لا نرضى أبداً أن نتخلى عنه، لكننا نريدها قومية جامعة تقوم على الاختيار الحر لإنسان واع مسؤول، آن الأوان أن نوليه الأهمية القصوى، بعيدة عن كل أشكال الشعبوية والانغلاق والتقوقع، تهدف إلى بناء السلام في منطقتنا والانتقال بها إلى ضفة الازدهار والحداثة.
* Jul 10, 2021
لماذا لا يُعَدُّ العزوف عن المجال السياسي خيارا متاحا؟
كتابه "تحولات مفهوم القومية العربية من المادي إلى المتخيل"، يوضِّح الباحث هاني عواد أن حركات القومية العربية التي مَثَّلت الخطاب السياسي المُهيمن منذ منتصف القرن العشرين ارتكزت على نظرية سياسية مستقاة من الفكر الأوروبي، وهيمنت على أجيال كاملة بفعل النظام التعليمي والكاريزما الشخصية للزعماء القوميين. ورغم أنها أسهمت في منح العرب إحساسا بالاستقلالية بعد سنوات من الحكم الاستعماري، فإنها، حتى حسب معاييرها الخاصة الساعية إلى الحرية وصناعة العربي الجديد وتحرير فلسطين، لم تترك وراءها في الأخير سوى أنظمة عسكرية استبدادية.
النظرية السياسية التي تشكَّلت وفقها القومية العربية جعلت منها قومية ذات نزعة شمولية تؤسِّس لمجتمعات لا تقبل الاختلاف أو التعددية، والأخطر أنها لا تحترم حقوق الأفراد في التعبير والتصرف بحرية؛ فتنتهك حرياتهم وفرديتهم لصالح المجموع القومي. وقد شكَّلت هذه النظرية السياسية رأس الحربة في التحدث باسم فلسطين ومعاداة إسرائيل لعقود طويلة، فكان الجوهر الهوياتي هنا هو الأمة العربية الإسلامية ومحل التعارض هو الشعب الإسرائيلي الصهيوني المغتصب لأرض فلسطين. وعلى ذلك الأساس نسفت الأنظمة القومية الممانعة بنسختَيْها الناصرية والبعثية مفاهيم العقد الاجتماعي وحقوق الإنسان والحق في الاختلاف والحريات الفردية.
تلك النزعة الفردانية في المشرق العربي، ليس بوصفها فعلَ تحرُّر وانعتاق، ولكن في هيئة انسحاب وهرب من الهزيمة التي لحقت بالثورات
كان طبيعيا بعد الإرث الكارثي لتلك النظرية السياسية أن يأتي جيل الربيع العربي وما بعده بخيال سياسي واجتماعي مضاد؛ خيال سياسي يحتفي بالتنوُّع واللا تجانس والاختلاف ويكره الذوبان في الجموع باسم القضية أو المسيرة الكبرى من أجل التحرير، مع حالة نفور من الانخراط في التنظيمات السياسية التقليدية، ومزاج يرفض تقديم التضحيات باسم السرديات الكبرى والمصلحة العامة. في الأخير، انتهى هذا الجيل لما يسميه عالم الاجتماع البولندي "زيجمونت باومان" بظاهرة مجتمع الأفراد، وهي ظاهرة يهجر أفرادها المجال العام من شدة تمسكهم باستقلالهم الخاص في مواجهة ضغط مضاعف من الأنظمة الاستبدادية وأجهزتها البيروقراطية من جهة، ومن جهة أخرى جراء النزعة الفردانية المتزايدة عند أجيال الشباب الذي بات يرى الخطابات السياسية العامة حول التحرير والثورة وفلسطين خطابات استلابية سيئة السُّمعة، تستخدمها السُّلطة من أجل مزيد من مصادرة الحريات وقمع الأفراد
في السياق الغربي، برزت تلك النزعة الفردانية مع بدايات عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية بوصفها ردَّ فعل تحرري في مواجهة شمولية الأنظمة السياسية الفاشية والنازية والأبوية المحافظة، التي قادت العالم إلى حرب مدمرة غير مسبوقة. بيد أن تلك النزعة الفردانية لم تكن بلا ثمن رغم المكاسب التي حقَّقتها من ارتفاع أهمية حقوق الإنسان والأقليات وقضايا الاعتراف السياسي والثقافي، فمع استمرار عمليات الفردنة بدأ فقدان الأجيال الجديدة في الغرب لفعاليتها السياسية بالتدريج، وبدأت تحدث عمليات الانفصال التاريخية بين السُّلطة والسياسة؛ ما أدَّى إلى ما يسميه باومان بـ "تشظي المجال العام الغربي". فلم يعد الغربيون قادرين على تجميع وتنظيم أنفسهم في شكل قوى سياسية منظمة لدعم وتنفيذ سياسات عامة جذرية أو إصلاحية؛ رغم وجود الديمقراطيات التي تسمح لهم بذلك.
على النقيض تأتي تلك النزعة الفردانية في المشرق العربي، ليس بوصفها فعلَ تحرُّر وانعتاق، ولكن في هيئة انسحاب وهرب من الهزيمة التي لحقت بالثورات، وردَّ فعل على صعود الثورات المضادة والأنظمة القمعية التي تحارب شعوبها باسم الصالح العام تارة، وباسم فلسطين تارة أخرى. إنه جمع لأسوأ ما في العالمَيْن؛ الفردانية الغربية التي فتَّتت المجال السياسي الغربي وسلَّمته لقوى السوق ورأس المال، والاستبداد والشمولية الصلبة لعالم ما بعد الاستعمار العربي. في هذا الوقت بالتحديد، تزداد وتيرة التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي مستغلة تلك الحالة من السيولة والعزوف عن القضايا الكبرى، ويزداد أيضا جنون اليمين الإسرائيلي، فتأتي الأحداث الأخيرة تذكرة لجيل الربيع العربي بحتمية الانخراط في عمل سياسي مباشر جماعي وطويل وممتد من أجل استعادة الفعالية السياسية والتاريخية للدفاع عن حريتهم وحقوقهم وفرديتهم، دون تعارض بالضرورة مع استئناف واجبهم التاريخي العربي والإسلامي بالوقوف إلى جانب الفلسطينيين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق