2019
هل سنشهد نهاية عصر «النيوليبرالية»؟
ليون برخو
عالم اليوم متشعب ومعقد وصعب لدرجة يصعب معها أحيانا حتى على المختصين استيعاب ما يجري فيه.
وإن أخذنا شؤون المال والاقتصاد في عين الاعتبار، لرأينا أن العسر في استيعاب ما يجري من نشاط وما يخطه المختصون لنقل هذا النشاط كأخبار وتقارير ومقالات يشكل القاعدة وليس الشواذ.
"النيوليبرالية" أي الليبرالية الحديثة، ومنها من يرى فيها خلاصا لكوكبنا هذا الذي يتوقع أن يبلغ عدد سكانه نحو عشرة مليارات نسمة بحلول عام 2050.
قلت لنفسي: وهل يعرف الناس ما هي "الليبرالية الحديثة"؟ وإن كانت لنا "ليبرالية حديثة"، فما الذي يميزها عن "الليبرالية القديمة"؟
وإن كانت لدينا "ليبرالية حديثة" و"ليبرالية قديمة" فما الذي يميزهما عن مصطلح "الليبرالية" الذي يعد الجذر الذي تستندان إليه؟
نحن الأكاديميين نتباهى أحيانا كثيرة برطانة اللغة التي نستخدمها، وغالبا ما نتصور أن كثرة المصطلحات المركبة والطويلة دليل على النبوغ.
وقد نكون محقين في ذلك لأننا في الغالب نكتب لأنفسنا – بمعنى أن متلقي خطابنا ما هو إلا أكاديمي مثلنا، وإن سنحت لنا الفرصة كي نكتب لعامة الناس فمن النادر أن نغادر الرطانة التي يتميز بها أسلوبنا.
مهما يكن من أمر، فإن "الليبرالية" لها مفهوم سياسي ومفهوم اقتصادي. في السياسة، وبصورة عامة، يعاكس الليبراليون المحافظين، ويمقت المحافظون الليبراليين.
في الاقتصاد، وهذا موضوع مقالنا، تثلج السياسات والمناهج والخطط الليبرالية القديمة والحديثة، صدور المحافظين وتثير فزع الليبراليين.
السياسات "النيوليبرالية" خير تجسيد، حيث نلاحظ من ناحية، منهجا حكوميا يعتمد إلغاء القيود على الاقتصاد، وعدم تدخل الحكومة، وخفض الضرائب على الأغنياء داخل البلد. هنا، النهج يعد ليبراليا صرفا لأنه يستند إلى "الليبرالية القديمة" التي تتبع النهج والفكر والمفاهيم التي أتى بها آدم سميث عالم الاقتصاد الاسكتلندي.
من ناحية أخرى، نلاحظ تدخلا من قبل الحكومة في التجارة الخارجية لتعزيز نهج ليبرالي اقتصادي داخلي، كما هو الحال في أمريكا في الوقت الحالي حيث تفرض الإدارة التعريفات الجمركية وتتدخل في التجارة الخارجية لصالح الاقتصاد الليبرالي الوطني.
وقد تبدو "النيوليبرالية" شيئا محببا لمن يقول إنه يتبع فكرا ونهجا سياسيا يدعو إلى فرض الضرائب على الأغنياء خدمة للفقراء ويتبنى العدالة الاجتماعية ويتجنب المشكلات والصراعات.
وهنا لدينا مثال حزب العمال البريطاني، الذي رغم مفاهيمه ذات التوجه اليساري "غير المحافظ" ونزعته القوية صوب العدالة الاجتماعية، فقد غيّر البوصلة في عهد توني بلير رئيس الوزراء السابق الذي اتبع نهجا اقتصاديا سماه New Labor أي حزب "العمال الجديد" ذو التوجهات الليبرالية الحديثة. وهذا، حسب كثير من الاقتصاديين، كان النهج الذي سار عليه الحزب الديمقراطي "ذو النهج السياسي الليبرالي" في أمريكا في عهد الرئيس بيل كلنتون.
العالم بدأ يضيق ذرعا من عدم المساواة الهائلة التي خلفها بين الذين يملكون والذين لا يملكون.
التجربة الليبرالية الحديثة المتمثلة في خفض الضرائب على الأغنياء، وإزالة ونزع القيود والضوابط التي تتحكم في سوق العمالة وسياسات التشغيل والإنتاج وتمويل رأس المال والعولمة،
المكتبة الغربية مليئة اليوم بالكتب والأبحاث التي تدل على أن النمو الاقتصادي في الدول ذات النهج الليبرالي الحديث أخذ في التباطؤ، وإن كان هناك مؤشر للنمو فإنه نتيجة تراكم الثروات لدى طبقة لا تمثل إلا فئة قليلة جدا من السكان.
من هنا بدأ يتوقع بعض الاقتصاديين اندثار النهج الليبرالي بشكليه القديم والحديث، مؤكدين أن تدهور القوة الشرائية لأغلبية الناس، التي لا تقع في خانة الأغنياء في البلدان الرأسمالية في ربع القرن الأخير، يوجب البحث عن مسلك ونهج اقتصادي جديد.
ولكن ماذا سيكون هذا النهج، يا ترى؟ نترك الإجابة للمقبل من الأيام.
*
من هو مؤسّس النيوليبرالية المتوحّشة ميلتون فريدمان؟
قاسم عز الدين من الميادين موقع
لبنان وتونس بلاد العر المتحررة
الجائحة التي تكشف التوحّش وهشاشة الدول الصناعية والمنظومة الدولية، تبشّر بالتفاؤل أن يكون ما بعد كورونا ليس ما كما قبله نحو معايير ومنظومة دولية أكثر إنسانية. لكن كيف تأسست منظومة التوحّش وقيَمها غير الأخلاقية التي قضت على دور الدولة الناظم للسياسات وحوّلت البيئة الكونية والأرض وما عليها من أحياء وجماد، إلى سلعة تجارية للبيع في السوق الدولية؟ فريدمان هو أحد مؤسّسي فكرها الذي لبّى مصالح الرأسمالية المالية الأميركية والنموذج الأميركي في عولمة الاقتصاد الافتراضي النيوليبرالي الوهمي، ارتكازاً إلى عولمة جيو ــ سياسية وعولمة ثقافة القيَم البربرية الشائعة باسم الحرّية الفردية من ضمن رزمة حريات السوق الدولية والرأسمال العابر للقارات والاستهلاك البذيء وفق حلم الديموقراطية الأميركية.

قبل ميلتون فريدمان (1912 ــ 2006)، ظهرت نزعات نيوليبرالية صافية في الاقتصاد السياسي مع بروز الرأسمالية والثورة الصناعية في القرن الثامن عشر أشهرها مقولة "دعه يعمل دعه يمر" على لسان أدم سميث (1723 ــ 1790) في رؤيته الاقتصادية ل"ثروة الأمم" (1776). وفي القرن التاسع عشر توسّعت النزعات النيوليبرالية بين الاقتصاديين البريطانيين التي عبّر عنها الاسكتلندي جون ستيورات (1806 ــ 1973) وآخرون. ولعل الاقتصادي البريطاني ديفيد ريكاردو (1771 ــ 1823) هو الأكثر تعبيراً عما آلت إليه النيوليبرالية المتوحّشة اليوم في ترابط التوحّش بين حرية الرأسمال الكبير في السوق والتجارة الدولية، وبين ما يراه هذا الرأسمال قيمة القيَم عن حرية الفرد القائمة على الاختيار بين ما يصنعه أشباح الأسهم المالية في سوق المنافسة ( الغذاء، السلع الاستهلاكية، الأفكار،التمثيل السياسي،....).
بينما انكبّ اقتصاديو النهضة وفلاسفتها في أوروبا على حرية الفرد في القرار السياسي لتنظيم المجتمع ضماناً لحريته الشخصية والحقوق الإنسانية المكتسبَة (حق العمل والطبابة والتعليم والمأوى....) وقد يكون ريكاردو الأكثر تعبيراً عن صلة منظومة التوحّش الاقتصادية، بمعتقدات تلمودية خرافية كما هو شأن معظم الاقتصاديين النيوليبراليين اليوم. فقد نشأ ريكاردو في بيئة عقارية ومالية طفيلية كباقي الاقتصاديين النيوليبراليين الانكليز، لكنه سرعان ما تبنّى مذهب الكويكرز وهي طائفة إنجيلية ــ صهيونية كانت "طليعية" حينها. إنما الأهم في مرحلة هذه البوتقة من الاقتصاديين النيوليبراليين، أن الرأسمالية الأميركية تلقفتها بشراهة لبناء نموذجها الخاص الموصوف في "الحلم الأميركي". وبقيت خاصة بأميركا فظلّ تأثيرها محدودأ في حلقات ضيّقة بعيداً عن تلبية مصالح البرجوازية الأوروبية الصاعدة حينها، بتأثير الثورة الفرنسية والطبقة العاملة والنقابات، على أسس الديموقراطية السياسية في تداول السلطة من أجل الديمقراطية الاجتماعية التي تشترط إعاقة حرية الرأسمال الكبير في مجتمعاتها، وتقتضي في المقابل حماية رأسمالها الكبير بالغزو العسكري والايديولوجي لتوسّعه الامبريالي في المستعمرات. فكان نموذج الديموقراطية الأوروبية قبل عولمة النيوليبرالية مختلفاً عن الديموقراطية الأميركية التي تأسست في الاستقلال عن بريطانيا من دون ديمقراطية إجتماعية، على قاعدة الحريات الفردية للمستعمرين الأوروبيين في أميركا الشمالية وعلى التوسّع الامبريالي ضد الصامدين من "الهنود الحمر" في شمال القارة وضد السكان الأصليين في جنوبها الذي حوّلته الدول الأوروبية إلى مستعمرات إسبانية وبرتغالية في معظمه.
النيوليبرالية المعولمة على حطام الكينزية الأميركية
وفق نظريات الاقتصادي البريطاني ومخطط الميزانية الانكليزية جون ماينارد كينز (1883 ــ 1946) التي تأثر بها روّاد الكينزية في أميركا بمواجهة النيوليبرالية. وقد استطاع روزفلت الذي حكم من 1933 إلى 1945 أن يتجاوز الكساد في اعتماده على اقتصاد مختلط موجّه في الحدّ من حرية السوق والرأسمال والتجارة، وفي إشراف الدولة على الزراعة والصناعة والخدمات الصحية والاستثمار في البنية التحتية الذي أدّى إلى مشروع ماريشال في إعادة بناء أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية
وما أن عاد النموذج الأميركي إلى سابق عهده مع ازدهار الأسواق المالية الأميركية على وطأة دمار أوروبا في الحرب العالمية الثانية، عاد روزفلت إلى منظومة الاقتصاد الحر لضخّ الموارد العالمية في الاقتصاد الأميركي ففرض في الاتفاق الأميركي ــ البريطاني عام 1941 العودة إلى التجارة الحرّة والاستثمار المالي في سوق الأسهم والبنوك الأميركية.
فريدمان هو أحد منظّري عولمة النموج الأميركي في تأسيس مدرسة شيكاغو الاقتصادية مع زميله جورج ستيغلر نقيض جوزيف ستيغلز صاحب جائزة نوبل عام 2001 وكتاب "خيبات العولمة، 2002)
متصدّياً للكنزية والمدارس الاقتصادية الأوروبية ومنافحاً عن النيوليبرالية بصفتها خير البشرية جمعاء. ففي كتابه "الرأسمالية والحرية، منشورات جامعة شيكاغو، 1962" يعبّر عن جموح الرأسمال المالي وحاجة النقد الاحتياط المتراكم إلى المزيد من التوسّع في حرّية الاستثمار وتحرّر الدولار من تغطية الذهب الذي أقرّه ريتشارد نيكسون عام 1971. وفي هذا السياق يرى فريدمان أن حرية الرأسمال في الاستثمار وحرية السوق هي الوسيلة الوحيدة للوصول إلى الحرّيات السياسية والاقتصادية، حين يقتصر دور الدولة على دعم الحريات في اقتصاد السوق بالقوانين والتشريعات. فما يسميه فريدمان والنيوليبراليون حرية سياسية هي حرية الأفراد في الاختيار لإشباع الحاجات من السلع في سوق التنافس بما في ذلك سلع الطبابة والتعليم والمأوى والعمل وحتى الانجاب والعائلة... وكذلك حرّيتهم في استهلاك الأفكار وحرّية "قولوا ما تشاؤون ونفعل ما نشاء". فالنيوليبرالية لا ترى احتياجات سياسية سوى نفسها لتحقيق ما تصبو إليه خدمة لوجه الله، كما قال الجنرال بينوشية أن هدفه هو "أمة من رجال الأعمال وليس أمة من البروليتاريين". ولا ترى النيوليبرالية فئات اجتماعية متباينة المصالح والطموحات أو مجتمعات ملتحمة في مصلحة وطنية جامعة، بل ترى أفرداً مؤهلين بطبيعتهم للترقي والرفاهية وأفراداً غير مؤهلين كما تقول مارغريت تاتشر عن قول أستاذها إيفون هايك الذي أعادت إحياؤه تاتشر للثورة الملوّنة في بولندا وأوروبا الشرقية.
في سبيل تلبية طموحات الرأسمال المالي والاقتصاد الافتراضي، يتميّز ميلتون فريدمان بتقديس العملة في تأسيس تيار العملة بكتابه "تحليل الاستهلاك، السياسة والاستقرار" الذي منحه جائزة نوبل عام 1976 لتأثيره في الدفاع عن ضرورة البطالة المتلازمة بالرفاهية والازدهار الاقتصادي بمقدار تراكم حجم وكمّية العملة. وعليه يكاد يندثر النظر في الاقتصاد السياسي الذي يعبّر عن سياسات اقتصادية ومدارس اقتصادية متباينة حيث باتت العملة ومنظومة الاقتصاد الافتراضي المعولَم هي الاقتصاد المطلق بالألف واللام وما عداه رواسب من الماضي الغابر. ولم يكتفِ فريدمان بتأسيس نظريات العولمة النيوليبرالية لمصلحة الشركات الكبرى وأسواق الأسهم، فاتخذ بنفسه إجراءات عملية بالصلة مع الاستخبارات الأميركية للإطاحة بالرئيس سلفادور ألليندي على طريق عولمة النيوليبرالية بدءاً من تشيلي وأميركا اللاتينية. ففي أثناء انتخاب ألليندي عام 1970، قرّرت إدارة نيكسون خطة ألف لمنعه من تسلّم الحكم بذريعة "عدم نزاهة الانتخابات" وخطة باء في الانقلاب عسكري كما كان دأبها وما يجري اليوم لإطاحة الرئيس مادورو في فنزويلا وما جرى لإطاحة رئيسة البرازيل روسيف ديلما وإطاحة رئيس بوليفيا أيفو موراليس. فقد وضعت "لجنة الأربعين" برئاسة هنري كيسنجر الخطة المزدوجة بحسب الوثائق التي رفع عنها السرّية بيل كلينتون وتكفّل بإعداد الانقلاب مدير الاستخبارات الأميركية ريتشارد هيلمز بعد فشل ألف. وفي هذا الإطار أسرّ هيلمز إلى ميلتون فريدمان أن نيكسون أمره "إجعل الاقتصاد يصرخ". فما يسميه ترامب "أقسى العقوبات على إيران" هو تقليد أميركي تتشرّبه أجهزة الإدارة والاستخبارات مع الحليب.
الخبيرة الكندية نعومي كلاين في كتابها المدروس بدقّة "عقيدة الصدمة: صعود رأسمالية الكوارث". ولم يستطع فريدمان تبرير آثار التوحّش في التدمير والتخريب الممنهج لكنه يستخلص مما سماه "معجزة تشيلي" أن الأعمال التي قام بها في تشيلي "تؤدي بالأسواق الحرّة للعمل على تحقيق مجتمع حر".
*
أفكار «النيوليبرالية».. وتحولات الاقتصاد العالمي
2019
«الليبرالية الجديدة» (النيوليبرالية)، مصطلح يحوي حمولات سياسية يسارية، غالبًا ما يُستخدم من قبل منتقدي الرأسمالية، كوصمة واتهام، أكثر منه كمفهوم لنظرية اقتصادية أو سياسية. وهي عمليًا: الحد من تدخل الدولة في الاقتصاد المحلي، من خلال تخفيض الإنفاق الحكومي على الخدمات العامة، مثل التعليم والرعاية الصحية، والرفاه الاجتماعي، والإنفاق على البنية التحتية.. وخصخصة القطاع العام، وتبن كامل لسياسات السوق دون أي دور يذكر للدولة.
وتقوم النيوليبرالية على تفعيل قانون السوق، وتحرير المقاولة الخاصة من الضرائب، ورفع الرقابة على الأسعار، وإطلاق حرية كاملة لحركة رؤوس الأموال والبضائع والخدمات، ورفع القيود عن التجارة، عبر تقليص القيد الحكومي على كل ما يمكن أن يضر بالأرباح، بما في ذلك مستلزمات حماية البيئة، أو السلامة العامة، أو دور الدولة في حماية المستهلك، وشروط ظروف العمل. ثم تأتي الخصخصة، أي بيع الشركات والمؤسسات التابعة للدولة للمستثمرين، وهذا يشمل المصارف والصناعات الرئيسية، والنقل العام، والكهرباء، والمدارس، والمستشفيات، والمياه، وحتى الخدمات الأمنية. وهذا يتم بذريعة تعظيم الكفاءة وتحسين الإنتاجية.. لكن أبرز تأثير للخصخصة هو تركيز الثروة في أيدي قلة من الناس، وجعل الجماهير تدفع أكثر للحصول على احتياجاتها. وهذا يعني القضاء على مفهوم «المصلحة العامة»، واستبداله بـ«المسؤولية الفردية»، والضغط على الفقراء لإيجاد حلول لفقرهم، للمساهمة في الرعاية الصحية والتعليم والضمان الاجتماعي من تلقاء أنفسهم.
وعلى الصعيد الدولي تجلت النيوليبرالية في الدعوة إلى تحرير التجارة العالمية، وإزالة الحواجز الجمركية والعوائق الإدارية الأخرى أمام التدفقات السلعية والمالية، وقد تأسست «منظمة التجارة العالمية» لتكون بمثابة «المدير» الصارم المشرف على التزام الدول بمبادئ التجارة الحرة.
حتى بدايات القرن العشرين، كانت «الليبرالية الاقتصادية» هي السائدة في الولايات المتحدة. وفي فترة الكساد العظيم (1929)، صاغ «جون كينز»، الخبير الاقتصادي البريطاني، نظرية مفادها: أن الليبرالية ليست دائمًا أفضل سياسة للرأسماليين، وتبنى مبدأ الاقتصاد المختلط، الذي يعتمد على السوق الحرة، وعلى تدخل الدولة في بعض المجالات أيضًا.
وفي السنوات التي تلت الحرب العالمية الثانية، كان الاقتصاد في معظم الدول محكومًا بأطر تنظيمية متمركزة حول الدولة نفسها، وعلى الرغم من سيادة نظام السوق في ذلك الوقت، فحتى الدول التي بنت اقتصادها على مبدأ السوق الحر اعتمدت في تلك المرحلة أنظمة رفاه اجتماعي «كينزية».. وبعدها، أخذت «النيوليبرالية» تشق طريقها كمنظومة فكرية، تحت تأثير الحرب الباردة، التي تجلت على المستوى الآيديولوجي كصراع بين اقتصادات السوق الغربية من جهة، واقتصاد التخطيط المركزي الموجه في الاتحاد السوفياتي والدول الاشتراكية.
لفترات طويلة، أساءت الحكومات الغربية استخدام أفكار «كينز»، بشأن مدى تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي، حيث ألقت على كاهل الدولة مهام الرعاية الاجتماعية كاملة، بأعباء تفوق طاقتها على التحمل، فشلّت عملية النمو الاقتصادي، وارتفعت الأسعار، وتفاقم التضخم. وهذا أدى إلى بدء عمليات ارتداد على السياسات «الكينزية»، وإلى عزوف الدولة عن دورها النشط في الاقتصاد، بحجة إفراطها في الإنفاق العام والخدمات العامة التي تقدمها للفئات الفقيرة والمتوسطة، وانتشرت عمليات الخصخصة على نطاق واسع، وغدت توصيات صندوق النقد الدولي في هذا الخصوص ملزمة للعديد من الدول.
وفي السبعينيات، تبنت إدارة كارتر في أمريكا وحكومة كالاهان في بريطانيا ذلك النهج الليبرالي الجديد. وبعد وصول «مارجريت تاتشر» و«رونالد ريجان» إلى السلطة، سرعان ما أصبَحا عرّابي النيوليبرالية الجديدة، التي عملت على خفض الضرائب على الأثرياء بشكل مذهل، وتقليص الإنفاق العام، وإضعاف الاتحادات والنقابات العمالية، وخصخصة الخدمات والأنشطة الحكومية.
وإذا كانت الرأسمالية تعمل في ظل قوانين الدولة وتحت رعايتها، فإن النيوليبرالية تعمل فوق الدولة، أو بديلاً عنها. ما يؤدي إلى تركز السلطة والمال بيد فئة محدودة، وتحويل البشر والبيئة إلى مجرد موارد للثراء، يتم استغلالهم بلا رحمة.
والنيوليبرالية هي المأزق الجديد للشعوب، ليس لأنها تستغل النكبات والكوارث الاقتصادية التي تصيب المجتمعات والدول وحسب، بل لأنه يجري فرضها الآن في معظم أنحاء العالم، من قبل صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي. بحيث تلغى برامج الرعاية الاجتماعية والصحية والتعليمية، والتنصل من حقوق العمال. انها سياسات اقتصادية تضر الطبقات الوسطى والضعيفة في المجتمع، وتأتي لخدمة أقلية صغيرة ومحدودة، تمثلها طبقة كبار الأثرياء.
وقد تسببت النيوليبرالية في معظم المصائب التي حاقت بالبشرية خلال العقود الأخيرة، من انهيارات مالية، وكوارث اجتماعية.. مثل الأزمة المالية العالمية 2007-2008, وتداعياتها الخطيرة، كالغلاء، والبطالة، وهبوط مستويات الصحة العامة وتفشّي الأوبئة في بعض البلدان، وانخفاض جودة التعليم، وتنامي ظاهرة عمل الأطفال، وذيوع الإحساس بالغربة الاجتماعية، حتى أضحت الانعزالية سمة عصر التطور والتكنولوجيا، وقلَّت التفاعلات الإنسانية.. ناهيك عن اختلال الأنظمة البيئية جرّاء التلوث وانبعاثات السموم.. وحتى صعود اليمين، والشعبويين، أمثال ترامب.
وتلائم النيوليبرالية كبار الرأسماليين، وتُشرَّعِن سُلطانهم؛ بحيث يستغل هؤلاء «الحرية» الممنوحة لهم، للتحرر من القوانين، بما في ذلك حُرية تلويث المصادر الطبيعية، أو إزالة إجراءات الحماية الاجتماعية والوقاية البيئية، أو عدم إتباع قواعد السلامة المهنية للعمال.
وقد أدت النيوليبرالية إلى تفكيك مؤسسات الدول في العالم الثالث، وتمزيق حدودها الاقتصادية وإفقار الملايين من الناس. وخلقت الكثير من المشكلات الاجتماعية والسياسية في المجتمعات النامية، التي فُرضت عليها هذه السياسات. كما حدث في الأرجنتين مثلا، أثناء رئاسة كارلوس منعم، الذي اتبع مبدأ الصدمة، من خلال تسريح مئات الألوف من الموظفين، والخصخصة الواسعة التي شملت قطاعات النفط والبنوك والخطوط الجوية، الأمر الذي أنتج فقاعة اقتصادية مؤقتة، أعقبها أكبر إفلاس مالي شهدته البلاد، ترتبت عليه آثار اجتماعية وإنسانية وخيمة.
وكما حدث في المكسيك وتشيلي، حيث انهارت فيها الأجور إلى النصف، ثم ارتفعت تكاليف المعيشة، ما أدى إلى إفلاس آلاف الشركات الصغيرة والمتوسطة، وخصخصة الشركات التابعة للدولة. وما فرضته أمريكا على العراق، وتفرضه الآن على فنزويلا.
*
مخاطر الليبرالية الجديدة!
صحيفة الأيام البحرينية - السبت 20 يوليو 2019
يجهل الكثيرون مصطلح «الليبرالية الجديدة» أو «النيوليبرالية» رغم أنه النظام الاقتصادي الذي يحكم العالم منذ نحو أكثر من 30 عاماً،
المذهب الاقتصادي يدعو إلى إطلاق حرية الأفراد وتقليص دور الحكومات في الاقتصاد لأكبر درجة ممكنة، ويشجع على إزالة الضوابط على حركة رأس المال الخاص، وبالتالي الخصخصة، ومعاداة التنظيمات النقابية وغيرها، وباختصار هو أحد أشكال اقتصاد «السوق الحر» لكن خصومه يرونه أكثر تطرفاً وإضراراً بالفقراء والعمال.
فقد لعبت الليبرالية الجديدة دوراً رئيسياً في مجموعة من الأزمات منها: الانهيار المالي الذي حدث في عام 2007، وانتشار مراكز الاوفشور المالية التي يخفي فيها الأثرياء أموالهم بعيداً عن سلطات الضرائب، والانهيار البطيء في قطاعات الصحة والتعليم، زيادة الفقر، انتشار الامراض النفسية، انهيار النظم البيئية، وصعود دونالد ترامب، ولكننا نتعامل مع هذه الأزمات كما لو أنها ظواهر معزولة، غير مدركين أنها جميعاً قد ظهرت وتفاقمت بسبب هذا النظام الذي يعمل وينشط ويؤثر دون أن يكون له اسم.
وترى «الليبرالية الجديدة» أن المنافسة هي السمة المميزة للعلاقات الإنسانية، وتعيد تعريف المواطنين بوصفهم مستهلكين، أفضل خياراتهم الديمقراطية تتمثل في قراراتهم بالبيع والشراء والبيع والشراء عملية تكافئ الجدارة وتعاقب عدم الكفاءة، فالسوق يحقق فوائد لا يمكن تحقيقها من خلال التخطيط المركزي للدولة!.
التخفيض الضريبي الضخم للأغنياء، سحق النقابات، إلغاء الضوابط على حرية النشاط الاقتصادي للأفراد المؤسسات، والخصخصة، والمنافسة من جانب القطاع الخاص على تقديم الخدمات العامة، ومن خلال صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ومعاهدة ماستريخت، ومنظمة التجارة العالمية، فرضت السياسات النيوليبرالية – في كثير من الاحيان دون موافقة ديمقراطية – في معظم أنحاء العالم.
والمذهب الذي يقوم على حرية الاختيار – كما يقول مون بيوت – تم الترويج له تحت شعار «ليس هناك بديل» وترى «الليبرالية الجديدة» أن محاولات الحد من المنافسة عمل معادٍ للحرية، وتسعى للتقليل إلى أدنى حد من الضوابط على حركة رأس المال وتقليل الضرائب، وتستهدف خصخصة الخدمات العامة، وتعتقد أن تنظيم النقابات العمالية والمفاوضات الجماعية نيابة عن العامل تشوهات في السوق تعرقل تشكيل التسلسل الطبيعي للفائزين والخاسرين، وفي النهاية هي ترى عدم المساواة فضيلة، لأنها في حقيقتها مكافأة للكفء على كفاءته وفرصه لتوليد الثروة، والجهود الرامية إلى ايجاد مجتمع اكثر مساواة تأتي بنتائج عكسية، فالسوق وحده يضمن أن يحصل الجميع على ما يستحقونه!.
ومع الإلحاح في تكرار هذه الأفكار بدا الناس يتشبعون بها، فالأغنياء يقنعون أنفسهم بأنهم حصلوا على ثروتهم من خلال الجدارة، متجاهلين مزايا – مثل التعليم المميز والميراث والطبقة الاجتماعية التي قد تكون ساعدتهم على تحقيق هذه الثروة – ويلوم الفقراء أنفسهم على فشلهم، حتى عندما لا يستطيعون أن يفعلوا شيئاً يذكر لتغيير ظروفهم فإذا لم يكن لديك وظيفة فأنت السبب لأنك غير مؤهل وغير مبدع، وأنت المسؤول ايضاً عن عجزك عن تحمل التكاليف المالية للسكن والتورط في الديون وعدم قدرتك على إرسال أطفالك لمدرسة أفضل، وأنت المخطئ حين يزيد وزنك لأنك لم تستطع أن تتحمل تكلفة نادٍ رياضي!.
وفي عالم يحكمه التنافس يتم تعريف الفقراء بالضرورة على أنهم فاشلون، ويعتقد «بول هيجي» في كتابه «ماذا عني» أن «هذا النظام أدى لانتشار كثير من الأمراض مثل اضطراب الأكل، والاكتئاب والشعور بالوحدة، والقلق الدائم من فقدان العمل».
ولعل أخطر آثار الليبرالية الجديدة ليست الأزمات الاقتصادية التي سببتها، بل الأزمات السياسية، فمع تراجع دور الدولة تقلصت ايضاً قدراتنا على تغيير مسار حياتنا من خلال التصويت مما صرف الكثيرين عن المشاركة السياسية!.
عندما لا يكون النقاش السياسي مجدياً إلينا، يصبح الناس أكثر استجابة للشعارات والرموز والإحساس، ولكل مؤيدي، الرئيس الامريكي دونالد ترامب، على سبيل المثال الحقائق والحجج تبدو غير مهمة».
في حين يلاحظ «مون بيوت» في كتابه «غالباً ما تخفى الكلمات التي تستخدمها النيوليبرالية أكثر مما توضح» مشيراً إلى السوق أن «السوق» يبدو وكأنه نظام طبيعي مثل الجاذبية والضغط الجوي يتعامل مع الجميع على قدم المساواة، ولكن الواقع أنه محكومة بالتربيطات ومصالح الأثرياء، وعندما تسمع كلمة «هذا ما يريده الشركات الكبيرة ورؤساؤها» ويضيف: رغم كل ذلك هناك شيء مثير للإعجاب حول المشروع النيوليبرالي على الأقل في مراحله الأولى، فقد كانت فلسفة مميزة ومبتكرة تروج لها شبكة متماسكة من المفكرين والناشطين مع خطة عمل واضحة وبصبر ودأب، ما جعل (الطريق إلى العبودية) الطريق إلى السلطة يعكس انتصار النيوليبرالية، ايضاً فشل اليسار، عندما فشلت الليبرالية الأولى أو اقتصاد السوق الحر، وقاد العالم إلى كارثة الكساد العظيم في عام 1929 وضع كينز نظرية اقتصادية شاملة لتحل محلها وعندما فشلت نظرية كينز في السبعينات، كانت النيوليبرالية البديل، ولكن عندما انهارت النيوليبرالية في عام 2008 لم يكن هناك بديل، هذا هو السبب في استمرارها حتى الآن.
*
May 22, 2020
سيقوض النظام الدولي ويغير الاقتصاد.. هكذا سيغير كورونا الوجه النيوليبرالي للعالم
تعقيدات تتصل بالنظام الاقتصادي والاجتماعي السائد عالميا، وبهوس الربح والتراكم الرأسمالي، وآليات إدارتنا لحياتنا المادية؛ ما يجعل كورونا تحديا أقرب لتحدٍّ حضاري، لا مجرد مرض أو وباء ننتظر له مصلا، كما يفتح أبوابا واسعة لتغيّرات في النظرة الاجتماعية العامة لمسائل الاقتصاد،
نمط الإنتاج الرأسمالي الكبير المتمحور حول خلق الأرباح بتوسيع نطاق تراكمه بشكل لا نهائي، حتى لو اعتمد في سبيل تحقيقه لتلك الأرباح على أساليب إنتاجية مضرّة تخلق ظروفا مواتية لنشأة وانتشار أمراض جديدة، والثانية هي الاختلالات البيئية الناتجة عن نهم التراكم الربحي المذكور، الذي أدّى إلى اختلال العلاقة بين الإنسان والبيئة، وبشكل أعم التغيّر المناخي، الذي قاد -كذلك- لظهور أمراض جديدة مثل كورونا وسارس، وعودة أمراض قديمة مثل الملاريا والسل والأمراض الاستوائية،
تهديد حضاري، وليس مجرد مشكلة صحية.
النموذج النيوليبرالي للحياة
الركائز الأساسية للنظام الرأسمالي لإخبارنا عن الجذور الهيكلية للوضع الحالي
النيوليبرالية السائدة منذ أواسط سبعينيات القرن الماضي.
فأولا، يقوم النظام الرأسمالي على حافز الربح، ارتباطا بقيادة القطاع الخاص للنشاط الاقتصادي بمناحيه كافة، فتتحقق أهداف تخصيص الموارد على الاحتياجات، وإنتاج السلع والخدمات، وتوزيع الناتج الاجتماعي من خلال حوافز الربح، وتفاعل قوى العرض والطلب، يظهر ذلك عموما وتطبيقيا في ربط مصلحة المجتمع بمصلحة القطاع الخاص، بل وتحقيقها أساسا من خلاله، ما يتجلّى في السياسات الحكومية التي تدفع دوما بحزم إنقاذ الاقتصاد من خلال دعم القطاع الخاص ومُلّاكه الأغنياء، تاركة الفقراء لنزاهة وكرم ذلك القطاع الخاص وأغنيائه في نقل آثار تلك الحزم إليهم، كذا، وهو الأهم، من خلال هيمنة حسابات واعتبارات الربح الضيقة على ما سواها من حسابات واعتبارات اجتماعية، بشكل أنتج وغلّب نوعا من العقلانية الاقتصادية ضيقة الأفق قصيرة الأجل على أولويات العقلانية الاجتماعية الأوسع أفقا والأطول أجلا، وما قضية التغيّر المناخي سوى أحد الأمثلة.
ثانيا، يسعى رأس المال للتراكم المستمر، مرتبطا بذلك بهدف "النمو للنمو" على مستوى الدول والمجتمعات، أو هوس مؤشر الناتج المحلي الإجمالي "GDP" الشهير، والذي يفترض قدرة لا نهائية لنمو الاقتصادات وتوسّع الاستهلاك، بغض النظر عن حدود الموارد الطبيعية وحاجات التوازن البيئي، ما أخلّ بعلاقة التبادل بين الإنسان والبيئة، حتى نشأ ما عُرف بالفجوة الإيكولوجية التي تُعبّر عن اختلال علاقة التبادل والتوازن تلك بين الطرفين، والتي كان قد نبّه إليها مُبكرا تقرير "حدود النمو" الشهير، الذي صدر عن نادي روما عام 1972م، وتبعته سلسلة تقارير أخرى، ليؤكّد ضرورة التوازن بين حاجات السكان ونمو الاقتصاد من جهة، واستهلاك والموارد والتوازن البيئي من جهة أخرى، ويُحذِّر من تجاوز "الاقتصاد لحدود الطبيعة"
ثالثا، سيطرت البورصات والبنوك، أو رأس المال المالي والمصرفي بصيغة أخرى، على الاقتصاد الرأسمالي وتوجهاته منذ ما يقارب القرن، وتعزّزت هيمنتها مع صعود النيوليبرالية منذ السبعينيات، بحيث أصبحت مؤشراتها في طليعة مؤشرات الازدهار والانهيار الاقتصادي وأهمها لدى الحكومات والإعلام، لتضخ فيها الحكومات التريليونات أوقات الأزمات، باعتبارها حجر أساس استقرار الاقتصاد، فيما الواقع أنها بانفصالها الكبير عن الاقتصاد العيني (أي الاقتصاد الإنتاجي الحقيقي من زراعة وصناعة وخدمات)، بجانب سيطرة المضاربة ورؤوس الأموال الساخنة عليها، تعاني من هشاشة تكوينية تجعلها قابلة للانهيار مع أية هزّة، جارّة معها كامل الاقتصاد، حيث أصبح وضع الاقتصادات الرأسمالية يشبه هرما مقلوبا يقف على رأسه بتوازن صعب وغير منطقي، فتتجاوز قيمةُ الأوراق المالية من أسهم وسندات وما شابه من صكوك ملكية القيمةَ الحقيقيةَ للأصول المادية التي يُفترض أنها تُمثِّلها من ممتلكات عينية ورأس مال إنتاجي، أي بصيغة أخرى تتراكم ديون مالية وهمية بدون مقابل مادي حقيقي (اعتمادا فقط على الثقة بها ووعود السداد حين الطلب)؛ ما يجعل أي اهتزاز في العلاقة بينهما يرتد على الاقتصاد كله بتذبذبات هائلة قد تودي بالاقتصادين المالي والعيني معا.
رابعا، تتسم الرأسمالية بكونها نظاما عالميا بطبيعتها، لذا فإنها تحتاج إلى التوسّع المستمر وتقسيم العمل دوليا؛ ما يجعل التجارة الدولية إحدى أهم ركائزها، حتى إن كثيرا من المُنظِّرين لا يرون العولمة شيئا جديدا، بل مجرد تعزيز للميل العالمي المتأصل في الرأسمالية منذ نشأتها، يسّرته ووسّعت نطاقه ثورة الاتصالات لا أكثر، هذه التجارة الدولية التي تعود التنظيرات لها إلى عهد منظّري الرأسمالية الأوائل، آدم سميث (ونظريته في الميزة التجارية المطلقة)، وديفيد ريكاردو (ونظريته في الميزة التجارية النسبية)، كتفسيرات وتأسيسات نظرية لمزايا التجارة الدولية على صعيد تقسيم العمل وكفاءة استخدام الموارد والرخاء العالمي عموما، والتي على أساسها نادى الاقتصاديون الليبراليون دوما بتعميق الاندماج في السوق الدولية، وعدم جدوى مساعي الاكتفاء الذاتي، وضرر بناء صناعات وطنية غير ضرورية، إلى آخره من تنظيرات ومن خطابات ليبرالية تقليدية للمنظمات الرأسمالية الدولية.
هذه المكونات الأربعة يمكن اعتبارها الأبقار المُقدسة للرأسمالية، فهي أهم مكوناتها قطعا، وإن لم يكن حصرا، وقد تشابكت هذه المكونات مع أزمة كورونا بشكل مباشر أو غير مباشر، إما خلقا لها على ما سبق ذكره، من خلال دور القطاع الخاص وحافز الربح في إنشاء المزارع الكبيرة والمساهمة في التغير المناخي، أو تأثُّرا، كما سنتبيّن بالمسح المُوجز لأهم الآثار الاقتصادية والاجتماعية لأزمة كورونا.
أولا: تراجع كبير في الثقة العامة بالقطاع الخاص وتغليب منطق الربح في القطاعات الاجتماعية الأساسية، مثل الصحة والبحث العلمي، التي تأكّدت خطورة تركها للقطاع الخاص مع احتمالات انهيار الأنظمة الصحية حتى في أعتى الدول تقدُّما ورفاهة، وبروز ضعف الاستعداد العام أمام احتمالات الأوبئة سريعة الانتشار.
ثانيا: هزّة قوية في الإيمان بنجاعة ومتانة نظام التجارة الدولية وسلاسل التوريد والقيمة العالمية الكبيرة والمعقدة، التي تبيّنت مخاطرها وهشاشتها بمجرد ظهور تهديد متوسط الخطورة مثل فيروس كورونا الحالي، بحيث ستعاود الكثير من الدول الاهتمام بتوفير حدٍّ أدنى من الاكتفاء الذاتي من السلع الإستراتيجية، وبناء قواعد راسخة للقطاعات الأساسية بها؛ لتكون مستعدة لأي اضطرابات مماثلة بالتجارة الدولية تعوق انتقال السلع الأساسية بين الدول.
ثالثا: اتجاهات للانغلاق وتعزيز الدول القومية، تدعمه خبرة الدول حاليا مع ميل كلٍّ منها للحلول الفردية وضعف التعاون الدولي، حتى داخل أكبر وأنجح التكتلات الإقليمية، مثل الاتحاد الأوروبي الذي خرجت من بعض دوله شكاوى مُرّة من العزلة وعدم التعاون ووهم الأخوة الأوروبية، بل واتجه كثير منها لطلب المساعدة والتعاون من الصين عوضا عن تلك الشراكة الأوروبية العاجزة.
رابعا: ستتغيّر أساليب الإنتاج الزراعي والحيواني الكبير، ومعها أنماط الاستهلاك الغذائي والاشتراطات الصحية، كما ستتعزّز برامج البحث العلمي المشتبكة مع جوانبها الاجتماعية والبيئية، متجاوزة الاكتفاء الحالي بالاعتبارات الإنتاجية والتكاليفية المباشرة؛ ما يعني من جهة دورا أكبر وتدخلا أعمق من جانب الدولة في تنظيمها وعملها، ومن جهة أخرى وزنا أقل نسبيا لاعتبارات الربح قصيرة الأجل لصالح اعتبارات السلامة الإنسانية والاجتماعية والبيئية الأشمل؛ لتجنّب تكرار سيناريو فيروس كورونا المُستجد، خصوصا مع تجاوزه أثرا وخطرا أسلافه السابقين مثل سارس وميرس.
خامسا: ستزداد المخاوف من الهيمنة المالية والمصرفية الهائلة، بما يتصل بها من هشاشة اقتصادية تُهدِّد بالانهيارات السريعة دوما مع كل صدمة عرض أو طلب فعلية أو لمجرد مخاوف استثمارية، وارتباطا بذلك، من المُرجَّح حدوث تراجع جزئي في هيمنة السياسات النقدية والبنوك المركزية التي تغوّلت على السياسات الاقتصادية لأغلب حكومات العالم منذ السبعينيات لصالح عودة السياسات المالية (الإيرادات والنفقات الحكومية) وصعود السياسات الدخلية (المتعلقة بهيكلة الأجور والدخول عموما والإعانات وما في حكمها).
سادسا: ربما تتراجع جزئيا النزعة الاستهلاكية التي سادت منذ السبعينيات مع التجربة المؤلمة للركود وانقطاع الدخول وفقدان الأمان الوظيفي، فتزداد الميول الادخارية ونزعات "المينيماليزم" أو التقليل من الاستهلاك والشراء قدر الإمكان، تخوفا من الأزمات المشابهة التي تتجاوز كونها مجرد أزمات اقتصادية تقليدية لكونها أزمات توقف كامل للحياة، كذا بحكم ما سيتعلّمه ويعتاده الناس من عادات فترة الأزمة الطويلة، حتى وإن عاودوا رفع استهلاكهم مؤقتا كنوع من التعويض بعد انقضاء الأزمة.
سابعا: ستتغيّر أنماط العمل، ويزداد الاتجاه للاستفادة من التقنيات الحديثة للعمل عن بُعد، خصوصا بعد اتساعها وتجربتها عمليا وإجباريا في خضم الأزمة، وما سيظهر لها من مزايا للشركات والعاملين على السواء، فضلا عما ستوفّره من تكاليف نقل وحركة وبنية تحتية تتحمّلها الحكومات.
كيف يتغذى الاحتيال والفساد على الأخلاق النيوليبرالية؟!
ثانيا، يسعى رأس المال للتراكم المستمر، مرتبطا بذلك بهدف "النمو للنمو" على مستوى الدول والمجتمعات، أو هوس مؤشر الناتج المحلي الإجمالي "GDP" الشهير، والذي يفترض قدرة لا نهائية لنمو الاقتصادات وتوسّع الاستهلاك، بغض النظر عن حدود الموارد الطبيعية وحاجات التوازن البيئي، ما أخلّ بعلاقة التبادل بين الإنسان والبيئة، حتى نشأ ما عُرف بالفجوة الإيكولوجية التي تُعبّر عن اختلال علاقة التبادل والتوازن تلك بين الطرفين، والتي كان قد نبّه إليها مُبكرا تقرير "حدود النمو" الشهير، الذي صدر عن نادي روما عام 1972م، وتبعته سلسلة تقارير أخرى، ليؤكّد ضرورة التوازن بين حاجات السكان ونمو الاقتصاد من جهة، واستهلاك والموارد والتوازن البيئي من جهة أخرى، ويُحذِّر من تجاوز "الاقتصاد لحدود الطبيعة"
ثالثا، سيطرت البورصات والبنوك، أو رأس المال المالي والمصرفي بصيغة أخرى، على الاقتصاد الرأسمالي وتوجهاته منذ ما يقارب القرن، وتعزّزت هيمنتها مع صعود النيوليبرالية منذ السبعينيات، بحيث أصبحت مؤشراتها في طليعة مؤشرات الازدهار والانهيار الاقتصادي وأهمها لدى الحكومات والإعلام، لتضخ فيها الحكومات التريليونات أوقات الأزمات، باعتبارها حجر أساس استقرار الاقتصاد، فيما الواقع أنها بانفصالها الكبير عن الاقتصاد العيني (أي الاقتصاد الإنتاجي الحقيقي من زراعة وصناعة وخدمات)، بجانب سيطرة المضاربة ورؤوس الأموال الساخنة عليها، تعاني من هشاشة تكوينية تجعلها قابلة للانهيار مع أية هزّة، جارّة معها كامل الاقتصاد، حيث أصبح وضع الاقتصادات الرأسمالية يشبه هرما مقلوبا يقف على رأسه بتوازن صعب وغير منطقي، فتتجاوز قيمةُ الأوراق المالية من أسهم وسندات وما شابه من صكوك ملكية القيمةَ الحقيقيةَ للأصول المادية التي يُفترض أنها تُمثِّلها من ممتلكات عينية ورأس مال إنتاجي، أي بصيغة أخرى تتراكم ديون مالية وهمية بدون مقابل مادي حقيقي (اعتمادا فقط على الثقة بها ووعود السداد حين الطلب)؛ ما يجعل أي اهتزاز في العلاقة بينهما يرتد على الاقتصاد كله بتذبذبات هائلة قد تودي بالاقتصادين المالي والعيني معا.
رابعا، تتسم الرأسمالية بكونها نظاما عالميا بطبيعتها، لذا فإنها تحتاج إلى التوسّع المستمر وتقسيم العمل دوليا؛ ما يجعل التجارة الدولية إحدى أهم ركائزها، حتى إن كثيرا من المُنظِّرين لا يرون العولمة شيئا جديدا، بل مجرد تعزيز للميل العالمي المتأصل في الرأسمالية منذ نشأتها، يسّرته ووسّعت نطاقه ثورة الاتصالات لا أكثر، هذه التجارة الدولية التي تعود التنظيرات لها إلى عهد منظّري الرأسمالية الأوائل، آدم سميث (ونظريته في الميزة التجارية المطلقة)، وديفيد ريكاردو (ونظريته في الميزة التجارية النسبية)، كتفسيرات وتأسيسات نظرية لمزايا التجارة الدولية على صعيد تقسيم العمل وكفاءة استخدام الموارد والرخاء العالمي عموما، والتي على أساسها نادى الاقتصاديون الليبراليون دوما بتعميق الاندماج في السوق الدولية، وعدم جدوى مساعي الاكتفاء الذاتي، وضرر بناء صناعات وطنية غير ضرورية، إلى آخره من تنظيرات ومن خطابات ليبرالية تقليدية للمنظمات الرأسمالية الدولية.
هذه المكونات الأربعة يمكن اعتبارها الأبقار المُقدسة للرأسمالية، فهي أهم مكوناتها قطعا، وإن لم يكن حصرا، وقد تشابكت هذه المكونات مع أزمة كورونا بشكل مباشر أو غير مباشر، إما خلقا لها على ما سبق ذكره، من خلال دور القطاع الخاص وحافز الربح في إنشاء المزارع الكبيرة والمساهمة في التغير المناخي، أو تأثُّرا، كما سنتبيّن بالمسح المُوجز لأهم الآثار الاقتصادية والاجتماعية لأزمة كورونا.
أولا: تراجع كبير في الثقة العامة بالقطاع الخاص وتغليب منطق الربح في القطاعات الاجتماعية الأساسية، مثل الصحة والبحث العلمي، التي تأكّدت خطورة تركها للقطاع الخاص مع احتمالات انهيار الأنظمة الصحية حتى في أعتى الدول تقدُّما ورفاهة، وبروز ضعف الاستعداد العام أمام احتمالات الأوبئة سريعة الانتشار.
ثانيا: هزّة قوية في الإيمان بنجاعة ومتانة نظام التجارة الدولية وسلاسل التوريد والقيمة العالمية الكبيرة والمعقدة، التي تبيّنت مخاطرها وهشاشتها بمجرد ظهور تهديد متوسط الخطورة مثل فيروس كورونا الحالي، بحيث ستعاود الكثير من الدول الاهتمام بتوفير حدٍّ أدنى من الاكتفاء الذاتي من السلع الإستراتيجية، وبناء قواعد راسخة للقطاعات الأساسية بها؛ لتكون مستعدة لأي اضطرابات مماثلة بالتجارة الدولية تعوق انتقال السلع الأساسية بين الدول.
ثالثا: اتجاهات للانغلاق وتعزيز الدول القومية، تدعمه خبرة الدول حاليا مع ميل كلٍّ منها للحلول الفردية وضعف التعاون الدولي، حتى داخل أكبر وأنجح التكتلات الإقليمية، مثل الاتحاد الأوروبي الذي خرجت من بعض دوله شكاوى مُرّة من العزلة وعدم التعاون ووهم الأخوة الأوروبية، بل واتجه كثير منها لطلب المساعدة والتعاون من الصين عوضا عن تلك الشراكة الأوروبية العاجزة.
رابعا: ستتغيّر أساليب الإنتاج الزراعي والحيواني الكبير، ومعها أنماط الاستهلاك الغذائي والاشتراطات الصحية، كما ستتعزّز برامج البحث العلمي المشتبكة مع جوانبها الاجتماعية والبيئية، متجاوزة الاكتفاء الحالي بالاعتبارات الإنتاجية والتكاليفية المباشرة؛ ما يعني من جهة دورا أكبر وتدخلا أعمق من جانب الدولة في تنظيمها وعملها، ومن جهة أخرى وزنا أقل نسبيا لاعتبارات الربح قصيرة الأجل لصالح اعتبارات السلامة الإنسانية والاجتماعية والبيئية الأشمل؛ لتجنّب تكرار سيناريو فيروس كورونا المُستجد، خصوصا مع تجاوزه أثرا وخطرا أسلافه السابقين مثل سارس وميرس.
خامسا: ستزداد المخاوف من الهيمنة المالية والمصرفية الهائلة، بما يتصل بها من هشاشة اقتصادية تُهدِّد بالانهيارات السريعة دوما مع كل صدمة عرض أو طلب فعلية أو لمجرد مخاوف استثمارية، وارتباطا بذلك، من المُرجَّح حدوث تراجع جزئي في هيمنة السياسات النقدية والبنوك المركزية التي تغوّلت على السياسات الاقتصادية لأغلب حكومات العالم منذ السبعينيات لصالح عودة السياسات المالية (الإيرادات والنفقات الحكومية) وصعود السياسات الدخلية (المتعلقة بهيكلة الأجور والدخول عموما والإعانات وما في حكمها).
سادسا: ربما تتراجع جزئيا النزعة الاستهلاكية التي سادت منذ السبعينيات مع التجربة المؤلمة للركود وانقطاع الدخول وفقدان الأمان الوظيفي، فتزداد الميول الادخارية ونزعات "المينيماليزم" أو التقليل من الاستهلاك والشراء قدر الإمكان، تخوفا من الأزمات المشابهة التي تتجاوز كونها مجرد أزمات اقتصادية تقليدية لكونها أزمات توقف كامل للحياة، كذا بحكم ما سيتعلّمه ويعتاده الناس من عادات فترة الأزمة الطويلة، حتى وإن عاودوا رفع استهلاكهم مؤقتا كنوع من التعويض بعد انقضاء الأزمة.
سابعا: ستتغيّر أنماط العمل، ويزداد الاتجاه للاستفادة من التقنيات الحديثة للعمل عن بُعد، خصوصا بعد اتساعها وتجربتها عمليا وإجباريا في خضم الأزمة، وما سيظهر لها من مزايا للشركات والعاملين على السواء، فضلا عما ستوفّره من تكاليف نقل وحركة وبنية تحتية تتحمّلها الحكومات.
أساليب جديدة ونظرة مختلفة للحياة
وبالنظر لهذه التغيّرات كافة؛ يمكننا استنتاج تفتّح إمكانات لبعض التحوّلات النوعية في الوعي الاجتماعي، أي تحوّلات على مستوى الأيديولوجية تتماشى مع التحولات الاقتصادية والاجتماعية المذكورة، بما يفتح أبوابا لتغيرات حقيقية أوسع في كامل حياتنا، إنها الرؤية الجديدة للاقتصاد التي يمكن لكورونا أن يهبنا إياها، والتي ستشمل غالبا تغيّرات جذرية في المواقف تجاه أبقار الرأسمالية المقدسة.
فأولا، من المُرجَّح جدا أن تكسب دعوات تقرير "حدود النمو" المذكور آنفا مزيدا من القبول على حساب أيديولوجية "النمو للنمو" المرتبطة بالتراكم المستمر لرأس المال، فبعد ظهور عينات بسيطة من مخاطر الاختلال البيئي والتغير المناخي الناتجة عنها من جهة، ومع تجربة العزل الإجباري والتوقف المؤقت عن العمل من جهة أخرى؛ ستتبيّن بمزيد من الوضوح أهمية اعتماد أفق واقعي للنمو الاقتصادي والتوسع الاستهلاكي، كما ستظهر إمكانات جديدة للناس تتعلّق بخفض يوم وأسبوع العمل، خصوصا مع ما قد يتكوّن من عادات استهلاكية جديدة أكثر رشدا وتوازنا.
ثانيا، ربما تتّجه الحكومات إلى مزيد من السيطرة على أسواقها المحلية، وتحقيق قدر من الاكتفاء الذاتي، وتقصير سلاسل توريدها من الخارج، وتقليص هيمنة رأس المال المالي ودور البورصات والأموال الساخنة؛ لتقليل المخاطر والهشاشة المتصلة بها، كما ستقلّص هيمنة القطاع الخاص وحافز الربح على القطاعات الإنسانية والاجتماعية الإستراتيجية لصالح مزيد من الصالح الاجتماعي العام عليها.
ثالثا، وأخيرا وليس آخرا، سيتنامى وعي متناقض تجاه عالمية النظام الرأسمالي، فمن ناحية، ستستعيد الدولة القومية بعض قوتها وأهميتها في المدى القصير، ويتراجع التعاون الدولي وربما تتقلّص التجارة الدولية وحرية حركة رأس المال جزئيا، لكن من ناحية أخرى كذلك، سيزداد الوعي بأهمية التنسيق الدولي في الملفات ذات التأثيرات العالمية العابرة للحدود. ومع ذلك، لن يكفي هذا التغيّر المحتمل في نظرتنا للاقتصاد لإحداث تغيّر موازٍ في واقعنا معه، فهذا يشترط فعلا اجتماعيا وتوازنات قوى، وبالمُجمل نضالات شعبية ربما لا تتراكم القوى الكافية لها في المدى المنظور، وإن ظلّت النظرة الجديدة خطوة مهمة على طريقها.
*
كان من المفترض أن يكون كتاب "عقيدة الصدمة: صعود رأسمالية الكوارث" للمؤلفة الكندية نعومي كلاين الصادر عن شركة المطبوعات للنشر والتوزيع في بيروت، عن أحداث 11 أيلول/ سبتمبر 2001 والإرهاب والحروب، إلا أن سير الأحداث تغير. فقد سافرت نعومي كلاين إلى العراق كمراسلة صحافية أثناء الغزو الأميركي هناك. وفي عام 2004، حصل التسونامي في جنوب شرق آسيا، وبعده بركان كاترينا.
نعومي كلاين من أبرز الرموز الفكرية لحركة مناهضة العولمة النيوليبرالية التي انطلقت في أواخر تسعينيات القرن الماضي
استناداً لنظرية عقيدة الصدمة لفهم الطريقة الوحشية المتبعة التي تستغل إرتباك جماهير العامة عبر أشكال متعددة من الصدمات: حروب، انقلابات عسكرية، هجمات إرهابية، هجمات على الأسواق، أو كوارث طبيعية، للدفع بالتدابير المؤيدة للفكر الراديكالى المسمى بـ"المعالجة بالصدمة".
توضح كلاين رؤيتها عن عقيدة الصدمة بأنها الإستراتيجية السياسية التي توظف الأزمات الواسعة النطاق لفرض سياسات تعمق الفوارق الاجتماعية وتزيد من ثراء النخب وتفقر جميع الآخرين. ففي لحظات الأزمات يركز الناس على الأولويات المرتبطة بضمان شروط البقاء ويميلون لمنح ثقة زائدة الى من هم في السلطة.
يقوم مذهب رأسمالية الكوارث بالتعاون مع الشركات الكبرى العابرة للقارات على استغلال كارثة، سواء أكانت انقلاباً، أم هجوماً إرهابياً، أم انهياراً للسوق، أم حرباً، أم تسونامي، أم إعصاراً، من أجل تمرير سياسات اقتصادية واجتماعية يرفضها السكان في الحالة الطبيعية.
ففي الكارثة يسهل تمرير أي شيء من مخطاطتهم، إذ يكون الناس في هلع لا يملكون معه أي مقاومة. وتقول: بعد كل كارثة يتحرك المقاولون أصحاب الأعمال الخاصة مستخدمين التملق للبحث عن الأعمال المُنجزة بشكل سيء، يلى ذلك إنفاق مليارات الدولارات من ميزانية الحكومة، مثلما حدث في برج غرينفل وإعصار كاترينا، الكارثة التي كشفت عن الازدراء الذي يعانيه الفقراء.
*
May 2, 2021
غواية النيوليبرالية
النيوليبرالية ليست محصورة بمجموعة إجراءات سياسية اقتصادية واضحة المعالم، بل يمكن لروحيتها - كمنهج لفهم الحياة العامة والخاصة - أن تسيطر على أيّ سياق من دون أن تظهر معالم السياسات النيوليبرالية
Apr 29, 2020
كيف أصبحت النيوليبرالية الأمريكية جائحة اقتصادية عالمية؟
خلفية تاريخية لنشوء النيوليبراليةبعد الحرب العالمية الثانية، تبنت أمريكا نظريات عالم الاقتصاد البريطاني كينز الذي تبنى ضرورة التدخل الحكومي في السوق لمنع الشركات من السلوكيات الخاطئة التي قد ينتج عنها أذى للاقتصاد والمجتمع. وقد استمرت النظرية الكنزية بحكم النظام الرأسمالي منذ عام 1945 حتى أوائل العقد 1970. وقد عرفت الأيديولوجية التي حكمت الاقتصاد في تلك الفترة بالليبرالية المتضمنة Embedded Liberalism إشارة إلى وجود حرية في السوق مع تدخل حكومي عند الحاجة. في تلك الحقبة، كانت كل الأمور التي من شأنها أن تقدم الرفاه الاجتماعي للسكان بيد الدولة. كما أن ممتلكات الدول من قطاعات الصحة والاتصالات والمواصلات والتعليم وغيرها كانت تدار من قبل الدولة. ولم يكن أحد يتجرأ آنذاك بأن ينادي بنقل ملكية الدولة لتلك القطاعات الحيوية إلى القطاع الخاص لأنها ببساطة تمس حياة المواطن البسيط الذي هو المحور الرئيس في الإنتاج والاستهلاك في النظام الرأسمالي.ومن فترة الأربعينيات إلى سبعينييات القرن المنصرم، عملت مراكز الدراسات وجماعات الضغط التي تمول من الأثرياء على تشويه الليبرالية المتضمنة والترويج لآيديلوجية جديدة عرفت باسم النيوليبرالية. ومن أبرز المنظرين لتلك الآيديولوجية البروفيسور فريدريك فون هايك وتلميذه ميلتون فريدمان من جامعة شيكاغو. وبدعم مالي من تحالفات لشركات تهمها ما ستنتجه الأيديلوجية الجديدة، تم إنشاء الكثير من مراكز الدراسات والأبحاث التي روجت للفكرة واظهرتها بشكل جميل لكافة الأطرف ذات العلاقة. وقد نجح مروجو النيوليبرالية آنذاك في إقحامها في أجندة حزب المحافظين في أمريكا في عهد رونالد ريغان في بدايات الثمانينيات من القرن المنصرم.تبنى ريغان هذه الأيديولوجية التي تقضي بمنح الحرية المطلقة للسوق في تنظيم أعماله من خلال نقل المسؤولية التنظيمية من كاهل الحكومة إلى كاهل أطراف السوق الذين "بوعيهم" سيحددون الخبيث من الطيب في السوق. كما تقضي النيوليبرالية بأن تتخلى الدولة عن الرفاه الاجتماعي، هذا بالإضافة إلى خصخصة الكثير من القطاعات الحيوية التي تملكها وتديرها الدولة ونقل ملكيتها إلى القطاع الخاص.أعراض النيوليبرالية بعد تفشيها أمريكابعد قرابة 10 سنوات من تبني النيوليبرالية في أمريكا ارتفع دخل الـ 10 في المائة من الأمريكيين الأكثر غنى بحوالي 16 في المائة. أما دخل الـ 5 في المائة الأكثر غنى في أمريكا فارتفع بحوالي 23 في المائة، في حين أن دخل الـ 1 المائة الأكثر غنى في أمريكا ارتفع بحوالي 50 في المائة. وكلما ارتفعنا بفئة النسبة المئوية من السكان كلما قل الدخل، وذلك استنادا لنظرية باريتو التي تقول أن 20 في المائة من الناس يملكون دخلاً أو ثروات أجمالية تصل إلى 80 في المائة مما يملكه الجميع في حين أن 80 في المائة من الناس يملكون ثروات أو دخل يساوي 20 في المائة من إجمالي ما يملكه الناس.أما بالنسبة للـ 80 في المائة من الأمريكيين فقد انخفض دخلهم السنوي نزولاً كلما انحدرت النسبة المئوية. وكان الـ 10 في المائة الأقل فقراً في أمريكا قد انخفض دخلهم قرابة 15 في المائة. وفي عام 1997 اتسعت الفجوة بين الـ 1 في المائة الأكثر غنى وبين الـ 10 في المائة الأكثر فقراً ليحقق الغني 115 مرة زيادة عما يحققه الفقير. ومنذ ذلك الحين، تعاظمت الديون على الأفراد الأمريكيين من الطبقات الوسطى والدنيا بحيث وصل إجمالي تلك الديون إلى 14 تريليون دولار في العام 2019، وما يفوق 60 في المائة من حصة الفرد الأمريكي في الناتج المحلي الإجمالي.
وقد أدت النيوليبرالية (بسبب الخصخصة، وتخلي الدولة عن الرفاه، وازدياد ثروات الأثرياء) إلى امتلاك الأثرياء تأثيراً كبيراً على صنع القرار السياسي الأمريكي وعلى كافة المستويات. فلم تشهد أمريكيا منذ ثمانينيات القرن المنصرم رئيساً منتخباً لا يممثل توجهات مجموعة من الشركات العملاقة، إلا باراك أوباما الذي تم تقييد أفكاره وقراراته بتأثير تلك الشركات على أجهزة الدولة الأخرى. ومن أبرز أعراض النيوليبرالية في الوقت الحالي تدني مستوى الرعاية الصحية في الدول التي تعتنقها، ما انعكس على ارتفاع عدد وفيات كورونا في تلك الدول مقارنة بغيرها ممن لم تتغول فيها النيوليبرالية.
العولمة: تحول النيوليبرالية إلى جائحة عالمية.
تبنت بريطانيا، في عهد تاتشر، النيوليبرالية وقد حصل في بريطانيا ما حصل في أمريكا من حيث ازدياد الهوة بين الغنى والفقر، وسيطرة الأثرياء على القرار السياسي. تبعتها العديد من الدول تحت ضغوطات سياسية أمريكية، أو من خلال الرزوح تحت شروط صندوق النقد الدولي، الأداة الرئيسية الأمريكية لعولمة النيوليبرالية. مما لا شك فيه، أن النيوليبرالية أعطت أمريكا نفوذاً اقتصادياً، وسياسياً، وعسكرياً دوليا. فقد استطاعت أمريكا من خلال النيوليبرالية أن تربط العالم باقتصادها، وبدولارها. وأصبح البنك الاتحادي الفيدرالي وسوق وول ستريت القلب النابض للاقتصاد العالمي. وأصبحت التعاملات المالية العالمية بين أي دولة في العالم يجب أن تمر عبر "الفلتر" الأمريكي، الذي تستخدمه أمريكا في فرض عقوبات اقتصادية على الدول.أعراض النيوليبرالية في النظام المالي
تركز النيوليبرالية على تخفيف القيود التشريعية على النظام المالي وتشجيع المبادرات التشريعية الذاتية غير الملزمة على مستوى الصناعة، مع التركيز على التعاملات على مستوى العقود ما أدى إلى ارتفاع تكلفة التعاملات. كما أطلقت النيوليبرالية العنان لما تسميه الابتكار المالي (الهندسة المالية) من خلال المشتقات، فتنامت عدد التعاملات في المشتقات وأنواعها بأضعاف ما كانت عليه قبل النيوليبرالية، ما أدى إلى ازدياد الفارق بين النمو الاقتصادي الحقيقي والنمو في التعاملات المالية عالية الخطورة وغير المساهمة في الاقتصاد الحقيقي. يقول أحدهم متندراً: "لو أخذت حذاء جدتي إلى سوق المشتقات يمكنني أن أجري عليه ابتكارات بمليارات الدولارات ليتداولها أغبى المستثمرين في العالم". وفي الحقيقة أن المستثمر ليس غبياً إلى هذا الحد بل هو بحكم النيوليبرالية الذهنية المترسخة لديه: "طماع" إلى درجة الغباء، ولا أدل على ذلك من الاستثمارات الغبية التي تبخرت خلال الأزمة المالية العالمية.
الخلاصة
كان جل اهتمام إحدى مقدمات البرامج المتلفزة الأمريكية النيوليبرالية، وهي تحاور الرئيس التنفيذي لشركة فورد حول قانون التصنيع العسكري، الذي يلزم الشركات بتصنيع ما تأمر به الدولة وقت الطوارئ، من سيدفع لكم ثمن أجهزة التنفس التي تصنعون، أو بالأحرى، من سيشتري منكم؟! هذا السؤال يلخص كل أعراض النيوليبرالية التي تطرقت، أو لم تتطرق، لها المقالة.
*
نهاية النيوليبرالية ومشتقاتها.. خرافات اقتصادية بددتها أزمة كورونا
أدى فيروس كورونا إلى فشل الاقتصاد السائد بشكل كارثي، وشكّل نقطة انهيار للأيديولوجية النيوليبرالية وجميع مشتقاتها (الأوروبية بشكل رئيسي)، التي هي الآن قيد المناقشة الجادة. هذا ما ورد في تقرير الكاتب أندريا موراتوري، الذي نشره موقع "إنسايد أوفر"، كما أعلن نهاية سلسلة من الأساطير التي بددها بشدة واقع الحقائق، مع تعاظم الأزمة الصحية والسياسية والاقتصادية.
النظرية تستند إلى ثلاثة معايير: "الأسواق قادرة تماما على التنظيم الذاتي، ورأس المال يتدفق حيث تكون فائدته القصوى، ومخاطر النظام يمكن حسابها بالكامل".
الأيديولوجية النيوليبراليةأورد الكاتب أن الشركات المالية الكبيرة -مثل "بلاك روك" و"غولدمان ساكس"- تطلب من المستثمرين أن يعيدوا التموضع في المضاربة قصيرة المدى على الاستثمارات طويلة الأجل.
وفي الولايات المتحدة، تثير قضية "ديزني" التي قررت الإبقاء على مئة ألف موظف في إجازة من دون أجر شكوكا حول نظام اقتصادي يكسب فيه الرئيس التنفيذي ما يعادل تسعمئة ضعف متوسط راتب الموظف.
حتى الفاتيكان، أشار من منبره إلى أن "العدو رقم واحد" في مرحلة ما بعد الأزمة سيكون الأيديولوجية النيوليبرالية.
إن مقاييس اقتصاد الحرب والتركيز الصناعي على إنتاج آلات التنفس والأقنعة والأجهزة الصحية في جميع أنحاء العالم؛ تدعو إلى الحاجة الملحة لحماية أهم الأصول من المنافسة في السوق خلال مراحل الأزمة.
سياسة التقشف
يرى الكاتب أن الأيديولوجية السائدة للتقشف تنهار أمام الضربات التي تلقاها الاقتصاد، خاصة من دول مثل ألمانيا والمملكة المتحدة وفرنسا. على الجبهة الداخلية، تحاول هذه الدول فعل كل ما في وسعها لتجاوز كل الصعاب في مواجهة التحدي التاريخي الذي تفرضه الأزمة الأوروبية.
تخفيض الإنفاق العام
إن أسطورة التخفيض في الإنفاق العام كمصدر للقدرة التنافسية تسببت في أضرار لا يمكن إصلاحها للأنظمة الاجتماعية في القارة القديمة، واقتطعت 37 مليار يورو من ميزانية قطاع الصحة الإيطالي في "موسم التخفيضات" الذي افتتحته حكومة مونتي، واستمر ذلك مع قيادة الحزب الديمقراطي لمدة خمس سنوات، وأدى ذلك إلى عدم استعداد العديد من الهياكل الصحية لكارثة كوفيد-19.
إن العالم يتطور ويستعد لتحول في نمط التفكير، ولم يعد من الممكن اعتبار قضايا مثل حماية الخدمات الأساسية والدفاع عن الصناعات الوطنية والصلة بين السياسة والاقتصاد أمرا مفروغا منها في أيدي عقائد أيديولوجية واحدة.
*
وصفة خروج العرب بأقل الخسائر من جائحة كورونا
ففي السابق كان الاعتماد الكبير على الصين والدول النامية من أجل الاستفادة من اليد العاملة الرخيصة، وكل الدول الكبرى حوّلت صناعاتها للصين باستثناء ألمانيا، والآن الجميع فهم أن هذا خطأ، وهو ما سيجعلنا ننتقل إلى سلسلة إمدادات متنوعة إما بعودتها لأوروبا وإما لدول قريبة من أوروبا، وهناك رغبة في تقليل الاعتماد على الصين.
وحاليا هناك وعي أوروبي بالخطأ في التفريط في التصنيع لصالح الصين، وإرادة لتغيير هذا الوضع، وهنا أحيل على ما قاله الرئيس السابق لصندوق النقد الدولي دومنيك ستروس، عندما استغرب كيف أن دواء مهما مثل "بينيسلين" يُصنع بنسبة 90% في الصين.
كيف تنظرون لتعامل الدول العربية والإجراءات الاقتصادية التي سنتها لمواجهة الوباء؟
الدول العربية قامت بحزمة من الإجراءات الاقتصادية من بينها تخفيض نسبة الفائدة المركزية بغرض التشجيع على ضخ سيولة أكثر في السوق، وتخفيض أسعار المواد الطاقية لتشجيع القطاع الصناعي، وتقديم مساعدات للمصدرين، والتقليل من الضرائب على توزيع الأرباح، وهناك دول مثل المغرب لجأت لتشكيل صندوق للتضامن الوطني، وتقديم إعانات مباشرة للفئات الأكثر هشاشة.
الدول العربية قامت بحزمة من الإجراءات الاقتصادية من بينها تخفيض نسبة الفائدة المركزية بغرض التشجيع على ضخ سيولة أكثر في السوق، وتخفيض أسعار المواد الطاقية لتشجيع القطاع الصناعي، وتقديم مساعدات للمصدرين، والتقليل من الضرائب على توزيع الأرباح، وهناك دول مثل المغرب لجأت لتشكيل صندوق للتضامن الوطني، وتقديم إعانات مباشرة للفئات الأكثر هشاشة.
صحيح أن الدول النفطية متضررة أكثر بسبب تراجع أسعار النفط ومن تراجع الإنتاج بعد الاتفاق التاريخي لمنظمة أوبك بلس، وجميع الدول العربية ستلجأ للاقتراض، وهناك دول خليجية لجأت لإصدار سندات في السوق المالية الدولية بغرض تعويض عجز الميزانية.
صحيح أن هامش الاستدانة أكبر لدى الدول الخليجية بالنظر لتصنيفها الائتماني، ولكن حتى بقية الدول العربية ستلجأ للاستدانة، وهناك دول عليها ديون كبيرة مثل لبنان، الذي أعلن التخلف عن دفع الديون، والأمر سيتفاقم مع هذه الأزمة.
وحتى الدول التي كانت ستساعد لبنان في هيكلة ديونه مثل فرنسا، توقفت الآن عن التفكير في هذا الأمر. وهناك الأردن الذي يجب أن يؤدي 1.7 مليار دولار ديونا في هذه السنة، وهذا مبلغ كبير. ولهذا الدول غير النفطية ستكون هي المتضرر الأكبر.
وقطاع السياحة مهم لعدد من الدول العربية مثل المغرب وتونس، وخصوصا الأردن ومصر لأن هذا القطاع يشكل بالنسبة لهما 15% من الناتج الداخلي العام، بالإضافة لتحويلات المهاجرين في الخارج، ففي مصر مثلا تتعدى 25 مليار دولار، وهو ما يشكل 8% من الناتج الداخلي الخام، وفي لبنان المشكل أكبر حيث من المتوقع تراجع تحويلات اللبنانيين.
*
. هل هي أزمة أخلاقية حقا؟ ما علاقة الأخلاق النيوليبرالية بهذا الأمر؟ ولماذا الغضب الشعبي المتزايد من المصرفيين؟كيف يتغذى الاحتيال والفساد على الأخلاق النيوليبرالية: صارت الفضائح ووقائع الاحتيال أخبارا يومية معتادة في كبرى البلاد النيوليبرالية.. هل هي أزمة أخلاقية حقا؟ ما علاقة الأخلاق النيوليبرالية بهذا الأمر؟ ولماذا الغضب الشعبي المتزايد من المصرفيين؟
ليس خداع الشركات المساهمة أمرا موجودا وحسب، بل إنه ينتشر بكثرة في العديد من الاقتصادات النيوليبرالية للدول ذات الدخل المرتفع وذات الدخل المنخفض على حد سواء. ولعل فضيحة انبعاثات فولكس فاجن عام أحدث الأمثلة وأشدّها ترويعًا، لكن صناعة السيارات مجرد قطاع من بين عدة قطاعات، تشمل الخدمات المصرفية، وصناعة الأسلحة، وهي مجالات باتت الفضائح فيها أمرا معتادا. إنّ نظمًا وممارسات بعينها في الشمال العالمي كانت لتشكل صدمة قبل وقت قصير وحسب، قد باتت اليوم روتينا في الحياة العامة.
تعريف النيوليبرالية بأنها مجموعة من الوسائل الهادفة إلى تعزيز سيادة السوق، ونقل السلطة الاقتصادية من القطاع العام إلى الخاص. تستهلك الحكومة جزءا هائلا من طاقتها في سعيها خلف النماذج النيوليبرالية للنمو الاقتصادي. يقولون لنا إن دعم المشاريع الضخمة ضروري لتأمين المستقبل، وأن كل ما يصب في مصلحة الاقتصاد يصب في مصلحة المجتمع أيضا. كما يشدد هذا الخطاب على أهمية السوق الحر، والعمالة المرنة، والحرية، والمجتمعات المفتوحة. وكل ذلك وغيره يشكل قواعد أخلاقية للحياة اليومية. باختصار؛ إن النيوليبرالية ترتكز على قيم، ومعايير، ومعتقدات اجتماعية محددة.
إذا، في أي صورة يتجسد هذا "الصالح العام"؟ أولا، يتبنى النيوليبراليون مزاعم رئيسية، دفاعا عما يطلقون عليه الحرية الاقتصادية. وجزء كبير من ذلك تصوغه المواقف المناهضة للجماعية والدولتية، مع التشديد على الحرية الاقتصادية للأفراد. ومن هذا المنظور تصبح الحريات النقابية والحقوق الاجتماعية عدوا للحرية، حالها حال تدخل الدولة في السوق باسم المصلحة الاجتماعية الأكبر أو الصالح العام.
هذه مزاعم معيارية، لأنها تصور السياسات النيوليبرالية كما لو كانت تصب في الصالح العام -تقود المنافسة، والنمو، والصادرات-، وتساهم في خلق مجتمع "جيد". لذا، نقول ببساطة إن حرية السوق النيوليبرالية تربط الصالح العام بصالح السوق والقطاع الخاص.
تحاول هذه الأفكار التسرب إلى رؤيتنا الأخلاقية للعالم. هكذا تكون إعادة الهيكلة النيوليبرالية مشروع سياسي-اقتصادي وأخلاقي، لا يستهدف الاقتصاد فحسب؛ بل المجتمع والثقافة أيضا، كخطوة في الطريق نحو إعادة خلق المجتمعات في صورة مجتمعات سوق رأسمالية فجة لم يسبق لها مثيل. أو كما قالت "مارغريت ثاتشر" مرة في حديث صحفي مع جريدة صنداي تايمز في عبارة تقشعر لها الأبدان: "إن الاقتصاد مجرد وسيلة، أما الهدف فهو تغيير الروح".
النظرة المادية الفردانية والمصلحة الذاتية. إذا، لو أردنا فهم سبب مواءمة الظروف للفساد في جميع البلدان الرأسمالية، وعلى مدار جميع طبقات المجتمع، فسيكون علينا الانتباه إلى أن ذلك لم يأت نتيجة لفساد الروح أو غياب الأخلاقيات، بل لأن القلب الذي أنتجه المشروع النيوليبرالي، هو مجموعة واضحة من المعايير والقيم والمواقف التي تمت تغذيتها بكثافة على مدى فترة كبيرة، تلك المعايير والقيم والمواقف التي صوتنا لها بالأمس، والتي نواجه اليوم صعوبة شديدة في تسويغها واستيعابها.
*
ألش خانة | ٥ سياسة - النيوليبرالية
كينز دولة الرفاه معاشات وتأمينات اما هيك كان يريد راسمالية جافة كيف نعمل للعوطلية
ترامب والبريكست بسبب اليمين المتطرف الشعبوية التي شكت في النيوليبرالية والعولمة والسوق الحر وتدعو الي امريكا اولا الراسمالية النشفة والحمائية الاقتصادية
المفكر د.علي محمد فخرو في ندوة ( النيوليبرالية.. عندما تهدد الانسان والمجتمع والأقتصاد)
كينز دولة الرفاه معاشات وتأمينات اما هيك كان يريد راسمالية جافة كيف نعمل للعوطلية
ترامب والبريكست بسبب اليمين المتطرف الشعبوية التي شكت في النيوليبرالية والعولمة والسوق الحر وتدعو الي امريكا اولا الراسمالية النشفة والحمائية الاقتصادية
المفكر د.علي محمد فخرو في ندوة ( النيوليبرالية.. عندما تهدد الانسان والمجتمع والأقتصاد)
*
Dec 30, 2020
محاولة الضبط والسيطرة على الأفراد عبر شؤونهم الجسدية،
النيوليبرالية انتقلت إلى طور أعمق من السيطرة والضبط يجعل الثورة أمرا مستحيلا لأنّ الأفراد داخل هذا الطور يصارعون أنفسهم بدلا من مصارعة النظام الذي يُولِّد الإحباط والاكتئاب.
تعزيز رأسمالية السوق الحرّة وهيمنة قيمة السوق والخصخصة. يقول خصومها إنّها نتيجة استغلال اليد العاملة واتساع فجوة الدخل من بين أشياء أخرى
نظرية للممارسات السياسية الاقتصادية التي تفترض أنَّ أفضل وسيلة لتحقيق حُسن الحال الإنساني إنّما تكون بتحرير القدرات والمهارات الرياديّة الفرديّة ضمن إطار مؤسساتيّ يمتاز بقبضة محكمة لحقوق الملكيّة الخاصّة وأسواق حرة وتجارة حرّة".
كتاب "موجز في تاريخ النيوليبرالية" للمفكر الماركسي "ديفيد هارفي"
تتعطّش النيوليبرالية لتعزيز مراكمة الثروة
فكرة الذات الإنسانية بوصفها ذاتا ريادية، وفكرة أنَّ السوق يمكن أن يكون معيارا للحقيقة. بحسب فوكو، فإنَّ الطريقة النيوليبرالية في النظر إلى العلاقات الاقتصادية تتكامل مع وضع جديد من استغلال نشاطات الناس يسمّيه"الحكوماتية".
حكوماتيّة فوكو هي شكل من أشكال الضبط الاجتماعي التي تعتمد على مؤسسات تأديبية مثل الشرطة والمحاكم والمدارس وغيرها، وإنشاء نوع من المعرفة يُروِّج لاستدخال خطابات معيّنة أو طرق معيّنة في التفكير يستطيع الأفراد من خلالها أن يحكموا أنفسهم وفق أسلوب تفكير تلك المؤسسات.
"إنَّ مجتمع السيطرة الرقمية يستغلّ الحرّية أكبر استغلال، فبفضلِ كشف الذات وتعريتها الطوعييْن لا يحدث إفشاء البيانات بالإكراه وإنما استجابة لحاجة داخليّة" (ص 18). في هذا الشكل من النيوليبرالية "ليس الهاتف الذكي وسيلة من وسائل المراقبة الفعّالة، لكنّه أيضا حجرة اعتراف متنقّلة. فيسبوك هو الكنيسة" (ص22).
May 10, 2021*
Oct 13, 2021
خانة «العلاج بالصدمة» كما وصفته نعومي كلاين في كتابها «عقيدة الصدمة: صعود رأسمالية الكوارث»، إذ يستخدم خوف الناس بعد الكارثة للدفع بإجراءات مؤيّدة للشركات. لذا، ما هي أبرز التكنولوجيا «الخضراء» التي تم تقديمها إلى المستهلك على أنها الحلّ؟ وكيف كانت النتيجة؟
الاحتباس الحراري. ورغم أن العديد من غازات الدفيئة تحدث بشكل طبيعي، إلا أن النشاط البشري يعمل على زيادة تركيزات بعضها في الغلاف الجوي، وخصوصاً:
- ثاني أوكسيد الكربون (CO2) الناتج عن الأنشطة البشرية (مثل الوقود الأحفوري) هو أكبر مساهم في ظاهرة الاحتباس الحراري. فبحلول عام 2020، ارتفع تركيزه في الغلاف الجوي إلى 48% فوق مستوى ما قبل الثورة الصناعية.
- غاز الميثان الناتج عن زيادة تربية الماشية. تنتج الأبقار والأغنام كميات كبيرة من الميثان عندما تهضم طعامها.
- أوكسيد النيتروس (nitrous oxide) تنتجه الأسمدة المحتوية على النيتروجين.
- غازات مفلورة (fluorinated gases) يتم استخدامها في العديد من التطبيقات بما في ذلك التبريد، وأنظمة تكييف الهواء، ومعدات المضخات الحرارية، وكعوامل نفخ للرغاوي، ومِطفأة الحريق. وهذه الانبعاثات لها تأثير احترار قوي للغاية، يصل إلى 23000 مرة من ثاني أوكسيد الكربون.
- ثاني أوكسيد الكربون (CO2) الناتج عن الأنشطة البشرية (مثل الوقود الأحفوري) هو أكبر مساهم في ظاهرة الاحتباس الحراري. فبحلول عام 2020، ارتفع تركيزه في الغلاف الجوي إلى 48% فوق مستوى ما قبل الثورة الصناعية.
- غاز الميثان الناتج عن زيادة تربية الماشية. تنتج الأبقار والأغنام كميات كبيرة من الميثان عندما تهضم طعامها.
- أوكسيد النيتروس (nitrous oxide) تنتجه الأسمدة المحتوية على النيتروجين.
- غازات مفلورة (fluorinated gases) يتم استخدامها في العديد من التطبيقات بما في ذلك التبريد، وأنظمة تكييف الهواء، ومعدات المضخات الحرارية، وكعوامل نفخ للرغاوي، ومِطفأة الحريق. وهذه الانبعاثات لها تأثير احترار قوي للغاية، يصل إلى 23000 مرة من ثاني أوكسيد الكربون.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق