Mar 1, 2021
مستوى مخيف من الجهل بعدد من المسائل والقضايا التي تمسّ مختلف جوانب الحياة في مصر سواء السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو الثقافية أو التاريخية.
يمكن القول إن جزءا رئيسًا من الأزمات التي تمرّ بها مصر يعود في قسم كبير منه إلى هذا الجهل وعدم وجود معرفة حقيقية بكثير من الأمور التي تخص هذه الأزمات. ولا يعود الأمر إلى كون الأجيال الشابة ليس لديها رصيد كافٍ من التعليم، بل على العكس، فكثير ممن استمعت إليهم على مدار الأيام الماضية ينتمون للشرائح العليا من الطبقة الوسطى، ومن المفترض أن لديهم مستوى جيدًا من التعليم الحكومي والخاص. بل إن بعضهم قد نال قسطًا من التعليم في الخارج خاصة في أوروبا وأميركا.
كلامًا عجيبًا عن الجماعة بطريقة تعكس جهلًا ليس فقط بها وبتاريخها وبتنظيمها وبطريقة عملها، إنما تعكس أيضًا جهلًا مخيفًا بمعلومات أساسية عن تاريخ مصر المعاصر، خاصة منذ بدايات القرن الماضي والسياق السياسي والاجتماعي والفكري الذي نشأت فيه هذه الجماعة. ويتجاوز الأمر هنا مسألة الخلاف الفكري والسياسي والأيديولوجي مع الجماعة، وهي مسألة أصبحت شديدة الانقسام والاستقطاب في مصر وداخلها، ليبلغ حالة من العُصاب الجماعي الذي يريد "نسف أفراد الجماعة من الوجود" على نحو ما قال أحد المعلّقين في أحد النقاشات على "كلوب هاوس" قبل أيام.
شأن الجماعة منذ نشأتها عام 1928 وحتى قيام ثورة يناير/كانون الثاني؛ وذلك بحكم دراستي لها على مدار العقد ونصف العقد الماضيين. وقد استمر اللقاء نحو 6 ساعات متصلة من الحديث والرد على أسئلة المداخلين الذين بلغ عددهم في بعض الأحيان نحو 620 شخصًا من مختلف التوجهات الفكرية والأيديولوجية. وبقدر ما كانت الجلسة ممتعة إلى درجة أننا لم نشعر بالوقت الذي مرّ سريعًا، بقدر ما تأكد لي أننا، كمصريين، لا نعلم شيئًا عن مجتمعنا وعن فاعليه السياسيين، وذلك بعيدًا عن المواقف الفكرية والأيديولوجية.
تاريخ الحركة اليسارية المصرية، بل إن بعضهم لا يعرف متى أُسّس الحزب الشيوعي المصري، ولا ما حدث له بعد تأسيسه بسنوات قليلة سواء من حزب الوفد الذي حظره في منتصف العقد الثاني من القرن الـ20، أو بعد ذلك من صراع مع دولة جمال عبد الناصر، فضلًا عن دوره المهم والتاريخي بوصفه جزءا من الحركة الوطنية المصرية في القرن الـ20، مع أن هذه مسائل تكاد تكون جزءا أصيلا من تاريخ مصر المعاصر.
الأزمة المصرية لا تكمن في الانقسام والاستقطاب السياسي، وما قد يترتب عليه من احتقان وتوتر بين مختلف القوى والفصائل السياسية فحسب، وإنما أيضا في الجهل، والتجهيل الذي يبدو متعمّدًا، الذي تعيشه قطاعات واسعة من الشعب المصري، والذي يحوّل هذه الخلافات والانقسامات، وهي بالمناسبة شيء طبيعي وعادي في أي مجتمع حيوي ونابض بالحياة، إلى بارود قابل للانفجار في أي لحظة، ويطمس أي محاولة للتفاهم أو التقارب أو التسامح بين التيارات الفكرية والسياسية والأيديولوجية المختلفة.
لا مبالغة في القول إن الوحيد الذي درَس مصر، دولة ونظامًا وحكامًا وشعبًا ومجتمعًا، كان المفكر المصري الراحل "جمال حمدان" الذي شخّص بصورة دقيقة إمكانات مصر وقدراتها الجغرافية والزراعية والتاريخية والاجتماعية والسياسية بطريقة لم يقم بها أحد حتى وقتنا هذا. ولو أن الأمر بيدي لألزمت المدارس والجامعات والمعاهد المصرية بجعل موسوعته المعروفة "شخصية مصر" جزءًا أساسيًا في مناهجها الدراسية، وذلك لكي يعرف النشء والشباب المصري بلادهم، ويتعرفوا على أهم قضاياها ومشكلاتها الحقيقية.
لذا، فليس لدي أدنى شك بأن الانقسام والاستقطاب الحادّ الذي تعيشه مصر على مدار العقود الماضية ما هو إلا مجرد عرَض لمرض عُضال هو الجهل الذي يضرب أركان المجتمع. ولعل الأخطر في هذا الأمر أن هذا الجهل ليس لنقص في التعليم أو الفهم، بل يكاد يبلغ أن يكون سياسة ممنهجة من قبل الدولة المصرية أو بالأحرى من الطغمة التي حكمت مصر على مدار نصف القرن الماضي، خاصة الجنرالات العسكريين، الذين من مصلحتهم أن يظل الشعب المصري جاهلًا ومجهّلًا بتاريخ بلاده، وأن يظل منقسمًا على نفسه باعتبار أن ذلك هو الضمانة الوحيدة لبقاء العسكر في السلطة، دون تهديد من مجتمع مُلمّ بتاريخ بلاده، ومستوعب لمشكلاتها وقضاياها الحقيقية، وغير مستَنزف في انقسامات حزبية وأيديولوجية. وهنا يحضرني القول المأثور لعبد الرحمن الكواكبي "أضرُّ شيء على الإنسان هو الجهل، وأضرُّ آثار الجهل هو الخوف".
*
كيف أن وصول جمال عبد الناصر إلى سدة الحكم لم يكن مجرد انقلاب ضباط شبان على الملكية، واستبدال جمهورية بها، وإنما وصول مصري إلى حكم مصر للمرة الأولى بعد غياب تاريخي طال أمده. فلم يكد نابليون بونابرت يقضي على حكم المماليك، حتى جاء محمد علي الألباني الأصل الطامح إلى إقامة إمبراطوريته، وتبعته سلالته التي بقيت تتولى السلطة حتى سقوط الملك فاروق. هذه الفترة المتقلبة، من بلوغ نابليون شواطئ الإسكندرية حتى الإطاحة بآخر سلالة محمد علي، تخللها استعمار ومعاناة، وتحكم من الإنجليز والفرنسيين والأتراك، وتسلط من الشركس. بمعنى آخر، فإن عبد الناصر مثّل بالنسبة للمصريين تحقيق حلم طال انتظاره فهو «من أصول مصرية، وابن الشعب»، كما أنه عربي، لذلك كان الأجدر بأن يحمل الحلم القومي، كما لم يفعل أحد من قبل.
في مطلع الكتاب، نلتقي بنابليون أو «السلطان الكبير»، كما سماه المصريون، الذي لم يصمد في مصر أكثر من 36 شهراً، وهرب مهزوماً بعد أن انكسر في عكا، وضاع حلمه الإمبراطوري بسبب تحالف بريطاني - عثماني. فقد كان هدفه النهائي الوصول إلى الهند، ورأى في الإسكندر قدوته، وانتهى حزيناً خائباً، فهو الذي كتب: «في مصر، وجدتني متحرراً من عوائق حضارة مزعجة. كنت أحلم بأشياء كثيرة، وأجد الوسيلة لتطبيق كل ما حلمت به. كنت أؤسس لديانة جديدة، وأرى نفسي في الطريق إلى آسيا ممتطياً فيلاً، وعلى رأسي عمامة، وبيدي قرآن جديد ألفته كما أشاء. كنت سأجمع في مشاريعي تجارب العالمين، وأستفيد من دروس التواريخ، وأهاجم القوة الإنجليزية في الهند، ثم أعود لأنسج بواسطة هذا الغزو علاقاتي مع أوروبا العجوز. الفترة التي أمضيتها في مصر كانت أجمل فترة في حياتي لأنها كانت الأكثر مثالية».
الفترة النابليونية على قصرها مهدت لتولي محمد علي، مؤسس مصر الحديثة، مقاليد الحكم، وفتحت الباب أمامه لإرسال بعثته العلمية الأولى إلى باريس، حيث أوفد 44 شاباً، على رأسهم الإمام الأزهري اليانع، رفاعة الطهطاوي. وهو الذي سيبزّ كل من ابتعث معهم، سواء في إجادة الفرنسية، أو كتابة مشاهدته، عملاً بنصيحة أستاذه حسن العطار الذي كان هو نفسه قد تتلمذ على يد علماء بونابرت في مصر. وبعودة الطهطاوي، سيصبح كتابه «تخليص الإبريز في تلخيص باريز» الأول من نوعه عن الحياة في أوروبا، ويتحول إلى مرجع. كما سيفتتح مدرسة الألسن، ويطلق الترجمة، ويكون وراء كثير من المؤسسات الثقافية التي ستلعب أدواراً محورية، ويعين وزيراً للتعليم العام، ويطلق عصر النهضة الفكرية في العالم العربي.
ثم نصل إلى الخديوي إسماعيل الذي كان له فضل أحياء عمل كان قد بدأ قبل توليه الحكم بأربع سنوات ثم توقف، وهو وصل البحر الأحمر بالبحر الأبيض بواسطة قناة بطول 160 كيلومتراً. كان ذاك عام 1854، حيث الحلم بقناة السويس قد بدأ، والمخاوف تصاعدت، فلا الباب العالي يوافق خشية أن تنال مصر استقلالية أكبر، ولا إنجلترا خشية أن يدعّم المشروع النفوذ الفرنسي في المنطقة. أهدر إسماعيل كثيراً من الاستثمارات في مشاريع لم تثمر، وأورث خليفته بلداً مفلساً يقبع تحت رحمة دولتين دائنتين، هما فرنسا وبريطانيا، فرضتا سيطرة تشبه الاستعمار، ما سيحرّض على انبجاس حركة وطنية.
ويبين سوليه كيف أن ثورة أحمد عرابي هي حركة كفاح عسكريين مصريين هضمت حقوقهم لصالح الأتراك والألبان والأكراد من زملائهم. فقد انتظر عرابي عقدين ليصبح عقيداً، وهذه أعلى رتبة يستطع «ضابط فلاح» بلوغها. عرابي الذي جابه الإنجليز بجسارة، ودفع أثماناً غالية، منها تخوينه، لم يعد إليه الاعتبار بصفته بطلاً وطنياً إلا بعد نصف قرن من قبل عبد الناصر.
وكما لعب عرابي دوراً في بلورة الهوية المصرية، تمكن محمد عبدة، صاحب كتاب «التوحيد» الذي عين مفتياً للديار المصرية، من تدعيم فكرة أن النهضة لا تأتي إلا متسقة مع الإسلام الذي يحتاج إلى تحديث. وعلى الرغم من المعارضة، تمكن من فتح الباب أمام ظهور مصلحين ومثقفين وسياسيين، مثل لطفي السيد وسعد زغلول، وعلى يديه تتلمذ قاسم أمين.
ظهور سعد زغلول (أبو الأمة) هو امتداد لما سبق، فهو أحد طلاب جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده، معه اشترك في ثورة عرابي، وسجن بتهمة «المشاركة في جمعية سرية». وعلى الرغم من أنه فلاح مصري تمكن من السفر إلى فرنسا، ونيل إجازة في الحقوق، وأصبح وزيراً للتعليم، ومن ثم وزيراً للعدل. وانتظر حتى عام 1919، وانتهاء الحرب الأولى، ليلقي خطابه الحماسي الشهير الذي يطالب فيه بالاستقلال، ويرحل بسببه مع ثلاثة من رفاقه إلى مالطا، وتبدأ معارك حزب الوفد من أجل حرية مصر، سواء كان على رأس الحكومة أو خارجها. ويصف البراون فيرمن فان دان بوش الحقوقي البلجيكي زغلول بأنه «رجل إرادة وعناد، يثير العواصف ويجد الارتياح فيها كأنه في وسطه الطبيعي». ومع ظهور القومية العربية، تجاوزت أهمية زغلول مصر، لينظر إليه على أنه «زعيم الشرق كله».
نصل إلى الصفحات المخصصة للملك فؤاد الأول (1917-1936)، نقرأ وصفاً مذهلاً لأحوال مصر بعد تفكك السلطنة العثمانية، فالقاهرة تحولت إلى باريس الصغرى، بترفها وبذخها ومقاهيها وأماكن اللهو. يقول الكتاب: «لم يسبق لمصر وأوروبا أن تقاربتا على هذا النحو قط». كانت عيون فؤاد الأول شاخصة نحو أوروبا. وفي هذا البلد الذي كانت تحتله بريطانيا منذ عام 1882، كل العقود كانت توقع بالفرنسية، وكثير من المراسلات الإدارية الرئيسية أيضاً، وحتى نقاشات مجلس الوزراء. كثيرة الشخصيات التي وقعت تحت التأثير الفرنسي. هدى شعراوي، ذات الجرأة الاستثنائية، كانت على تواصل مع كاتبات فرنسيات في معركتها، وتدعى إلى مؤتمرات نسوية في باريس، وتقضي عطلاتها في أوروبا. كما أنها أسست مجلة فرنسية شهرية في مصر، اسمها «المصريات»، استمر صدورها 15 سنة باللغة الفرنسية، فقد كانت مهتمة بإطلاع الرأي العام الغربي على حال المرأة والمجتمع في مصر. شعراوي لم تقف لا مبالية أمام خطر زحف اليهود على فلسطين، وعبرت عن رفضها الشديد، وخشيتها من أن يحل هؤلاء مكان الفلسطينيين، وأدانت الممارسات البريطانية والصهيونية.
وفي موازاة الشخصيات الوطنية التي طالبت بالاستقلال، ومالت للاستفادة من الغرب، ظهر حسن البنا الرافض لهذا التوجه، وأسس مع ستة من رفاقه عام 1928 تنظيم «الإخوان المسلمين»، وافتتح مدرسة وجامعاً في الإسماعيلية. ومن قرية إلى أخرى، انتقل الرجل، وزاد أتباعه بسرعة. وهو التنظيم السياسي المصري الأول الذي لم ينبثق من البرجوازية، وإلى هذا يعزو الكاتب سبب نجاحه. رفض البنا بشدة علمنة المجتمع المصري، ورأى أن «كل قطعة أرض خفقت فوقها راية الإسلام هي بالنسبة إلى كل مسلم وطن يجب المحافظة عليه، وأن يعمل ويجاهد من أجله»، مطالباً بإعادة نظام الخلافة.
الحديث عن ظهور المتناقضات والتيارات يقتضي الكلام عن طه حسين الذي أبصر بعيني زوجته الفرنسية سوزان، وأقر التعليم المجاني، وأسس لفكر نقدي، وحثّ على رؤية البعد المتوسطي لمصر، فاستحق تكريماً من أندريه جيد وجان كوكتو. ثم نمر على حكم الملك فاروق الذي انتزع منه العرش عام 1952، لينتهي بذلك حكم سلالة محمد علي، ويبدأ عهد جديد مع جمال بعد الناصر.
صوت أم كلثوم لم يكن بعيداً عن السياسة، فهي «صوت كل العرب»، والمواكبة بأغنياتها لكل حدث. كانت فاتحة أغنياتها الوطنية حين توفي سعد زغلول، ورثته بأغنية مطلعها «إن يغب عن مصر سعد، ينضب الماء ويبقى بعده النبت الكريم». يومها، بكى الجمهور، ومزقت السيدة منديلها.
بالطبع، لا ينتهي الكتاب دون المرور بسنوات أنور السادات السابح عكس التيار مع معاهدة «كامب ديفيد»، المتجه صوب أميركا، الراغب في «محو كل آثار الناصرية»؛ إنه «الرجل الذي جمع المتناقضات. أراد أن يحكم باسم العلم والإيمان، بطل حرب وسلام، مسلم متشدد وداعية حداثة وتنور». بطبيعة الحال، عصر السادات يستدعي صفحات عن نجيب محفوظ الأديب الذي لم تخلُ مواقفه السياسية من إثارة للجدل.
الصفحات الأخيرة المخصصة لحسني مبارك والرئيس السيسي لا تحمل للمتابع الدهشة أو الجديد، فهي إعادة سرد لأحداث عايشها وعاصرها، لكن قراءة مائتي سنة من حياة مصر على طريقة سوليه تفتح الأعين بالتأكيد على رؤية جديدة لتاريخ المنطقة العربية بأكملها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق